فصل: تفسير الآيات (18- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (18- 23):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} هو جواب عن سؤال، يقع في نفس من يسمع أو يرى ما يحلّ بالكافرين من عذاب اللّه في الآخرة.. فيسأل: أليس لهؤلاء الكافرين أعمال طيبة في دنياهم، تخفف عنهم هذا العذاب، أو تصرفه عنهم؟
والجواب: إن لهم أعمالا تحسب في الأعمال الصالحة النافعة لو أنهم كانوا مؤمنين.. أما وقد عملوا هذه الأعمال وهم على الكفر باللّه، فإن كفرهم يفسد كل صالح لهم، ويخبث كل طيب كان منهم.. ذلك أنهم وقد كفروا باللّه لم يكن لهم عمل يتجهون به إلى اللّه، ويرجون به المثوبة عنده.. فبطل بهذا كل عمل لهم.
وفى قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} جمع بين الذين كفروا وأعمالهم، حيث شملهم هذا الوصف: {كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ}.
فالذين كفروا هم وأعمالهم يوم القيامة لا يلتفت إليهم، إلا كما يلتفت إلى رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.. إنهم وأعمالهم ريح خبيثة تهبّ على أهل الموقف محمّلة بهذا الرماد الثائر، الذي تتأذى به العيون، وتزكم الأنوف وتنقبض منه الصدور.. ولو جاء النظم هكذا: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح، في يوم عاصف- لو جاء هكذا، لذهب هذا المعنى الذي كشف عنه النظم القرآنى، والذي جمع بين الكافرين وأعمالهم كما تجتمع النار ومخلفاتها من رماد!! وفى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرّماد، دون التراب مثلا، الذي هو أكثر شيء تحمله الريح- في هذا التشبيه إشارة إلى أن الأعمال التي يجدها الكافرون بيوم القيامة، هي مخلّفات تلك الأعمال التي كانوا يعدّونها من الأعمال الصالحة.
وأنها وإن كانت صالحة في ذاتها، إلا أن كفرهم باللّه قد أكلها كما تأكل النّار الحطب، ولم يبق منها إلا هذا الرماد، الذي ذهبت به العاصفة كل مذهب.
فلم يبق منها حتى مجرد رماد ينتفع به على أي وجه من وجوه النفع، ولكنه صار هباء معلقا في أذيال الرياح العاصفة! فانظر كيف حمل هذا التشبيه من روعة التصوير، ودقة المطابقة بين المشبّه والمشبّه به، حتى لكأن روحا واحدة تلبس جسدين! وفى قوله تعالى: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ} هو من تمام التشبيه، وهو أشبه بوجه الشبه الجامع بين طرفى التشبيه.. فإنه كما لا يقدر أحد على الإمساك بهذا الرماد الذي تحمله الريح، كذلك لا يقدر الكفار على الإمساك بشيء من أعمالهم التي كانت لهم في دنياهم.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} يمكن أن تكون الإشارة فيه إلى حال هؤلاء الكافرين، وما هم عليه من ضلال، وهو ضلال قد بعد بصاحبه عن طريق الهدى والنجاة.
ويمكن أن تكون الإشارة إلى أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها ضلّت عنهم، وغابت وراء آفاق بعيدة، لا سبيل إلى الاهتداء إليها أبدا.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}.
الخطاب هنا للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو بعد هذا- خطاب عام، لكل إنسان، من شأنه أن يخاطب.
فى هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة اللّه، وأن اللّه سبحانه خلق السموات والأرض، خلقا مقصودا لحكمة يعلمها اللّه، وليس عبثا ولهوا، وأنه سبحانه كما خلق هذا الوجود قادر على أن يهلك الناس جميعا، وأن يأتى بخلق جديد غيرهم، من جنسهم أو من غير جنسهم، وأن ذلك ليس بالعزيز على اللّه، أو المتأبّى على قدرته- نقول في هذه الصورة يشهد الكافرون بعض مظاهر قدرة اللّه، بعد أن أشهدتهم الآية السابقة يوم القيامة، وموقفهم الذليل المهين فيها، وأعمالهم الضائعة التي كانت لهم في الدنيا، فيكون لهم من ذلك واعظ يعظهم، ويفتح لهم الطريق إلى الإيمان باللّه، إن كانت لهم عقول تعقل، وكان لهم مأرب في النجاة من عذاب النار الذي شهدوه، وعاينوا أهواله.
قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}: أي انكشفوا بالعراء، وجاءوا مجردين من كل شيء.. عراة، حفاة.. لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا سلطان! فهذا مشهد من مشاهد القيامة، وفيه يبرز النّاس جميعا للّه، غير مستترين بشيء، لا يحتجب بعضهم عن بعض بجاه أو سلطان، أو حجّاب، وحراس، أو حصون وقصور.. إنهم جميعا عراة بالعراء.
وفى جانب من هذا المشهد يلتقى الضعفاء، وهم عامة الناس، وسوادهم- بالرؤساء، وأصحاب السيادة والسلطان، وقد كانوا قادتهم، وأصحاب الكلمة فيهم، وفى هذا اللّقاء يفزع هؤلاء المستضعفون إلى سادتهم هؤلاء، يسألونهم العون في دفع هذا البلاء الذي أحاط بهم.. فهم كانوا مفزعهم في الدنيا، فهلّا كانوا مفزعا لهم في هذا اليوم العظيم؟ وبم استحقوا إذن أن يكونوا في مكان القيادة والسيادة، إذا هم لم يكونوا لهم في هذا الموقف؟
{إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}؟
إنه لعار على المتبوع ألا يخفّ لنجدة تابعه، وقد كنّا رعيّة لكم، وأداة طيعة في أيديكم! فهيّا ادفعوا عنّا بعض هذا العذاب الذي نحن فيه! ويجيء الجواب: {قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ}!!
وهو جواب ماكر خبيث، يحمل عذرا هو أقبح من ذنب! لقد ألقى هؤلاء السادة الضالّون- ألقوا بضلالهم على اللّه.. ولم يسألوا أنفسهم: لما ذا أضلّهم اللّه؟ ألم يكونوا حربا على الأنبياء؟ ألم يكونوا أفواها نافخة لإطفاء كل شعلة من شعل الحق الذي حملوه إليهم.
لقد أضلهم اللّه لأنهم أرادوا الضلال، واستحبّوا العمى على الهدى.
{سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}.
المحيص: المفرّ، والخلاص، وأصله الحيدة عن المكروه، يقال: حاص، يحيص حيصا، وحيوصا، أي حاد.
ويمكن أن يكون هذا من كلام الذين استكبروا، كما يمكن أن يكون من كلام الذين استضعفوا، تعقيبا على هذا اليأس الذي جاءهم من جواب المستكبرين لهم.. كما يمكن كذلك أن يكون صوتا مردّدا من هؤلاء وأولئك جميعا..!
فإن المتكبرين والمستضعفين قد أصبحوا في قبضة العذاب، ولن يفلتوا أبدا.
سواء أجزعوا من هذا العذاب، أم صبروا له.. وهيهات الصبر على هذا البلاء المبين..!
قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} وهذا طرف ثالث من أطراف الخصومة بين الضعفاء والمستكبرين.
فإنه حين انتهى الموقف بينهما إلى هذا اليأس القاتل.. تلفتوا جميعا إلى الشيطان، إذ كان هو الذي أغواهم، وأوقعهم في شباكه، وكأن لسان حالهم يقول له: ما عندك لنا؟ لقد كنت أنت الذي دعوتنا إلى هذا الضلال الذي أصارنا إلى هذا المصير.. فهل تدعنا، وقد ألقيتنا في هذا البلاء؟
ويجيئهم الجواب من الشيطان، مفحما موئسا.
