فصل: تفسير الآيات (109- 115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (109- 115):

{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}.
التفسير:
بعد هذا العرض الذي حشرت فيه الآيات القرآنية الكريمة الناس إلى ربهم، وساقتهم إلى موقف الحساب والجزاء بين يديه، وسيق أهل النار إلى النار، وعذابها وبلائها، وزفّ أهل الجنة إلى الجنة، وطيباتها ونعيمها- عادت الآيات لتلقى النبيّ الكريم، بما وجد في مشاعره من تلك المشاهد التي شهدها ليوم القيامة، وهو أنّ للظالمين يوما عبوسا قمطريرا، وأن العاقبة للمتقين.. فيقول له الحقّ تبارك وتعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}.
والمرية: الشكّ والارتياب.. وما بالنبيّ الكريم شكّ ولا ارتياب، في أنّ ما يعبده قومه هو الضلال المودي بأهله، والمورد لهم موارد الهلاك والبلاء.
ولكن هذا النهى، هو تأكيد لما في قلب النبيّ من إيمان بربّه، وتثبيت له على الطريق الذي هو قائم عليه، وإن لقى فيه مالقى من ضرّ وأذى! وفى الإشارة إلى المشركين من قريش بقوله تعالى: {هؤلاء} دون ذكرهم، هو تهوين لشأنهم، واستخفاف بقدرهم، إذ كانوا على هذا السخف والضلال، وإذ كانوا بحيث يعطون مقودهم لأحجار ينحتونها بأيديهم، ثم يقيمونها آلهة وأربابا عليهم! والآباء المذكورون في قوله تعالى: {ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ}.
قد يراد بهم آباؤهم الأبعدون، من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين- الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن كفرهم وضلالهم.. وقد يراد بهم آباؤهم الأولون، من قريش! فالناس هم الناس، والأجيال اللاحقة غرس الأجيال السابقة.
وعلى أىّ فالنّسب متصل إلى أن تضمه تلك الدائرة الكبرى التي تضم هؤلاء الآباء، قريبهم، وبعيدهم، جميعا، وتجمعهم على طريق واحد، هو طريق الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم سيوفّون نصيبهم من العذاب، كاملا لا ينقص منه شيء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
الكتاب هنا، هو التوراة.. وهو الذي نزل على موسى، كما نزل القرآن على محمد- عليهما السلام- وقد اختلف بنو إسرائيل في كتابهم هذا، وتغايرت أنظارهم عليه، وكثر جدلهم فيه، فكانوا فرقا وأشياعا، يكفّر بعضهم بعضا.. وإلى هذا يشير اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [19: آل عمران] ويقول سبحانه: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [213:
البقرة].
وفى قوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}.
الكلمة هي كلمة اللّه بأن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وألّا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وهذا ما يسير إليه قوله تعالى: {وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [14: الشورى] فلولا هذه الكلمة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وأخذ اللّه الظالمين منهم بما أخذ به الظالمين من الأمم السّالفة قبلهم، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، يلقون عنده جزاء الظالمين.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
الضمير فى:
{إنهم} يعود إلى أهل الكتاب المعاصرين للنبىّ، وهم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين اختلفوا فيه، وقد أشار إليهم قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} فآباؤهم قد اختلفوا في كتابهم هذا، وتفرقوا شيعا وأحزابا، وأبناؤهم الذين أورثوا هذا الكتاب من بعدهم، في ريب منه وفى شك فيه، إذ أورثهم هذا الخلاف الذي وقع بين آبائهم في الكتاب- حيرة، وقلقا، واضطرابا، حيث يجدون لكل أمر جاءهم به الكتاب أكثر من وجه من وجوه الرأى، وأكثر من مذهب من مذاهب الخلاف، فتتفرق بهم السبل، وتزيغ الأبصار، وتضل العقول.. فلا يكون لهم من نظرهم في الكتاب إلا الارتياب والشك.
{وإن كلّا لمّا ليوفّينهم ربّك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}.
أي وإن كلّا من الآباء الذين اختلفوا في الكتاب، والأبناء الذين ورثوا هذا الكتاب وارتابوا فيه- إن كلّا من هؤلاء وأولئك ليوفينهم ربك أعمالهم، ويجزى كلّا ما هو أهل له.. {إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
يزن عمل كل واحد بميزان العليم الخبير، ويجازيه عليه جزاء القادر القاهر.
