فصل: تفسير الآيات (30- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (30- 35):

{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}.
التفسير:
العزيز: السيد ذو السلطان والقوة، فهو عزيز بسلطانه وقوته.
شغفها حبّا: أي ملك قلبها، واستبد به.. والشّغاف: وسط القلب.
أعتدت لهن متكأ: أي أعدّت وأحضرت، وشيء عتيد أي حاضر.. والمتكأ:
ما يتكأ عليه، من وساد ونحوه.. أصب إليهن: أي أميل، والصبوة الميل إلى النساء خاصة، وصبا وصبأ أي مال، ومنه الصابئة، وهم الذين مالوا مع هواهم إلى عبادة غير اللّه.. والصبا: ريح لطيفة، تهب في أصائل الأيام القائظة، فتميل إليها النفوس.
قوله تعالى: {وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
لأول مرة يكشف القرآن الكريم عن شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه. فيحدّث عنها بأنها امرأة العزيز، أي السيد الحاكم في مصر، ومن هذا نعرف أن البيت الذي ضم يوسف إليه واحتواه، هو بيت حاكم مصر.
ولم يكشف القرآن من قبل عن مركز هذه المرأة الاجتماعى، لأن الأحداث كانت تجرى على المستوي المألوف في حياة الناس، عامّتهم، وخاصتهم على السواء.. فأى بيت كان يمكن أن يضمّ يوسف إليه، وأي امرأة كان من الممكن أن تراوده عن نفسه، سواء كانت امرأة ملك أو سوقة.. إنها امرأة أيّا كان وضعها الاجتماعى! إذ لم يكن ليوسف خيار في اختيار السيد الذي يملكه!.
أمّا حين يكون للحدث ذكر يراد به الكشف عن وقعه في المجتمع وأثره في الناس، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمن يتعلق به الحدث، من حيث وضعه الاجتماعى ومكانته في المجتمع.
فالحدث يكبر أو يصغر، وتتسع دائرته أو تضيق تبعا لمن تعلق به الحدث..! إذ يقتل الرجل من عامة الناس، دون أن يشعر الناس بهذا الحدث أو يلتفتوا إليه، على حين يصاب الحاكم أو السيد من سادة القوم، بخدش أو جرح، فيكون ذلك حديث الناس في الأندية والمحافل، ليوم أو لبضعة أيام، وربما لشهور أو سنين.
فعيون الناس وآذانهم متعلقة بأصحاب السلطان والسيادة فيهم.. يتسمّعون أخبارهم، ويرقبون أحوالهم، ويشتغلون بالحديث عنهم، في كل ما يتصل بهم من صغير أمورهم وكبيرها.. هكذا الناس في كل زمان ومكان.
وعلى الرغم من أن حادثة امرأة العزيز كانت في دائرة ضيقة، لا تتعدى المرأة، ويوسف وزوجها، فإنه سرعان ما نفذت العيون من خدم القصر إلى هذا السر، ووقعت الآذان عليه، فكان همسا على الشفاه، ثم كان حديثا دائرا على الألسنة، أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة.. وذلك لما كان من العزيز في معالجة هذا الأمر، بحكمة، ولطف، وحذر.
والنساء هن أكثر الناس بحثا عن أسرار البيوت، وأقدرهن على فتح مغالقها وكشفها.
وها هي ذى امرأة العزيز تصبح هي وفعلتها مع يوسف، حديث الطبقة العالية في نساء المجتمع، ممن هنّ على مداناة وقرب منها.
{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
هكذا يتحرك الخبر، وتتحرك معه التعليقات المناسبة له.. {قَدْ شَغَفَها حُبًّا} أي ملأ قلبها حبّا، واستولى عليه.. {إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}! إنها الفضيحة قد أخذت تتحرك بسرعة في المجتمع، وإنها اليوم حديث نساء الحاشية، وما حولها، وغدا ستكون حديث البلاد كلها.. فلابد إذا من تدبير يمسك هذه الفضيحة، أو يخفف من انطلاقها، وإلّا أفلت الزمام وساءت العاقبة!
وفى سرعة، وحكمة، أخذت امرأة العزيز تعمل وتعمل! كما أخذ العزيز يفكر ويقدّر.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} لقد أعدت امرأة العزيز وليمة، ودعت إليها هؤلاء النسوة اللاتي تحدّثن عنها بهذا الحديث الذي عرّضن فيه بها، وجرّحنها بقوارص الكلم، وطعنّها بألسنة الاتهام! وكان من تدبيرها أنها هيأت لكل واحدة منهن متّكأ، لتسلم نفسها إليه، مسترخية، وتمسك في يديها بسكين حادّ مرهف، تعالج به بعض الفاكهة التي بين يديها.
