فصل: تفسير الآيات (57- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (57- 60):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
من تدبير القرآن الكريم في عرض الدعوة إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر، أنه لا يأخذ في دعوته تلك بالأسلوب التقريرى الإلزامي، بل يقيم بين يدى ذلك الأسلوب، ومن خلفه- مشاهد من قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، هي مناط هذا الأسلوب التقريرى، ووجه البرهان عليه، وهى قوة الإلزام فيه.. وبهذا لا يجد العاقل إلا التسليم له والأخذ به.. وكذلك الشأن في كل قضية من قضايا الدعوة الإسلامية، ومنها قضية البعث والقيامة، والحساب والجزاء.
فهو إذ يقرر حقيقة البعث والجزاء، يرى الناس وهم أحياء، شواهد منها، ويقيم بين أيديهم أدلة عليها، حتى لكأنها واقعة فعلا، ثم من خلال هذا الشعور.
ينقلهم- في حلم كأحلام اليقظة- إلى يوم القيامة، ويقيم لهم موازين الحساب والجزاء، ويفتح للمؤمنين منهم أبواب الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، ويفتح للعصاة الظالمين أبواب الجحيم، يتقلبون على جمرها، ويشربون من حميمها وغسّاقها.. ثم لا يلبث أن يوقظهم من أحلامهم تلك- المسعدة أو المزعجة- ليلقاهم بالدعوة إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر.. لتجد تلك الدعوة جوابا حاضرا لمن انتفع بهذه التجربة، وأخذ منها موعظة وذكرى.. وهكذا، يسير القرآن على هذا الأسلوب، التقريرى التجريبى، مع تنويع العرض، وتجديد المشاهد، واختلاف الألوان والظلال.. حتى لا يجد المرء سبيلا للفرار من قبول هذا الحكم، أو حجة لدفعه وإنكاره.
وفى هذه الآية، مواجهة للناس جميعا، بعد تلك الرحلة التي أشرفوا فيها على مشارف القيامة، ورأوا ما رأوه من أهوالها، وما يلقى الظالمون فيها من بلاء وهوان.
وهاهم أولاء يدعون إلى ما ينجيهم من هذا البلاء، ويدفع عنهم شر ذلك اليوم وويلاته.. فيقول سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
والموعظة والشفاء والرحمة، هي في هذا القرآن الكريم، وعلى يد هذا الرسول الكريم، الذي يحمل إليهم هذا القرآن، ويبشرهم وينذرهم به.
وفى القرآن العبرة والموعظة، بما يعرض من دلائل قدرة اللّه، وما يكشف من آثار رحمته.
وفى القرآن الشفاء لما في الصدور من عمّى وضلال، وذلك لما في آياته من أضواء المعرفة التي تهدى الضالين، وترشد الحائرين، وتكشف للناس جميعا الطريق إلى اللّه وتدلهم عليه.
وفى القرآن الهدى والرحمة، لمن عرف اللّه وآمن به، حيث ينزل منازل المكرمين عند اللّه، وينال ما ينالون من فواضل رحمته، وسوابغ إحسانه ورضوانه.
قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
ذلك أنه إذا عرف الإنسان كيف يفيد من هذه الموعظة، ويتعرف إلى اللّه، ويبتغى مرضاته، فقد جمع الخير كله إلى يديه، وحق له أن يغتبط ويهنأ.. ولا عليه إذا فاته كل شيء، إذا هو ظفر بهذا الذي ظفر به! وهو ما ناله من فضل اللّه ورحمته، إذ هداه إلى الإيمان به، والعمل لطاعته.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}.
هو حديث إلى هؤلاء الذين لم يأخذوا حظهم من تلك النعمة، ولم ينالوا نصيبهم من هذا الرزق الطيب الكريم، فمكروا بآيات اللّه، ونظروا إليها نظرا زائغا منحرفا.. وليس هذا شأنهم مع القرآن الكريم، وما تحمل آياته إليهم من هدى ورحمة، بل ذلك هو شأنهم مع كل نعمة من نعم اللّه، حيث يغيّرون وجهها، ويحرمون أنفسهم خيرها.
فهذه الأنعام، مثلا، قد جعلها اللّه رزقا حلالا خالصا لهم، ولكنهم- عن سفاهة وجهل- قد حرّموا بعضها وأحلّوا بعضها، لا لعلة واضحة، ولا لحكمة ظاهرة، وإنما هي ضلالات وحماقات، أرتهم فيها تلك الآراء الفاسدة.. وفى هذا يقول اللّه تبارك وتعالى فيهم:
{وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [138- 139: الأنعام].
وهكذا يفعل الضلال بأهله، حتى في الخير المادىّ الذي بين أيديهم، وعلى أفواههم.. فكيف بهؤلاء الضالين مع هذا الخير الموعود الذي يدعوهم القرآن الكريم إليه، ويبشرهم به؟ إنهم في هذا لأكثر ضلالا معه، وأبعد بعدا عن الانتفاع به! وإنهم إذا كانوا قد افتروا على هذه الأنعام تلك المفتريات التي تحرمهم الخير المتاح لهم منها، فلا يستغرب منهم أن يفتروا على اللّه هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه، ويحرموا أنفسهم رحمته ورضوانه! واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ} [28- 29: إبراهيم].