ووصف اللّه سبحانه وتعالى هنا بأنه {خبير}، لأن هذه الصفة هي المناسبة للمقام، إذ كان الخلاف الذي كان بين الآباء في الكتاب، والريب الذي في صدور أبنائهم منه، لا يكشفه، ولا يعلم الحق من الباطل فيه، إلا عليم خبير.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} تحذير لأصحاب القرآن الكريم من أن يختلفوا فيه، فيضلّوا كما ضل اليهود قبلهم، ثم لا يقف الأمر عند هذا، بل يورّثون أبناءهم من بعدهم الشّك والريب في القرآن، كما ورّث اليهود أبناءهم من بعدهم الشكوك والرّيب. في التوراة، الأمر الذي أو هي صلتهم بها، وجرّأهم على التلاعب بأحكامها، وتبديل كلماتها وتحريف نصوصها.. فكانوا كما وصفهم اللّه سبحانه بقوله: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [46:
النساء].. وهذه هي صفات من لا يثق فيما بين يديه من الأمر الذي يشغل به.
وقد وصفهم اللّه سبحانه كذلك في موضع آخر بقوله: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [155: النساء].. إنه إيمان لا ينزل من القلب مكان الاطمئنان، واليقين، وإنما هو إيمان سطحى.. له ظاهر وباطن، أشبه بظاهر المنافق وباطنه! {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
فهذا هو الذي ينبغى أن يكون عليه النبيّ والمؤمنون معه إزاء القرآن الكريم.. وهو الاستقامة على وجه واحد فيه، والوقوف به عند مفاهيمه التي تنطق بها كلماته، دون الالتواء بها، والجدل العقيم فيها.. حتى لا يقع فيه خلاف، ولا يختلف فيه المسلمون، مثل هذا الاختلاف الذي أفسد على اليهود دينهم.
والأمر للنبىّ الكريم هنا، هو توكيد لهذا الأمر بالنسبة إلى المؤمنين.
فالنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- مستقيم استقامة مطلقة كما أمر اللّه مع الكتاب الذي أنزله اللّه عليه، فإذا جاءه الأمر بعد هذا بالاستقامة، فإنما ليرى المؤمنين أن أمر الاستقامة مع القرآن الكريم، يحتاج إلى احتراس شديد، ورقابة دائمة، حتى يحتفظ المؤمن بهذا الوضع المستقيم، مع كتاب اللّه. وإلا انحرف وضلّ.. وأن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- مع ما هو عليه من استقامة مع كتاب ربّه، فإنه قد نبّه إلى هذا، وأمر به، فكيف بغيره من المؤمنين؟
وفى قوله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا} تأكيد للأمر بالاستقامة على كتاب اللّه، كما أمر اللّه.. والطغيان هو مجاوزة حدّ الاعتدال في أي أمر من الأمور، والخروج به عن الوضع السليم الذي ينبغى أن يوضع فيه.
والمراد بالطغيان هنا، الطغيان في الاختلاف في كتاب اللّه، ومجاوزة الحدّ فيه، وهذا يعنى أن الاختلاف في ذاته أمر لا حرج منه، بل إنه أمر لابد منه، إذ كان من شأن النّاس أن ينظروا إلى الأمور بعقولهم، ويزنوها بمدركاتهم.
وبعيد أن تتلاقى عقولهم وأن تتعادل موازينهم، على حد سواء.. فكان الاختلاف بينهم أمرا لا يمكن اجتنابه، بل لا يمكن أن تقوم حياتهم بغيره.
ولكن الذي لا يحمد من أمر هذا الاختلاف، هو أن يكون عن هوّى جامح، لا يراد منه البحث عن الحقيقة، بل غايته المراء والإعنات، وذلك هو طغيان، وعدوان على الحقيقة، وتضييع لها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إشارة مضيئة مشرقة، إلى أن الاختلاف ينبغى أن يكون عن نظر باحث، وبصيرة نافذة، ابتغاء التعرف على الحق.. وبهذا يكون اختلاف وجهات النظر بين المختلفين، أضواء مسلطة من كل جهة، على الطريق الموصل إلى الحق، والكاشف عنه.
قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}.
{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تميلوا إليهم، ولا تتبعوا سبيلهم، ولا تأمنوا جانبهم.