وهكذا أخذ النسوة مجلسهن هذا عند امرأة العزيز، وهن متكئات على المساند اللّينة، يتناولن الفاكهة بعد أن امتلأن بما قدّم لهن من شهىّ الطعام، على مائدة حفلت بكل ما لذّ وطاب منه.. وما كاد يبدأ الفتور عليهن، وهنّ مستسلمات لتلك الإغفاءة اللذيذة، التي تطوف بالمرء بعد غذاء شهىّ، يتجاذبن الأحاديث في تكسّر وفتور أشبه بأحلام اليقظة- حتى تضرب المرأة ضربتها فتصيب منهن مقتلا! وإذا يوسف، وقد أخذ زينته، إلى ما حباه اللّه من جمال الصورة، وجلال النبوة، يطلع عليهنّ، وكأنه ملك نزل من السماء، لا يدرين من أين جاء، فيصحون صحوة السكران من خماره، حين يجد نفسه بين يدى ظاهرة من ظواهر الطبيعة المفاجئة المذهلة.. وإذا كيانهنّ كله يصبح عيونا معلّقة بهذه المعجزة التي طلع عليهن القدر بها! واستبدّ بهنّ الذهول، ولم يعدن يدرين ماذا يمسكن في أيديهن.. وفى حركات لا شعوريّة أعملن السكاكين في أيديهن، فأصابت منهن ما كان من شأنه أن يصيب الفاكهة منها.. فسالت الجروح، ونزفت الدماء!! وعندئذ تنبهن إلى وجودهن.
{وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}!! عندئذ استوثقت امرأة العزيز مما وقع في قلوبهن من يوسف، فصرّحت يمكنون سرّها، ووجدت أن ذلك ليس مما يعيبها، إذ كان الأمر أكثر مما تحتمله هي أو غيرها من النساء، في مواجهة هذه المعجزة التي لا قبل للنّاس أن يتحدوها.
{قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} وهكذا كان انتقام المرأة لنفسها ممن أظهرن الشماتة بها.. لقد أذاقتهن من نفس الكأس التي شربتها، فسكرن سكرتها، ووقعن أسيرات لهذا الجمال الآسر، وعشن معها بهذا الداء، يعالجنه، ويطلبن الشفاء له.. وهكذا أخرست تلك الألسنة التي كانت تذيع قالة السوء فيها، فشغلت كل واحدة منهن بهمومها، وأشجانها، مع هذا الجمال الملائكى القاهر.
أما يوسف- عليه السلام- فقد تضاعفت محنته، وتكاثرت حوله الفخاخ والشباك المنصوبة لصيده، والكيد له، ولم يكن له إلا ربّه- سبحانه وتعالى- يطلب العون منه، والحماية والصون ممّا يكاد له.
{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ}.
إنه بين يدى كيد يكاد له، وفتنة ملحّة تتبدّى أمام ناظريه، وتجيء إليه بكل مغرياتها.. وهو- بعد- إنسان.. معه قلبه، وشبابه وشهوته وإنه- في دينه ومروءته- ليؤثر السّجن على ما يدعونه إليه من إثم.
ولكن للاحتمال طاقة، وللصبر حدّ، ولن يمسك عليه دينه، ويدفع عنه هذا البلاء الذي لا يحتمل، إلّا عون يعينه اللّه به، وقوة يضيفها اللّه إلى قوته.
{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ}.
فصرف هذا الكيد، وإبعاد تلك الفتنة من طريقه، هو الذي يصرفه عن هذا البلاء، ويعافيه من هذا الشرّ، وذلك برعاية اللّه سبحانه وتعالى له، وصرف السوء عنه.
{فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ولا تسل ما تدبير اللّه في هذا، فذلك من قدرة اللّه، ومن آياته.
{ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.
أي ثم بدا للعزيز، مع ما شاهد من الآيات الدالة على عفّة يوسف وبراءته مما رمته امرأته به- بدا له أن يأخذه بشيء من العقاب، وأن يلقى به في السجن، وذلك بعد أن هدأت نار الفتنة، ونسى الناس أمرها، حتى لا يقال: إن العزيز قد ألقى بيوسف في السجن عقابا للحدث الذي كان بينه وبين امرأته.
وتعالت حكمة اللّه..!!
لقد كان هذا السجن هو الصّارف الذي صرف به سبحانه وتعالى هذا الكيد الذي يراد بعبد من عباده المخلصين.. فلقد عزله هذا السجن عزلا تامّا عن موطن الفتنة، وباعد بينه وبين آفاقها التي تطلع عليه منها.
