فصل: تفسير الآيات (45- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (45- 52):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)}.
التفسير:
غرور المشركين، وأهل الضلال، بهذه الحياة الدنيا، وانخداعهم لها، وطول أملهم فيها، هو الذي أخلى قلوبهم وعقولهم من التفكير فيما وراء هذه الحياة، فأذهبوا طيّباتهم في هذه الحياة الدنيا وأفنوا أعمارهم في الجري اللاهث وراء متاعها وزخرفها.
وفى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ} إشارة إلى انكشاف أمر هذه الدنيا لأهلها، حين ينفضّ جمعهم فيها، وتنقضى آجالهم، ثم يبعثون من قبورهم، ويحشرون إلى ربّهم.. هنالك يبدو أن ما قطعوه في دنياهم من عمر، وما ملكوه من سلطان، وما جمعوه من مال ومتاع، لم يكن ذلك كله إلا كأحلام نائم، {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يلتقى فيها بعضهم ببعض، ويتحدث بعضهم إلى بعض.. ثم يتفرق جمعهم، وينفضّ مجلسهم.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

هنالك ينكشف للضالين والمبطلين ما كانوا فيه من باطل وضلال، وما يلقون في يوم جزائهم هذا من بلاء ونكال.
ولو أنهم كانوا مؤمنين باللّه، ويلقاء اللّه لعملوا ليومهم هذا، ولجعلوا سعيهم قسمة بين دنياهم وآخرتهم.. ولكنهم أعطوا دنياهم كلّ شيء، ولم يجعلوا لآخرتهم أي شيء، فلما جاء اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرّا، وما عملت من سوء تودّلو أن بينها وبينه أمدا بعيدا- لما جاء هذا اليوم، لم يجدوا غير الحسرة والندامة، وغير البلاء والعذاب.
قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ}.
هذه الآية- إنباء بالغيب، وإرهاص بالبلاء الذي سيحيط بأهل الشرك والضلال، إنه ليس واقعا بهم في الآخرة وحسب، بل إنه واقع بهم كذلك في هذه الدنيا، بما يلقون فيها من ذلّ وخزى على يد المؤمنين، يوم يجيء نصر اللّه وتغرب دولة الشرك، ويقع المشركون ليد المؤمنين صرعى، أو أسرى.. كما حدث ذلك يوم بدر، وكما حدث يوم الفتح، ويوم حنين.
وهذا الذي سيراه النبي في حياته مما يقع للمشركين من ذلّة وهوان، أو الذي سيقع لهم من ذلك بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى- هو قليل إلى كثير مما أعدّ لهم في الآخرة من عذاب وهوان، وأنه إن أفلت بعضهم في هذه الدنيا، ولم يعجّل له شيء من العقاب فيها، فلن يفلت من العقاب الراصد له يوم القيامة.. {فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ} لا يعزب عنه- سبحانه- ممّا عملوا شيئا.. {وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [49: الكهف] قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي أن لكل أمة رسولا منهم، يبعثه اللّه فيهم، لينذرهم ويبشرهم، ويدلّهم على الطريق إلى اللّه، وليقيمهم في حياتهم على صراط مستقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} [24: فاطر].
وفى قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} إشارة إلى أن من رحمة اللّه بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، مبشرين ومنذرين، حتى يقيم على النّاس الحجّة ويأخذ الظالمين منهم بما كسبوا، فإذا بعث في أمة رسول من الرّسل وبلّغ رسالة ربّه إليهم، فقد وجب عليهم الحساب، وحقّ عليهم الثواب والعقاب.. أما إذا لم يكن هناك رسول ولا رسالة، فلا حساب، ولا عقاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تبارك وتعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء].
وهؤلاء المشركون، قد جاءهم رسول من عند اللّه، وبلّغهم رسالته المرسل بها إليهم من ربّهم.. فهم إذن محاسبون- منذ بلغتهم الرسالة- بما يعملون.
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بل يجزون الجزاء المناسب لما عملوا.. جزاء وفاقا.
كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
تلك هي قولة الكافرين والمشركين، التي يلقون بها كل رسول يرسل إليهم من ربّهم، وينذرهم لقاء يوم القيامة.. لا قولة لهم إلا تلك القولة المتهكمة المستهزئة: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} أخبرونا به أيها المؤمنون بهذا اليوم {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
وهكذا يسوّغ الضلال لأهله هذا المنطق السقيم.. فهل يستقيم لعقل عاقل أن يكون في الإمكان علم هذا اليوم، وكشف وقته الموقوت له؟ وهل لو قيل لهؤلاء الضالين المكذبين إنه بعد كذا وكذا من السنين، مئات أو ألوفا، أكانوا من المصدقين به؟ ألا يطالبون بدليل مادىّ محسوس عن هذا اليوم، يرونه رأى العين؟ وإن ذلك لن يكون إلا إذا وقع وكان.. فعلا!.
