فصل: تفسير الآيات (75- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (75- 82):

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة موسى، عليه السلام، وما كان بينه وبين فرعون، الذي يمثّل وجها من وجوه الطغيان والكفر.
وقد جاءه موسى يدعوه إلى اللّه، ويوجهه إلى ما يزكّيه ويطهره، ويقيمه على طريق الحق والإحسان، بما يقيمه الإيمان في قلوب المؤمنين من فضائل إنسانية كريمة مشرقة، كما يقول اللّه تعالى لموسى بما يدعو فرعون إليه: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى}.
ولكن فرعون يأبى إلا عنادا وكفرا، وإلا ضلالا وجهلا.
{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
هذا هو مجمل القضية، وخاتمة المطاف فيها.
بعث اللّه موسى وهرون إلى فرعون وملائه، وبين أيديهما آيات. بينات من عند اللّه، فأخذت فرعون العزة بالإثم، واستكبر أن يذعن لتلك الآيات وأن يجعلها داعية الإيمان له ولقومه.. {فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
ثم تجيء الآيات بعد هذا مفصّلة هذا الإجمال.. تفصيلا مجملا أيضا.
حيث كان لهذه القصة أكثر من ذكر في القرآن الكريم.. فيه بسط وتفصيل لها.
{فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
هذا هو القول الذي استقبل به فرعون وحاشيته آيات اللّه حين طلعت عليهم:
{إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
قالوا ذلك في تأكيد قاطع، حتى لكأنهم قد اختبروا هذه الآيات اختبارا علميا محققا، ثم كشف لهم العلم عن تلك الحقيقة وملئوا أيديهم بها، ونزلت من عقولهم منزل اليقين، الذي لا شك فيه: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
وهكذا شأن من يكابر في الحق، ويعانده.
إنه- وقد زلزلت الأرض به، من قوة الحق وصدمته- يحاول جاهدا أن يقوى نفسه، ويمسك وجوده بهذه الكلمات الكاذبة المفضوحة المموهة، بهذا التوكيد القاطع، وهو في دخيلة نفسه يرجف خوفا، ويضطرب فزعا.
{قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}.
يقول موسى لفرعون منكرا عليه أن يقول في آيات اللّه التي طلع بها عليه: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} يقول له موسى: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ}؟ وهنا مقول القول محذوف.. تقديره أتقولون لهذا الحق الذي جاءكم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
أو أتقولون هذا القول المنكر.. لآيات اللّه لما جاءتكم؟.
وقد حذف مقول القول، لأنه قول منكر، يعفّ لسان العاقل عن أن يتلفظ به، ولو كان على سبيل الحكاية.. وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر، فإن حسبه من الشناعة أن يحمل هذا الإثم، ويجريه على لسانه.. كساقى الخمر فإنه، وإن لم يشربها، هو أداة من أدواتها، وإناء من آنيتها.
وقد نزه اللّه موسى عليه السلام، أن ينطق بما نطق به فرعون، من زور وبهتان!.
وفى تعدية القول إلى المقول باللام: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ} معدولا به عن التعدية بحرف الجر عن، إذ أنهم لم يقولوا للحق بل قالوا عنه هذا القول- نقول: في هذه التعدية سرّ من أسرار النظم القرآنى، وإعجاز من إعجازه.
فإذا كان الحق الذي جاء به موسى، حقا واضحا مشرقا، لا لبس فيه، حتى لكأنه كائن عاقل، رشيد، يستغنى عن أن يدل عليه أحد أو يكشف عن وجهه كاشف- إذا كان ذلك كذلك، فقد صح أن ينزل هذا الحق منزلة العقلاء، وأن يوجه إليه الخطاب، وأن ينكر على من يعتدى عليه هذا العدوان.. {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ} هذا القول المنكر؟.
فالحق في إشراقه، وجلاله، وسلطانه، مستغن بنفسه عمن يسنده، ويشدّ أزره، فهو إذ يطلع على الناس، يطلع عليهم كائنا سويا، يتحدث إلى الناس ويتحدثون إليه.. وهذا ما يشير إليه توجيه القول من المكذبين بالحق، إلى الحق: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ} كما يشير إليه مجيء الحق إليهم من غير أن يستند في مجيئه إلى أحد إذ يقول لهم موسى {لَمَّا جاءَكُمْ}.
ولم يقل: لما جئتكم به.
