فصل: تفسير الآيات (36- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (36- 39):

{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)}.
التفسير:
{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ}.
هذا عزاء وتسرية عن نوح.. من ربّه، بعد أن جابهه قومه بالقطيعة والتحدّى، بقولهم: {قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
فقد لبث فيهم نوح.. كما يحدّث القرآن الكريم.. ألف سنة إلّا خمسين عاما، يدعوهم إلى اللّه، فما استقاموا له، ولا لانت قلوبهم القاسية! {فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ}.
والابتئاس: الحزن، والألم، أي لا تحزن ولا تتألم، لما يلقونك به من بهت وتكذيب، فقد عاقبهم اللّه أشدّ عقاب، وهو أنه أمسك بهم على الكفر، وحجزهم عن أن يكونوا من المهتدين المؤمنين! {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
وهذا عقاب آخر معجّل لهم في الدنيا.. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
وقوله تعالى: {بِأَعْيُنِنا} أي تحت رعايتنا وعنايتنا، وبتوفيقنا وتوجيهنا.
وقوله تعالى: {وَوَحْيِنا} أي بإرشادنا لك، بما نوحيه إليك من أمر السفينة، وكيف تصنعها، وعلى أي وجه وصورة تقيمها.
وفى قوله تعالى: {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}.
إشارة إلى شدّة نقمة اللّه على هؤلاء المكذبين الضّالين، واستبعاد لكل شفيع يشفع لهم، كما في قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [11- المزمل] وقوله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [11: المدثر].
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} حكم قاطع لا مردّ له.
: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ}.
امتثل نوح أمر ربّه، وأخذ بصنع السفينة كما أمره اللّه، وكما أرشده ووجهه.. وكان كلّما مرّ عليه {ملأ} أي جماعة من قومه وهو يعمل في السفينة، هزئوا منه وأسمعوه ما يؤذيه من قوارص الكلم، وقالوا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [9: القمر].. ولكنّ نوحا يعلم ماوراء هذا الأمر الذي هو قائم عليه.. إنه النجاة له، والهلاك للقوم الظالمين.. فهم إن سخروا منه اليوم، فإنه سيسخر منهم عدا، حين ينكشف لهم الأمر. ويحلّ بهم البلاء. {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ}.

.تفسير الآيات (40- 44):

{حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا} هو غاية لقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي وظل نوح يصنع الفلك، وينتظر أمر ربه فيما صنع، حتى جاءه أمر اللّه، وقد فار التنور حين اتصل الماء النابع من الأرض بالنار الموقدة في التنور.. والتنور: هو مستوقد النار.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} هذه هي شحنة السفينة التي صنعها نوح.
قد أركب فيها من كل صنف من أصناف الحيوان زوجين، ذكرا وأنثى.
ثم أهله، إلّا من سبق عليه قضاء اللّه منهم، فلم يستجب له، ولم يؤمن باللّه.
ثم من آمن من قومه: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فباسم اللّه تجرى على هذا الماء، وباسم اللّه تستقر على اليابسة، بعد أن يأذن اللّه للماء أن يغيض، وللأرض أن تستقبل السفينة. فاللّه سبحانه هو المسيّر لها، وهو الممسك بها. {إن ربى لغفور} يتجاوز عن سيئات من يبسط له يده بالتوبة {رحيم} لا يؤاخذ الناس بظلم الظالمين منهم: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [45: فاطر].
قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
وهكذا يفرّق الضلال بين الابن وأبيه.. حتى ليأبى الولد وهو بين يدى هذا البلاء المحيط به، أن يستجيب لأبيه، وأن يستمع له.. فيخرج عن أمره، وهو يدعوه إلى ما فيه سلامته ونجاته.. وهكذا يوفّى كلّ من الأب والابن جزاء ما كسب.. فينجو الأب بإيمانه، ويهلك الابن الكافر بكفره.
قوله تعالى: {وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
لقد دارت السفينة دورتها، وبلغت المدى المقدور لها، وأذن اللّه سبحانه وتعالى لها أن تستقر على اليابسة.
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك}.