وهو نهى عام عن موالاة الظالمين، ومناصرتهم، واتباع سبيلهم.. ومن الذين ظلموا، أولئك الذين يتأولون كتاب اللّه حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، فيضلّون ويضلون غيرهم.
قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ}.
طرفا النهار: أوله، وآخره.. وهما الصبح، والمساء.
وزلفّا من الليل. الزّلف: جمع زلفى، مثل قربى وقرب.. لفظا ومعنى، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي أدنيت إليهم، وقرّبت لهم بحيث ينالونها.
والمراد بالزلف من الليل، أوقات قريبة من الليل.. أي ما يقرب من طرفى النهار، وفيها صلاة الصبح التي هي مدانية لأول النهار، وفيها صلاتا المغرب والعشاء، وهما مدانيتان لآخر النهار.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} إشارة إلى أن في إقامة الصّلاة حسنات يكتسبها المرء منها، فتذهب بالسيئات التي تقع منه.. وفى التعبير عن الصلاة بالحسنات، إشارة إلى أن الصلاة إذا أديت على وجهها كانت حسنات خالصة.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ}.
الإشارة إلى ما حدّثت به الآيات السابقة، من الاستقامة مع كتاب اللّه كما أمر اللّه، واجتناب الظالمين، وعدم الركون إليهم، وإقامة الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل- فهذه كلها عظات، بالغات، ينتفع بها الذاكرون، أي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفى قوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى أن التزام الطاعات، واجتناب المنهيات أمر يحتاج إلى معاناة وصبر، وأنّها تكاليف لا يقدر على الوفاء بها إلا من وطّن نفسه على الصّبر.. وفى هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى في شأن الصّلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} [132: طه] وبهذا يستحق الإنسان الجزاء الحسن على ما احتمل من مشقة.. فاللّه سبحانه لا يضيع أجر العاملين، الذين يعملون في مواطن الخير والإحسان!

.تفسير الآيات (116- 119):

{فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة جاءت آمرة بمعروف، وناهية عن منكر، ومنبّهة إلى أن فيما أمرت به ونهت عنه، ذكرى لمن يعقل، ولا يغفل عن مواقع العبرة والعظة.
ولما كان في طبيعة الناس الغفلة عن مواقع الخير، وهم لهذا يحتاجون دائما إلى من يقوم فيهم مذكّرا لهم، آمرا بالخير، ناهيا عن المنكر- فقد جاء قوله تعالى: {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ} ناعيا على الأمم السالفة التي أهلكها اللّه سبحانه بظلمها وضلالها، أنها لم يكن فيها دعاة خير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقفون بجوار أنبيائهم، يشدون أزرهم، ويشيعون في الناس دعوتهم، ويسدون على السفهاء نوافذ العدوان على الأنبياء وأتباع الأنبياء.
وفى قوله تعالى: {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ} إنكار لما كان عليه أهل القرون الماضية، من فقدان أهل الخير بينهم، ودعاة الإصلاح فيهم.. وتحريض للمسلمين ألا يكونوا كهؤلاء الأقوام، بل يقوم من بينهم دعاة هدى وإصلاح، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [104: آل عمران]، وبهذا تقوى جبهة المؤمنين، ويشتد ركن الإيمان، وينفتح للناس الطريق إلى الهدى، والنجاة من عذاب اللّه.
وقوله تعالى {أُولُوا بَقِيَّةٍ} أي أصحاب دين وإيمان، يعملون لما يبقى لهم عند اللّه في الآخرة، ومنه قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ما يبقى لكم عند اللّه.. فأصحاب البقية، هم العقلاء الراشدون، الذين لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ} هو استثناء من النفي الواقع على أهل القرون الغابرة.. فقد كان فيهم جماعات قليلة استجابوا لدعوة اللّه، وآمنوا به، ودعوا إلى اللّه، كما كان من الرجل الصالح من قوم فرعون.. أما كثرتهم فكانت تموج في غيّها وضلالها، فلم يكن لأصحاب الدعوات فيهم من يسمع أو يجيب، إذ كانت تضيع أصواتهم وسط هذه الأمواج الهادرة من الغى والضلال.. وقد نجى اللّه سبحانه هؤلاء القلة المؤمنين، من هذا البلاء الذي أخذ به أقوامهم، الذين قاموا على ما هم فيه من ضلال.
قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ}.
