فصل: تفسير الآيات (77- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (77- 83):

{وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}.
التفسير:
وتتصل أحداث قصة إبراهيم، بأحداث قصة لوط.. وينتقل المشهد من بين يدى إبراهيم إلى يدى لوط، وإذا هو وجها لوجه مع هؤلاء الرسل الذين يحملون الهلاك إلى قومه.
وكما كان لقاء الملائكة لإبراهيم لقاء مفاجئا، أثار في نفسه ريبة، وأوقع في قلبه خوفا، كذلك كان لقاؤهم للوط.. لقاء مباغتا له، ولكنه لم يلتفت إلى هؤلاء الوافدين عليه إلا من جهة واحدة، كانت هي همّه، ومبعث خوفه وقلقه، وهى أن يحمى هؤلاء الضيوف من عدوان قومه عليهم، وفضحه فيهم.
فقد طلع عليه الملائكة في صورة سويّة من صور البشر.. فيهم الشباب، والنضارة، والجمال، وتلك هي مغريات قومه بهم.. وإنه ليرى عن غيب ما سيكون من قومه، إذا هم رأوا هؤلاء الضيوف الذين نزلوا بساحته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
سيء بهم: أي ساءه وآلمه نزولهم عنده، واحتماؤهم به.
وضاق بهم ذرعا: أي أحسّ العجز عن حمايتهم، لأنه يتصدّى وحده لقومه جميعا.. وأصل الذرع من الذراع التي يعملها الإنسان في تناول الأشياء.
ثم استعملت استعمالا مجازيا في الدلالة على قدرة الإنسان أو عجزه، حسب طول ذراعه أو قصرها.
والإحساس بالمسئولية الملقاة على لوط لحماية ضيوفه، هو الذي آلمه وأوجعه، وضيّق مسالك النجاة بهم في وجهه، فقال: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي يوم قاس، شديد الوقع على النفس، لما سيطلع عليه فيه من أحداث مزلزلة، توقعه في هذا المأزق، وتفتح بينه وبين قومه مجالا فسيحا للصراع بين جبهتين غير متكافئتين! {وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.
ولقد وقع ما توقعه لوط.. وها هي ذى العاصفة تدور حول بيته، وتحطّم الأبواب.. فيقتحم القوم عليه الدار، وقد جاءوا سراعا من كل جهة، يتسابقون لإدراك هذا الصيد، قبل أن يفلت من أيديهم! {وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي يسرعون إليه في خفّة وطيش.
وانظر كيف تبلغ السفاهة بالقوم.. إنهم ليأتون الفاحشة في غير مبالاة، ولا ستر من حياء! يأتونها جهرة وفى صورة جماعية، دون أن يجد أحدهم حرجا أو استحياء! وهذا غاية التدلّى والإسفاف في عالم الإنسان، إلى درجة لا ينزل إليها كثير من عالم الحيوان.. حيث تأبى على بعض الحيوان طبيعته أن يتصل بأنثاه على مرأى من بنى جنسه! بله اتصاله بذكر! الأمر الذي لم تعرفه الكائنات الحيّة، إلا في هذا الصنف الرّذل الخسيس من الناس!- وفى قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ} عرض لسيرة هؤلاء القوم، وفضح لمخازيهم، وأن هذا الذي جاءوا إليه ليس ابن يومه، وإنما هو داء تعاطاه القوم من قبل، فكان طبيعة غلبت عليهم، حتى لقد صار عادة مألوفة عندهم، وأمرا مستقرا فيهم، ليس فيه ما يثير أي إحساس عندهم بالخزي أو الاستحياء.
وقد عبّر القرآن عن هذا المنكر الذي يتعاطونه بالوصف المناسب له، دون أن يذكر اسمه، تقزّزا له، وصيانة للأفواه أن تتلفظ به، وللأسماع أن يقع عليها.