والقائل هو اللّه سبحانه وتعالى، وعدم ذكره، إشارة إلى أن المقام يحدّث عنه، والحال ينطق به.. إذ لا يسمع الأرض غيره، ولا يأمر السماء فتمتثل أمره، سواه! وإقلاع السماء: هنا، أن تكفّ عن إنزال الماء المتدفق من أبوابها، كما يقول سبحانه وتعالى: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ}.
والجودىّ: قيل هو جبل بالموصل، وقيل هو كل أرض صلبة مستوية.
قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
القائل هنا يمكن أن يكون اللّه سبحانه وتعالى، أو أن يكون نوح ومن كان معه في السفينة، ويجوز أن يكون قول كل إنسان يعلم من أمر القوم ما كان منهم من ضلال، وعناد! وهنا أمور نحب أن نقف عندها:
أولا: قد تحدّث المفسّرون أحاديث كثيرة عن السفينة، وأوصافها، وطولها، وعرضها.. وهذا ما لم يحدّث به القرآن، تصريحا أو تلميحا.. فلنحترم صمت القرآن، ويكفى أن نعلم أنها سفينة حملت ما أمر اللّه نوحا أن يحمله فيها، من أناس وأنعام.
وثانيا: صنوف الحيوان التي حملتها السفينة.. فقد جلب إليها المفسّرون كلّ شارد ووارد من حيوان الأرض.. من دوابّ، وأنعام، وطيور، وزواحف.. مما لا يمكن أن يرى في أكبر حدائق الحيوان في العالم.
وهذا أمر غير متصوّر.. اللهم إلا أن تكون السفينة كوكبا آخر، غير الكوكب الأرضى.. نقل إليه ما على ظهر الأرض من أحياء! والذي يعقل، هو أن يكون نوح قد حمل معه بعض الحيوانات الأليفة، التي ينتفع بها الإنسان، مما يركب، أو يحمل عليه، أو يؤكل لحمه ويشرب لبنه، مما لا يتجاوز بعض ما يقتنيه الإنسان ويربيه، مقتصرا منه على ذكر وأنثى، من كل نوع، حتى تتوالد، وتكثر، وتستبقى نسلها، شأنه في هذا شأن أسرة تعتزل ناحية من الحياة، فتأخذ معها كل ما يصلح لحياتها في الموطن الجديد المنعزل.
أما أن يحمل نوح في سفينته كل حىّ، من الأسود والنمور والذئاب والضباع، والثعلبين والحيات، والفئران والعقارب، وغير هذا مما تحمل الأرض- فهذا ما لا يتصور أن تحمله سفينة، كما أنه ضرب من العبث، بل وإنه لمن الضلال والضياع أن يصحب الإنسان هذه الحيوانات المهلكة.
وثالثا: ما وصف به الماء الذي كانت تجرى عليه السفينة- وأنها تجرى في موج كالجبال- هذا الوصف قد أثار عند المحدّثين تساؤلات كثيرة- خاصة عند من ينكرون أن الطوفان كان عامّا شمل الأرض كلها- فيقول قائلهم: وأين هي الأمواج التي تكون كالجبال؟ ثم ما داعيتها إذا كان المراد هو إغراق جماعة ضلّت طريقها إلى اللّه؟ ألا يكفى أن يكون سيلا جارفا ينزل بهم، ويقضى عليهم؟
والجواب: أن تشبيه الأمواج بالجبال لا يعنى أن تكون مثل الجبال حجما وعلوا، سواء بسواء، بل يكفى أن يكون هناك وصف مشترك بينهما.
وفى الأمواج ما يرتفع إلى علو يبدو وكأنه فوق صفحة الماء هضاب وجبال على ظهر الأرض.. فالأمواج العالية، هي جبال فوق سطح الماء، وإن لم تبلغ الجبال التي على ظهر الأرض.. ضخامة وارتفاعا.
فإذا نظرنا إلى الطوفان باعتبار أنه كان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وثورة من ثوراتها العاتية، كان لنا أن نرى هذه الصورة التي رسمها القرآن، أمرا ممكنا، إذ يقع كثير من الطوفانات في العالم بفعل الأعاصير العاتية، فتجتاح المدن، ويرتفع الماء، إلى عشرات الأمتار فوق سطح البحر.. فكيف إذا كان طوفان نوح هذا، ظاهرة فريدة بين تلك الظاهرات؟ إنه معجزة قاهرة متحدية.. لن يقع مثلها، ولن يتكرر أبدا!.
