فصل: سورة الحجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الحجر:

نزولها: مكية.. نزلت بمكة.. بلا خلاف.
عدد آياتها: تسع وتسعون آية.
عدد كلماتها: ستمائة وأربع وخمسون كلمة.
عدد حروفها: ألفان وسبعمائة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)}.
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها. هي أن ختام السورة السابقة كان قوله تعالى: {هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} وهذا الختام يحدّث عن القرآن الكريم بأنه بيان مبين للناس، وبلاغ يبلغ بهم طريق الحق والإيمان- فكان مفتتح هذه السورة- سورة الحجر- حديثا آخر عن القرآن الكريم، بأنه كتاب وقرآن مبين، فكان هذا البدء مؤكدا لهذا الختام.
وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} {الر} مبتدأ، وما بعده خبر.
والإشارة بتلك، مشار بها إلى آيات الكتاب، والتقدير: {الر} تلك هي آيات الكتاب، وآيات قرآن مبين.
وفى الإشارة، تنويه بهذه الآيات، وإلفات الأنظار إلى جلالها وعلوّ شأنها، وأنها إنما يشار إليها كما يشار إلى النجوم في أفلاكها.
وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بأنه {آيات الكتاب}، وأنه {قرآن مبين}.
وصف للقرآن بصفتين:
الصفة الأولى: أنه آيات مكتوبه.. أي من شأنها أن تكتب، احتفالا بها، واهتماما بشأنها. وذلك في أمة أميّة، لم تكن تكتب شيئا إلا ما يشتد حرصها عليه، وضنّها به، أن يفلت من ذاكرتها شيء منه.. وهذا ما فعلته بالمعلقات، وببعض العهود والمواثيق ذات الشأن العظيم عندها! فإذا نبّه المسلمون من أول الأمر إلى أن هذا الذي يتلوه عليهم رسول اللّه من كلمات ربّه، يجب أن يكتبوه، كان ذلك إلفاتا لهم إلى أن تلك الآيات، هي عهود ومواثيق بينهم وبين ربهم.
إذا عرفنا هذا أدركنا السرّ في أن كان أول ما تلقاه النبيّ من كلمات ربّه هوقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} فكانت نعمة التعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أن اللّه- سبحانه- بالخلق أوجد الإنسان من عدم، كذلك بالعلم علّم الإنسان الكتابة، فسوّى خلقه، وأتمّ عليه نعمته! وفى هذا إشارة إلى أن خلق الإنسان لن يكمل ويقوم على الصورة السويّة، إلا إذا تجمل بالعلم، الذي وسيلته الأولى، التعلم، الذي مفتاحه الكتابة والقراءة!! والصفة الثانية التي وصف بها القرآن الكريم أنه {قُرْآنٍ مُبِينٍ}.
وفى هذا إشارة إلى أن آيات اللّه تلك، لم تكتب، ولم تودع في كتاب، لتعلّق كما علقت المعلقات، وكما أودعت العهود والمواثيق بعد كتابتها في أحراز، وإنما كتبت آيات اللّه هذه، لتقرأ وتتلى، ولتكون ذكرا دائما على ألسنة المؤمنين، تعمر بها قلوبهم، وتغتذى منها أرواحهم، وتستبصر بها بصائرهم.!
قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ}.
ربّ: حرف جر يفيد التقليل.. فإذا اتصلت به {ما} دخل على الأفعال، وهو هنا مخفف من ربّ الثقيلة.
هذا، ولم يرد هذا الحرف في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع.
وقد بذل المفسرون كثيرا من الجهد في التأويل والتخريج، ليجدوا لهذا الحرف وجها مفهوما، يستقيم مع الآية الكريمة.. وكان محصول هذا كلّه أقوالا متهافتة، رأينا من الخير ألا نقف عندها، وأن نأخذ بما أرانا اللّه سبحانه من فهم، استراحت له النفس، واطمأن إليه القلب.
فالآية التي سبقت هذه الآية، وهى التي بدئت بها السورة الكريمة، تشير إلى القرآن الكريم، وإلى آياته البينات.. {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}.
