فصل: تفسير الآيات (96- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (96- 103):

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}.
التفسير:
حقت عليهم: أي وقعت عليهم، ووجبت.
كلمة ربك: قضاؤه وحكمه الذي أوجبه وأوقعه عليهم.
والآية الكريمة تشير إلى ما للّه سبحانه وتعالى من سلطان مطلق في عباده، يخلقهم كما يشاء، لما يشاء.. فتلك إرادته النافذة فيهم، ومشيئته الحاكمة عليهم.
وفى عباد اللّه، من خلقهم اللّه لا يقبلون الإيمان، ولا يكونون في المؤمنين أبدا.. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}.
وكما يقول النبي الكريم: «إن اللّه سبحانه خلق الخلق فقبض قبضة بيده وقال هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقبض قبضة وقال هؤلاء للنار ولا أبالى.. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» فقال الصحابة: يا رسول ألا نتّكل وندع العمل بقدرنا؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم:اعملوا. «فكلّ ميسّر لما خلق له.. فأهل الجنة للجنة ولها يعملون وأهل النار للنار ولها يعملون».
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} إنهم لا يؤمنون أبدا إيمان اختيار ورضا، ولو جاءتهم كل آية قاهرة معجزة.. إن قدرهم يمسك بهم على ما أرادهم اللّه له، ولن يتحولوا عنه.
أما إيمانهم عند الموت، أو عند مشاهدة أهوال يوم القيامة، فلن يحسب إيمانا، لأنه كما قلنا إيمان المكره المضطر، وإنه: {لا إكراه في الدين}.
وهنا تثور في النفس خواطر، وتدور في الرءوس تساؤلات.
لم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد اللّه وصنعة يده.. فيكون فيهم السعيد والشقي، بقدر مقدور عليه، قبل أن يولد؟
وعلى أي أساس قامت هذه التفرقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
فمواليد يولدون للجنة، ومواليد يولدون للنار؟
أسئلة كثيرة تدور هنا، قلّ أن يكون إنسان في الناس- إلا من عصم اللّه- لم تعرض له هذه القضية- قضية القضاء والقدر- فيلقاها مواجها، أو مجانبا، أو حذرا، أو متخوفا.
فالناس جميعا مبتلون بهذه المشكلة.. وإن اختلفت موافقهم منها، وتباينت نظراتهم إليها.
وسيكون لنا موقف- إن شاء اللّه- مع هذه القضية، نستعرض فيه بعضا من نظرات الناظرين إليها، وما حصّلته تلك النظرات من خير أو شر.
ثم نعرض رأى {الإسلام} وموقف المسلم من هذه القضية.
قوله تعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
لولا هنا بمعنى هلّا، يراد بها الاستفهام، ويراد من الاستفهام بها الحثّ والحض على فعل المستفهم عنه بعدها، والإغراء به.
والمعنى: هلّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟! والمراد بالقرية هنا، مكة.
وقد أشار إليها القرآن الكريم بهذا الاسم في أكثر موضع، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ} [13: محمد] وقال سبحانه: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31: الزخرف].
وهذه مقولة المشركين من أهل مكة، يحكيها القرآن عنهم، وهم يريدون بالقريتين، مكة، والطائف.
والمفسرون مجمعون على أن هذه القرية مجرد قرية، أية قرية من تلك القرى التي أهلكها اللّه، ولم تؤمن كما آمنت قرية يونس وهى نينوى.
والذي نستريح إليه، ونطمئن له، هو هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، وهو أن المراد بالقرية هو مكة.
وقد جئنا من القرآن الكريم بما يدل على أنه يطلق عليها اسم قرية، وإن كان القرآن قد ذكرها مرة بأنها أم القرى! ولنا على ذلك أيضا:
أولا: أن تنكير القرية يكاد يصرح بأنها مكة وأن كلمة قرية هو علم عليها، وذلك بالإشارة بدلالة الحال عليها.. والتقدير: فهلا كانت قرية اسمها مكة آمنت فنفعها إيمانها؟
ثانيا: في قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
وفى هذا عزاء للنبى، وتسرية عنه، مما يعتمل في نفسه من هموم على أهل هذه القرية التي يأبى عليه أهلها- وهم أهله وعشيرته- أن يستجيبوا له، وأن يأخذوا طريق النجاة الذي يدعوهم إليه.