ثم كان هذا السّجن الطريق الذي سلك به إلى هذا الملك الذي أراد سبحانه وتعالى أن يضعه بين يديه: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (36- 42):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}.
التفسير:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ}.
والفتى هو الخادم، أو المملوك الذي في خدمة سيده.
ويجوز أن يكون هذان الفتيان قد دخلا مع يوسف السّجن في يوم واحد، إثر حدث وقع في قصر الملك، إذ كان هذان الغلامان ممن يخدمان الملك، فحامت حولهما شبهة دفعت بهما إلى السّجن، ودفع بيوسف إليه معهما، على حساب أنه ممن علقت به تلك الشبهة، بتدبير من امرأة العزيز، وممن معها من النّسوة اللائي كنّ في حاشيتها.. أو بتدبير من العزيز نفسه انتقاما لشرفه، الذي لاكته الألسنة زمنا.. وكانت المؤامرة التي وقعت في قصر الملك فرصة لأخذ يوسف مع من أخذ بها.
{قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
إنهما قد رأى كل منهما رؤيا مناميّة، وقد عرفا في يوسف علما وحكمة، فتحدثا إليه بما رأيا، وطلبا إليه أن يكشف لهما ما تنبئ عنه رؤيا كل منهما.
وفى قول كل منهما: {إِنِّي أَرانِي} إشارة إلى أن كلّ واحد منهما رأى نفسه في المنام على الصورة التي حدّثه بها.. فالرائى شخص والمرئى شخص آخر، وإن كان صورة منه.
{قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
لم يلتفت يوسف كثيرا إلى هذه الرؤيا التي رآها صاحبا سجنه، ولم يجعل بالكشف لهما عن تأويلهما، إذ كانت إحداهما تحمل الموت إلى صاحبها، على حين تحمل الأخرى لصاحبها الحياة والخلاص من السجن.. فآثر أن يتريث قليلا، ولا يكشف لهما عن هذا الجانب المحزن من الرؤيا.
ثم أخذ يحدثهما عما علّمه اللّه من علم، وأنه إذا كان سيكشف لهما عن تأويل رؤياهما، فذلك مما علّمه اللّه، الذي يؤمن به، بل إن اللّه سبحانه قد علّمه أكثر من تأويل الأحاديث، فهو- بما علمه اللّه- يستطيع أن يخبرهما عن أىّ طعام يحمل إليهما، قبل أن يأتيهما، وذلك على نحو ما كان لعيسى عليه السلام، إذ يقول لبنى إسرائيل: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [49: آل عمران].
ويثير هذا الحديث تساؤلات كثيرة عن صاحبى السجن، تدور في رأسيهما، وتظهر على قسمات وجهيهما.. يبحثان عن هذا الربّ الذي يعلّم المؤمنين به، والعابدين له، هذا العلم.. إن لهما أربابا كثيرة، فلم لم تمنحهما شيئا من هذا العلم؟ وهل ربّ يوسف هذا على غير شاكلة الأرباب التي يعرفونها ويعبدونها؟
ويراها يوسف فرصة سانحة، للدعوة إلى اللّه، وإلى هداية هذين الضالّين إلى الإيمان، فيكشف لهما عن وجه الحق، ويفتح لهما الطريق إلى ربّه الذي يعبده! {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
إذن فقد كان من يوسف عمل، حتى وصل إلى ما وصل إليه، وهو أنه ترك دين قوم لا يؤمنون باللّه، وهم بالآخرة هم كافرون. وإذن فإنهما إن أرادا أن يلحقا به، فليتركا ملّة من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر، كما ترك هو ملّة من لا يؤمن باللّه، واليوم الآخر!
ويوسف عليه السلام لم يكن على غير دين التوحيد، فقد ولد مسلما، ابن مسلم، ابن مسلم، ابن مسلم، فهو كما في الحديث الشريف: {الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم}.
ولكنه يعنى بهذا أنه لم يكن مجرّد متابع لدين ورثه عن آبائه، بل إنه نظر إلى الدين الذي يدين به آباؤه، وإلى الأديان التي يدين بها الملحدون، الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، فعدل عن هذه الأديان، وتركها وراءه ظهريّا، وأقبل على دين آبائه، لأنه الدين الحقّ، الذي يدين به العقلاء! {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ}.