ومقصود هذه الإشارة هو لفت الأنظار، وتوجيه القلوب والعقول إلى آيات اللّه تلك، ففيها الهدى لمن نظر واعتبر.. ولكن قليل من الناس هم الذين ينظرون، ويعتبرون، ويهتدون.. أما أكثرهم فهم عن ذكر ربّهم معرضون، وبآيات اللّه، وبرسله، يمكرون.. ومن هنا كان المؤمنون دائما قلّة بالنسبة إلى أهل الزيغ والضلال.. كما يقول الحق تبارك وتعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].. وكما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [89: الإسراء].. وكما يقول جل شأنه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [116: الأنعام].
وفى قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} تقرير لهذه الحقيقة الواقعة في الحياة، وهى أن أكثر الناس هم الكافرون، وأقلّهم هم المؤمنون.. وأن هذه الآيات البينات التي بين يدى النبيّ الكريم لن يكون منها أن تهدى الناس جميعا، فليوطن النبيّ نفسه على هذا، وليعلم أنه مهما اشتد حرصه على هداية قومه، فلن يهتدوا جميعا، وحسبه أن يستنقذ من الكفر والضلال، تلك القلّة الكريمة التي استجابت له.. فقليلها خير من كثير.
فليحمل النبيّ الكريم هذا النور الذي بين يديه، وهو على علم بأنه يشق طريقه وسط ظلام كثيف، وأن قلّة من الناس، هي التي تكتحل عيونها بهذا النور، فتتبعه، وتهتدى به إلى اللّه! وفى هذا عزء للنبىّ، وتسرية له من الهموم التي كان يعانيها، من تأبّى قومه عليه، وعنادهم له.. فتلك هي سنّة الحياة، وأولئك هم الناس!! فالآية الكريمة هنا، هي خطاب خاص للنبىّ الكريم، يراد به أن يتخفف النبيّ كثيرا من مطامحه في إقامة الناس جميعا على طريق الإيمان، حتى لا تذهب نفسه حسرة، على هؤلاء الذين يموتون بين يديه، وهم على ضلالهم وشركهم، كما يقول اللّه تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [8: فاطر] وكما يقول جل شأنه: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [6: الكهف].
وعلى هذا يكون معنى الآية.. ادع يا محمد بهذا الكتاب الذي معك، وأنت على بعض الرجاء، لاكل الرجاء في أن تجد لدعوتك آذانا تسمع، وقلوبا تفقه، وتستجيب، وتؤمن.. فادع إلى سبيل ربّك، بآيات ربك، وقل: لعلّ وعسى!! أو قل: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} وهنا لابد من الإشارة إلى أمور:
أولا: المراد من كلمة {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
فإن الود للشيء، معناه الرغبة فيه، وإيثاره على غيره.
وهذا يعنى أن الإيمان لا يكون عن إكراه، وإنما عن رغبة، وحبّ، وإيثار.
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أنه ليس للنبى أن يحمل المعاندين حملا على الإيمان، وألا يجيئهم إليه عن طريق الإخراج الأدبى، تحت عواطف القرابة أو الصداقة.. إن ذلك يكون أشبه بطعام طيب يتناوله مريض، أو ممعود، في غير اشتهاء له، ولا رغبة فيه.. فمثل هذا الطعام لا تهضمه المعدة، ولا ينتفع به الجسم.. والمعنى: ربما يرغب الذين كفروا في أن يدينوا بهذا الدّين.
وثانيا: قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} حيث يبدو من ظاهر اللفظ أنه يشمل الكافرين جميعا.
ونعم، هو كذلك.. فدعوة اللّه إلى الإيمان به موجهة إلى الناس كلّهم.
وعين الرسول الكريم تنظر إليهم جميعا، ويده الكريمة ممدودة لهم كلّهم.
حيث لا يدرى من يستجيب له، ومن لا يستجيب.. فالإيمان مطلوب من الكافرين جميعا.. ومطلوب منهم كذلك أن يجيئوا إليه برغبة صادقة، ومودة خالصة.. تعمر القلب، وتشرح الصدر! ولكن قليل هم أولئك الذين يعرفون الحق ويؤثرونه على الأهل والولد.
وسؤال يعرض لنا هنا.. وهو: كيف يؤدى النبيّ رسالته، وكيف يعطيها كل مشاعره وأحاسيسه، وهو على يقين من أنه لن يبلغ بدعوته إلى قلوب الناس جميعا؟ أليس في ذلك توهين لعزمه، وإخماد لجذوة الأمل التي ينبغى أن تكون مشتعلة في نفس كل داعية، حتى يعطى دعوته كلّ جهده، وعزمه، وصبره؟
والجواب: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسل من قبل ربه برسالة، ومأمور بأن يبلغها، وأن يجتهد في تبليغها، وأنه إن لم يفعل فما بلغ الرسالة، ولا أدّى الأمانة.