وفى قوله تعالى: {أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} تعقيب يؤكد به موسى ما أنكره على فرعون من قوله عن آيات اللّه: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
وذلك بعد أن أنكر عليه هذا القول بقوله: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ}.
وقدم إنكار السحر على الإشارة إليه، لأن المطلوب أولا هو إنكار أن يكون هذا الذي جاء به موسى سحرا.. فهو ينفى السحر أصلا، أن يكون قد وقع في هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، حين طلع عليه بآيات اللّه.. ثم يحدد بالإشارة هذا الشيء الذي ينفى عنه السحر، وهو آيات اللّه تلك.. فيقول له: {أَسِحْرٌ هذا}، ولا يقول: أهذا سحر؟ لأن موسى ليس ساحرا، ولا يأتى بسحر أبدا، سواء أكان هذا الذي يشهده منه فرعون الآن أو غير الآن.
وفى قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} هو حال من اسم الإشارة المشار به إلى آيات اللّه.. والمعنى أتقولون عن آيات اللّه هذه، إنها سحر، وأهل السحر لا يفلحون أبدا.
وفى هذا إشارة إلى أن موسى من المفلحين بما في يديه من آيات اللّه، وأنه ينذر فرعون بأنه سيغلب ويهزم، إن هو تصدى لآيات اللّه تلك.
{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ}.
ولا يجيب فرعون على تساؤل موسى وإنكاره لقوله الذي قاله في آيات اللّه.. بل يشغب هو والملأ حوله على موسى، ويصيحون في وجهه: {أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا}.
وتلك هي علة الجاهلين، وداء السفهاء والحمقى.. التمسك بالقديم، وعقد القلوب عليه، وإن كان بلاء وشرا.
لأنهم أعفوا عقولهم من النظر والتفكير، ورضوا بما استقر فيها من كل غث وزيف.
وفى قوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ} ما يكشف عن علة أخرى من علل الضالين، وعن داء من أدوائهم، وهو الحرص على ما في أيديهم من سلطان، ولو باعوا لذلك عقولهم، وأهلكوا فيه أنفسهم.. إنه دفاع عن جاه، ودفع عن سلطان.. لا أكثر ولا أقل.. وفى سبيل هذا يهون عندهم كل شيء، ويصغر كل شيء!- وقوله تعالى: {وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ} هو كلمة القوم التي يحتمون بها من وجه هذا الوافد الجديد، والذي جاء لينازعهم سلطانهم، أو ليستبد به دونهم.. {وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ}.
هى قولة واحدة قاطعة، لا رجوع عنها، ولا بديل منها، ولو جاءهم موسى وهرون بآيات وآيات.. إنهم لن يؤمنوا لموسى وهرون أبدا.
{وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
فى هذه الآيات، ينكشف ما كان يعتمل في نفس فرعون، من خوف على سلطانه الذي بين يديه، والذي جاء موسى ينازعه إياه، وينزله عنه.
ذلك أنه قد رأى أن الأمر لن ينحسم بينه وبين موسى بهذه الكلمات التي صرخ بها في وجهه، هو ومن حوله من حاشيته.. فما هذا إلا كلام، لا يكافئ الفعل الذي كان من موسى، حين ألقى عصاه، فكانت ثعبانا مبينا، فزعت له النفوس، واضطربت منه القلوب! وإن الذي ينبغى أن يواجه به هذا الموقف هو أن يحارب موسى بالسلاح الذي جاء يحاربه به، وأن يهزمه في هذا الميدان الذي التقى معه فيه، وإلا فما زالت الجولة لموسى.. الأمر الذي تأبى كبرياء فرعون أن تقبله، وأن تبيت عليه.
{وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ}.
فهو ما زال مصرا على أن ما جاء به موسى هو سحر.. وإذن فليلقه بسحر مثله، وليجمع لذلك ما في دولته من أساتذة السحر وأربابه.
{فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ}.
وهكذا يتحدد الموقف.. وتبدأ المعركة.. ويأخذ السحرة موقف المبادرة.. إذ يفسح موسى لهم المجال، ويدعوهم إلى أن يبدءوا، ويلقوا ما معهم من سحر.
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.
ولقد ألقى السحرة ما معهم، فلما رأى موسى ما كشفوا من أسلحتهم، قال: {ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ}.
فذلك هو السحر، لا ما جئتكم به، كما قال فرعون من قبل: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}.