وهل ينفعهم إيمان أو عمل بعد أن يقع ويجيء؟ {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} [158: الأنعام].
قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا اللّه.. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان اللّه، ولا تقدير مع تقديره.
فالنبىّ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا.. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء اللّه وأراد له، من دفع الضرّ عنه، وجلب الخير له.
فكيف يكون له سلطان في مصائر النّاس، ومقادير العباد؟ {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} عند اللّه {إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر: {متى هو}.
{فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
بل يمضى فيهم قدر اللّه، وتنفذ فيهم مشيئته في الوقت المقدور، إذ لا مبدّل لكلماته، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً} في هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه، بما يعمل في سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له.. فكيف يملك الضرّ لنفسه، ويسوقه إليها؟
وهل هذا مما يكون من إنسان، فضلا عن النبي الكريم؟
والجواب- واللّه أعلم- أن ذلك للدلالة على سلطان اللّه سبحانه وتعالى في عباده، وأنه ليس لأحد منهم شيء مع سلطان اللّه القائم عليه، في ذات نفسه، حتى لو أراد- متعمدا- أن يسوق إلى نفسه شرا، أو يوردها مورد الهلاك، فإن ذلك ليس إلى يده، وإنّما هو للّه سبحانه وتعالى.
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا، ولا يبذل له مالا، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة.. على خلاف النفع، فإنه لا يحصّل إلا بجهد، ولا ينال إلا ببذل وعمل.. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا- أبلغ وأظهر في الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}.
الضمير في قوله تعالى: {عذابه} يعود إلى {الوعد} في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وهو يوم القيامة.. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى: متى هو؟. حتى لكأنهم قد عملوا له، واستعدّوا للقائه، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!
وفى قوله تعالى: {بَياتاً أَوْ نَهاراً} إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس، بل إنه سيأتيهم فجأة، وعلى حين غفلة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [187: الأعراف].
وفى قوله سبحانه: {ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين.. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم.
فماذا يستعجلون من هذا الشرّ، وذلك العذاب؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ، ولكن هؤلاء المجرمين.. حمقى جهلاء، لا يدرون ما هو واقع بهم في هذا اليوم العصيب، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}.
{أثمّ} الهمزة للاستفهام، وثمّ حرف عطف، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف، تقديره: أتستعجلون هذا اليوم، ثم إذا ما وقع آمنتم به؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا، ولا يدفع عنكم عذاب اللّه الواقع بكم.. فهلّا آمنتم به الآن في هذا الوقت، وأنتم في سعة من أمركم، قبل أن يلقاكم هذا اليوم، وينزل بكم فيه البلاء، ويحلّ عليكم العذاب؟
وفى قوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم، يوم يقع بهم. وقد كانوا في دنياهم ينكرونه، ويبالغون في إنكاره، ويستعجلون مجيئه، إمعانا في الإنكار والاستهزاء، بقولهم:
{متى هو}.
و{آلآن} أصله {الآن} أي الحال والوقت، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار {أالآن} ثم صارت الهمزتان همزة مدّ، أي: آلآن تؤمنون به بعد أن وقع؟.
قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
العطف بسمّ هنا. يدلّ على محذوف، تحدّث به الحال.. وهو أن المجرمين، بعد أن التقوا بهذا اليوم الذي كانوا يكذبون به، قدّموا للحساب، وقدّمت لهم آثامهم التي اقترفوها في دنياهم، فعرفوا ما كانوا فيه من ضلال، ورأوا المصير الذي هم صائرون إليه.. فسيقوا إلى جهنم، ثم قيل لهم {ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ}.
وفى قوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
وجهان:
الوجه الأول: أن يكون استفهاما مرادا به التقرير كما في قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}، وتكون {إلّا} بمعنى غير.. أي: هل تجزون غير ما كان لكم من عمل؟.
لقد عملتم السوء فكان جزاؤكم سوءا.
والوجه الثاني: أن يكون استفهاما مرادا به الخبر، وتكون {هل} بمعنى ما النافية.. والتقدير:
ما تجزون إلّا بما كنتم تكسبون.
وعلى كلا الوجهين، فهو نخس لهؤلاء المجرمين، وعذاب يضاف إلى عذابهم، حيث يسقون كؤوس البؤس والعذاب، محمولة، إليهم بهذا التقريع والتسفيه.