قوله تعالى: {وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}.
فهؤلاء الذين افتروا على اللّه الكذب، وبدّلوا نعمته كفرا- ما ظنّهم بيوم القيامة وما يلقون فيه؟ ألا يكون لما افتروه عقاب؟ ثم ألا يكون هذا العقاب عذابا ونكالا، كما كان افتراؤهم جرما غليظا، وضلالا بعيدا؟.
ونعم، إن اللّه لذو فضل على الناس.. ومن فضله عليهم أن أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وبعث فيهم رسله، بالهدى والرحمة.. ولكنّ كثيرا منهم كفر بتلك النعم، وأبى أن يستجيب لرسل اللّه، وأن يأخذ بحظه من هدى اللّه ورحمته.. فهل ينتظر هؤلاء الكافرون بنعم اللّه، الجاحدون لفضله، غير ما هم أهل له، من سوء الجزاء، وأليم العذاب؟.

.تفسير الآيات (61- 64):

{وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}.
التفسير:
{وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ}.
الشأن: الحال المتلبسة بالإنسان، وهو يعالج أمرا من الأمور.
تفيضون فيه: أي تتداولونه بينكم، ويأخذ كلّ منكم بطرف منه، فيكثر الحديث ويفيض.
يعزب: يغيب، ويبعد.
فى هذه الآية: عرض لبعض سلطان اللّه، ونفاذ قدرتا وعلمه.. وأنه- سبحانه- محيط بكل شيء علما.. وأن ما يقع من الضالين والمكذبين، هو في علم اللّه، يحصيه عليهم، ويجزيهم بما هم أهل له من بلاء ونكال.
وقد بدأت الآية بخطاب النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه: {وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}.
أي أنه صلوات اللّه وسلامه عليه، وما يعمل من عمل، مراقب من اللّه، ومسجل عليه كلّ ما يعمل، سواء أكان هذا العمل في شأن من شئونه الخاصة، أو في مجال الرسالة المبعوث بها، كتلاوة القرآن على الناس، وإسماعهم كلمات اللّه المنزلة عليه.
وذلك، حتى لا يظن المشركون والكافرون أنهم وحدهم هم الذين تحصى عليهم أعمالهم.. بل اللّه سبحانه وتعالى مطلع على الناس جميعا، وعالم بكل ما يعملون من خير أو شر.
وفى ذكر القرآن وتلاوة النبي له، إشارة إلى أنه الشأن الغالب على النبي- صلى اللّه عليه وسلم- وأن القرآن وتلاوة القرآن هو شغله وعمله، أما المشركون والضالون، فلهم شغل ولهم عمل، ولكنه شغل في ضلال، وعمل في باطل.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هو تعميم بعد تخصيص.. إذ ليس النبيّ وحده هو الذي يرقب اللّه تعالى أعماله، بل الناس جميعا مراقبون، لا يغيب من عملهم شيء عن علم اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} هو إشارة إلى أن علم اللّه محيط بكل شيء، فليست هناك {مثقال ذرة} أي قدر ذرة ووزنها وثقلها- وهى ما هي في الصغر- سواء أكانت في الأرض أو في السماء، وسواء أكان ما هو أصغر من الذرة أو أكبر منها- إلا وهى في كتاب مبين عند اللّه.. قد علمها وأحصاها.
وفى تسلّط النفي في قوله تعالى: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} على {إلّا} في قوله سبحانه: {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} في هذا ما يفيد أن معنى يعزب، هو يغيب أو يبعد، وبهذا يمكن الجمع بين ما النافية، وإلا ويكون المعنى هكذا:- وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين-.
والسؤال هنا: كيف يغيب أو يبعد عن اللّه شيء؟
والجواب: أن هذا الغائب البعيد، هو بالإضافة إلينا، بمعنى أن ما يقع في وهم الواهمين، وتصور المتصورين، أنه بعيد في أغوار الأرض، أو في أعماق أنفسنا، هو بعيد عن اللّه- فذلك تصور خاطئ، وفهم فاسد، لأنه في كتاب مبين عند اللّه، وهذا يعنى أنه وقع في علم اللّه أولا، ثم أودع في هذا الكتاب المبين عند اللّه، ثانيا.. فهو واقع في علم اللّه، ومسجّل في كتاب عند اللّه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [75: النمل].
قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
أولياء اللّه: هم الذين يجعلون ولاءهم للّه وحده، فهم أولياء اللّه، واللّه سبحانه وتعالى وليّهم.. وقد بينهم اللّه سبحانه في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
فلا ولاية بغير الإيمان باللّه.. إذ الولاء حب، وطاعة، وعبادة.. ولا حب إلا بعد معرفة، ثم إيمان.. ثم طاعة وعبادة.