وقد امتثل النبي أمر ربه، وصدع به، واجتهد الاجتهاد كلّه، حتى لقد كادت نفسه تذهب حسرة وأسى على من كان يفلت من يد ه، ويموت على الشرك والضلال من قومه.
فهذا التوجيه الرباني الذي حمله قوله تعالى إلى النبي الكريم: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} هذا التوجيه، هو دعوة إلى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتخفف من هذا الشعور الضاغط عليه، والمؤرّق له، وأن يكون على علم من أنه لن يهدى من أضلّه اللّه، وختم على سمعه وقلبه.. وهم كثير غير قليل.. وقد عتب سبحانه وتعالى على النبي الكريم مشفقا عليه من هذا العناء الذي يعنّى به نفسه، في شد المعاندين شدّا إليه، وهم يدفعونه، ويتأبّون عليه.. فيقول سبحانه: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [5- 7: عبس].
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
فى هذه الآية ما يؤيد الفهم الذي فهمنا عليه الآية السابقة، من أنها دعوة إلى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يرفق بنفسه، وألا يجعل من همّه أن يقيم الناس جميعا على طريق الإيمان، فذلك أمر لا يقع أبدا.
وفى قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} توكيد لهذه الدعوة، وإخلاء ليد النبيّ الكريم من الإمساك بهؤلاء الذين يحرنون عليه، ويشردون منه.. فليدعهم وما اختاروا لأنفسهم من حياة، كل همهم فيها أن يأكلوا، ويتمتعوا، ويتلهّوا بالآمال الكاذبة، التي تقيم لهم من دنياهم تلك، عالما من سراب، تتراقص على أمواجه عرائس زائفة، ينخدع لها الحمقى والسفهاء من الناس، ويقطعون العمر في جرى لاهث وراءها!- وفى قوله تعالى {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين رضوا بهذه الحياة، واطمأنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، واستهلكوا وجودهم في لذاذاتها الفانية.. إنهم في سكرة يعمهون.. فإذا جاء أجلهم، صحوا من سكرتهم، ووجدوا ما عملوا من سوء حاضرا بين أيديهم، يقودهم إلى عذاب السعير.
قوله تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ} في هاتين الآيتين الكريمتين، وعيد بعد وعيد، لهؤلاء المشركين.
وأنهم إذا كانوا لم يؤخذوا بكفرهم وعنادهم وضلالهم، إلى هذا اليوم الذي هم فيه، فما ذلك إلا لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يأذن بهلاكهم بعد، وذلك لما اقتضته حكمته.. فكل قرية لها عند اللّه أجل معلوم، كما أن لكل إنسان أجله الموقوت... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ}.
فلا يغترنّ هؤلاء الكافرون بإمهال اللّه سبحانه وتعالى لهم.. فذلك ابتلاء منه سبحانه كما يقول جلّ شأنه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [109- 111: الأنبياء].

.تفسير الآيات (6- 15):

{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} لذّكر: هو القرآن، كما يقول الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
والآية الكريمة تحدث عن مقولة من مقولات المشركين المنكرة، وتكشف عن موقف من مواقفهم السفيهة، من النبيّ، إذ يلقون النبيّ بهذا الاستهزاء، ويلقون إليه بتلك السبّة المفضوحة.. {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.
يقولونها هكذا.. في تأكيد وإصرار!- وفى الإشارة إلى النبي بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} استصغار للنبىّ وإحقار له، إذ ينادونه من مكان بعيد.. {يا أَيُّهَا الَّذِي}.
مع إعراضهم عن ذكر اسمه.. ومناداته بالصفة التي جاءهم عليها، إنما كأنه إنكار لتلك الصفة، وتشنيع عليه بها.. إذ كانوا ينكرون على النبي أن ينزل عليه هو الذكر، من بينهم، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25: القمر] وقوله تعالى: {لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
يكشف عما أراده المشركون بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وأنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وسخرية وتكذيبا، ولهذا جاء قولهم: {لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} تحدّيا للنبىّ أن يدفع التهمة التي يتهمونه بها، وهى الادعاء الكاذب، بأنه يحمل إليهم آيات اللّه التي أوحيت إليه.. فإن كان ذلك الذي يدّعيه حقّا، وأنه متصل بالسماء، فليأت بالملائكة تحدثهم، وتشهد له أنه رسول اللّه.. عندئذ يعرف صدقه، ويقبل قوله! ولو ما: حرف تحضيص، بمعنى هلّا.