وهنا ينكشف الباطل ويتعرّى، ويبين الزيف وينفضح الضلال.
فلو كان الذي مع موسى هو السحر كما قال فرعون، فإنه لن يكسب المعركة، لأنه يحارب سحرا بسحر.. أما إن كان الذي بين يديه هو الحق فإنه غالب لا محالة.. فما يثبت الباطل للحق أبدا {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين يتخذون الباطل مركبا يخوضون به في بحار الحق.. {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
فتلك هي نهاية الصراع بين الحق والباطل.. إن الحق هو كلمة اللّه، وكلمة اللّه هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وإحقاق اللّه للحق، هو في انتصار الحق، وتمكّنه، وإجلاء الباطل من مواقعه.. {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وفى قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} إشارة إلى أن الحق مستند إلى قوة غالبة، لا تهزم أبدا هي قوة اللّه سبحانه. وأنه مؤيد بتلك القوة، مستند إليها.. فقوله تعالى: {بكلماته} متعلق بقوله سبحانه: {يحقّ}.
أي أنه سبحانه ينصر الحق بكلماته، وكلماته هي القوى العاملة في هذا الوجود.
المتصرفة فيه، كما يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} [171: النساء].. وكما يقول جل شأنه: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [40: النحل].

.تفسير الآيات (83- 86):

{فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.
اختلف في العائد عليه الضمير في قوله تعالى {مِنْ قَوْمِهِ}.
، وهل يعود على قوم موسى، أو قوم فرعون؟ كما اختلف في العائد عليه الضمير في {ملائهم} أهم الملأ من قوم موسى، أو الملأ من قوم فرعون؟
وينبنى على هذا الاختلاف، اختلاف في الذرية الذين آمنوا لموسى، واستجابوا لدعوته.. أهم من ذرية بنى إسرائيل أم هم من ذرية المصريين؟
والذي نراه- واللّه أعلم- أن هؤلاء الذرية هم من أبناء المصريين، ويرجّح هذا عندنا أمور، منها:
أولا: أن بنى إسرائيل كانوا قبل موسى مؤمنين باللّه، على دين آبائهم إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف.. فهم ذرية أبناء يعقوب {الأسباط} الاثني عشر، وكانت رسالة موسى هي أن يخلصهم من يد فرعون، ومما كانوا يلقون من هوان وذلّ. كما يقول اللّه تعالى لموسى وهرون: {فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [47: طه].
ثانيا: أن بنى إسرائيل كانوا مع موسى جميعا، فاستجابوا له، وخرجوا من مصر معه.. فلم يكن بينه وبينهم خلاف، حتى خرج بهم من مصر.
وقوله تعالى: {فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يعنى أن الذين آمنوا له كانوا بعضا من القوم، بل ومن ذرية القوم.. وهذا يعنى أن قلة قليلة تلك التي آمنت لموسى، من هؤلاء القوم.. وهذا لا يمكن أن يحمل على قوم موسى الذين كانوا جميعا معه.
ثالثا: يذكر القرآن الكريم أن أناسا من المصريين قد استجابوا لموسى، وآمنوا باللّه، ومنهم السحرة، الذين يقول القرآن عنهم: {قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} [121- 126: الأعراف].
رابعا: يذكر القرآن أنه قام من بين المصريين ممن آمن باللّه على يد موسى- قام من يبشّر بالدعوة إلى اللّه، ويدعو إلى الإيمان به.. وقد سمّيت في القرآن سورة باسمه هي سورة المؤمن وتسمّى غافر كذلك.. وفيها يقول اللّه تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} (الآية: 28).. وفى هذه السورة أيضا جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا} (الآية: 29) وفى هذه السورة كذلك جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون:
{وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} (الآية: 34) وقوله سبحانه أيضا:
{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ} (الآية: 38).
إذن فقد كان من المصريين مؤمنون، وكان منهم دعاة من هؤلاء المؤمنين يدعون إلى الإيمان باللّه.. ولكن في حذر، وخفية.. خوفا من فرعون أن يبطش بهم.
وعلى هذا فالضمير في {ملائهم} يعود إلى ملأ المصريين الذين آمنوا، وأنهم كانوا يخافون من فرعون، ومن قومهم أيضا.
