فصل: تفسير الآيات (120- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (120- 122):

{ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}.
هو إنكار من اللّه سبحانه وتعالى على من يتخلّفون عن رسول اللّه، وهو في طريقه إلى الجهاد ولقاء العدوّ- ينكر اللّه عليهم تخلّفهم هذا، وقعودهم عن اللحاق برسوله، والانتظام في ركب المجاهدين.. وفى الإنكار أمر ملزم لهم أن يكونوا مع رسول اللّه حيث يكون، ومن لم يستجب لهذا الأمر فهو على خلاف للّه ورسوله، ومشاقة للّه ورسوله، يلقى جزاء المخالفين، وينزل منازل الظالمين، ويصلى في الآخرة ما يصلاه الكفار والمنافقون من عذاب السعير.
وقد خصّ أهل المدينة ومن حولهم بالذّكر هنا لأنهم مع رسول اللّه، وبين يديه، وبمحضر ومشهد منه، فكيف يسوغ لهم أن يروا النبي قائما على أمر يعالج منه حملا ثقيلا، ثم يقفون موقف المتفرج، لا يشاركونه فيما يعمل، ولا يحملون عنه بعض ما يحمل؟ إن ذلك وإن لم يقض به الدين قضت به المروءة وأوجبته حقوق الجار على الجار! فكيف وهو أمر أمرهم اللّه به، ووعدهم الجزاء العظيم عليه، وتوعدهم بالعقاب الأليم على النكوص عنه؟
وكيف بهنأ لمسلم طعام أو يسوغ له شراب، وهو يرى النبي يخوض غمرات القتال، ثم يضنّ بنفسه عن أن تأخذ مكانها في المجاهدين، والمستشهدين، أهناك عند المؤمن باللّه شيء أعزّ عليه من النبيّ، ونفس أكرم عليه من نفسه؟
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
الإشارة هنا بقوله تعالى {ذلك} مشار بها إلى ما تقدم في صدر الآية من الإنكار على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، وأن يؤثروا أنفسهم على نفسه، ويضنّوا بها على معاناة الجهاد، وحمل أعباء القتال، فهذا الإنكار عليهم إنما هو بسبب أنهم سيغبنون أنفسهم، ويحرمونها ما أعدّ اللّه المجاهدين من أجر عظيم، لكل عمل يعملونه في سبيل اللّه، ولكل ضرّ أو أذى يصيبهم وهم على طريق الجهاد.. فلا يصيبهم ظمأ، ولا يمسّهم تعب، ولا تنالهم مخمصة (أي جوع).. إلا كتبه اللّه لهم وأجزل لهم المثوبة عليه.. كذلك لا ينالون من عدوّ نيلا، ولا يصيبونه بوهن أو ضعف، إلا كتب لهم به عمل صالح، وعدّ لهم قربة عند اللّه، يدخلون بها مداخل المحسنين.. و{إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو عطف على ما سبق من الأعمال الصالحة التي تكتب للمجاهدين، وتسجّل في سجلّ أعمالهم.. فأية نفقة- ولو كانت صغيرة- تكتب لهم، وأي خطوة يخطونها، ويقطعون بها واديا أو يجتازون مفازة، يكتبها اللّه لهم، ويضيفها إلى حسابهم.. وذلك {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وفى قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} ما يشير إلى أن اللّه سبحانه وتعالى ينزل المجاهد منازل رضوانه، ويستضيفه في ساحة كرمه، منذ أن يبدأ في التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد في سبيل اللّه.. وأن كل خطوة من خطواته وهو على طريق الجهاد، وكل حركة، أو لفتة، أو إشارة منه، هي مما يعدّ عند اللّه في باب الإحسان، وذلك للمجاهد خاصة من دون الناس جميعا، حتى إذا آب المجاهد من جهاده كان سجل أعماله كلّه حسنات.. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أما السيئات، فلا سيئات، إذ قد تجاوز اللّه عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} [16: الأحقاف].
قوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن الآيتين السابقتين قد جاء فيهما إنكار على المتخلفين عن رسول اللّه، وأمر ملزم لهم بالجهاد معه، كما جاء فيهما عرض كاشف لما اختصّ اللّه سبحانه وتعالى به المجاهدين من أجر كريم، وثواب عظيم، لا يناله غيرهم، ولا يبلغه سواهم- وقد كان ذلك داعيا إلى تحريك أشواق المسلمين إلى بلوغ هذه الغابة، واللحاق بأهلها، وذلك لا يكون إلا بالانتظام في ركب المجاهدين، وهذا من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا على طريق الجهاد، وفى ميدان القتال، الأمر الذي لو وقع بصفة دائمة لأخلّ بنظام المجتمع، وعطّل كثيرا من جوانب الحياة، وأخلى ميادينها من العاملين فيها.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي جميعا.
فذلك أمر- كما عرفنا- يدخل الخلل على نظام الحياة في المجتمع، وعلى المجاهدين أنفسهم، إذا لم يكن من ورائهم من يعمل فيما يهيئ لهم حاجاتهم، من مؤن، وسلاح، وعتاد.
ولكن كيف السبيل إلى صرف بعض المسلمين عن وجهتهم إلى القتال، وكلهم يؤثر أن يكون في هذا الميدان، ابتغاء مرضاة اللّه؟
لقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن فتح لهم جبهة جديدة من جهات الجهاد.. إذ يقول اللّه تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
فهناك نفر كالنفر إلى الجهاد، وهو النّفر إلى التفقه في الدّين، والتعرف على أحكام الشريعة.. ففى النفر إلى الجهاد يقول اللّه تعالى. {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا} وفى النفر إلى العلم يقول للّه تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.
فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد، سواء بسواء.. فإذا كان الجهاد بالسيف فكذلك يكون الجهاد في ميدان العلم، والتفقه في الدين. إنه يدفع عن القلوب غشاوات الجهل والضلال، ويمكنّ لدعوة لإسلام أن تأخذ مكانها من العقول والقلوب، فتمكن لها في أهلها، وتقيمهم منها على مودة وإخاء، فيزكو نيتها الطيب فيهم، وتؤتى مبادئها أكلها المبارك لأيديهم.
فالتفقّه في الشريعة، ومطالعة آياتها المعجزة، والوقوف على ما فيها من روائع الحكمة، وأسرار الوجود- هو الذي يقيم في نفس المسلم إيمانا صحيحا، ومعتقدا سليما متمكنا، يهيئ للمجتمع الإسلامى، الإنسان المؤمن الذي يجاهد في سبيله، ويستشهد من أجل حمايته، ودفع يد المعتدين عليه.
وليس معنى النّفر هنا شدّ الرحال، وقطع الفيافي والقفار، بل إن معناه شدّ العزائم، وتوقّد الهمم، واستجماع النفوس، وإخلاص النيّات، والتجرد لتلقّى العلم، والصبر على معاناة الدرس والنظر.
ذلك أن تحصيل العلم، وقطف ثمراته، ليس بالأمر الهيّن، الذي يقع لأى يد تمتد إليه، ويستجيب لأى عين تطمح إليه، وتطمع فيه- وإنما هو كالجهاد في ميدان القتال، حيث لا يكتب النصر للمجاهدين إلا بركوب الأخطار، وملاقاة الأهوال، ومصادمة الموت.
ومن هنا تعادلت كفّة العلماء مع كفة المجاهدين.. كما ورد في الحديث: «يوزن مداد العلماء بدم الشهداء»..!
وليس النفر محدودا بالنّفر إلى الجهاد في سبيل اللّه، ولا بالنفر لطلب العلم، وإنما هو أيضا ينسحب إلى كل ميدان من ميادين العمل والكفاح.
فحيثما كانت مشقة ومعاناة يحملها لإنسان في صبر وعزم، في مجال العمل الصالح النافع له ولغيره، فهو نفر إلى الجهاد، وصاحبه في حساب المجاهدين! وعلى هذا نفهم الآية الكريمة على أنها دعوة للمجتمع الإسلامى أن يملأ كل ميادين العمل في الحياة، وأن يأخذ كلّ مسلم المكان المناسب له، وأن يعمل في الميدان الذي يمكن أن يعطى فيه أفضل ما تجود به ملكاته وقدراته، العقلية، أو الجسدية.. وشرط واحد هو الذي ينبغى أن يكون عليه العامل ليكون مجاهدا، هو أن يخلص لعمله، وأن يعطيه كل جهده، وأن يبذل له كل حوله وحيلته، في غير فتور، أو تهاون أو تقصير.. وإلا كان ذلك نفاقا، وكان خيانة، سواء بسواء، كالنفاق مع اللّه، والخيانة لرسول اللّه، وللمؤمنين.