قوله تعالى: {ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} أي لا ينزل اللّه سبحانه الملائكة، استجابة لأهواء أصحاب الضلالات، وإنما ينزلهم سبحانه بما يأمرهم به، كالسفارة بينه وبين رسله، أو كالعذاب الذي يرسلهم به إلى من يريد إهلاكهم من القوم الظالمين. وكل هذا حقّ من عند اللّه سبحانه..!
وفى قوله: {وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا استجاب اللّه لهم، ونزلت الملائكة عليهم كما يقترحون، فإنهم لا ينزلون عليهم إلا بالهلاك والبلاء، بعد أن نزلوا عليهم على يد رسوله بالرحمة والهدى.
وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [8: الأنعام].
وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين سخروا من النبيّ بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} فجاء قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} كبتا لهؤلاء المشركين، وردعا لهم، وإعلانا بما يملأ صدورهم حسدا وحسرة.. فقد أبوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبيّ إنه تلقّى الذّكر منها، فقالوا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولم يقولوا- ولو على سبيل الاستهزاء- نزّل اللّه عليه الذكر.. فجاءهم قول الحق جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} بهذا التوكيد القاطع.. ثم جاء قوله تعالى {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مؤكدا لهذا التوكيد.. إذ أنه سبحانه هو الذي يتولى حفظه من كل عبث، وصيانته من كل سوء.. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند اللّه.. فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه.. فإنهم لو فعلوا، لكان لهم من ذلك حجة على أن ليس من عند اللّه! وقد حفظ اللّه القرآن الكريم، هذا الحفظ الربانىّ، الذي أبعد كلّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يد بسوء، على كثرة الأيدى التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها اللّه، وأبطل كيدها وتدبيرها.. وهكذا ظلّ القرآن الكريم، وسيظل إلى يوم البعث، حمى اللّه الذي تحرسه عنايته، وتحفظه قدرته، فلم تنخرم منه كلمة، أو يتبدل منه حرف.. وتلك حقيقة يعلمها أولو العلم من خصوم الإسلام، كما يؤكدها تاريخ القرآن الكريم، الذي تولّى النبيّ الأمى كتابته في الصحف، كما تولّى غرسه في صدور المؤمنين.. كلمة كلمة، وآية آية.
سئل بعض العلماء: لم جاز التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة، ولم يجز هذا على القرآن الكريم؟ فقال: إن الكتب السماوية السابقة قد وكل اللّه حفظها إلى أهلها، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} [44: المائدة]. فأهل الكتاب هم الذين استحفظوا أي وكّلوا بحفظ كتبهم.. ومن هنا جاز أن يفرطوا في هذه الأمانة التي في أيديهم، وأن يدخل عليها ما دخل من تبديل وتحريف.. أما القرآن الكريم فقد تولّى اللّه سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكله إلى أهله.. فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
ومن ثمّ كان من المستحيل أن يدخل على القرآن الكريم- وهو في حراسة اللّه- تغيير كلمة، أو تبديل حرف!!.
والسؤال هنا: لم وكل اللّه سبحانه وتعالى حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها، ولم يتولّ سبحانه وتعالى حفظها، وهى من كلماته، كما تولّى ذلك سبحانه، بالنسبة للقرآن الكريم؟.
والجواب على هذا، واللّه أعلم:
أولا: أن الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها.. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلها في جميع أوطانها وأزمانها.
فلو أن الكتب السماوية السابقة، كان لها هذا الحفظ من اللّه سبحانه، لما دخلها هذا التحريف والتبديل، ومن ثمّ لم يكن للقرآن الكريم هيمنة عليها، ولم يكن ناسخا لها.. الأمر الذي أراد اللّه سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أن يجيء له.
وثانيا: هذا التبديل والتحريف الذي أدخله أهل الكتب السابقة على كتبهم، لا يدخل منه شيء على آيات اللّه وكلماته.. كما لم يدخل شيء من ذلك على آياته الكونية، التي يغوى بها الغاوون، وينحرف بها المنحرفون.