وفى قوله: {ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ} إشارة إلى أنه هو وآباؤه، وقد عرفوا طريق الحق، ما كان يصحّ عندهم أن يعدلا عن هذا الطريق إلى طريق الشك باللّه. وذلك من فضل اللّه علينا، وعلى الناس الذين حمداهم إلى الإيمان، وأقامهم على طريق الحق.. {ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون} اللّه على ما فضل به عليهم من نعم، فإن عدم التعرف على الإله المنعم كفران بهذه النعم، يقود إلى الكفر بالمنعم ذاته.
ثم يمضى يوسف، فيشرح لهما قضيّة الألوهية بمنطق الحسّ والمشاهدة:
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}؟ إن العقل يقضى لأول خاطرة، أن الواحد الذي يجتمع إليه كل ما في يد الآخرين من سلطان، هو أولى بأن يلجأ إليه، ويلاذ به.
فاللّه- سبحانه- هو ربّ الأرباب، فكيف يعدل عنه إلى من هم تحت سلطانه؟ وكيف يعبدون من دونه؟ ذلك هو الضلال البعيد!
تلك هي القضية.. وهذا هو فيصل ما بين إله يوسف، والآلهة التي يعبدها القوم.
{ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.
وذلك ما كشف عنه الواقع من الآلهة التي يعبدها صاحبا السجن وقومهما.
ما يعبدون من دون اللّه إلا أسماء.. أي مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمّياتها.. هي أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها..!
وفى قوله تعالى: {ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.
أي أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفى وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند اللّه.. وإنما هي من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فالحكم بين الناس، والفصل فيما هم مختلفون فيه، فيما يعبدون- هو للّه، وسيجزى كلّ عامل بما عمل.. وهو- سبحانه قد أمر ألّا يعبد غيره، وذلك فيما حمل الرسل إلى الناس من رسالات اللّه إلى عباده، فذلك هو الدّين الحقّ، المستقيم الذي لا عوج فيه. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} هذه الحقيقة، فيضلّون، ويكفرون باللّه، ويعبدون من دونه تلك الدّمى التي يسمونها آلهة! وإلى هنا يكون يوسف قد نفذ بدعوته إلى قلبى هذين الرجلين الضالّين، فهداهما إلى اللّه، وفتح لهما الطريق إلى صراطه المستقيم.. وهكذا لم ينس رسالته إلى الناس وإلى هدايتهم ودعوتهم إلى اللّه، وهو في سجنه هذا، يعالج المحنة، ويتجرع مرارة الظلم.
وإذ يستريح إلى أنه أدّى رسالته في هذه الحدود الضيقة، يعود فيكشف لصاحبيه عن السرّ المحجّب وراء رؤياهما.
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ}.
وهكذا بعد أن قال يوسف لصاحبى سجنه ما أراد أن يقوله- من الدعوة إلى الإيمان باللّه، وهما مشدودان إليه بتلك الرغبة الملحة عليهما في الاستماع إلى كلمته التي يقولها في تأويل رؤياهما- أخذ يكشف لهما- مما أراه اللّه- عن تأويل هذه الرؤيا..!
{أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}.
ويلاحظ أنه لم يقل لكل منهما على حدة تأويل رؤياه، حتى لا يواجه الذي سيصلب بهذا الخبر المزعج، بل ألقى إليهما تأويل رؤياهما معا، ليأخذ كل منهما بنفسه ما يراه متفقا مع رؤياه.
وفى قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} توكيد لما كشف عنه من تأويل الرؤيا، وأن ذلك الذي كشف له عنهما من رؤياهما، هو أمر واقع، قضى اللّه به، ولا رادّ لما قضى اللّه!.
قوله تعالى: {وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
وحين علم يوسف من تأويل الرؤيا أن أحد صاحبى سجنه سيخلى سبيله، ويعود إلى مكانه من الملك، ساقيا لشرابه- قال له: {اذكرني عند ربك} أي تحدّث بشأنى عند الملك، واكشف له عن الكيد الذي كاد لى به النسوة حتى ألقوا بي في السجن، فلعلّه يفكّ قيدى، ويطلق سراحى.
وفى قوله تعالى: {ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ} إشارة إلى أن علمه بتأويل الرؤيا لم يبلغ مرتبة اليقين المطلق الذي يتلقاه وحيا من ربه، ولكنه علم مستمد من بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهو- أيّا كان- علم ذاتىّ، يراه إلى جانب ما يوحى إليه من ربّه، ظنّا غير مستيقن.
وفى غمرة الفرحة بالخلاص، نسى صاحب السجن هذا الذي نجا، ما عهد إليه به يوسف، فلم يذكره عند سيده، وهكذا نسى الناس أمره، فلبث في السجن بضع سنين!