فصل: تفسير الآيات (77- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (77- 83):

{قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}.
لقد سقط في أيديهم، وأمسكت التهمة بهم، ووقع أخوهم لأبيهم في شباكها.. ولم يكن لهم ما يقولونه إزاء هذا الواقع الصريح، إلا أن يلقوا باللأئمة على أخيهم هذا، وأن ينسبوه إلى السوء، وأن ما وقع منه لم يكن بالمستبعد عنه.. إنه يسلك في هذا مسلكا كان لأخ له من قبل.. هو يوسف! فهما ينتسبان إلى أم غير أمهم أو أمهاتهم.. ومن هنا كان منهما هذا المنكر الذي لم يعرفه آل يعقوب! وماذا سرق يوسف؟.
إنهم لا يزالون يذكرون إيثار أبيهم إياه بحبه وعطفه.. {إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا}.
فهل يرون في هذا سرقة من يوسف لحب أبيهم؟ وهل يرون أن يوسف قد أخذ منهم ما ليس له!؟
إذن.. فهو سارق؟ ربما كان ذلك هو الذي عدوّه سرقة! {فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ}.
أي تلقى يوسف منهم هذه التهمة، فأسرّها في نفسه، ولم يسألهم عنها، ولم يكشف لهم عن وجه يوسف الذي ألقوا إليه بهذه التهمة.
{قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ} قال ذلك بينه وبين نفسه. أي أنهم كانوا معتدين عليه، ظالمين له.. واللّه أعلم بهذا الوصف الذي وصفوه به، حين رموه بالسرقة.
قوله تعالى: {قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
هنا يجيئون إلى يوسف عن طريق الرجاء والاستعطاف، بعد أن جاءوا إليه منكرين متحدّين.. فقد ظهر أنهم سارقون، وهذا المسروق قد وجد في أمتعتهم!.
{يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} فهم لا يستشفعون له، وإنما يستشفعون لأبيه الذي بلغ من الكبر عتيّا، فلا يحتمل هذه الصدمة التي تصدمه بفقد ابنه هذا.
{فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فخذ بجريرته أحدنا، ليلقى العقاب الذي ستعاقبه به.. وهذا منك إحسان بأبيه، وإكرام لشيخوخته، وأنت- كما رأينا من أفعالك- محسن، تفيض يداك بالخير والمعروف لكل من يرد عليك.
{قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ} أي عياذا باللّه أن نبرئ مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء.
إن ذلك ظلم، لا يلتقى أبدا مع الإحسان الذي تدعوننى باسمه.
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ}.
استيئسوا: وجدوا اليأس، وانتهى أمرهم إليه.
خلصوا نجيّا: أي خلصوا إلى بعضهم، وانعزلوا عن أعين الناس، يديرون الحديث بينهم في سرّ.. وأصل النجوة: المكان المرتفع، حيث يعتصم به، ويلجأ إليه.. بعيدا عن الناس.
أي وحين يئس القوم من أن يستردوا أخاهم، وأن يقيموا أحدهم مقامه في التهمة التي أخذ بها- أخذوا مكانا منعزلا، بعيدا عن الناس، وجعلوا يتدبرون فيه أمرهم، والأسلوب الذي يواجهون به هذا الموقف المتأزم.
{قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ}.
والموثق الذي أخذه أبوهم عليهم هو ما جاء في قوله تعالى: {قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ}.
فكيف تلقون أباكم الآن؟ وكيف تواجهونه بهذا الخبر؟ وهل نسيتم ما كان منكم من يوسف من قبل؟ إنكم إن تكونوا قد نسيتم فإن أباكم لم ينس.. ولقد اتهمكم اتهاما صريحا به، إذ قال: {لقد سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً}!- {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ}.