.تفسير الآيات (53- 56):

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}.
التفسير:
الاستنباء: طلب النبأ، وهو الإخبار بأمر غائب.
إي: أداة جواب بمعنى: نعم.
يطلب المشركون من النبيّ أخبارا عن هذا اليوم، يوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، وما أعدّ اللّه للأخيار منهم من ثواب، وما رصد للأشرار من عقاب.. فإذا تحدث النبيّ إليهم بشيء من هذا، عقّبوا على ذلك مستهزئين ساخرين- بقولهم: {أحقّ هو}؟ أي أهذا الذي تحدّث به هو حق وجدّ؟ أم أنك تكذب وتهزل؟ إنهم لا يصدقون بهذا اليوم، ومع هذا فهم يستنبئون عن أخباره. متى هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ وذلك كله على سبيل الاستهزاء والسخرية.
وفى قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ردّ على هؤلاء المشركين المكذبين، وقد أمر اللّه سبحانه النبيّ الكريم أن يلقى المكذبين بهذا الردّ المؤكد بالقسم، وبحرف التوكيد {إنّ} وبلام الابتداء {لحق}، وذلك في مقابل إنكارهم، وغفلتهم عن هذا اليوم.
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ليؤكد هذا الأمر ويقرره، وهو أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، وأن المشركين لن يفلتوا من العقاب الراصد لهم فيه.. لأنهم لن يعجزوا اللّه، ولن يجدوا لهم مهربا.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
هو عرض لما يلقى الظالمون يوم القيامة من بلاء، وما يساق إليهم فيه من ألوان العذاب والنكال.. وأنه لو كان للظالم كل ما في الأرض من متاع، وكل ما يملك الناس فيها من مال وسلطان، لقدّمه فدية يفتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ويخلص من أهواله، ولهان عليه أن يتجرد من كل شيء، وأن يخرج عريانا من كل هذا السلطان العريض الذي ملك به الأرض كلها، والذي كان يبيع نفسه في الدنيا لقاء كومة من فضة، أو حفنة من ذهب..!
وفى قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} إشارة إلى هول هذا العذاب، الذي عند رؤيته تنخلع القلوب، وتجمد المشاعر، وتسكن الجوارح، وتخرس الألسنة.. فلا يجد أحد في مواجهة هذا العذاب قدرة على أن يفتح فما، أو يحرك لسانا، وإنما هو الكمد والحسرة يملآن كيان الإنسان، ويأخذان السبيل على كل خالجة وجارحة فيه!.. فكيف إذا ألقى فيه المجرمون، وصاروا وقود اله.
وهذا العذاب الذي ينزل بالظالمين، ليس إلّا مما قدمته أيديهم لهم، وإن الناظر إليهم وهم يقلّبون في النار، ليخيل إليه من شدة ما هم فيه من بلاء أنهم مظلومون، وأنه ليست هناك جريمة مهما عظمت، يستحق عليها مرتكبها هذا العذاب، الذي لم تره عين، ولم يتصوره خاطر.. ومع هذا، فإن ما وقع بهم من بلاء، إنما هو الجزاء العادل لما اجترحوا من سيئات، وما اقترفوا من آثام.
وفى قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} دفع لهذا الوهم، وتقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يلقاه هؤلاء الظالمون، هو الجزاء العدل لجريمتهم، وأن الحكم الذي حكم عليهم به، هو حكم قائم على ميزان القسط والحق.. إنهم لم يظلموا فيما نزل بهم، ولا يظلمون فيما سينزل بهم من صور العذاب، بعد هذا العذاب الذي هم فيه.
قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
هو توكيد لقدرة اللّه، وتقرير لحقيقة البعث والحساب والجزاء.. وأن الذي له ملك السموات والأرض، لا يعجزه أن يتصرف فيهما كيف يشاء، وأن يبعث الناس بعد موتهم.. فهو- سبحانه- الذي خلقهم، وهو- سبحانه- الذي أماتهم، وهو- سبحانه- الذي يبعثهم بعد موتهم. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [54: الأعراف].
ولكن أكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة عن اللّه سبحانه وتعالى، ولا عن قدرته، وحكمته، فتتفرق بهم السبل، ويعمون عن الطريق إلى اللّه، فلا يتعرفون إليه، ولا يؤمنون به.
قوله تعالى: {هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
ذلك هو من بعض ما للّه في ملكه.. هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي يبعث الموتى من قبورهم، فيرجعون إلى ربهم، ويجزون على ما كان لهم من عمل في الدنيا.