إشارة إلى أن أهل المنكر قد غلبوا على أهل الخير والصلاح فيهم، فلم يلتفتوا إليهم، ولم ينتفعوا بنصحهم، فمضوا على ما هم فيه من ضلال، وغرقوا فيه من إلى أذقانهم، وأترفوا فيه، أي جعلوه نعيمهم في الدنيا، وحظهم منها.
{وَكانُوا مُجْرِمِينَ} أي كانوا أهل إجرام وفجور، وبغى وعدوان.. ولذلك أهلكهم اللّه.. ولو استقاموا على طريق الحق، ما نزل بهم ما نزل من نقم اللّه عليهم.. كما يقول سبحانه بعد ذلك:
{وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ}.
أي أن اللّه سبحانه، إنما أهلك القرى التي أهلكها بسبب ما كان من أهلها من ظلم وكفر وضلال.. وقد جرت سنة اللّه ألّا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما يقول سبحانه: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال].
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
أي أن ما حلّ بالظالمين من هلاك هو قدر من قدر اللّه الواقع بهم، وأنه- سبحانه- لو شاء لهداهم إلى الحقّ، ولعافاهم من هذا البلاء.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} أي على حال واحدة من الإيمان، أو الكفر، ومن الهدى، أو الضلال.. فليس ذلك بعزيز على اللّه.. ولكنه- سبحانه- خالف بينهم، فجعلهم مؤمنين وكافرين، ومهتدين وضالين. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
وفى قوله تعالى: {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إشارة إلى أن هذا الاختلاف في الناس أمر لازم اقتضته حكمة اللّه، وجعلته سنّة قائمة فيهم.
فكما اختلفوا في صورهم وأشكالهم، وفى ألسنتهم وألوانهم، وفى أممهم وأوطانهم، وفى وجوه أعمالهم وأرزاقهم- اختلفوا كذلك في معتقدهم في اللّه، فمنهم الكافرون، ومنهم المؤمنون، ومنهم أصحاب النار، وأصحاب الجنة، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} ممن ألف بين قلوبهم من المؤمنين، فكانوا كيانا واحدا، في اتساق خطوهم على طريق الخير والهدى.. فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا تنتظمه مشاعر واحدة.. وقليل ما هم.
وفى قوله تعالى: {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} توكيد لهذا الحكم الذي حكم اللّه به على العباد.. وأنهم هكذا خلقوا مختلفين.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي وجبت كلمة ربك- وحقت، وجاءت على تمامها وكمالها، لا استثناء فيها، وهى أن يملأ جهنم من الجنة والناس.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا مفرّ من أن يكون لجهنم أهلها من الناس، ولها يعملون، وليصيروا إليها.. وبغير هذا لا يتحقق لكلمة اللّه التمام.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
الناس.. وهذا الاختلاف في حظوظ الحياة الاختلاف بين الناس، أمر لازم لانتظام حياتهم.. فلو كانوا على حال سواء في كل شيء، لما كانوا إلا كتلة متضخمة اللحم، ليس فيها عين تنظر، أو أذن تسمع، أو أنف يشم، أو يد تبطش، أو رجل تمشى، أو رأس يفكر.
إلى غير ذلك من الأجهزة العاملة في كيان الإنسان.. والتي بها صار الإنسان إنسانا، بل بها صار الكائن الحىّ.. ذا حياة عاملة.. معطية وآخذة.
وهكذا الناس.. هم هذا الإنسان في صورة مكبرة.. بعضهم يأخذ مكان الرأس، وبعضهم يأخذ مكان العين، أو الأنف، أو الأذن، أو اليد، أو الرجل وبهذا يقوم الجسد الاجتماعى بوظائفه العاملة في الحياة حيث تأخذ كل جماعة فيه مكانها المناسب في هذا الجسد، كما تأخذ أعضاء الجسد في الإنسان مكانها فيه.. سواء بسواء! والسؤال هنا هو:
لما ذا يكون بعض الناس رأسا، وبعضهم قدما، أو إصبعا، أو عينا؟
ونقول: إن تلك هي مشيئة الخالق في خلقه.. فكما خلق سبحانه الإنسان ووضع أعضاءه فيه بهذا النظام وعلى تلك الصورة- كذلك جعل اللّه سبحانه المجتمع الإنسانى موزعا في الوجود على هذا النظام.. بعضهم رأس، وبعضهم ذنب، وبعضهم قلب، وبعضهم عقل، وبعضهم أبيض، وبعضهم أسود.