ونلمح هذا المعنى الذي ألمعنا إليه هنا في قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا}.
فالتفقّه ليس مجرّد العلم السطحى، بل هو العلم المتفحص المتمكن، الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء، ويقع على الصميم منها.
فهذا هو العلم، أو الفقه، الذي يرفع صاحبه إلى مقام المجاهدين.
وكذلك العمل، إن لم يبلغ به العامل درجة تبلغ حدّ الكمال، للقدرة المتاحة له، وللوسائل التي بين يديه، لم يكن ليتوازن أبدا مع درجة الجهاد في سبيل اللّه، ولا مع منزلة التفقه في دين اللّه، ولم يكن للعامل أن ينتظم في سلك المجاهدين، والمتفقهين.. إن العامل الذي يستأهل أن يكون مجاهدا في سبيل اللّه حقّا، هو من فقه في عمله، وعرف أسرار صنعته.. وبغير هذا لن يجيء منه الإحسان في عمله، والإتقان لصنعته.. والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «إن اللّه يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
وقد أشرنا إلى ما للعلم من أثر في الإيمان باللّه، عند تفسير قوله تعالى {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (لآية: 97) من هذه السورة.

.تفسير الآيات (123- 127):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، أنكرت على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، وقد حمل إليهم هذا الإنكار أمرا ملزما بالجهاد مع رسول اللّه، وهذا لا يكون إلّا في مجتمع بدين كلّه بالإسلام، حتى يقع الأمر بالجهاد موقعه، ويصادف أهله.
لهذا جاءت تلك الآية داعية إلى قتال الكفار الذين يحيطون بالمسلمين، ويكونون أجساما غريبة في هذا الجسد الكبير.
وتنقية هذا الجسد الإسلامى من الأجسام الغريبة التي تعيش فيه، وحمايته من الآفات الخبيثة التي تقف على حدوده- أمر ضرورى لسلامة هذا الجسد، ووقايته من عوارض التصدّع والتشقق.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} لفت لأنظار المسلمين إلى حماية أنفسهم من خطر العدوّ المساكن لهم، أو الملاصق لمجنمعهم، وذلك لا يكون إلا بأن يدخل هذا العدو في الإسلام، وبصبح بعضا منه، أو أن يقاتله المسلمون حتى يقتلعوا شوكته، أو يوهنوا قوته، فلا يكون يوما من الأيام قادرا على مواجهتهم بالضرّ، أو مبادأتهم بالعدوان، وذلك من شأنه أن يعطى المجتمع الإسلامى أمنا وسلاما واستقرارا في مواطنه، الأمر الذي يتيح لكل فرد فيه أن يعمل، وأن يحسن العمل فيما هو مهيأ له، وراغب فيه.
وفى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
تنبيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلمون فيما بينهم وبين الكافرين، فلا بغى ولا عدوان، ولا مجاوزة للحدّ المطلوب لحماية الدعوة الإسلامية، ودفع كيد الكائدين لها.
فإذا تحقق ذلك، فليس وراءه شيء يطلبه المسلمون لذات أنفسهم، أو لانتقام شخصى. بل يجب أن تكون تقوى اللّه هي الدستور الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم في حربهم لعدوهم.. فلا يعرضوا لامرأة، ولا لطفل، ولا لشيخ، بأذى ولا يتبعوا هاربا، ولا يقضوا على جريح، ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يقطعوا شجرا ولا زرعا، ولا يحرقوا دورا، ولا يقتلوا حيوانا.. فليس في هذا كله عدوّ لهم، وإنما عدوهم هو الذي حمل السلاح، وقاتلهم به، فإذا ألقى السلاح، أو عجز عن حمله والقتال به، فشأنه شأن الصبيان والنساء، لا سبيل إلى العدوان عليه.
وقوله تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ}.
فى هذا إشارة إلى تلك الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش في كيان المجتمع الإسلامى، وأنه إذا كان للمسلمين عدو ظاهر يعرفون وجهه، ويأخذون حذرهم منه، ويعملون على قهره وخضد شوكته.. فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن عدوّ خفىّ يندسّ فيهم، بل إن عليهم أن ينتبهوا إلى هذا العدوّ، وأن يرصدوا تحركاته، وأن يضربوه الضربة القاضية، كلمّا أطلّ برأسه من جحره.