رابعا: هذا الطوفان.. هل كان محليا، شمل المنطقة التي كان يعيش فيها نوح وقومه.. أم تجاوزها فشمل اليابسة كلها، بحيث لم يكن هناك شبر منها لم يغطّه الماء؟
إننا نميل كثيرا إلى القول بأنه كان طوفانا محليا.. إذ ليست هناك حكمة ظاهرة لأن تتغير معالم الأرض، وتتحول كلها إلى محيط يشتمل عليها.. وإنه ليكفى- لكى تقوم المعجزة، وتؤدى الغرض منها- أن تحدث ثورة من ثورات الطبيعة في هذا المكان، فيغرق اليابسة ومن عليها، ويهلك الحرث والنسل.
وخامسا: ابن نوح.. اختلف المفسرون في نسبته إلى نوح.. وهل هو ابنه، أو ابن زوجه من رجل غيره.. ويجيئون إلى ذلك بقراءة من يقرأ {ابنه}: {ابنها}.
هكذا: {ونادى نوح ابنها} ويؤيدون هذا بأن نوحا قال: {إن ابني من أهلى} ولم يقل {إنه منى}! بمعنى أنه من زوجه، إذ كانت زوجة الرجل أهله، التي أقام منها أهله ونسله.. وكأنهم بهذا إنما يستكثرون أن يكون ابن نبى من الأنبياء كافرا، خارجا على سلطان أبيه، وأن اللّه سبحانه وتعالى لم يكرم هذا النبيّ، فيحفظ ابنه من الضلال، ويقيمه على طريق الهدى! وهذه كلها مما حكات- وأكاد أقول إنها ضروب من اللهو- ينبغى أن ننزه القرآن الكريم عنها..!
وماذا يقول نوح لكى يكشف عن وجه ابنه، أكثر من أن يقول: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}؟ وهل ليس ابن الإنسان من أهله؟
بل وماذا يقول الذين يقولون هذه الشناعات- ماذا يقولون في قول اللّه تعالى: {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ} بل ماذا يكون من أب نحو ابنه من حنوّ وإشفاق، ومن جزع وحزن، أكثر مما فعل نوح مع ابنه هذا؟. لقد هتف به أن يركب السفينة معه، وذلك حين تفقّده فلم يجده بين أهله الراكبين فيها.. ثم لقد برّح به الحزن، واشتد عليه الألم بعد أن هلك هذا الابن، وكان من المغرقين- فجعل نوح بندب ابنه ويبكيه، ويطلب من اللّه العزاء والسلوان الذي حكاه القرآن بقوله: {وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ} فبهذا القلب الحزين الذي يتمرق أسى وحسرة يناجى نوح ربه، وكأنه يعاتبه أو يراجعه فيما قضى به سبحانه وتعالى في هذا الابن العاقّ! أفبعد هذا يقال في ابن نوح قول غير أنه ابنه؟ اللهم إلا أن تفقد الألفاظ مدلولها، وتتحول إلى ألغاز وطلاسم! وهنا يحتاج الأمر إلى منجّمين.
لا مفسرين لقرآن كريم، بلسان عربى مبين.

.تفسير الآيات (45- 49):

{وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}.
التفسير:
الذين شكّوا في نسبة ابن نوح إليه، وقالوا إنه ابن زوجته.. لا أدرى كيف قبلوا على أنفسهم هذا القول، وبين أيديهم أكثر من شاهد يشهد ببنوة هذا الابن إلى نوح، بنوّة حقيقية لا لبس فيها.. وأنه إذا كان من الممكن حمل الألفاظ على غير محاملها، ونقلها من الحقيقة إلى المجاز، فإنه من غير الممكن أن يكون ذلك بالنسبة للعواطف الإنسانية، التي تحكمها صلات النسب، كالبنوّة، والأبوة، والأخوة ونحوها، والتي تحتل عاطفة الأبوة المكان المكين منها؟.
فهذا نوح لا ينسى ابنه الغارق، مع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين باللّه.. ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفئ وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف، واعوجاج! وإن الابن ليكون على حال من السوء والسّفه، حتى ليلفظه المجتمع كله.. ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متّسعة لقبوله على ما هو عليه، أيّا كان هذا الذي هو عليه.. من سوء وسفه.. تلك هي عاطفة الأبوة.. الممثلة في الأبوين معا.. الأب والأم.