وكما لا يدخل شيء من النقص على ذاته الكريمة، أو صفاته وكمالاته، إذا جدّف المجدفون على اللّه، ونظروا إلى ذاته وصفاته بعيون مريضة، وقلوب فاسدة، وعقول سقيمة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
الشّيع: جمع شيعة.. وشيعة المرء، من يجتمعون إليه من أهل وعشير.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إشارة إلى أن كل رسول أرسل من عند اللّه، كان مبعوثا إلى قومه الذين يعرفهم ويعرفونه.. كما يقول سبحانه: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [4: إبراهيم].
وفى قوله سبحانه: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} مواساة كريمة للنبىّ، وتخفيف عليه، مما يلقى من قومه من عنت ومكروه.
فتلك هي سبيل الرسل مع أقوامهم.. كلها أشوك، يزرعها السفهاء والحمقى في طريق رسل اللّه إليهم.. فليس الرسول إذا بدعا من الرسل، فيما لقى من قومه، من سفاهات وحماقات، فلقد كان إخوانه الذين سبقوه من رسل اللّه، يلقون مثل ما لقى، من استهزاء وتكذيب.. بل ومنهم من رجم وقتل، ولم يشفع لهم في ذلك، ما بأيديهم من هدى، ولا ما بينهم وبين أقوامهم من آصرة النسب والقرابة.
قوله تعالى: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}.
يقال سلك الطريق: أي سار فيه، ومنه قوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [69: النحل].. وسلك الشيء في الشيء: إدخاله فيه، ومنه قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [32: القصص].. وقوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [27: المؤمنون] ومنه السلك، وهو الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ} إشارة إلى أن ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسل اللّه، واستهزاء بهم، هو الذي كان من هؤلاء المجرمين الذين وقفوا من محمد هذا الموقف اللئيم، فكذبوه، وسخروا منه، وآدوه بكل ما قدروا عليه من ألوان الأذى.. فكأن هذا الضلال المستولى على بعض النفوس الخبيثة والطبائع المنكرة، هو داء متنقل، وميراث موروث، يأخذه الخلف عن السلف: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}.
أي أن الضلال القديم، ينغرس في قلوب هؤلاء المجرمين من مشركى قريش، فيكونون أشبه بحبة من حبات هذا العقد الذي ينتظم المقابح والمساويء، ويجمع الأشرار إلى الأشرار.
قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
الضمير في قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} يرجع إلى هؤلاء المجرمين، وهم مشركو قريش، والضمير {به} يعود إلى النبيّ الكريم، الذي جاء ذكره في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ}.
والحديث عنه بضمير الغائب، تنويه بقدر النبي وتكريم له، وإشعار بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى الدفاع عنه، ومحاسبة المجرمين على استهزائهم به.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى القرآن الكريم، المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
وفى قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
تهديد ووعيد لهؤلاء المجرمين من كفار قريش، وأن سنّة اللّه التي مضت في السابقين، كانت الهلاك والبلاء للمكذبين، والنصر، والعافية للمرسلين وأتباع المرسلين.. ولن تتبدل سنة اللّه مع هؤلاء المشركين من قريش ومن معهم! قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}.
عرج إلى المكان: صعد إليه، والعروج، هو الصعود من أسفل إلى أعلى.
وسكرّت الأبصار: عميت وعشيت، وزاغت، شأن من تستولى عليه الخمر، ويصيبه دوار السّكر.
وفى الآيتين الكريمتين، ما يكشف عن الضلال الكثيف المنعقد على قلوب هؤلاء المجرمين، وأنهم- وهم في هذا الضلال- لا يرون لمعة من لمعات الهدى أبدا، ولو جاءتهم كل آية مبصرة.
فلو أن اللّه سبحانه فتح لهم بابا من السماء، فظلوا فيه يعرجون ويرتفعون صعدا، حتى يشهدوا الملأ الأعلى، وما فيه من آيات، تدعوهم إلى الإيمان باللّه- لأنكروا ما تشهده حواسّهم، ولاتّهموا أعينهم بأنها قد وقعت تحت حدث من الأحداث، فذهب بقدرتها على الإبصار.. أو لقالوا إن قوة خفية سحرتهم، وخيّلت إليهم هذا الذي يرونه. وهذا يعنى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم تلك الآيات التي يقترحونها على النبيّ. إذ أن لهم، من ضلالهم، مع كل آية مكر، وفى كل معجزة قاهرة قول.