وهكذا.. ليملئوا كل فراغ على الأرض، ويسلكوا كل سبيل فيها.. فيكون منهم الزارع والصانع، والتاجر، وراكب البحر، وساكن الفلاة، وصاحب القصر، وصاحب الكوخ! تلك هي مشيئة اللّه في عباده، وإرادته النافذة فيهم، وحكمته المقدّرة لكل شيء قدره! يقول الجاحظ في تعليل هذا الاختلاف بين الناس، وتباين حظوظهم في هذه الدنيا: اعلم أن اللّه تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم!ولم يحبّ أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم!لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة، وكانوا مخيّرين في الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفى هذا ذهاب العيش، وبطلان المصلحة، والبوار والتّواء.
ثم يقول الجاحظ:
ولو لم يكونوا- أي الناس- مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل، لرغبوا عن الحجامة أجمعين، وعن البيطرة، والقصابة والدباغة ولكن كل صنف من الناس مزيّن عندهم ما هم فيه، وممهل عليهم.
فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء خدمة، أو خرقا، قال له- على سبيل الذم: يا حجام! والحجام لو رأى تقصيرا من صاحبه، قال له:
يا حائك!! ثم يقول:
ولولا أن اللّه تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبيلا للاتفاق والائتلاف، لما جعل واحدا قصيرا، وآخر طويلا، وواحدا حسنا، والآخر قبيحا، وواحدا غنيا وآخر فقيرا، وواحدا عاقلا وآخر مجنونا، وواحدا ذكيا وآخر غبيا.
ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختيار يطيعون، وبالطاعة يسعدون.
ففرق بينهم ليجمعهم، وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة، فسبحانه وتعالى، ما أحسن ما أبلى وأولى، وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبر! ثم يمضى الجاحظ فيقول:
لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا أجمعهم عن كدّ البناء لبقينا بالعراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات، ولبطل أصل المعاش.. فسخرهم على غير إكراه، ورغبهم من غير دعاء.
ثم يقول:
ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم، لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها.. ولو كان ذلك لتناحروا على طلب الواسط، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تم بينهم صلح!
فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة!وكيف لا يكون ذلك كذلك، وأنت لو حركت ساكنى الآجام إلى الفيافي، وساكنى السهل إلى الجبال، وساكنى الجبال إلى البحار، وساكنى الوبر إلى المدر، لأذاب قلوبهم الهمّ، ولأتى عليهم فرط النزاع!ولولا اختلاف الأسباب، لتنازعوا بلدة واحدة، واسما واحدا وكنية واحدة!فقد صاروا- كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة- إلى الأسماء القبيحة، والألقاب السمجة.. والأسماء مبذولة، والصناعات مباحة، والمتاجر مطلقة، ووجوه الطرق مخلاة!ولكنها مطلقة في الظاهر، مقسمة في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبره الحكيم العليم من ذلك فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمى ابنه محمدا، وحبب إلى آخر أن يسمى ابنه شيطانا، وحبب إلى آخر أن يسميه عبد اللّه، وحبب إلى آخر أن يسميه حمارا.
لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم في اختلاف الأسماء، لجاز أن يجتمعوا على شيء واحد. وكان في ذلك بطلان العلامات، وفساد المعاملات! ثم يختم الجاحظ هذه القضية بقوله:
وأنت إذا رأيت ألوانهم، وشمائلهم، واختلاف صورهم، وسمعت لغاتهم ونغمهم، علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة، على حسب أمورهم الظاهرة (أي أنها مختلفة في صورها وأشكالها كاختلاف أحوالهم الظاهرة).
وقد حرصنا أن ننقل كلمات الجاحظ في هذه القضية، لأن الجاحظ لم ينظر إلى هذه القضية من خلال العقيدة الدينية، ولم يقمها على مقررات النصوص القرآنية، بل نظر إليها نظرا قائما على واقع الحياة، وما ينطق به هذا الواقع الذي هو التطبيق العملي لما قررته الشريعة، ونطقت به كلمات اللّه.
فالاختلاف بين الناس على هذا الوجه الذي يشمل ماديات حيلتهم ومعنوياتها جميعا، هو سنة اللّه في خلقه، وحكمه الواقع عليهم، بحيث لا انفكاك لهم منه أبدا.!
فقوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}.