فكيف يسوغ بعد هذا لقائل أن يقول في ابن نوح إنه ليس ابنا حقيقيا له؟ لقد كانت امرأة نوح من الجبهة المناوئة له، الخارجة على دعوته، الكافرة باللّه، وقد أغرقها اللّه مع من أغرق من قوم نوح، فلم يأس عليها نوح، بل ولم يلتفت إليها، وقد جرفها التيار، واحتواها الموج.. فكيف يأسى على ابنها ويمسك به، ويشدّه إليه؟ ثم كيف يعود إلى ربه باكيا متوجعا، يطلب العزاء والسلوان.؟
{وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ} وفى قول نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} إشارة إلى قول اللّه سبحانه وتعالى، لنوح: {احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}.
فقد كان نوح يعلم أن من أهله من حقّ عليه القول بأنه من المغرقين، ولكن عاطفة الأبوة قد حجبت عنه رؤية ابنه أن يكون في هؤلاء الغرقى، ولهذا ظل ممسكا به إلى أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ومع أن نوحا على يقين بأن ابنه قد هلك، ولا سبيل إلى أن يلقاه حيّا في هذه الدنيا- فإن ما به من لذعة الألم، وحرقة الأسى، قد حمله على أن يشكو إلى ربه هذا الذي يجده.. ليسمع من ربه كلمة يبرّد بها صدره، ويطفئ لهيب النار المشتعلة فيه.
وقد عاد اللّه سبحانه وتعالى على نوح بفضله، فناجاه وواساه، ووقف به على الحد الذي يجب أن يلتزمه نوح مع أمر ربه، وعلمه، وحكمته.
{قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}.
وفى قوله تعالى: {يا نُوحُ} عزاء جميل، ومواساة كريمة من ربّ كريم.. إذ ناداه الحقّ جلّ وعلا باسمه، كما يدعو الحبيب حبيبه، ويناجى الخليل خليله.. {يا نوح}!- وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} إشارة إلى أن هذا الابن ليس من أهل نوح الذين ينسبون إليه نسبة ولاء، وطاعة.. إن أهله هم المؤمنون به.
ولهذا كشف اللّه سبحانه وتعالى لنوح عن السبب الذي من أجله لم يكن ابنه من أهله، فقال سبحانه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} أي إنه عمل من غير الأعمال الصالحة، التي يتقبلها اللّه، وما كان لنوح أن يمسك بين يديه عملا غير صالح.
وسمّى الابن {عملا} لأنه غرس من غرس أبيه، وثمرة من زرعه.
ولكن هذا الابن كان غريبا، غرس في منبت سوء، هي أمّه. فجاء ثمرة معطوبة فاسدة!- وفى قوله تعالى: {فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} ما يسأل عنه:
إذ كيف ينهاه اللّه سبحانه وتعالى عن أن يسأله ما ليس له به علم؟ وهل يسأل الإنسان إلا عن الذي ليس له به علم؟ والجواب: أن المراد بالعلم هنا، العلم الذي لا يقع في متناول العقل البشرى، لأنه علم فوق مستوى هذا العقل، وقد استأثر به اللّه سبحانه وتعالى وحده.
فالنهى الواقع على السؤال عما لا يعلم نوح، هو نهى واقع على العلم الإلهى الذي لا يدركه نوح، ولا يتّسع له عقله..!
وفى قصة موسى والعبد الصالح ما يشير إلى شيء من هذا، فقد سأل موسى العبد الصالح أن يعلّمه شيئا من هذا العلم الذي وهبه اللّه العبد الصالح، واختصه به، وذلك في قوله تعالى: {فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} ولهذا قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}؟ وكان جواب العبد الصالح له: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}؟ إنه علم تحار أمامه العقول، وتزيغ به الأبصار.. لأنه علم فوق مستواها، وأكبر مما تحتمل.. كالضوء الباهر تحدّق فيه العين، فيحجبها ضوءه عن أن ترى شيئا، حتى لكأنها في ظلام دامس مطبق! ولهذا جاء قوله تعالى لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} منبها له إلى أن هناك علما لا يعلمه نوح، ولا يحتمل وقعه على مدركاته.. فليعلم أن له علما، وأن للّه سبحانه وتعالى علما فوق هذا العلم، لا تناله الأفهام، ولا تدركه العقول.