{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} على يد رسله وأنبيائه.. أما أنا فقد وعدتكم فأخلفتكم، ونكثت عهدى معكم، ونقضت عقدى الذي وثّقته لكم.. فذلك هو أنا، وهذا هو شأنى مع أتباعى.. وإذن فموتوا بغيظكم.. ألم يحذّركم اللّه منّى في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} [60- 61: يس] وفى قوله سبحانه: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [27: الأعراف] {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وإن الشيطان ليس بين يديه قوة قاهرة، ملك بها أمر هؤلاء الذين أضلّهم وأوقعهم في شباكه.. إنه أشبه بالصائد الذي ينصب شباكه للطير، ويضع فيها الحبّ فتسقط عليها، وتعلق بها، وتصبح صيدا في يده! لقد دعاهم الشيطان إليه، وزيّن لهم الضلال وأغراهم به، فاستجابوا له، دون أن يستخدموا عقولهم التي وهبها اللّه لهم، ودون أن يستمعوا لكلمات اللّه على لسان رسله، يحذرونهم هذا العدوّ المتربص بهم، ويدعونهم إلى الفرار من وجهه، إلى حيث النجاة والسلامة، في حمى اللّه ربّ العالمين.. فإذا كان هناك من يستحق اللوم فهو هم، لا الشيطان.. إن الشيطان يعمل لنفسه، ويؤدى رسالته فيهم.. أما هم فقد غفلوا عن أنفسهم، وباعوها لهذا العدوّ بيع السّماح.. بلا ثمن! {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي ما أنا بالمستجيب لصراخكم المخفّ لنجدتكم، وكذلك أنتم، لن تستجيبوا لى، إذا استصرختكم، ولن تهبوا لخلاصى مما أنا فيه من بلاء.
والاستصراخ هو نجدة المستغيث المستصرخ.. يقول الشاعر:
إنّا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الصّراخ له قرع الظنابيب

{إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}.
أي إنى كفرت بهذا الشرك الذي جعلتمونى فيه معبودا لكم من دون اللّه.. ويجوز أن يكون هذا إقرارا منه بالكفر باللّه من قبل، أي من قبلهم، وذلك حين دعاه اللّه سبحانه مع الملائكة، للسجود لآدم، فسجد الملائكة وامتنع هو، فطرده اللّه سبحانه، ولعنه، وأصبح من الكافرين.. فكأنه بهذا يقول لهم: إنكم تعلمون أنّى على الكفر، وقد دعوتكم فأطعتمونى، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فأنا- كما تعلمون- قد كفرت باللّه الذي أشركتمونى معه في عبادتكم له.
{إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
هو حكم من اللّه سبحانه وتعالى على هؤلاء المتخاصمين جميعا.. من مستكبرين، ومستضعفين، وشياطين.. إنهم، جميعا ظالمون.. وليس للظالمين إلا أن يصلوا هذا العذاب الأليم الذي هم مساقون إليه.
قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} وفى الجانب الآخر من مشهد النار وأهلها هذا المشهد، تفتح أبواب الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيجدون فيها النعيم والرضوان، ويلقون فيها التحيّة والسلام.
وفى قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى أن هذا الرضوان، وذلك النعيم الذي صار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنما هو من فضل اللّه عليهم، ومشيئته فيهم، وليس ذلك لما كان منهم من إيمان، وعمل صالح، وحسب، إذ أن هذا النعيم لا يعدله عمل، ولا يؤدّى حقّه إنسان.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف، إذ يقول النبي صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله..» قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته».
فالإيمان باللّه، والعمل الصالح طريق إلى جنّة اللّه ورضوانه، ولكنهما لا يوصلان إليها إلّا بإذن اللّه، وعونه، وتوفيقه.. إنهما أشبه بالطّرقات التي يستأذن بها على ربّ الدار لدخول داره، وإنه لا يأذن إلا لمن يشاء ويرضى..!

.تفسير الآيات (24- 27):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)}.
التفسير:
الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة:
المراد بالاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} هو الإلفات إلى هذا المثل، والوقوف عنده، وقفة تدبّر، وتذكر، واعتبار.. فالمراد بالاستفهام الأمر: أي انظر كيف ضرب اللّه مثلا.. والكلمة الطيبة، هي كل كلمة جاءت من واردات الحقّ، والخير.. والكلمة الخبيثة، ما كانت من واردات الباطل، والضلال، والشر.. وكلمة لا إله إلا اللّه هي مجمع كل كلمة طيبة.. فمن لم تسكن إلى قلبه هذه الكلمة لا يجيء منه طيب أبدا.