ومن جهة أخرى، فقد جاء القرآن بوصفه جمعا.. هكذا: {السيئات} للدلالة على أنه منكر غليظ مركّب، وأنه ليس سيئة، بل هو سيئات، وليس منكرا، بل هو منكرات!- وفى قوله تعالى: {يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} دعوة لهم إلى أن يكون أربهم وشهوتهم للنساء.. لا للرجال، فذلك هو الوضع الطبيعىّ للحياة الإنسانية.. فهو- عليه السلام- يدعوهم إلى التزوج ببناته، وإلى التعفف بالزواج بالمرأة والاتصال بها، حتى يعفّوا عن ارتكاب هذا المنكر، والاتصال بالرجال.
وفى هذا يقول اللّه تعالى على لسان لوط لهم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [28- 29 العنكبوت].
ويقول سبحانه في موضع آخر على لسان لوط أيضا: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ} [165- 166: الشعراء].
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.
والسؤال هنا: هل كان القوم مؤمنين باللّه حتى يذكّرهم لوط باسمه تعالى، ويدعوهم إلى تقواه؟
والجواب: أنهم لو كانوا مؤمنين باللّه، لما استعلن فيهم هذا المنكر على تلك الصورة التي سجّلها القرآن عليهم.. فإن الإيمان باللّه يردّ الإنسان عن كثير من المنكر، ويقيم بين النّاس وازعا يزعهم من أن يخرجوا هذا الخروج السافر عن إنسانيتهم، وأن يتدلّوا هذا التدلّى المسفّ إلى ما دون الحيوان.
فذكر اللّه هنا، إنما هو تخويف لهم، وتهديد بقوة اللّه، إن لم يتقوه، ويستقيموا على طريق المؤمنين.. وفى هذا تجاهل لإنكارهم اللّه والإيمان به، إذ لا معتبر لهذا الإنكار في وجه الدلائل القائمة بين أيديهم على وجود اللّه، وكمال قدرته.
{قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ}.
لقد أنكر القوم على لوط ما دعاهم إليه من التزوج بالنساء، ومنهن بناته اللائي عرضهنّ عليهم، وذلك ليكون اتصالهم بالنساء صارفا لهم عن إتيانهم هذا المنكر مع الرجال! وقد جاء إنكارهم هذا في صورة فريدة من الدناءة والخسّة والتجرّد من الحياء.
{لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي إنك لم تعرض علينا أمرا جديدا لتصرفنا عما نطلب.. فأنت تعلم مالنا في بناتك من حق، وأننا نملك التزوج بهنّ من غير اعتراض.. فالتزوج بالنساء أمر متفق عليه بيننا وبينك، كما هو متفق عليه بين الناس جميعا.. ولكن ماذا عندك لنا في هذا الذي نطلبه من الضيوف؟ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ}! فهل في بناتك أو بنات غيرك ما يحقق لنا هذا الذي نريده؟
ولا يجد لوط لهذه السفاهة جوابا، ولا يرى لهذا السوء الذي يراد بضيوفه مردّا.
{قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ}!! وماذا يفعل لوط أمام هؤلاء القوم، الذين ركبوا رءوسهم، فانقلبت في أعينهم أوضاع الأشياء، وتغيرت معالمها؟ إنه لو كانت بين يديه قوة لأخذ على أيديهم بها، ولعاملهم معاملة الكلاب المسعورة.. ولكن أنّى له القوة، وهو وحده، والقوم جميعا حرب عليه.. حتى امرأته!! كما أنه ليس هناك من يستعين به على هؤلاء القوم، ويطلب غياثه واللّياذ به، حتى يضمن الحماية لضيفه النازلين في حماه؟
وهنا تجيء نجدة السماء، وتفتح للوط أبواب حصن حصين يأوى إليه، على حين تنزل على القوم صواعق الهلاك، فتأنى عليهم في لحظة خاطفة! ومن عجب أن تطلع على لوط هذه القوى الرهيبة من موطن الضعف الذي كان يريد الدفاع عنه، والحماية له.. الضّيف الذين ظن أنهم وقعوا لقمة سائغة لأيدى هؤلاء القوم الآثمين، هم مطلع هذه النجدة! {قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
لقد كشف الرسل عن أنفسهم للوط، فعرف، من هم؟ وما الأمر الذي جاءوا له؟ إنهم رسل اللّه، وقد جاءوا إليه بالمهلكات لقومه، وليخرجوه من بين هؤلاء القوم، حتى لا يقع عليه مكروه من البلاء الذي سيحلّ بهم.
{إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} وإذ كنّا كذلك، فإنهم {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} ولن يستطيعوا أن يخلصوا إلينا، وينتزعونا من يدك.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ}.
سرى، وأسرى، أي سار ليلا.. والقطع من الليل، هي البقية منه، قبيل دخول النهار.
والأمر الذي توجه به الملائكة إلى لوط، هو أن يخرج بأهله في بقية من الليل، أي قبل أن يطلع الصباح، وألا يلتفت هو ومن معه إلى الوراء، حيث القرية التي خلفوها وراء ظهورهم.
وفى النهى عن الالتفات إلى تلك القرية ومن فيها، إشارة إلى أنها دار إثم، ومباءة فسق، ينبغى أن يقطع المؤمن كل مشاعره نحوها، فلا يتبعها بصره، ولا يلقى عليها نظرة وداع.. وهكذا ينبغى أن يكون شأن المؤمن مع كل منكر.
أن يعتزله، ويعتزل مواطنه، والمتعاملين به.. فلا يحوم حوله، ولا يمرّ بداره، ولا يتصل بأهله.. فإن المنكر مرض خبيث، يعلق داؤه بكل من يدنو منه.
أو يتنفس في الجو الذي تفوح عفونته فيه!.. ولهذا فقد أمر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم المسلمين حين مرّوا بديار ثمود، وهم في طريقهم إلى تبوك- أمرهم أن يجدّوا في السير، وألا يلتفتوا إلى هذه المواطن، وأن يغلقوا حواسهم عنها، حتى لا يدخل عليهم شيء منها.. شأنهم في هذا شأن من يمرّ بجثث متعفنة، تهب منها ريح خبيثة، فيسدّ أنفه، وينطلق مسرعا حتى يبرحها.. وفى هذا درس عملىّ للتشنيع على المنكر وأهله.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} إشارة إنى أن امرأة لوط لا تملك من أمرها ألّا تلتفت، بل هي مقهورة على الالتفات، والخروج عن هذا النهى، وذلك لما أراد اللّه لها من هلاك.. {إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ}.
لأنها كانت مع القوم بمشاعرها وعواطفها، ولهذا التفتت إليهم، وخالفت أمر اللّه. بألا يلتفت أحد ممن خرج مع لوط من أهله.. ولم تفرّ منهم كما يفرّ المرء من بلاء طلع عليه، أو مكروه أحاط به، فكان أن أخذها اللّه بما أخذ به هؤلاء القوم الآثمين.. إنها منهم، وحقّ عليها ما حق عليهم: {إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ}.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
وفى هذا تطمين للوط، وأن ما بينه وبين القوم سينتهى مع مطلع هذا الصبح من ليلته تلك.. ثم هو من جهة أخرى حثّ للوط على أن يبادر الصبح قبل أن يطلع عليه، وأن يخرج من القرية ومعه بقية من الليل، حتى يبتعد عن القرية قبل أن يقع هذا الانفجار المهول، مع أول خيوط من ضوء الصبح.. {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} فهذا استفهام تقريرى، بمعنى ألا ترى أن الصبح قريب.. فهيّا أسرع، وخذ أهبتك للخروج من هذه القرية، قبل أن يدركك الصبح، وتقع الواقعة! {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
أي ولما جاء الصبح الموعود، وقع أمرنا الذي قضينا فيه بهلاك هذه القرية، فجعلنا عاليها سافلها، أي قلبناها رأسا على عقب، فذهبت كلّ معالمها، وأمطرنا على أهلها حجارة من سجيل، أي من صوّان أملس.. {مَنْضُودٍ} أي منتظم، كما تنتظم الحبات في العقد.!
