فصل: تفسير الآيات (7- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (7- 14):

{لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ} السائلون: هم الذين سألوا النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، عما وقع بين يوسف وإخوته من أحداث، وهؤلاء السائلون إما أن يكونوا اليهود، أو أهل مكة، بإيعاز من اليهود.. ويجوز أن يكون السائلون هم الذين يطلبون العلم بأخبار الماضين ويبحثون عنها.. فهم يسألون أبدا من يجدون عنده علما بها.
والمعنى: لقد كان فيما وقع من احداث بين يوسف وإخوته آيات لمن سألوا عن أخبارهم.. إما سؤال امتحان للنبىّ، وتحدّ له.
وإما سؤل تعلّم واستزادة من معرفة، وها هوذا القرآن قد جاء بالحق لمن يطلب العلم ويرتاد المعرفة.. أما من أراد الامتحان والتحدي فلن تزيده هذه الآيات إلا ضلالا، وإلّا عمى إلى عمى.
والسؤال هنا: كيف يجيء القرآن الكريم بهذا الحكم: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ}، ولم يكن قد ذكر شيئا عن يوسف وإخوته؟ أليس من المنطق أن يكون هذا الحكم في أعقاب القصّة؟
ونعم إنه المنطق.. ولكنه منطق البشر، الذين لا يحكمون على أفعالهم إلا بعد أن ينكشف لهم وجهها، وتأخذ مكانها في واقع الحياة بينهم.. أما اللّه سبحانه وتعالى، فعلمه محيط بكل شيء، فما لم يقع منه في نظرنا، هو واقع في علم اللّه، وما سيقع بعد آلاف السنين وملايينها هو واقع في هذا العلم الشامل الكامل.
فقصّة يوسف قبل أن يعرضها القرآن الكريم، هي واقعة في علم اللّه الأزلىّ على الصورة التي ذكرها القرآن، فكان حكمه عليها حكما على أمر واقع!.
وهذه شهادة من شهادات كثيرة، تشهد بأن منزّلّ القرآن هو عالم الغيب والشهادة، وأنه ما كان لبشر أن يجد الشعور الذي يملى عليه هذا الحكم، الذي يسبق الحدث قبل أن يحدّث به، ويستوفى عرضه، ويضبط آثاره في الناس!.
قوله تعالى: {إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
{إذ} ظرف، يتعلق بالفعل {كان} في قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
أي أن هذا الظرف من حياتهم يحوى آيات وعظات.. وهو ظرف يبدأ من قولهم لأبيهم: {يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ} ثم يستمر إلى أن تنتهى القصّة.
وتبدأ القصة، بهذا الحديث الذي يديرونه بينهم، ويأخذون فيه على أبيهم أنه يؤثر عليهم يوسف ويختصّه بالمزيد من عطفه وحبّه، هو وأخوه الشقيق له.. فقد كان يوسف وأخ له من أمّ، وكان الإخوة العشرة الآخرون من أمّ.!
فكيف يستأثر هذان الأخوان بحبّ أبيهم دونهم، وهم عصبة، أي جماعة كبيرة، لها شأنها واعتبارها؟ وكيف يفضّل الأب الاثنين على العشرة؟ إن ذلك أمر غير مستساغ، وتقدير غير سليم! وبخاصة في بيئة بدويّة تعتز بكثرة العدد، وتأخذ مكانها في مجتمعنا، بما لها من رجال أكثر مما لها من أموال.
هكذا بدا لهم الأمر خارجا على غير مألوف الحياة عندهم، فكان منهم هذا الموقف، الذي انتهى بهم إلى أن يقولوا في أبيهم: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنّه قد انحرف برأيه في أبنائه وفى موقفه منهم، عن سواء السبيل، فضلّ ضلالا مبينا.
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ}.
وقد امتدّ بهم هذا الحديث الذي أداروه بينهم، عن يوسف وأخيه، وإيثار أبيهما لهما بحبّه ورعايته، حتى انتهى بهم ذلك إلى القول بقتل يوسف، أو إلقائه في أرض بعيدة عنهم، والتطويح به في مجهل من مجاهلها، حتى يغيب عن وجه أبيه، فلا يراه أبدا، وبهذا يخلو لهم وجه أبيهم، أي يخلص لهم وجهه، فلا يلتفت إلى غيرهم، وهذا كناية عن تعلّق أبيهم بهم، حيث لا يصرفه صارف عنهم، وقد كان من قبل متجها بكيانه كلّه إلى يوسف وأخيه.
وفى قولهم: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ} إشارة إلى استقرار أمرهم مع أبيهم، وسكون العواصف التي يثيرها بينهم وبينه هذا الإيثار الذي يختصّ به ولديه الصغيرين هذين.