وثالثا: في قوله تعالى: {آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها} وفى هذا الحديث عن القرية بالماضي، وهو الذي لفت أنظار المفسرين إلى أنها من القرى الغابرة- في هذا إشارة إلى أن المراد بالقرية هي مكة.. والحديث عنها بالفعل الماضي يشير إلى أن إيمانها قد تأخر كثيرا، وأنه كان المتوقع منها أن تكون أول من يستجيب للنبى.. لأنه أحد أبنائها.. تعرفه، وتعرف نسبه فيها، ونشأته بين أبنائها، وما عهدت فيه من صدق، وأمانة، وعفة، واستقامة، مما لم تعهده في شبابها أو شيبها.. ولأنها تملك اللسان العربي الذي التقت عليه ألسنة العرب جميعا، والذي نزل القرآن به.. فهى أقدر العرب جميعا على النظر في المعجزة التي جاءها بها هذا النبي، في كتاب كريم، تنزيل من رب العالمين.
فلو أن هذه القرية استجابت للنبى الكريم من يوم أن حمل إليها رسالة ربه، ودعاها إلى الإيمان به، لنفعها إيمانها، ولكانت في ذلك الوقت، الذي تسمع فيه قول اللّه هذا، على حال غير حالها تلك، وعلى صفة غير صفتها هذه، التي هي عليها الآن، من كفر، وضلال.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
ما معنى {إلا} الاستثنائية هنا؟ وأين المستثنى منه؟
ونقول إن {إلا} هنا ليست أداة استثناء، وإنما هي حرف استدراك بمعنى {لكن}.
ولما كان الاستثناء، يفيد في مضمونه معنى الاستدراك والتعقيب على المستثنى منه فقد حسن استعمال {إلا} مكان {لكن} إذ كانت قرية يونس تكاد تكون استثناء بين القرى التي جاءها رسل اللّه، فكفرت، ولم يؤمن منها إلا هذه القرية. فأداة الاستثناء هنا تفيد استثناء واستدراكا معا.. لفظها الاستثناء، ومعناها الاستدراك.. وذلك من خصوصيات النظم القرآنى وحده! وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها، فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها، لأنها أولى به، إذ كان مطلعه في أفقها؟ ولكن الواقع أنها لم تؤمن، فحرمت هذا الخير، وأصبحت في معرض نقمة اللّه وبلائه.. هذا هو موقف هذه القرية، وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبيائهم.. إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، فنجاهم اللّه من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم، ومتعهم بما كانوا فيه، إلى أن انتهت آجالهم المقدورة لهم.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا آمَنُوا} إشارة إلى أن قوم يونس لم يبادروا بالاستجابة لرسولهم، بل كان منهم تلكؤ وتعلل، ولكنهم آمنوا آخر الأمر، فتداركهم اللّه برحمته، وشملهم بعفوه.