وضرب المثل: سوقه وعرضه.. والأصل فيه ضرب الشيء بالشيء ليخرج منهما شيء آخر، كضرب اللبن بالمخض ليخرج منه الزّبد.. ومنه الضّرب وهو عسل النحل الذي يكون من ضرب أخلاط رحيق الزهر بعضها ببعض.
والمثل الذي ضربه اللّه سبحانه وتعالى للكلمة الطيبة، هو الشجرة الطيبة:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}.
والشجرة الطيبة.. هي أية شجرة يحصّل منها الناس النفع، ويجنون الخير.
وأكثر الشجر الطيب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول في تنميته وتثميره.
ولعل النخلة أطيب شجرة وأكرمها، وأقربها وفاء بهذه الصفات التي وصف اللّه سبحانه وتعالى بها تلك الشجرة الطيبة: {أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}.
فالنخلة أكثر الشجر ضربا في أعماق الأرض، وأطولها امتدادا إلى أعنان السماء، وهى لهذا كانت من الأشجار المعمّرة.. ثم هي من جهة أخرى أقلّ الأشجار المثمرة حاجة إلى عناية ورعاية، وحراسة متصلة من الآفات.. فما هي إلا أن تعلق نواتها بالأرض حتى تضرب بجذورها في أعماق الثرى، باحثة عن الماء، حتى تبلغه، وتقيم وجودها على مصدر دائم من الرىّ لا ينقطع.. وكما امتدت جذورها في الأرض، طال فرعها فطاول السماء، باحثا عن الضوء الصافي، والهواء النقي، والعزلة الزاهدة.. بعيدا عن غبار الأرض، وصخبها وضوضائها.. ثم إن النخلة من جهة ثالثة أكثر الشجر المثمر جودا وعطاءا.
يؤكل ثمرها رطبا ويابسا، وعلى أصول شجره، ومختزنا، من غير أن يلحقه العطب، أو يسرع إليه التلف.. ثم من جهة رابعة.. لا شيء من النخلة إلا وفيه نفع وخير.. خوصها، وجريدها، وليفها، وعرجونها، وكربها.. فهى من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، منافع متصلة، يمكن أن تقوم عليها وحدها حياة الإنسان، مستغنيا بها عن كل شيء.. ولعلّه من أجل هذا كانت النخلة من نبت الصحراء، حتى يكون ما فيها من ثراء وغنى، تعويضا لما في الصحراء من جدب وفقر! ولعل في قول رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه-:
{أكرموا عماتكم النّخل فإنهن خلقن من طينة آدم} لعل في هذا القول ما يكشف عن وجه من وجوه الإعجاز النبوىّ، وأنه كما قال اللّه سبحانه وتعالى فيه: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى}، إذ يلتقى قوله هذا مع قوله تعالى: {ومَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} دالّا على الشجرة الطيبة، ومشيرا إليها.
والسؤال هنا هو: إذا كانت الشجرة الطيبة- نخلة كانت أو ما يشبهها- على تلك الصورة من الرسوخ والثبات، والعلوّ، وعلى تلك الصفة من البركة والنفع، فأين ما في الكلمة الطيبة من هذا كله؟ وقبل هذا السؤال، سؤال آخر.. وهو: ما هي الكلمة الطيبة، التي شبهت بالشجرة الطيبة..؟
نقول: إن الكلمة الطيبة هي كل كلمة جاءت من واردات الحقّ والخير.
فكل كلمة تتسم بتلك السّمة، وتحمل ضوءة من أضواء الحق، ونفحة من نفحات الخير، هي من الكلم الطيب.
والكلم الطيب كثير: لا يكاد يحصر.. تختلف أشكاله، وتتعدد صوره، وتكثر أو تقلّ معطياته.. كما أن الشجر الطيب كثير، تتنوع ثماره، وتختلف طعومه وتتفاضل مذاقاته.. كما يقول اللّه تعالى. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.
وكما قلنا: إن أكثر الشجر الطيّب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول في تنميته- نقول إن أكثر الكلم الطيب طيبا هو ما كثر خيره. واتصل عطاؤه. وقلّ الجهد المبذول في تحصيله وفهمه.