هو القانون السماوي الذي يحكم أوضاع الناس في هذه الدنيا.. حيث لا تستقيم حياتهم، ولا ينتظم أمرهم إلا بهذا الاختلاف الواقع بينهم، والذي لو ارتفع من دنياهم لجمدوا في أماكنهم، كما يجمد الدم في جسد فارقته الحياة، وفى هذا يقول الرسول الكريم:الناس بخير ما تباينوا (أي اختلفوا)، فإذا تساووا هلكوا.
والاختلاف الذي تشير إليه الآية الكريمة، ويحدّث به الرسول الكريم ليس بالاختلاف الذي يفرق بين الناس، ويعزل بعضهم عن بعض ويضع بعضهم في مكان السادة، على حين يضع بعضهم الآخر في منزلة العبيد.. كلا، إنما هو اختلاف في المنازع والمشارب، وفى الملكات والحظوظ، كما يختلف الإخوة الأشقاء، في منازعهم ومشاربهم، وفى ملكاتهم، وحظوظهم من الحياة.. بحيث لا يجعل هذا الاختلاف بينهم ميزة لأحدهم على الآخر، في الحقوق والواجبات، المنوطة بالإنسان، من حيث هو إنسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}.
فهذا الاختلاف بين الناس، الذي جعلهم شعوبا وقبائل، هو سبب التعارف بينهم، وهو الذي يعطى كل أمة أو شعب أو قبيلة، السّمة التي تعرف بها، وتكون معلما من المعالم الدالة عليها.. تماما كالاختلاف بين الأفراد، الذي به يعرف لكل فرد ذاتيته وشخصيته، بحيث لا يكون الناس جميعا على وجه واحد، لا يختلف فيه إنسان عن إنسان.
وقول الرسول الكريم: «الناس سواسية كأسنان المشط» مكمل لقوله صلوات اللّه وسلامه عليه: «الناس بخير ما تباينوا».
فهم على سواء في المعنى الإنسانى الذي يجمعهم، وهم في الوقت نفسه أفراد متمايزون، لكل فرد وجوده الخاص، وذاتيته المشخّصة له، وعالمه المتفرّد به.
وعلى هذا المفهوم للإنسان، قامت أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها.
فهى تتعامل مع الإنسان باعتبارين.. باعتبار أنه فرد له ذاتيته وله عالمه الخاص الذي يعيش فيه، وباعتبار أنه عضو في مجتمع، أشبه بالعضو في الجسد.
وهذا النظر الذي تنظر به الشريعة الإسلامية إلى الإنسان، وتعامله به على أساسه، هو الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، حيث كانت له حياة يعيش بها في الناس، وحيث كانت له ذاتية يعرف بها بينهم.
فالحياة تتعامل مع الإنسان بوجهيه معا.. وجهه الشخصي الفردى، ووجهه العضوى الاجتماعى.. فتستقبله الحياة فردا.. تعطيه وتأخذ منه، وتستقبله في مجتمعه الأسرى، والقبلىّ، والشعبي، والأممى، والإنسانى عامة.. فتعطيه، وتأخذ منه أيضا.!
والحياة، في كلتا الحالين، ترى الإنسان بكل مشخصاته، لم يفتقد شيئا من عناصر وجوده الذاتي، ولو ألقى به في محيط العالم الإنسانى كله.. تراه مرة كما يبدو من خلال عين المصورة إذا كان بمفرده في مجال هذه العين، وتراه مرة أخرى كما يبدو من خلال هذه العين، وقد وقع في مجالها ملايين البشر!
وكذلك شأن الإنسان مع الحياة ومع الناس.. إنه يرى نفسه من خلال نظرتين.. نظرة لا يرى منها إلا نفسه هو، ووجوده هو، ونظرة يرى منها نفسه، عضوا- كبيرا أو صغيرا- في المجتمع.
فتعاليم الإسلام تعترف اعترافا كاملا واضحا بذاتية الإنسان وبفرديته، وتفسح لهذا الجانب من الإنسان مكانا بارزا في تشريعاتها وأحكامها.. فالإنسان في نظر الإسلام- من هذه الجهة- عالم صغير، له فلكه الذي يدور فيه، وله مشاعره التي يحيا بها، وعواطفه التي يعيش فيها، وضميره الذي يحتكم إليه.