وهى حجارة.. {مُسَوَّمَةً} أي معلمة، وموسومة بسمات خاصة، {عِنْدَ رَبِّكَ} أي قد أعدّها اللّه سبحانه وتعالى، لهلاك الظالمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا.
وفى قوله تعالى: {وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
تهديد لمشركى قريش، وتلويح بهذه الحجارة المرصودة لهلاك الكافرين والمحادّين للّه- تلويح بها في وجوه هؤلاء المشركين من أهل مكة وأنها قريبة منهم، وأنّهم على وشك أن يمطروا بها، وأن يصيروا هم وقريتهم إلى هذا المصير الذي انتهى إليه قوم لوط وقريتهم.

.تفسير الآيات (84- 88):

{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}.
التفسير:
وموقف شعيب مع قومه، هو موقف نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، مع أقوامهم.. دعوة منه لهم إلى اللّه، وإلى الإيمان به، والاستقامة على صراطه المستقيم.. وخلاف منهم عليه، وتنكّر لما كانوا يعرفونه منه، من خلق ودين! وأنبياء اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليهم جميعا- كانوا عند أقوامهم قبل دعوتهم إلى اللّه، بالمنزلة العالية من الاحترام والتقدير، لحسن سيرتهم، واستقامة سلوكهم، فلما أعلنوا فيهم أنهم رسل اللّه، وأنهم يحملون إليهم كلمته، شغبوا عليهم، وأنكروا منهم ما كانوا يعرفون.. حسدا، وبغيا.
فهذا صالح- عليه السلام-، يقول له قومه: {يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} وهذا شعيب- عليه السلام- يقول قومه له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}!! وهذا محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- يقول له الحق تبارك وتعالى عن قومه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وهكذا الأنبياء جميعا.. هم صفوة اللّه المصطفون من عباده.. يأخذون مكان الصدارة في أقوامهم، وينزلون منهم منازل الإعزاز والإكبار، في كمال الخلق، وحسن السيرة، حتى إذا آذنوهم بأنهم رسل اللّه إليهم، أنكروا منهم ما عرفوا، وأصبح ما كان بالأمس حبّا وإكبارا، عداوة وطعنا وتسفيها.
ومدين: على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام.. وقد نسب إليها القوم الذين كانوا يعيشون فيها، وهم قوم شعيب! ودعوة شعيب إلى قومه، هي دعوة كل نبى، جاء ليصحح عقيدة قومه التي لعبت بها الأهواء، وأفسدها الجهل والسفه.
فهو يدعوهم إلى الإيمان باللّه، وترك ما بين أيديهم من معبودات غيره:
{يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
تلك هي مفتتح دعوته، بل وخاتمتها.. فالإيمان باللّه، وإفراده بالألوهية، هو الفلك الذي تدور حوله تعاليم الأنبياء، وهو الينبوع الذي ترتوى منه قلوب المؤمنين، والمغترس الذي تغتذى منه وجداناتهم ومشاعرهم، والمصباح الذي تستضيء به أبصارهم، وتهتدى به بصائرهم.. فإذا عرف المرء ربه وآمن به، عرف الطريق إلى كل خير، وتفتح قلبه لاستقبال كل رشاد.
ولهذا فقد جاءت دعوة شعيب لقومه، بألّا ينقصوا المكيال والميزان- بعد دعوتهم إلى الإيمان باللّه: {اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ}.
وذلك أنهم لو آمنوا باللّه لكان تقبلهم لدعوته تلك، أمرا مقبولا عندهم، لا يراجعونه فيه.