فهذا هو الموقف الذي سيتخذه كبيرهم.. إنه لن يبرح هذه الأرض- أرض مصر- ولن يغادرها، لأنه لا يستطيع أن يلقى أباه، وأن يجد العذر الذي يعتذر به إليه!.. وإنه لمقيم هنا إلى أن يعلم أن أباه قد علم الأمر وتحققه، فغفر له، وأذن له بالعودة.. أو ينتظر حكم اللّه فيه، وتبرئة ساحته مما حدث.
{ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ}.
أي أما أنتم، فعودوا إلى أبيكم، وأخبروه الخبر، كما وقع على مرأى منكم ومسمع.. فذلك أمر قضى اللّه به، وليس لنا بما قضى اللّه به حيلة، وقد أعطينا الموثق، ولم نكن ندرى ماوراء الغيب {وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} ولو كنا ندرى ما وقع لما أعطينا أبانا ما أعطينا من ميثاق.
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
ثم قولوا لأبيكم: إن كنت لا تصدق ما نقول، فاسأل أهل القرية التي كنا فيها، أي مصر، فإن عزّ عليك ذلك، ولم تجد في نفسك القدرة على السّفر لترى بعينك ما حدّثناك به، فهناك الركب الذي كان معنا من أبناء كنعان، الذين أقبلوا معنا من مصر بعد أن أخذوا حاجتهم منها كما أخذنا.. هؤلاء هم قريبون منك فاسألهم.. ثم إننا- قبل هذا، أو بعد هذا- لصادقون، فيما حدثناك به.
وانظر إلى موقفهم هنا، وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله! إنهم هنا يجدون لكلمة الحقّ مساغا في أفواههم، وقوة على ألسنتهم.
فيقيمون عليها الأدلة البعيدة والقريبة.. ثم لا يكتفون بهذا، بل يجزمون بصدقهم، ويؤكدونه، وإنهم لهذا في غنى عن أن يشهد لهم أحد بصدقهم، {وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
أما هم هناك، فإنهم قد حملوا شاهد الزور بين أيديهم.. قميصا ملطخا بالدّم الكذب، ودموعا متلصّصة، تتخذ من الليل ستارا تستر به زيفها.. ثم كلمات مستخزية متخاذلة، تمشى على استحياء، في رعشة واضطراب: {يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ}!! إن هذا القول كان أولى بهم أن يقولوه في المرة الثانية، وهم صادقون.
إذ كانت منهم فعلة أولى، افتضح فيها أمرهم، ووقع منهم أبوهم على ما فعلوه بيوسف، حين ألقوه في الجب وادعوا أن الذئب أكله.. فإذا جاءوا اليوم يقولون عن ابنه الآخر، إنه سرق، وإن العزيز قد أخذه رهينة عنده- كان اتهامه لهم بالكذب أقرب شيء يقع في نفسه.. وكان ظاهر الحال يقضى بأن يقولوا: {ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ} ولكنهم إذ كانوا صادقين حقّا، فإنهم لم يلتفتوا إلى ظاهر الحال، ولم ينظروا إلى وراء، بل واجهوا أباهم بالحق الصّراح الذي بين أيديهم..! فقالوا: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
{قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً}! هي نفس المواجهة التي واجههم بها، حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع في يوسف.
إنهم متهمون عنده في الحالين.. لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه في يوسف، وفى أخيه.. ففى يوسف يقول لهم: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ}.
وعن ابنه الآخر يقول لهم: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ}.
وهكذا يأخذهم بحدسه فيهم، وظنّه بهم، وقد صدقه حدسه في الأولى، وتحقق ظنه في الثانية، فوقع المكروه في كلا الحالين.
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فصبر جميل على هذا المكروه، هو الدواء الذي لا دواء غيره.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
لقد وقع في نفس يعقوب أن محنته في بنيه- يوسف، وأخيه، وكبير أبنائه- قاربت أن تزول، وأن بوارق الأمل أخذت تلوح له في الأفق، وأن إيمانه بربّه، ورجاءه في رحمته لن يخذلاه أبدا، ولن يسلماه إلا إلى السلامة والعافية.
ولهذا فهو على رجاء بأن اللّه- سبحانه- سيلطف به، وسيجمع شمله المبدّد، ويعيد إليه أبناءه الذين لعبت بهم يد الأحداث.. {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)}.