وإذا كانت النخلة- كما قلنا- هي الشجرة التي تتمثل فيها هذه الصفات، فإننا نستطيع أن نقول إن كلمة التوحيد. هي رأس الكلام الطيب كلّه، وأطيبه جميعه.
فكلمة لا إله إلا اللّه هي الكلمة الجامعة لكل خير، المشتملة على كل هدى، الموصلة إلى كل طيب، وبغير هذه الكلمة لا تثبت للإنسان قدم على طريق الهدى، ولا يطلع له نبت في مغارس الخير.
وليست الكلمة في ذاتها، من حيث هي كلمة، هي التي يكون لها هذا الوصف من الطيّب، أو تكون لها تلك الأوصاف من الخبث.. وإنما الكلمة- طيبة كانت أو خبيثة- لا يظهر طيبها، أو خبثها، إلا إذا التقت بعقل الإنسان، ونفذت إلى قلبه، وسرت في مشاعره، وسكنت إلى وجدانه- عندئذ تخرج خبأها، وتصرّح عن مكنونها، وتعطى الثمر الطيب أو الخبيث الذي كان مستودعا في كيانها- إنها أشبه بالنواة من الشجرة، والبذرة من النبات، لا ينكشف ما بها، حتى تعلق بالأرض، وتترعرع وتنمو، ثم تزهر، وتثمر..!
وكما أنه بالتجربة والاختبار، قد عرف- مقدما- ما تعطيه نواة هذه الشجرة أو تلك من ثمر، حلو أو مرّ، إذا هي غرست في مغارسها وتهيأت لها أسباب الحياة، والنمّاء، كذلك يعرف الكلام الطيب، وما بثمر من ثمر طيب، والكلام الخبيث وما يثمر من خبيث، إذا هو وقع من النفوس الموقع، الذي يهيئ له حياة، ويقيم له وجودا.
ونعود إلى كلمة التوحيد: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.
باعتبارها الأمّ الولود لكل طيّب.. فماذا نجد فيها من ثمار طيبة؟.
ونعود فنؤكد مرة أخرى، أنّها من حيث هي كلمة، مجرد كلمة، يتلفظ بها اللسان، ثم لا يعقلها العقل، أو يمسك بها القلب، أو تنفعل بها المشاعر- هي على لسان المتلفظ بها، شبح كلمة، أو صدى صوت، لا مفهوم لها، ولا ثمرة ترجى منها.. تماما كنواة الشجرة الطيبة تلقى على حجر صلد.
أمّا إذا صادفت هذه الكلمة الطيبة المباركة، أذنا واعية، وعقلا ذاكرا، وقلبا حافظا، ومشاعر مستجيبة للخير، متجاوبة معه.. فقل ما تشاء فيما تعطى هذه الكلمة الطيبة المباركة من أكل مباركة طيبة.
فبكلمة لا إله إلا اللّه ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلام إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.. بهذه الكلمة المباركة الطيبة يستفتح الإنسان أبواب الخير كلها، في الأرض وفى السماء..!
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة يرتفع الإنسان فوق هذا التراب الذي يدبّ عليه، إلى الملأ الأعلى، فإذا هو من أهل هذا الملأ، بل هو في حضرة ربّ العزّة.. يناجيه، ويتلقّى منه ما يهنأ به، من فواضل كرمه، وسوابغ وجوده وإحسانه!.
وبهذه الكلمة المباركة الطيبة، وبهذا المقام الكريم الذي ارتفع إليه صاحبها، يشرف الإنسان من عل على هذا الوجود الأرضىّ، فيرى كل شيء فيه صغيرا.. الدنيا ومتاعها، والمال وشهوته، والسلطان وجاهه، والشباب وغروره، والقوّة وطغيانها.. كلّ هذا يراه المؤمن باللّه، المستظل بعزته وقوته- يراه صغيرا في عينه، هيّن القدر، ضئيل الشأن.. في حسابه.
والكلمة- كما قلنا- مهما تكن طيبة محملة بكريم المعاني، وجميل الصفات لا تعطى شيئا من ذات نفسها، إلّا إذا صادفت النفس الطيبة التي تقبلها، والمشاعر الكريمة النبيلة التي تهشّ لها، وتتجاوب معها.. أما إذا صادفت نفسا كزّة، ووردت على مشاعر سقيمة، فإنها لا تؤثر أثرا، ولا تندّ بشيء من طيبها وحسنها.