وملاحظة هنا نحب أن نشير إليها، وهو أن الذين آمنوا لموسى، واستجابوا له كانوا {ذرية} أي من الذرية، وهم الأبناء، لا الآباء، وهذا يعنى أن الشبان هم أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد، والأخذ به، سواء كان من ماديات الحياة أو معنوياتها.. وهذا يعنى أيضا أن تحركات الأمم نحو التجديد تكون إلى يد الشبان.. أما الشيوخ فقلّ أن يستجيبوا لجديد يدعون إليه.. إذ أن طول إلفهم لما هم فيه من عادات، وتقاليد، ومعتقدات، قد شدّهم إلى ما هم فيه، وربطهم به، فكان فكاكهم منه عسيرا شاقا.
ونجد هذا في الدعوة الإسلامية.. فقد كان المستجيبون لها، والسابقون إلى الإيمان باللّه، هم من كانوا في مرحلة الشباب، لم يخرجوا منها بعد إلى مرحلة الشيخوخة.. كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، وأبى عبيدة، فهؤلاء كانوا أسبق الناس إلى الإسلام، وقد خلفوا النبي، وعاشوا سنين بعده!- ومعنى قوله تعالى: {عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} أي يضطهدهم، ويعذهم، ويعرضهم بهذا العذاب لأن يفتنوا في دينهم.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} إشارة إلى علوّ سلطانه، وأنه سلطان قائم على تراب هذه الأرض.. فهو سلطان- وإن علا- لن يبلغ أن يكون جبلا من جبال هذه الأرض، أو تلّا من تلالها: إنه بناء من تراب، على تراب!- وفى قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} إشارة أخرى إلى إسرافه على نفسه، ومجاوزة الحدّ بها في الظلم والجبروت.
{وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} بهذه الدعوة، وأمثالها، كان يثبّت موسى قومه، ويصبرهم على ما هم فيه من بلاء، وأن يجعلوا للّه أمرهم، ويسلموا له قيادهم، وألا يأبهوا لما يأخذهم به فرعون من أذى وضرّ.
وهنا سؤال: كيف يقول لهم موسى: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ولم يقل إن كنتم مؤمنين، مع أن الإيمان درجة فوق درجة الإسلام.. فالإسلام باللسان، والإيمان بالقلب.. ولهذا ردّ اللّه إيمان الأعراب، الذين قالوا آمنا.. فقال تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات].. فكيف هذا؟.. ثم إن النظم كان يقضى بأن يذكر الإيمان بدل الإسلام. إذ كان الشرط مبنيّا على الإيمان، كما يقول سبحانه على لسان موسى: {يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} فكان مقتضى النظم أن يكون الجواب: فعليه توكلوا إن كنتم مؤمنين.
كيف هذا أيضا؟
والجواب: أن القوم كانوا على درجات في الإيمان، فمنهم المسلم المؤمن، ومنهم المسلم، غير المؤمن.
وحين أراد موسى أن يأخذ اعترافهم في صلتهم باللّه، جعل هذا الاعتراف قائما على الإيمان: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ}.
حتى ينظر كل منهم إلى نفسه، ويتعرف إلى حقيقة إيمانه، لأن المطلوب منه هو أن يكون مؤمنا.
وهنا يدعوهم موسى جميعا إلى التوكل على اللّه، إن كانوا مسلمين، فمن كان منهم مسلما إسلاما خالصا، فهو مؤمن.. وإذن فهم مسلمون، قبل أن يكونوا مؤمنين، وبالإسلام الخالص، يكونون مؤمنين.
فقول موسى عليه السلام: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} دعوة منه إلى أن يبرأ إسلامهم للّه من النفاق والمداهنة.. فهو يريدهم مسلمين أوّلا، يقوم إسلامهم على اقتناع عقل، واطمئنان قلب، وإخلاص نية.. وهذا هو الإيمان.
{فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}.
بهذا الجواب أجاب القوم موسى إلى ما طلبه منهم، من التوكل على اللّه.
{فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} فلا متوجه لنا إلى غير اللّه.
وفى قولهم: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} دعاء منهم إلى اللّه ألا يعرّضهم للبلاء والضرّ على يد الطغاة الظالمين، حتى لا يكون في ذلك ما يفتنهم عن دينهم، ويفتن الظالمين بهم أيضا، فيؤخذوا بجنايتهم على هؤلاء المظلومين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [20: الفرقان].