وبهذا ينصلح شأن تلك الأسرة التي تكاد تقوّض أركانها بهذا الوضع القائم فيها.. هكذا فكّروا وقدّروا!! {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}.
وهذا رأى رآه أحدهم في هذا الأمر الذي دبّروه، وهو ألّا يقتلوا يوسف بل يكتفوا بإبعاده عن أبيهم. وأن يلقوه أرضا، ويطوّحوا به بعيدا عنه.. وذلك بأن يلقوه في غيابة الجبّ، فيلتقطه بعض المسافرين، الذين يمرّون بهذا الجبّ ليستقوا من مائه، ثم يحملونه معهم إلى البلد الذي هم ذاهبون إليه.
والجبّ: البئر الواسعة الفوّهة القليلة الغور.. والسيارة: الجماعة المسافرون، وسمّوا سيّارة لأن دأبهم السير، والانتقال من مكان إلى مكان.
قوله تعالى: {قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ} استفهام إنكارى، يدل على أنه قد كانت بينهم وبين أبيهم مواقف من قبل هذا الموقف، طلبوا إليه فيها أن يصحبوا معهم يوسف إلى حيث يسرحون بأغنامهم، فأبى عليهم ذلك، متعلّلا بالخوف عليه من أن يصيبه مكروه.
وفى قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ} تأكيد لإنكارهم على أبيهم هذا الموقف.. فهو لا يأمنهم عليه، حتى لكأنه يتهمهم بتدبير الشرّ له، والعدوان عليه، إذا هم انفردوا به.. وهم ينكرون عليه هذا، ويدفعون عن أنفسهم تلك التهمة بالإنكار على أبيهم أن يكونوا متهمين عنده في مشاعرهم نحو أخيهم.
وكيف، وهم له ناصحون؟ أي مرشدون، يرعونه، وينصحون له، إذ كان صغيرا، يحتاج إلى من يرشد وينصح؟
{أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
وهكذا يجيء طلبهم الذي أرادوه من أبيهم، بعد هذا الإنكار الذي واجهوه به، وبعد هذا العتاب الذي عتبوه عليه- يجيء طلبهم هذا مباشرة، دون أن يدعوا لأبيهم فرصة للرد عليهم وتوضيح الأمر لهم، بتقدير أن الأمر واضح، وأن ليس لأبيهم عذر يعتذر به إليهم، وأنه ليس بمقبول عندهم أي عذر منه في اتهامهم بأخيهم، وعدم النصح له منهم، وإنه لا يردّ إليهم اعتبارهم، ولا يدفع هذه التهمة عنهم إلا بأن يرسله معهم: {أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً} أي في غير تردد أو انتظار.. فذلك هو الذي يقطع الشك عندهم في اتهام أبيهم لهم!! وإلا فهو الاتهام، والشك المريب!! وهذا ما لا يرضونه من أبيهم، ولا يقبلونه لأنفسهم!!- وفى قولهم: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} إغراء لأبيهم على هذا الأمر الذي أرادوه عليه، وجذب له إلى تلك المصيدة التي نصبوها له! فهو بإجابتهم إلى هذا الطلب يحقق أمرين: أولا: ردّ اعتبارهم عنده، بدفع الشكوك التي ساورتهم من جهة اتهامه إياهم في نصحهم لأخيهم، وسلامة قلوبهم له.. وثانيا: إتاحة الفرصة ليوسف، ليأخذ حظه مما يأخذه الصبيان أمثاله، من الانطلاق إلى الخلاء، لاهيا، لاعبا.. في رعاية من يحفظه، ويدفع عنه كل مكروه.
يقال: رتعت الماشية، أي رعت في مرعى خصيب، والمرتع: المرعى الخصيب.
وقرئ: {يرتعى} من الرّعى.. أي يرعى معنا، ويلعب.
{قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ}.
لقد سلّم لهم أبوهم بما طلبوه، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا.. فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم.
إذ كان سلوته، وأنسه.. ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان في هذه الفلاة التي يرعون فيها!.
وقد أخذ أبناء يعقوب من ردّ أبيهم حجّتهم عليه، فيما فعلوا بيوسف:
فأولا: في قوله: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}.
كشف لهم أبوهم عن حبّه ليوسف وتعلّقه به، فزاد ذلك من موجدتهم عليه، ومن حسدهم ليوسف، وشدّ عزمهم على ما بيّتوه له من شر! وثانيا: في قوله: {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ} قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه في تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه.. فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هي من وحي هذه الظنون وتلك المخاوف التي أعلنها أبوهم لهم.
{قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ}.
إنهم التقطوا من أبيهم كلمة {الذئب} وجعلوها العدوّ المتربص بهم، وأنهم سيأخذون حذرهم منه، وهم عشرة رجال، وإنه لن يستطيع أن ينال شيئا منهم.
وإنهم في تلك اللحظة ليتمثل لهم الذئب الذي سيقودونه إلى أبيهم متهما بأكل يوسف: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ}.
هكذا يقولونها {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} ولا يقولون: اقترب منه، أو جرحه! بل يجعلون يوسف طعاما مأكولا للذئب قبل أن ينتزعوه من بين يدى أبيهم!! ومن جهة أخرى فإنهم لم يردّوا على قول أبيهم: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}.
فذلك مما لا يحبّون سماعه من أبيهم، ولا يريدون أن يجعلوه حديثا معادا، يتأكد به ما ليوسف في قلب أبيه من حب خاص، فوق حب الوالد لولده!

.تفسير الآيات (15- 22):

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ}.
جواب لمّا محذوف دلّ عليه المعطوف عليه بعده، وهوقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
والمعنى: أنهم حين انطلقوا بيوسف بعد أن أخذوه من أبيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يضعوه في الجبّ، وأن يتركوه لمصيره، كانت عناية اللّه معه، فحفظه اللّه من الشرّ الذي دفعوا به إليه.. ثم صحبته عناية اللّه وحفّت به ألطافه.. وأوحى اللّه سبحانه وتعالى إليه أنه سيلتقى بإخوته يوما، وأنه سيخبرهم بهذا الذي كان منهم دون أن يعرفوه.. وهذا ما تحقق حين ملك يوسف أمر مصر، وجاءه إخوته يمتارون من خيرات مصر، حين حلّ الجدب بأرضهم، كما سيجيئ ذلك في ختام هذه القصة.
{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ}.
وهكذا الباطل يفضح نفسه، ويخزى أهله..!
{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ} وتلك أول أمارة من أمارات الكذب الذي جاءوا به.. إنهم جاءوا ملففين في ظلام اللّيل، خوفا من أن يفضحهم ضوء النهار، ويمزّق هذا القناع الزائف المموه بتلك الدموع الكاذبة، التي بلّلوا بها خدودهم.
إن العين إذا التقت بالعين كشفت عن كثير من خفايا النفس، وقرأت ما لا يصرّح به اللسان، ولا تبوح به الكلمات.. ولهذا يجرؤ الإنسان على أن يقول في الظلام، ما لم يكن يقوله في النور، حين تلتقى العين بالعين!! إنه يخبط خبط عشواء، ويرمى بالكلام في غير مبالاة! إن العين هي حاسّة الحياء، وموطن الاستحياء.. ولا ينكشف ذلك لها إلا وهى مبصرة.. ولهذا، فإن أصحاب الحياء يضعون أيديهم على أعينهم، حين يرون ما يستحيا منه، أو ينطقون بكلمة تخدش الحياء.
ثم كان البكاء فضيحة أخرى لهم.. إنّه تباك وليس بكاء.. إنه أصوات ليس فيها حرقة الكبد، وزفرة الصدر الكليم! والاذن قادرة على أن تميز التباكي من البكاء، وتفرق بينهما! وفد عرف يعقوب هذه القصّة الملفقة من أول لقاء ببنيه، ولأول كلمة سمعها منهم!- وفى قولهم: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ} فضيحة ثالثة، تفضح هذا الباطل، وتكشف عن هذا الزور.. إنهم يتهمون أباهم- مقدّما- بأنه لن يقبل شهادتهم تلك، لأنهم هم- في الواقع- لا يقبلونها فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولو أنهم كانوا صادقين حقّا لما وقع في تصوّرهم هذا، ولما توقعوه قبل أن يقع.. إنهم اتهموا أنفسهم بقولهم: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ}.
اتهموها قبل أن يتهمهم أبوهم.. وهكذا شأن كل متّهم.. إنه يتهم نفسه قبل أن يتهمه أحد.. فهو يطوف دائما حول جريمته إن لم يكن بجسده، فبمشاعره، وهمس خواطره.
{وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.