ولا تتحقق الولاية للّه إلا بمراقبته، واتقاء محارمه، والتوكل عليه، والرجاء فيه، وقطع كل رغبة فيما سواه.. وذلك هو الذي يحقق التقوى، التي هي ثمرة الأعمال الصالحة.. فهؤلاء الأولياء هم الذين تعلقوا باللّه، فجذبهم اللّه إليه، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فأمنوا في جنابه من كل خوف على متوقع، أو حزن على فائت {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
فمن اتخذ اللّه وليا له، اتخذه اللّه وليا، ومن أحب اللّه أحبه اللّه، كما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [54: المائدة].. ومن أحبه اللّه فلا تسأل عما هو فيه من غبطة وسرور، مما يتنزل عليه من ربه من سكينة، وما يفاض عليه من نفحات وبركات.
يقول رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه فيما رواه البخاري: {ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألنى أعطيته وإن استعاذنى لأعيذنّه}.
فالطاعات، والمداومة عليها، هي التي تقرب العبد من ربه، فإذا قرب منه كان في جناب حماه، وعلى بساط رحمته، لا يخاف إذا خاف الناس، ولا يجزع إذا جزع الناس. ولا يبيت على همّ إذا بات الناس على هموم: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وفى تعدية الخوف بحرف الجر (على)، إشارة إلى أن الخوف إنما يكون من توقعات المستقبل، فهو مقبل لا مدبر.. ويكون المعنى لا خوف مقبل عليهم.
وفى التعبير عن الإيمان بالماضي {الَّذِينَ آمَنُوا} وعن التقوى بالمستقبل {وَكانُوا يَتَّقُونَ} إشارة إلى أن الإيمان يسبق التقوى، التي تقوم على اتقاء محارم اللّه، لأن هذا الاتقاء هو من معطيات الإيمان باللّه.
وقد دخل فعل التقوى في حيز الفعل الماضي {كان}.
{وَكانُوا يَتَّقُونَ} فكانت التقوى أيضا مما حدث من هؤلاء المتقين، كما حدث منهم الإيمان من قبل، وإلا ما استحقوا صفة الأولياء، أولياء اللّه.. فالإيمان، ثم التقوى، ثم الولاية، يجيء بعضها إثر بعض، على هذا الترتيب.. فلا ولاية بغير التقوى، ولا تقوى إلا بعد الإيمان- وفى قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
بيان لتلك المنن العظيمة التي امتن اللّه بها على أوليائه- جعلنا اللّه منهم- فجعل البشريات المسعدة برضا اللّه ورضوانه، تتنزل عليهم، بما يكشف لهم منازلهم عند اللّه، وما سيلقون في نعيم جناته، من كرامة وتكريم.
والبشريات التي يبشّر بها أولياء اللّه في الدنيا، كثيرة، منها ذكرهم في الناس، بالكلمة الطيبة تقال فيهم، لحسن سيرتهم، واستقامة طريقهم، وحفظ جوارحهم من المحارم والمظالم.. إذ لا شك أن رضا الناس عن إنسان، وحسن ظنهم به، هو دليل على أنه من أهل الخير والتوفيق، وأنه على طريق الاستقامة والتقوى.. ومنها ما يملأ اللّه به قلوبهم من رضا وسكينة، في السراء والضراء على السواء.. بل إن كثيرا منهم ليجد فيما يبتليه اللّه به من ضر، هو أمانة عنده للّه، وأن أداء هذه الأمانة للّه هو الصبر عليها، والرضا بها، وأن الضجر بالبلاء، والجزع منه، هو خيانة لتلك الأمانة.
روى أن سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه.. كفّ بصره في آخر حياته، وكان مستجاب الدعوة، فقيل له: ادع اللّه وأنت مستجاب الدعوة عنده أن يرد عليك بصرك؟ فأبى أن يدعو اللّه بردّ بصره إليه.. ولو دعا لاستجاب اللّه له، ولكنه وجد في هذا العمى مشيئة اللّه فيه، وفى الدعاء بدفع هذا العمى عدم استسلام لهذه المشيئة، وعدم رضا بها!! وهكذا أولياء اللّه.. {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
ومن البشريات التي يبشّر بها أولياء اللّه في الدنيا، أنهم حين يشرفون على الموت، لا يجدون له ما يجد غيرهم من كرب وجزع. بل يستقبلونه في غبطة ورضا، وذلك لما يرون في ساعة الاحتضار مما لهم عند اللّه من فضل وإحسان.. وهذا ما يشهد له قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [30- 31] فصلت.
وأما بشريات أولياء اللّه في الآخرة، فكثيرة، تبدأ من مغادرتهم هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، وهم في روضات الجنات يحبرون.. ففى كل مرحلة من مراحل هذه الرحلة المسعدة، تطلع عليهم البشريات التي تزفّهم إلى الجنة، كما تزف العروس في موكب من الفرح والبهجة.. وفى هذا يقول اللّه تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [12: الحديد].