وفى قوله: {إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} تحريض لهم على الإيمان باللّه، وإغراء لهم باستنقاذ أنفسهم من الهلاك، لأنه يتوسم فيهم الخير، ويضنّ بهم أن يكونوا من أهل الشقوة والبلاء في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.. ويصحّ أن يكون قوله: {إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} مرادا به أنهم في حال من الرخاء والنعمة وسعة الرزق، بحيث لا تضطرهم الحاجة إلى الخيانة في الكيل والميزان. والرأى الأول أولى.
وفى وصف العذاب بأنه عذاب يوم محيط، إشارة إلى شناعة هذا العذاب وأنه عذاب لا يفلت منه من حقّ عليه، ووقع تحت حكمه.
{وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} القسط، والقسطاس: العدل.. والبخس: النقص، واغتيال الحقوق.
وبخس الشيء: عدم أدائه على وجهه كاملا.
ولا تعثوا في الأرض: عاث، يعيث عيثا، أي ضرب فيها من غير مبالاة، فيكون من ذلك التخبط والفساد.. ولهذا لا يستعمل هذا الفعل إلا مقترنا بالفساد.. تأكيدا له، واستخراجا لمحتواه ومضمونه.
وفى إعادة لوط دعوته إلى قومه بالوفاء بالكيل والميزان، توكيد لهذه الدعوة وتقرير لها، فهو قد نهاهم أولا عن إتيان هذا الفعل المنكر، ثم دعاهم إلى إتيان ما ينبغى لهم إتيانه، بعد أن ينتهوا عما نهوا عنه.. وهو أن يوفوا المكيال والميزان، وبهذا يجيء المطلوب منهم على وجهه كاملا.. فقد ينتهى المرء عن الشيء المكروه، ولكنه لا يفعل المحبوب الذي يقابله.. وذلك وقوف منه عند منتصف الطريق إلى الغاية المدعوّ إليها من بلوغ الخير.. وهو موقف سلبى، لا ترضاه الحياة منه.. وإنه لحسن أن ينتهى الإنسان عن الشر، ولكنه ليس بالحسن أن يكون أداة معطلة عن فعل الخير.
هذا، ولم يكرر شعيب دعوته لقومه إلى الإيمان باللّه، لأنه جاءهم بها من أول الأمر، أمرا لازما: {اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} ثم جاءهم بها في دعوة تطبيقية لها، في قوله تعالى بعد ذلك:
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي أن ما تدخرونه عند اللّه من أجر، وما تستبقونه عنده مما يفوتكم من حظوظ الدنيا، هو خير لكم، وأبقى.. وإنكم لتعلمون هذا إن كنتم مؤمنين باللّه، وما له من سلطان وحكم في عباده.. ولست عليكم رقيبا، يحفظ عليكم أعمالكم، ويحاسبكم عليها، إنما ذلك إلى اللّه وحده.. وإنما أنا نذير مبين، أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
{قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.
وبهذا المنطق السفيه، يردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي يدعوهم إليها نبى كريم، بلسان عفّ، وبأسلوب يفيض رقّة وحنانا ومودة.
{يا شُعَيْبُ}!؟ هكذا في جفاء وغلظة، ينادونه باسمه مجردا، دون أن يضيفوه إليهم بنسب، كأن يقولوا: يا أخانا، أو يا أبانا، أو يا ابننا.. أو نحو هذا.. ثم يتبعون هذا قولهم في استهزاء وسخرية: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا}؟ وهم يريدون بالصلاة، الدّين الذي يدين به، إذ كانت صلاته التي يرونها منه، هي المظهر العملي لهذا الدين.!