والدم الذي جاءوا به، هو دليل رابع على أن القصة ملفّقة.. فماذا يحملهم على حمل هذا الدم إلى أبيهم.؟ أليسوا هم أولياء هذا الدم وأهله؟ وهل يجد ولىّ الدم قدرة من نفسه على حمل إصبع، أو عين، أو رأس، من ابنه أو أخيه المقتول، ثم يطوف بها، ويقلبها بين يديه، ويعرضها على الأنظار؟ ذلك مالا يكون، لو أن الذئب كان حقّا هو الذي عدّا على يوسف وأكله! وإذا كان لابد من مجيء شاهد من هذا القتيل، فإن الدم لا يقوم شاهدا أبدا، إذ ما أيسر أن يحصل الإنسان على الدم الذي يريد.. من إنسان، أو حيوان بل ومن نفسه أيضا.. فليكن الشاهد إذن، رأسه، أو رجله، أو يده.. إذ من غير المعقول أن يأتى الذئب على كل أجزاء ضحيته.. وخاصة إذا كان غلاما في سن يوسف، الذي قيل إنه كان في العاشرة أو أكثر من عمره! ويقرر علم الإجرام، أن المجرم، مهما كان ذكيا حذرا، لابد من أن يترك أثرا يدل عليه، وأن يقع في تدبيره خلل ما، يكون مفتاحا للكشف عنه! قيل إن القميص الذي جاءوا به ملطخا بالدم، كان سليما لم يمسّه الذئب المزعوم، بظفر أو ناب!! قالوا: ولهذا عجب يعقوب من هذا، وقال متهكما: تا اللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا.. أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!؟
وفى قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} اتهام صريح من يعقوب لبنيه، وأن ذلك الأمر الذي فعلوه إنما هو مما سوّلته لهم أنفسهم، أي زينته لهم، وأغرتهم به.. ولكنه لا يملك شيئا يفعله إزاء هذه المحنة، إلا الصبر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
فذلك هو عزاؤه عن مصابه في ابنه، وفى بنيه أيضا! {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.
أي إنه سبحانه وتعالى هو الذي يمدّه بالعون على احتمال ما حملت إليه هذه القصة الملفقة من أنباء تصف هذه الفاجعة، وتصور تلك المأساة.
{وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ}.
وتطوى الأحداث على عجل، وينتقل المشهد في سرعة خاطفة، إلى حيث يوسف في الجبّ، يعانى ما يعانى من وحشة، وخوف، وجوع..!
وهنا تلوح {سيّارة} أي جماعة من المسافرين، يمرّون بالجبّ ويحطّون رحالهم على مقربة منه، ليستقوا، ولتستقى دوابّهم، ثم ليتزودوا بما يقدرون على حمله من الماء.
{وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ}.
هكذا جاءت السيارة كما قدّر أبناء يعقوب.
لأن الجبّ على طريق يصل بين الشام ومصر، ويكثر عليه مرور القوافل المسافرة.. وفى مجيئها تباطؤ وثقل.. إنها على طريق طويل، قد كلّت، وأعياها السير! نجد ذلك في الفعل {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ}.
ففى واو العطف، والتقائه بحرف الجيم الممدودة هذا اللقاء المتثاقل المتمطّى، وفى مدّة الجيم، كما يقتضيها الترتيل القرآنى- في ذلك كلّه، ما يوحى بأن القافلة في غفلة تامة عن هذا الإنسان الذي في الجبّ، يعالج سكرات الموت، وهى التي يسوقها القدر إليه، لتنقذه، ولتمسك عليه حياته.. وهنا يبلغ المشهد حدّا بالغا من التأزّم، تبهر معه الأنفاس، وتضطرب القلوب، وتذهب النفوس عن الحاضر الذي تعيش فيه، لتقف وراء هذه القافلة تستحثّها، وتصرخ فيها، لتدرك هذا الذي احتواه الجبّ، واشتمل عليه الهلاك!!
وحطّت- القافلة- رحالها- بعد لأى- على مقربة من الجب، وجعلت تعالج في تثاقل أمتعتها، وتسوى رحالها، وتهيئ لها منزلا آمنا تجد فيه الراحة في ظله.
{فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} ليرد الماء، وليستقى لهم منه.. والوارد، هو الذي يرد الماء.
{قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ}.
لقد جاء الدلو الذي أدلاه في الجبّ بما لم يكن يتوقع أبدا.. جاءه بالغلام الذي كان ملقى فيه.
وفى كلمات قليلة موحية معجزة، تطوى الأحداث طيا، فلا تعرض منها إلا تلك الشواهد التي تقوم منها معالم مضيئة، تتحرك بها أحداث القصة إلى نهايتها.
{وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً} أي أخفوه في أمتعتهم، وجعلوه بضاعة من بضاعتهم، يبيعونه فيما يبيعون من بضائع.. هكذا كان حكم من يقع من الآدميين حينئذ، في يد من يظفرون به في حرب أو سلم!.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ}.