وقد علم نوح أين يقف به علمه.. فقال: {قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
فهو يستعيذ باللّه أن يجهل حدّ ما بين المخلوق والخالق، فيجاوز هذا الحد، فيكون ظالما لنفسه، معتديا على حدود اللّه.. ولهذا، فقد عرف أن ما كان منه من سؤال عن ابنه، وعن حكمة اللّه في إغراقه مع المغرقين- هو أمر جاوز به الحدّ الذي ينبغى أن يقف عنده مع اللّه، فجاء إلى اللّه تائبا مستغفرا.
فتلّقاه اللّه سبحانه بالقبول والمغفرة.
فقال سبحانه: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ}.
ولقد هبط نوح إلى الأرض، يصحبه السلام والبركة من اللّه: {اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك}.
وقد أخذ الذين كانوا مع نوح حظهم من هذا السلام وتلك البركة، فكانوا جميعا محفوفين بالسلام والبركة من رب العالمين.
وفى قوله تعالى: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ} إشارة إلى أن من مواليد هؤلاء الذين كانوا مع نوح ستنشأ أمم كثيرة، وأن هذه الأمم التي ستنشأ من ذرّية هؤلاء القوم المؤمنين، لن يكونوا على شاكلة واحدة، بل سيكون منهم المؤمنون الذين يمسّهم السلام، وتحفّهم البركة من اللّه، وهم أمم، ويكون منهم الذين يتخلّون عن نصيبهم من السلام، ويتعرّون عن حظهم من البركة، فيكفرون باللّه، فيمتعهم اللّه في الدنيا هذا المتاع القليل، ثم يلقون العذاب الأليم في الآخرة، جزاء كفرهم باللّه..! وهم أمم أيضا.
وفى هذا إشارة إلى نوح وابنه.. وأن نوحا إذا كان ممن ألبسهم اللّه لباس السلام والبركة، فإن ذلك ليس مما يرثه الأبناء عن الآباء.. وأن المؤمن قد يكون من ذريته المؤمن والكافر.. كما أن الكافر قد يكون من ذريته الكافر والمؤمن.. وفى هذا إشارة ثالثة إلى أن للإنسان إرادة، وله سعى وعمل، وأنه بإرادته وسعيه وعمله، يأخذ الطريق الذي يريده، ويخرج به عن حكم الوراثة، الذي إن تسلط على جميع الكائنات الحية، وألزم الخلف منها طريق السلف، فإنه لن يتسلط على الإنسان، ذى العقل، والإدراك، والإرادة.
هذا، ومن إعجاز الصياغة في النظم القرآنى، أنك تقرأ قوله تعالى: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ} فتجد هذا النغم الموسيقى الهادر، في وقار وسكينة وجلال، أشبه بأنفاس الموج، وقد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة! ففى الآية الكريمة سبعة عشر ميما، موزّعة بين حروفها، هذا التوزيع الذي يقيم منها ذلك النغم الرائع، الذي يصحب السفينة في عودتها إلى موطن السلامة والأمن، وكأنه أهازيج النصر، ينشدها العائدون من أرض المعركة، بعد قتال ضار مرير! قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأنباء الغيب المشار إليها، هي ما ذكره القرآن الكريم من قصة نوح، وهى من الأنباء التي غاب عن النبيّ وعن قومه العلم بها، وإن كان عند أهل الكتاب علم بها.. فهو غيب نسبىّ.. وليس غيبا مطلقا.. ثم إن ما عند أهل الكتاب هو حق مختلط بباطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في وصفه لقصص القرآن:
{إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [62: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} إشارة ملفتة للنبى إلى مضمون هذه القصة ومحتواها، وهى أنه كما كانت العاقبة لنوح ومن آمن معه، فكذلك ستكون العاقبة للنبى ومن آمن معه، ويكون البلاء والوبال على المكذبين الكافرين، كما كان ذلك جزاء قوم نوح.
والأمر يحتاج إلى صبر على المكروه، فإن وراء هذا المكروه الذي يجده النبي والمؤمنون، فرجا، وسلامة، وأمنا.