وهذه الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش في كيان المجتمع الإسلامى، هي جماعة من المنافقين.
وقوله تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً} هو علامة مميزة من علامات النفاق، وعرض ظاهر من أعراضه.
فالشّك في آيات اللّه، والتشكيك فيما تحمل من هدى، ومن خير، ومن نور- هو كفر يستره نفاق، وهو نفاق يصرّح عن كفر! فإذا قال قائل هذه الكلمة الضالّة: {أيّكم زادته هذه إيمانا} إذا قالها فيما بينه وبين نفسه، فإلى اللّه حسابه، وعليه عقابه، أما إذا قالها فبلغت أسماع المسلمين، فذلك كيد يكيد به للإسلام، وحرب خفيّة بالكلمة المضلّلة يطعن بها في صدورهم.. فهو بهذا محارب يلقاه المسلمون بما يلقون به المحاربين من أعدائهم.
وفى قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ردّ مفحم للمنافقين، وتكذيب فاضح لنفاقهم، وكفرهم بآيات اللّه، وضلال أبصارهم وبصائرهم عن الهدى والنور الذي تحمله آيات اللّه بين يديها.. فالذين آمنوا، تزيدهم آيات اللّه إيمانا مع إيمانهم، بما يطالعون فيها من وجوه جديدة تتجلّى فيها آيات اللّه، وتشعّ منها ألوان مضيئة كاشفة عن عظمة الخالق، وجلاله، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. فكل آية جديدة يلقاها المسلمون، وكل سورة جديدة تطلع عليهم من عند اللّه، هي خير جديد يضاف إلى ما بين أيديهم من خير، وهو نور جديد يمدّ به ما عندهم من نور.. ولهذا فهم يستبشرون بكل آية تنزل عليهم، لأنها تزودهم بزاد جديد من الإيمان والتقوى، وتسير بهم خطوات واسعة إلى اللّه، تدنيهم من رحمته، وتقربهم من رضوانه.
وفى قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ}.
بيان لما يحصّله المنافقون والذين في قلوبهم مرض، من آيات اللّه التي تنزل من السماء هدى ورحمة للعالمين، فهى إنما تزيدهم عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال، وفسادا إلى فساد.. إنهم أشبه بالهوامّ والحشرات التي يجرفها الغيث الهاطل، ويغرقها السيل المندفع، على حين يحيا به كل كائن حىّ، ويهشّ له ويهنأ به كل ذى حياة.. وإنهم لأشبه بالخفافيش يأخذ ضوء الشمس على أبصارها، فتكتحل منه بالعمى، على حين تكتحل الأشياء كلها بهذه الآية المبصرة من آيات اللّه بالهدى والنور! قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} هو تقريع وتوبيخ لهؤلاء المنافقين الذين يقفون مواقف الخزي والفضيحة بين يدى آيات اللّه، مرة أو مرتين كل عام، حيث يفضح القرآن منهم في كلّ مرة، مخزية من مخزياتهم، ويكشف المسلمون موقفا لئيما من مواقفهم.. ثم لا يأخذون من هذا عبرة أو عظة، ولا يجدون فيما فضح اللّه من أسرارهم، وما أخرج مما في صدورهم- آية على علم اللّه، وعلى وجود اللّه، فيؤمنوا به، ويتوبوا إليه.. بل إنهم على ما هم عليه، من كفر وضلال: {لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
وقوله تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
وهذه حال أخرى من أحوال المنافقين مع آيات اللّه، حين يستمعون إليها مع من يستمع إلى آيات اللّه من المؤمنين.
إنهم يلقونها بالشكّ والارتياب، حتى لتكاد تفضحهم ألسنتهم بما يدور في رءوسهم، فينظر بعضهم إلى بعض، نظرات متلصصة، تبحث عن مهرب تهرب منه من بين يدى آيات اللّه، حتى لا ينفضح أمرهم بين يديها.
فإذا وجدوا فرصة مواتية للهرب انسلّوا، وفروا مسرعين: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}.
وفى قوله تعالى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} حكم عليهم من اللّه سبحانه وتعالى بأنه قد صرف قلوبهم عن الحقّ، وختم عليها أن ترى الهدى، وأن تطمئن إليه، لأنهم قوم لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين نور وظلام، وهدى وضلال.
{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}.