ومن جهة أخرى، فإن الشريعة الإسلامية، لا تقف بالإنسان عند هذا الشأن من شئونه، بل تلقاه عضوا في المجتمع الإنسانى كله، من أضيق حدوده، في مجتمع الأسرة، إلى غاية مداه، في الإنسانية جميعها، بل إنها تتجاوز هذا إلى المجتمع الحيواني، بل إلى الوجود كله.. فهى تدعو الإنسان إلى أن يكون نغما منسجما مع هذا اللحن الخالد، الذي يشترك فيه الكون كله، معبّرا به عن جلال الخالق العظيم وقدرته، وعلمه، وحكمته.. وإنه لمن الشقاء الذي ليس بعده شقاء، أن يكون الإنسان صوتا نشازا في هذا اللّحن الكونى الرائع.
إنه سينفصل حينئذ عن الوجود.. ثم لا يكون له وجود! وأرانا قد بعدنا عن موضوعنا الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}.
ولكن عذرنا في هذا، هو أن قضية الاختلاف بين الناس، ليست قضية ذات وجه واحد، قائم على هذا الاختلاف الظاهر بين الأفراد، بل هي قضية- كما قلنا- ذات وجهين: وجه ظاهر يقوم عليه هذا الاختلاف الذي تشهده الحياة بين الناس والناس، ووجه خفّى، تضيع في ثناياه وجوه هذا الاختلاف، فيبدو الناس جميعا كيانا واحدا، وجسدا واحدا.. الأمر الذي ينقض حكم هذا الظاهر المشاهد، ويوقع بعض الناس في حيرة، وبلبلة حينما يقصرون نظرهم على هذا الاختلاف القائم بين الناس والناس، ولا يرون ما وراءه من تلاحم، وتجاوب، وائتلاف: فيخيّل إليهم أن الوجود الإنسانى وجود يحكمه الاضطراب، ويسوده القلق، ويستولى عليه الفساد، بسبب هذا الاختلاف، الذي يبدو وكأنه لا يجتمع معه شمل، ولا يستقر به حال! ومن واقع هذه النظرة إلى ظاهر الحياة الإنسانية، وما يطفو على سطحها من اختلاف بين الناس- حاول الكثير من الفلاسفة والمصلحين أن يعالجوا هذا الاختلاف بين الناس، وأن يعملوا على صوغهم صياغة جديدة، تجعل من مجموعهم إنسانا واحدا، مكررا.. فإن لم يكن ذلك فلا أقلّ من أن يقسّموا إلى مجموعات، كل مجموعة منها تحوى أعدادا من الناس، على هيئة واحدة، لا خلاف بين إنسان وإنسان فيها.
ومن أجل هذا، وقع في تفكير بعض الفلاسفة ما عرف بالمدن الفاضلة، التي صوّر فيها الناس على هيئة جسد بشرى.. تمثل فيه كل جماعة من الناس، عضوا من أعضائه.. فهناك من يمثلون الرأس، وهناك من يمثلون الأيدى، أو الأرجل، وهكذا.. كما نرى ذلك في مدينة أفلاطون في الغرب، ومدينة الفارابي في الشرق! وإلى جانب هذه المدن الفاضلة التي ارتسمت في أذهان الفلاسفة، ولم يقدّر لها أن تخرج إلى عالم الواقع- إلى جانب هذا قامت محاولات كثيرة، ودعوات متعددة في القديم والحديث، يراد بها المساواة بين الناس، مساواة مطلقة، وخاصة فيما يتصل بالملكيّة الخاصة، فكانت تلك الدعوات التي ظهرت في المجتمعات البشرية والتي تحمل إلى الناس فوضى الإباحة المطلقة لكل شيء في المال، والنساء، والزرع، والضرع، وكل ما يكون للناس فيه حاجة.
وطبيعى أن هذه الدعوة قد أغرّت عامة الناس على الاندفاع وراءها في هوس مجنون إذ فتحت أمامهم أبوابا فسيحة يدخلون منها إلى ما يشتهون.
وينالون من قريب كل ما يحبون.. ولكن سرعان ما اصطدم الناس بالواقع، بعد أن صحوا من هذا الحلم الجميل، وأفاقوا من تلك الهلوسة المحمومة.