وانظر في {لمّا} هذه، واستمع إلى ما يقع لأذنك من نغمها الممتد المتماوج، وما فيه من رعشة واهتزاز، تجد أنها تحكى في دقة وروعة تلبّث القوم، وتلكاهم واضطراب خطوهم، قبل أن يؤمنوا، ويستقيموا على طريق الحق! وانظر مرة أخرى في هذا الذي لمحته من الحرف {لمّا} وما طلع عليك به من إشارات مضيئة، كشفت لك عن حال تلك القرية، قرية يونس، وما كان من توقفها، وتلكئها، ثم استجابتها لرسولها، والإيمان بربها، والانتفاع بهذا الإيمان- تجد وجها آخر من وجوه الإعجاز القرآنى، فيما يجيء به من أنباء الغيب، وأن قريشا ستأخذ مأخذ قوم يونس، وأنهم إذ يقفون من النبي هذا الموقف العنيد العنيف، ستكون خاتمة أمرهم، الإيمان باللّه، والانتفاع بهذا الإيمان، كما كان الشأن في قوم يونس.. وقد كان! فآمنت قريش، وانتفعت بإيمانها وانتفع الإسلام بهذا الإيمان.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
وإذا كان قوم يونس قد آمنوا، وإذا كانت قريش ستدخل في الإيمان.. فإن ذلك كله رهن بمشيئة اللّه.. فما آمن مؤمن إلا كان إيمانه عن مشيئة اللّه، وقدره المقدور له.
وإذن فهؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان من أهل مكة، هم ممن شاء اللّه لهم الإيمان، وأراد لهم الخير.. وهؤلاء الذين لا يزالون على كفرهم وضلالهم، هم ممن لم تدركهم رحمة اللّه بعد، وهذا منادى الحق يناديهم إلى اللّه، ويدعوهم إلى ظلال رحمته.. فليستجيبوا للّه، وليسعوا إلى هذا الخير، وليأخذوا بحظهم منه، فقد يكونون ممن شاء اللّه لهم الإيمان، فتلقاهم مشيئته، وهم على الطريق إليه.
إنه مطلوب من كل إنسان أن يسعى، وأن يطلب الرزق من مظانّه.
والإيمان باللّه هو أعظم الرزق وأطيبه- فإذا كان ممن أراد اللّه لهم الخير، أخذ حظه منه، وإلا فقد سعى سعيه، ولكن إرادة اللّه هي الغالبة، ومشئته هي النافذة.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ولأصبح الناس كلهم على طريق مستقيم.. ولكن للّه حكمة، في أن فرق بين الناس، فكان منهم الصالح، والطالح، والمستقيم، والمنحرف، والمؤمن، والكافر، {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [119: هود].
وفى قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} عزاء للنبى الكريم. ومواساة له عن مصابه في قومه الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يتقبلوا الخير الذي جاءهم به.
إنه لا إكراه في الدين، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الدّين عقيدة، والعقيدة إيمان بالمعتقد فيه، والإيمان بالشيء لا يكون حتى يرضاه العقل، وتميل إليه النفس، ويطمئن له القلب.
وليس في شيء من هذا مكان للإكراه، بل إن الإكراه هو الآفة التي تحجب القلب عن الإيمان، وتغتال الإيمان إذا هو وجد طريقا إلى القلب.
والأمر الثاني: أن القلوب وهى مستودع الإيمان، هي يد اللّه سبحانه وتعالى، إن شاء ساق إليها الإيمان، وهيأها لاستقباله، ونفعها به، فأزهر فيها وأثمر، وإن شاء صرفها عن الإيمان، وختم عليها، فلم تقبله، ولم تنتفع به.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}.
وعلى هذا، فإنه غير مطلوب من الرسول أن يكره أحدا على الإيمان باللّه.. لأنه لن يؤمن مؤمن إلا عن مشيئة اللّه وإرادته.. ثم لأن الإيمان عن إكراه هو زرع في أرض مجدبة، لا تنبت زرعا ولا تطلع ثمرا.! {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [40: الرعد].
قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} هو تعليل للإنكار الذي تضمنه الاستفهام في الآية السابقة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
ذلك أنه إذا كان الإيمان رهنا بمشيئة اللّه، فليس يجدى بحال أبدا هذا الحرص الشديد، الذي يبدو من النبيّ، وهو يدعو أهله وقومه إلى الإيمان باللّه، وإن المطلوب منه هو أن يرفع مصباح الهدى للناس، وأن يكشف لهم به الطريق إلى اللّه.. فمن كان ممن أراد اللّه لهم الهداية اهتدى، ومن كان ممن أصلّهم اللّه، فلا هادى له.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وفى قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}.