وكذلك الكلمة الخبيثة.. لا تبيض، وتفرخ، حتى تلتقى بالنفس الخبيثة، وتخالط المشاعر الفاسدة!.
وشاهد هذا، وذاك، واقع في الحياة.
فدعوات الرسل والمصلحين والقادة والعلماء والحكماء، ليست إلا كلمات، تحمل في كيانها معانى الحق والخير، وترسم من مفاهيمها مناهج العدل والإحسان.. ثم تدع للناس أن يتناولوها كيف شاءوا، وأن يتعاملوا معها حسب ما أرادوا.. فمنهم من يجد فيها هداه، وصلاح أمره في الدين والدنيا جميعا.. ومنهم من لا يقيم لها وزنا، ولا يرفع لها رأسا، ولا يمدّ نحوها يدا.
وبهذا تختلف حظوظ الناس من هذا الخير المتاح لهم.. فمنهم من يأخذ حظه كاملا، ومنهم من لا ينال شيئا.. وهكذا تتفرق السبل، بين مهتد وضال، ومستقيم ومنحرف، وسعيد وشقى.!
إن ما في عقل الإنسان من مدركات وتصورات، وما في كيانه من نوازع واتجاهات وميول، هو من عمل الكلمة، وإنه بقدر ما يتلقى العقل من كلمات، يكون حظه من العلم والمعرفة، وإنه بقدر ما في هذه الكلمات من معانى الخير والشر، يكون اتجاه الإنسان إلى الخير أو الشر.. فالإنسان لا يعطى إلا مما عنده، والإناء لا ينضح إلا مما فيه.
والكلمات هي الرصيد الذي يملكه الإنسان، وينفق منه.
لهذا كان من تدبير الإسلام حراسة الإنسان، من أن تدخل عليه كلمات السوء، فتسكن في كيانه، وتتحول إلى كائنات حيّة تعيش معه، وتوجه سلوكه.
يقول الرسول الكريم: «لا يقولنّ أحدكم خبثت نفسى، ولكن ليقل لقست نفسى».
واللفظان معناهما واحد، وهو غثيان النفس، وتهيّؤها للقيء، ولكن النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه- يأخذ المسلمين بأدب الكلمة، ويحمى ألسنتهم من أن تعلق بها هذه الكلمات السيئة، فتتخلّق منها مشاعر خبيثة.
فالكلمة- في الواقع- ليست مجرد حروف مرسومة، أو أصوات مسموعة، وإنما هي رسل هدى ورحمة وخير، أو شياطين غواية وضلال وبلاء.!
ومن أجل هذا، كان احتفاء الإسلام بالكلمة، وتقديره لها، وحسابه لآثارها ومعطياتها.. فقد عرف الإسلام للكلمة قدرها وخطرها في تفكير الإنسان، وفى سلوكه.. إذ كانت كل ثمرات تفكيره، من مواليد الكلمة، وكان سلوكه، من وحي هذا التفكير ومتطلباته.
ومن تدبير الإسلام في هذا، أنه جعل القرآن الكريم المائدة التي يردها المسلمون، فيتزودون من كلماته وآياته، بالترتيل، والاستماع، فرضا في الصلاة، ونافلة في غير الصّلاة.
يقول اللّه تعالى لنبيه الكريم: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [106: الإسراء] ويقول له سبحانه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [4: المزمل] ويقول له جلّ شأنه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [78- 79: الإسراء].
ويدعو اللّه سبحانه المؤمنين إلى أن يغشوا مجالس القرآن، وأن يستمعوا له في صمت وخشوع، حتى تنفذ كلماته إلى قلوبهم، وتخالط مشاعرهم.. فيقول سبحانه: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [204: الأعراف].
ويعرض القرآن الكريم صورة من صور الاستماع إلى آيات اللّه وكلماته، تتجلّى فيها قوة الكلمة الطيبة وأثرها، حين تصادف الأذن الواعية، والقلب السليم، حتّى في عالم الجنّ، الذي من شأنه أن يزهد في الخير، ويتكّب طرقه.