فلم يروا بين أيديهم إلا سرابا خادعا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
ذلك أن الناس في ظل هذه الدعوة، تستولى عليهم مشاعر الأثرة والأنانية، التي تحملهم على أن يأخذوا دون أن يعطوا، وأن يحصدوا من غير أن يزرعوا.. وهذا من شأنه أن يحيل الخصب جدبا، والعامر خرابا.. ثم ينتهى الأمر أخيرا إلى استبداد الأقوياء بالضعفاء، استبدادا دونه ما يجرى في الغابة بين عالم الحيوان! يأكل قويّهم ضعيفهم في غير شفقة أو مرحمة، ثم تجيء الخاتمة المفجعة، فإذا كلهم مأكول بيد الضياع والفناء.. وحسبنا أن نذكر هنا ما كان من دعوة مزدك ودعوة بابك الخرّمى.
فقد كانتا أشبه بإعصار عات لفّ الناس في كيانه، وحملهم على جناحه، ثم ألقى بهم من حالق.. فكانوا في الهالكين! الاختلاف إذن بين الناس، ووضع كل إنسان موضعه في الحياة، حسب استعداده، هو الذي يمكّن للمجتمع الإنسانى أن يحيا حياة خصبة، تملأ هذه الدنيا خيرا يسعد به الناس جميعا، ويتساقون كئوسهم فيما بينهم.
وغاية ما هو مطلوب هنا- كى تطيب للناس حياتهم، وينتظم خطوهم في موكب الحضارة والمدنية- هو أن تقوى بينهم مشاعر الأخوة الإنسانية، وتؤلّف بين قلوبهم عواطف التراحم، والتوادّ، حتى يتخففوا من دواعى الأثرة والأنانية.. وهذا ما جاءت له الشرائع السماوية، وما قامت من أجله القوانين الوضعية، وعملت له دعوات القادة والمصلحين في كل زمان، وفى كل مجتمع صالح رشيد.
ونستمع إلى قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [32: الزخرف].
نستمع إلى كلمات ربّ العالمين هذه فنجد في قوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} ما يكشف عن هذا السرّ العظيم الذي تحدّث به بعض أسرار هذه الآية الكريمة.. فالناس بحكم هذا الاختلاف القائم بينهم، وبحسب استعدادهم الفطري، وحكم ظروفهم وأحوالهم- هم جميعا مسخّرون.. أي يخدم بعضهم بعضا، ليس فيهم خادم ومخدوم.. بل كلّهم يخدم ويخدم، ويستوى في هذا العالم والجاهل، والزارع، والصانع، والقوىّ والضعيف، والحاكم والمحكوم.. إنهم جميعا أشبه بالآلة الميكانيكية، لا تكون آلة عاملة، ذات قوة محركة، إلا إذا عمل كل جزء من أجزائها.. أيّا كان وضعه فيها، وأيّا كانت قيمته الذاتية بين أجزائها.. بل أنهم أشبه بالجسد الإنسانى في تجاوب أعضائه جميعا في العمل على كل ما من شأنه أن يحفظ عليه حياته، ويوفر له أمنه وسعادته.
لقد عرف الناس هذه الحقيقة منذ كان لهم وجود اجتماعي، بل إن هذا الوجود الاجتماعى نفسه إنما دعتهم إليه حاجة بعضهم إلى بعض، وخدمة بعضهم لبعض.. وهذا ما يشير إليه قول الشاعر العربي.
الناس للناس من بدو ومن حضر بعض لبعض- وإن لم يشعروا- خدم فلولا حاجة الناس بعضهم إلى بعض لما اجتمع بعضهم إلى بعض:
ونرتّل قول الحق جلّ وعلا: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} فنجد أن هذا الاختلاف بين الناس، هو حكم لازم لا انفكاك لهم منه، إلّا أن يخرجوا عن طبيعتهم البشرية، ويتحولوا إلى عالم الحيوان.. هبوطا، أو عالم الملائكة.. صعودا.
أما وهم في عالم البشر فلن يكونوا إلا هذا الكون الذي هم فيه.. لكل إنسان مكانه في الجسد الاجتماعى، كما لكل عضو موضعه من جسد الكائن الحىّ.
وفى قوله تعالى: {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} تأكيد لهذا المعنى، وتقرير له.
إذ كان هذا الاختلاف بينهم ليس أمرا طارئا عليهم، وإنما هو سنّة الخالق فيهم، حكمته التي اقتضت أن تخالف بينهم، ليكون في هذا الاختلاف نظام حياتهم، وانتظام معيشتهم!