التفسير:
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}.
لقد انصرف يعقوب عن الحديث مع أبنائه في شأن أخيهم الذي قالوا عنه إنه سرق، وإنه في يد العزيز بمصر.. وأسلم نفسه إلى ما يعتمل في كيانه من حسرة وأسى على مصيبته في يوسف.. إنه قد عرف- على سبيل الظنّ أو اليقين- أن أخا يوسف في مصر، أما يوسف، فإنه لا يعلم المصير الذي صار إليه.. أحىّ هو أو ميت؟ وإذا كان حيّا فكيف يحيا؟ وأىّ بلاد اللّه احتوته؟
ذلك هو الذي يزعجه، ويؤرقه! فلو أن يوسف قد مات لكان لحزنه عليه نهاية.. ولكنه يعلم يقينا أن القصّة التي جاء بها إليه أبناؤه في شأنه، كانت مكذوبة ملفقة، وأن ذئبا لم يأكله.. فهو حىّ ميت.. يطلع عليه في كل لحظة بهذه الصورة العجيبة، فتهيج لذلك أحزانه، ويشتد كربه، وتسرح به الظنون في كل أفق، باحثا عن يوسف.. ثم يعود آخر المطاف ولا شيء معه، إلّا هذه الزّفرات التي تنطلق من صدره، فترسم على لسانه هذا النغم الحزين: {يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ}!! وهكذا تهجم لوعات الأسى والحسرة على هذا الشيخ الكبير، حتى لقد ابيضّت عيناه من الحزن الدفين، الذي أبى على عينيه أن تبللهما قطرات الدموع، وأن تطفئ النار المشتعلة فيهما، حتى أتت على فحمة سوادهما، وأحالته رمادا! {فهو كظيم} أي يكظم حزنه، ويحبسه في صدره.. وذلك هو الحزن أفدح الحزن، وأشدّه قسوة.. يقول الشاعر البارودى:
فزعت إلى الدموع فلم تجبنى ** وفقد الدّمع عند الحزن داء

وما قصّرت في جزع ولكن ** إذا غلب الأسى ذهب البكاء

{قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ}.
ومع هذه الهموم وتلك الأحزان، التي يعالجها الشيخ الضعيف في نفسه، ويمسكها في كيانه، فإنه لم يسلم من اللّوم، الذي يزيد من آلامه، ويضاعف من أحزانه.. فإذا غفل عن نفسه لحظة وجرت على لسانه كلمة يهتف فيها بيوسف، تحركت الغيرة في صدر أبنائه، وسلقوه بألسنة حداد.. إنه لم ينس يوسف، ولن ينساه، وإنه لا يزال يعيش مع ذكراه، منصرفا إليه بوجوده كلّه، غير ملتفت إلى أحد سواه! ومن كلمات العتب واللوم التي يسمعها يعقوب من أبنائه كلما جرى ذكر يوسف على لسانه- قولهم هذا، الذي حكاه القرآن عنهم: {تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ}.
والحرض: الشيء الذي استحالت طبيعته وتغيرت معالمه.
والمعنى: أنك لا تزال هكذا في هذا الوسواس المزعج حتى تفسد وتختلّ، أو تهلك وتموت.. وهو خبر يراد به اللوم والتقريع.
والفعل {تَفْتَؤُا} من أفعال الاستمرار، ولا يستعمل إلا مصحوبا بالنفي، وقد حذف هنا حرف النفي {لا} لدلالة المقام عليه.. أو أن الفعل تفتأ ضمّن معنى الفعل تستمرّ الذي لا يصحبه النفي، وقد جاء في قول امرئ القيس:
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى

جاء الفعل أبرح متضمنا معنى فعل الاستمرار، فلم يصحبه نفى.
{قَالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
البثّ: الهمّ، والكرب، الذي يغلب صاحبه، فلا يتسع له صدره، فيصرّح به، ويلقيه خارج صدره.. وأصل البثّ الانتشار، يقال: بث الحديث:
أي أذاعه ونشره، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ} أي المنتشر في الفضاء.
وفى قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
إشارة إلى أنه إذ يشكو إلى اللّه ما به فإنما يشكو إلى رب رحيم، يضرع إليه في الكروب، وتبسط له الأيدى في الملمات، وتتجه الوجوه إليه في الشدائد!! ولمن إذا يشكو الموجوعون؟ وإلى من يستصرخ المستصرخون؟ إذا لم يكن بدّ من الشكوى والاستصراخ؟
أهناك غير اللّه من يرجى لدفع الضر وكشف البلاء؟
إن اللّجأ إلى اللّه والهتاف به، والشكوى إليه، والتوجع له، هو من دلائل الإيمان به، والثقة فيه، وإظهار العبودية له والافتقار إليه.
وإنها لعبادة أىّ عبادة، تلك الأكفّ الضارعة إلى اللّه، وهذه الألسنة الشاكية له، وتلك العيون المتطلعة إليه، ترقب العافية منه، وتنتظر مواطر الخير من غيوث رحمته.
ولهذا، فلقد كان مما أمر اللّه به عباده أن يدعوه دائما.. في السراء وفى الضرّاء، وأن يكشفوا بين يديه أحوالهم، وهو الذي يعلم سرهم ونجواهم، وأن يجتهدوا في الطلب، وهو الذي قدّر كل شيء، وكتب لهم ما هو لهم.. ولكن هذا منهم هو عبادة له، وتسبيح بحمده.. وفى هذا يقول سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [55: الأعراف].. ويقول سبحانه: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً} [90: الأنبياء].
ويقول سبحانه: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [60: غافر].
ذلك ما يعلمه يعقوب من موقفه من ربه، ومن تضرعه إليه، وشكاته له، إنه يعلم من اللّه، أي مما للّه من صفات الكمال والجلال ما لا يعلمه أبناؤه.
ولو علموا من اللّه ما علم لما كان منهم هذا اللوم له.
{يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}.
ولعلم يعقوب بربّه، وما عنده من رحمة واسعة، وفضل عظيم، فإنه يدعو أبناءه إلى أن يؤمنوا باللّه إيمانه به، ويعرفوه معرفته له، ويطمعوا في فضله ورحمته طمعه فيهما، وأن ينطلقوا هنا وهناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه أي ليبحثوا عنهما، ويتنسموا ريحهما، وألا يدخل عليهم شيء من اليأس من روح اللّه {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} الذين لا يعرفون اللّه، ولا يقدرونه قدره.. أما المؤمنون فهم أبدا على رجاء من رحمة اللّه، وعلى ترقب لفضله، وتوقّع لغوثه.. ويوم ينقطع رجاء العبد من ربه، فذلك شاهد على انقطاع الصلة بينه وبينه، وعلى فراغ القلب من أية ذرّة من ذرات الإيمان به! روى أن بعض الصالحين كان يقول: إن لى إلى اللّه حاجة أدعوه لها منذ أربعين عاما، ما استجابها لى، ولا يئست من دعائه...
وفى قوله {فتحسسوا} إشارة إلى البحث المعتمد على التحسس بالمشاعر والحدس، لا على النظر المادىّ، إذ كان الأمر خفيّا، لا يرى الرائي منه شيئا.
إنه في البحث عنه أشبه بمن يتحسس طريقه في الظلام الدامس، حيث يبطل عمل العينين، ويكون الاعتماد على الحدس والتظنّي.
وفى تعدية الفعل بحرف الجر من، وهو فعل متعدّ بنفسه، إشارة إلى أنهم يتبعون آثار يوسف وأخيه أثرا أثرا، ويتحسسونها خطوة خطوة.. فحرف الجر من دال على التبعيض في هذا التركيب.
وروح اللّه: نفحات رحمته، وأنسام لطفه، التي بها تستروح النفوس، وتنتعش الأرواح.