يقول الحق جلّ وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [29- 31: الأحقاف].
وكم من الجنّ، والإنس، من سمع كلمات اللّه وآياته فلم يجد لها صدى في نفسه، ولا أثرا في وجدانه.. كما يقول سبحانه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [7- 8: الجاثية].
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ على أصحابه سورة الرحمن، حتى فرغ، قال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا.. ما قرأت عليهم من مرةفَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك نكذب.. فلك الحمد.
ومن جهة أخرى، فإن الإسلام حذّر أهله من أن يستمعوا إلى زور الكلام وباطله، ونصح لهم أن يفرّقوا بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، فيستمعوا للطيب الحسن ويأخذوا به، ويتجنبوا الخبيث القبيح ويعرضوا عنه:
فقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} [17- 18: الزّمر].. ويقول جلّ شأنه في وصف عباده المتقين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً} [72- 73: الفرقان].. ويقول سبحانه: {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [55: القصص].
فاللغو من القول، والزور من الحديث، آفة تدخل على الإنسان، وتندسّ في مسارب تفكيره، وفى خلجات وجدانه، ثم إذ هي مع الزمن، ومع ما يرد عليها من كلمات السوء- نبتة فاسدة، لا تلبث أن تستغلظ وتستوى على سوقها، ثم تنداح وتمتد حتى تكون شجرة مشئومة تملأ كيان الإنسان، وتظلل وجوده، وتغذّى من ثمرها النكد الخبيث، ما في الإنسان من أفكار، ومشاعر.
وإذا هذه الأفكار وتلك المشاعر أعمال وأقوال، تذيع السوء في النّاس، وتمشى بالشرّ والفساد فيهم! وننظر في هذه الحياة، فنجد أن كلّ ما يقع في الناس من خير أو شر، هو في الواقع أثر من آثار كلمة طيبة، أو كلمة خبيثة.. فكلمة واحدة ينطق بها صاحبها فإذا هي رحمة راحمة، تزرع المودة، وتثمر المحبّة والإخاء، فتسكن بها فتنة، وتنطفئ بها عداوة، وتحجز الناس عن حرب، لو اشتعلت نارها، لما خمدت حتى تحيل كل عامر إلى خراب، وكل حياة إلى موات.
فكم من الكلمات الطيبة، والحكم البالغة، تعيش في الناس منذ أزمان، إذا ذكروها طلعت عليهم بوجهها المشرق الكريم، فكانت سكنا للنفوس، ودفئا للصدور، وشفاء من وساوس الشرّ، وخطرات السّوء.
وكم من كلمات خبيثة مشئومة، تعيش في الناس، أزمانا متطاولة، فإذا ذكروها، خرجت عليهم بما فيها من شياطين، توسوس لهم بالشرّ، وترمى إليهم بمعاول الهدم والتدمير، فإذاهم نذر بلاء، ودعاة شقاق، وقذائف تدمير وتخريب.!
وهل الحرب والسلام، إلا مواليد كلمات خبيثة أوقدت حربا، أو كلمات طيبة أطفأت الحرب، وأقامت الناس على سلم وعافية؟
ونستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ}.
نستمع إلى كلمات اللّه هذه، وننظر إليها، فإذا هي منهج متكامل في التربية العقلية والخلقية والروحية، بما تحقق للإنسان الذي يأخذ بهديها، ويتأدب بأدبها، من قوى مدركة للحق، ومتجاوبة مع الخير، متهدية إلى منازل الكمال والإحسان.
فالذى تتمثل له الكلمة الطيبة، على هذا الوجه المشرق الطيب، الذي وصفها اللّه سبحانه وتعالى به، ثم يجعل رصيده كلّه من الكلم الطيب، آخذا ومعطيا- الذي يسلك هذا المسلك، لن يضلّ أبدا، ولن يقع له أو منه، ما يسوء.. فهو شجرة طيبة.. أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها! والذي تتمثل له الكلمة، على هذه الصورة المخفية التي صورها اللّه سبحانه وتعالى بها، فإنه يرى في الكلمة الخبيثة، وباء قاتلا، وشرّا راصدا، يهلك من يلمّ بها، ويطمئن إليها.