الرجس: القذر، والنّجس.
ووضع الرجس في مقابل الإيمان، إشارة إلى أن الإيمان طهر، وتزكية، وتطييب للمؤمن.. على خلاف الكفر، فإنه قذر، ونجس، ورجس، يلبس صاحبه، ويشتمل عليه، كما يلبس الجلد الجسد ويحتويه! وفى وضع الذين {لا يعقلون}، بدل الذين {لا يؤمنون} كما يقضى بذلك السياق- إشارة أخرى إلى أن الكفر هو وليد الجهل والحمق، وعدم استعمال العقل وتوجيهه إلى تعقّل الآيات المبثوثة في هذا الكون، الذي تتجلّى في آفاقه آيات الخالق، المبدع، وقدرة الحكيم العليم، الخالق، المصوّر.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
{قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} جاء داعيا إلى توجيه العقل إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وقراءة ما سطرته يد القدرة على هذا الوجود من آيات ناطقة، تحدّث عن الخالق العظيم، وتسبّح بحمده، في ولاء، وانقياد وخشوع!- وفى قوله تعالى: {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} توكيد لما قررته الآيات السابقة، من أنه لا تؤمن نفس إلا بإذن اللّه.. وأن النظر في ملكوت السموات والأرض، وإن كان مطلوبا من كل عاقل أن ينظر في هذا الملكوت، وأن يطيل النظر فيه دارسا متفحصا، باحثا عن دلائل وجود اللّه، وما له في هذا الملكوت من إبداع، وما له عليه من سلطان- هذا النظر لن يصل بصاحبه إلى الإيمان، ولن يفتح قلبه له، إلا إذا كان هذا الناظر ممن أراد اللّه لهم أن يكونوا مؤمنين.. أما الذين قدّر اللّه عليهم ألا يؤمنوا، فلن يؤمنوا، أبدا، ولو نطقت أمامهم الآيات، وأسمعتهم ما أودع الخالق فيها من بديع صنعه، ورائع حكمته وقدرته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [6: البقرة].
وهذه هي قضية القضاء والقدر.. وقد وعدنا أن نعرض لها، وسنعرض لها إن شاء اللّه في سورة الكهف.
قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} هو تهديد لهؤلاء الكافرين، ووعيد لهم، بما ينتظرهم من بلاء وعذاب، وإنه كما أخذ الذين كفروا من قبلهم بالهلاك، سيؤخذون هم به.. فلينتظروا فلينظروا، وليستقبلوا ما يطلع عليهم من وراء هذا الانتظار، من نقم اللّه، وما تحمل إليهم من مهلكات. وما تسوق إليهم من بلاء ونكال.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو تبشير للمؤمنين، وتطمين لهم من أن يصيبهم شيء من هذا المكروه الذي سيحّل بالكافرين.. فالمؤمنون بمنجاة من هذا المكروه.. إنهم مع رسل اللّه، وإن اللّه سبحانه وتعالى لن يتخلّى عن رسله، ولن يريهم منه إلا ما يسرّهم من الأمن والعافية، والدرجات العليا عنده.. وكذلك المؤمنون الذين اتّبعوا الرسل.. إنهم معهم حيث يكونون.. فالمرء مع من أحبّ.. وفى هذا خزى للكافرين، إذ حرموا من أن ينالوا شيئا من هذا الذي ينعم فيه المؤمنون مع رسل اللّه.. من نصر اللّه وتأييده.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن هذا الوعد الذي وعده اللّه رسله والمؤمنين، هو وعد حقّ لا شكّ فيه، قد أوجبه اللّه على نفسه، فضلا وكرما، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكما يقول سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة].
وفى جزم الفعل {ننج} ما يكشف عن مزيد من فضل اللّه وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجيء الفعل {ننج} مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من اللّه سبحانه وتعالى.. وهو أمر من اللّه سبحانه، إلى اللّه سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.!