يعنون بهذا أن الدين الذي يدين به ويدعوهم إليه- هو الذي حمل شعيبا على أن يدعوهم إلى ترك ما كان يعبد آباؤهم من آلهة، وإلى ترك التصرف في أموالهم، والتسلط عليها حسب ما يشاءون؟ أفهذا دين يدين به العقلاء؟ وأي دين هذا الذي يخرج الناس عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم؟ وأي دين هذا الذي يدخل على الإنسان فيما بينه وبين ما في يديه من مال، فلا يدعه يتصرف فيه كما يشاء.. ويشترى بالأسلوب الذي يرضاه، ويبيع بالوجه الذي يعجبه؟
فما للدين ولهذا؟ فليزن المرء بالميزان الذي يحقق له الربح، وليكل بالمكيال الذي يضاعف من ربحه! فذلك حقّنا في أموالنا! ولا ندرى كيف ساغ لشعيب هذا الدين الذي يذهب به هذا المذهب المجانب للصواب، والمجافى للعقل، وهو- فيما نعلم- الحليم الرشيد؟ أفهذا يكون من حليم رشيد؟
هكذا كان منطق القوم مع تلك الدعوة الكريمة، ومع هذا النبي الكريم.. يسخرون منه، ويسفّهونه، ويستحمقونه، وهم- على ما كانوا يعهدون منه- الحليم الرشيد.. {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.
والحليم: من الحلم، وهو العقل.. وهو ضد السفاهة، والجهل.
كما يقول الشاعر:
أحلامنا تزن الجبال رزانة ** وتخالنا جنّا إذا ما نجهل

والرشيد، ذو الرشد، وهو الكامل العقل.
وكذلك كان شعيب عليه السلام، غاية في كمال العقل. وسلامة الإدراك.
{قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
وبمنطق الحليم الرشيد، يردّ شعيب على قومه: {يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً}.
أي إذا كان هذا ظنكم بي، وتقديركم للدعوة التي أدعوكم إليها، فكيف يكون الحال لوأننى كنت على بينة من ربّى، وعلى نور وهدى منه، وأن ذلك رزق حسن رزقنى اللّه إياه، وأنا أدعوكم إلى مشاركتى في هذا الرزق الحسن- كيف يكون الحال إذن لو فاتكم حظكم من هذا الخير الذي أرتاده لكم وأوردكم موارده؟.. إننى لا أبغى من وراء هذا الذي أدعوكم إليه إلا خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم، وما أريد أن أصرفكم عن هذا الذي أنها كم عنه لأخلفكم عليه، وأستأثر به دونكم.. فما أنتم عليه إلا الضلال، وإلا الهلاك، الذي ليس للعاقل إلا اجتنابه، والفرار منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ}.
أي لا أريد بدعوتكم إلى ترك عبادة الأصنام، أن أعبدها، وأستخلص عبادتها لى من دونكم.. وما أبغى بدعوتكم إلى الوزن بالقسطاس، والكيل بالعدل، أن أعود أنا فأخسر المكيال والميزان، وأستأثر بهذا الربح الحرام الذي كان يعود إليكم، من تلاعبكم بالمكاييل والموازين.. كلا {ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ}.
يقال: خلفه، وخالفه: أي جاء خلفه، وأخذ مكانه الذي كان فيه.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}.
أي هذا هو كل الذي أبغيه مما أدعوكم إليه، ما أريد به إلا الإصلاح، إصلاح أمركم، وإقامة ما أنتم فيه من زيغ وعوج، وذلك في حدود ما أقدر عليه. وهو النصح لكم، وليس لى أن أكرهكم على شيء ولو كان في يدى السلطان القاهر.
{وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} فإذا وفّقت إلى بلوغ هذه الغاية التي أريدها.
أو إلى شيء منها، فذلك بتوفيق من اللّه سبحانه وتعالى.. وليس ذلك من عملى، فما أنا إلا زارع يزرع، واللّه سبحانه هو الذي ينبت الزرع، ويخرج الحبّ والثمر.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
أي أننى معتمد على اللّه، مستند إليه في سعيى وعملى، وراجع إليه فيما أسعى وأعمل.. فهو سبحانه الذي يملك كل شيء.. ويملك منّى ما لا أملك من نفسى.