إشارة إلى أن هذا الذي يعملونه هو ما يقع في علمه سبحانه وتعالى، وأنه- جل شأنه- غير غافل عما يحدث ليوسف، وفى هذا تطمين لتلك النفوس المشفقة على هذا الغلام، والتي لم تشهد عن بعد ما يكون من صنع اللّه به.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
شروه: أي باعوه، يقال: شرى الشيء أي باعه، واشتراه: أي أخذه بالثمن الذي ابتاعه به.
والثمن البخس: أي الذي فيه غبن على البائع، حيث باع الذي حقّه أن يبذل فيه المال الكثير، بمال قليل.. {دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ}! ولو عرفوا قدر هذا الجوهر الكريم الذي في أيديهم لضنّوا به، ولبالغوا في الثمن الذي يطلبونه فيه، إن كان لابد لهم من بيعه.. ولكنهم كانوا تجار أمتعة، لا تجار نفوس! ونقدة أموال، لا نقدة رجال!!- وفى قوله تعالى: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} تشنيع على جهلهم بأقدار الرجال، وعمى بصيرتهم عن الكشف عن معادن النفوس!.
{وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وها هو ذا يوسف ينتقل من يد إلى يد حتى يقع أخيرا ليد رجل من مصر.
وإذن فيوسف الآن في مصر.. فهل يستقرّ به المقام فيها، أم تتناقله الأيدى من بلد إلى بلد، ومن مصر إلى مصر؟
تحدّثنا الآية الكريمة من أول الأمر أنه سوف يستقر به المقام في مصر وأنه سيكون ابنا من أبنائها.
فالرجل الذي اشتراه من مصر، قد ضمّه إليه، واتخذه ابنا له، إذ لم يكن له ولد، ودعا امرأته إلى أن تكرمه، وتتولى تربيته، وتنشئته، على أنه ابنها.
وهكذا يجد يوسف في مصر أهلا بدل أهله، وأبا وأمّا مكان أبيه وأمه.
وهكذا صنع اللّه ليوسف.. وليس هذا فحسب، فإنه سيصنع له أكثر وأكثر.
فسيمكن اللّه له في الأرض، ويعلمه من تأويل الأحاديث، كما قال له أبوه من قبل: {وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ}.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} أي أن ما يقدّره اللّه سبحانه وتعالى ويقضى به، فإنه لابد أن ينفذ، إذ هو سبحانه الغالب، لا يغلبه أحد ولا ينازعه مخلوق.. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} هذه الحقيقة، ولا يقدرون اللّه حق قدره.
وفى إضافة الأمر إلى اللّه سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن الأمر كله للّه سبحانه، وليس له شريك ينازعه الأمر في أي شيء.. فهو سبحانه، الغالب على كلّ أمر، لا ينازعه منازع، ولا يعترض مشيئته معترض، إذ أنه ليس لأحد معه أمر.. كما يقول سبحانه: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [123: هود].
والآية الكريمة لم تكشف بعد عن وجه هذا الإنسان الذي ضمّ يوسف إليه، وجعله ابنا له.. إنه من مصر!.
أمّا من هو في مصر، وما مكانته في قومه، فستكشف عنه أحداث القصة فيما بعد.. وفى هذا تشويق للنفوس، وإثارة لحب الاستطلاع فيها، حتى تظل شاخصة إلى هذا الرّجل، باحثة عنه، إلى أن يلقاها هذا اللقاء المثير الذي يطلع عليها به في دست الحكم، وعلى كرسى الوزارة.. إنه عزيز مصر.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
الحكم: الحكمة. وهى لمن آتاها اللّه، سلطان مبين، يملك به ما لا يملك أصحاب الملك والسلطان.
وقد استطاع يوسف- عليه السلام- أن يبلغ بتلك الحكمة هذا السلطان الذي كان له في مصر.. فكان- وهو في السجن- بحكمته، سيدا، تسمع كلمته، ويحتكم إليه في المعضلات.. وبحكمته نفذ إلى خارج السجن، وأملى شروطه على فرعون مصر!! ثم بحكمته، وضع يده على مقاليد الأمور، في مصر وتصريف مقاديرها.
والحكمة التي آتاها اللّه يوسف- عليه السلام- حكمة مستندة إلى علم، وليست حكمة مودعة في صدره ينفق منها، بلا حساب أو تقدير.. وإنما هي حكمة قائمة على دراسة، ونظر، أقرب إلى الاكتساب منها إلى الفطرة.
وبهذا يجد لها صدى في نفسه، وأثرا في عقله وقلبه.
وفى قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى أنه- عليه السلام- كان من العاملين الذين أحسنوا العمل، فكان جزاؤه أن أوتى الحكمة، وحصّل العلم.
يوسف.. والفتنة المتحدّية: