فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (1):

{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}.
التفسير:
سبحان: مصدر، منصوب، بفعل محذوف تقديره سبّح اللّه تسبيحا، أو سبّحه سبحانا.
أسرى: أسرى بكذا، أي سار به ليلا.. وأصل الفعل من السرّ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور.. ولأن الليل يستر الناس، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس، فقد سمّى السير فيه سرى.. وسمّى تحرك الليل نفسه، سرى، وذلك لأنه يقطع رحلته في دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له، ويرصد مسيرته.. فأول الليل وآخره سواء، في مرأى العين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ}.
فالليل نفسه يسرى، أي يسير متخفّيا في ظلام، مستترا به، لا ننكشف حركته للناس..!
وعلى هذا، فكل حركة، أو عمل، يكون في خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ سرى، فيقال: أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا، دون أن يطلع عليه أحد.
وقيد السّرى باللّيل هنا، يراد به تحقيق أمرين:
أولهما: اتخاذ الليل ستارا للسير، وظرفا حاويا له، حتى لا تنفذ إليه الأبصار.
وثانيا: التحرك في حذر، وحيطة، وفى خفاء، دون جلبة أو ضوضاء.
الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح.. فإن الليل وإن كان سترا يحجب الأبصار، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات، والإمساك بها.. ولعلّ هذا هو ما نلمحه في قوله تعالى للوط عليه السلام: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [81: هود] وقوله تعالى لموسى عليه السلام: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [23: الدخان].. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس، في إخفاء كل حركة، وكل صوت، ينبئ عن هذا السير، أو السّرى..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري في سلاسة، ورفق- سمّى {سريّا} كما يقول سبحانه وتعالى لمريم: {فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [24: مريم].
وقد توسعنا في شرح كلمة {أسرى} وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ في قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- في رأيهم على هذا القول- ليس له أثر في معنى لفظ الإسراء.
إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة {ليلا} عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر في ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل.
فقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} يشير إلى أمرين:
أولهما: أن ظرف الإسراء كان ليلا، وثانيهما: أنه كان بحيث لم يشعر به أحد، بل وقع في ستر، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ، القريبين منه، الذين كانوا يشاركونه الحياة في بيته، وفى الحجرة التي كان ينام فيها.
ونستظهر من هذا أمرين أيضا:
أولهما: أن الإسراء بالرسول، صلوات اللّه وسلامه عليه، كان بجسده، ولم يكن بروحه الشريف وحده.. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ {أسرى} الذي يدلّ في ذاته على الستر والخفاء، ولما جعل هذا السّتر في مضمون ستر آخر هو الليل، كما يقول سبحانه: {ليلا}.
وثانيهما: أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم، لم يكن معجزة متحدّية، وإنما هو رحلة روحيّة، واستضافة من اللّه الرحمن الرحيم، للنبىّ، في رحاب ملكوته، حيث يشهد من ملكوت اللّه، ويتزود من ألطاف اللّه، ما لم يشهده بشر، وما لم يتزود به إنسان! هذا، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل، امتلأت به كتب التفسير، والسّير، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال، وكثير من الكذب والدسّ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه، وتغيب عن نظر الناظر فيه، مواقع العبرة والعظة منه.
ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول الإسراء، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص اللّه سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين.
وقفة مع الإسراء والمعراج:
قد رأينا في مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
فهذه الآية، هي كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء.
وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة الإسراء، باعتبار أن الإسراء هو أبرز حدث فيها، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة.
وإذن، فالحديث الحقّ عن الإسراء، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية، وألا يجاوز حدودها.
والإسراء- كما يفهم من هذه الآية- هو رحلة سماوية، أرادها اللّه سبحانه لنبيّه الكريم، ليريه سبحانه وتعالى من آياته، ما لا تراه العيون، ولا تتظنّاه الظنون! وحدود هذه الرحلة- كما يذكر القرآن- هى: من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وزمانها، لحظة من لحظات الليل.. كما يقول سبحانه: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}.
فالآية صريحة في الإسراء وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم، وأنه واقعة حقيقية، وليس رؤيا مناميّة، وإلّا لما كان له ذكر خاص في سورة خاصة.
والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث الإسراء، ليس من معطيات الآية الكريمة، من جهة، ولا تستدعيه غاية الإسراء، ولا يحتاج إليها الكمال الذي يجب أن يكون عليه- من جهة أخرى.
فالإسراء، على ما تشهد به الآية- لم يكن- كما أشرنا من قبل- معجزة متحدية، وإنما هو- كما قلنا- رحلة روحية إلى بيت المقدس، مجمع الأنبياء، وأول قبلة للإسلام!!
دواعى هذه الرحلة:
كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- قبيل الإسراء، في وجه خصومة عنيفة ظالمة، من قومه.. يدعوهم إلى الرشاد والخير، فيلقونه بالتكذيب والبهت، وبرمونه بالسّوء والأذى.. وهو رحيم بهم، حريص على هدايتهم، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم، إذ يراهم يتمزقون شعبا، ويتقطعون أوصالا، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها.
وليس حال أدعى من هذه الحال، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق، إلى جوّ آخر، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس! ولكن: إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء، موجه برسالتها؟
إنه لا مفرّ للنبىّ- إن أراد أن يظل في سجل الأنبياء- من أن يثبت في موقفه، لا يزايله، ولا يتحول عنه أبدا، وإن هلك! وقد قالها رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لعمّه أبى طالب، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه، ويلقى قومه بالموادعة، حتى لا تتمزّق وحدة قريش، ويقتل بعضها بعضا، فقال قولته الخالدة: «واللّه يا عمّ لو وضعوا الشّمس في يمينى ولقمر في بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه»!
ولكن.. ها هي ذى الأحداث تزداد شدة، والشر يشتد اشتعالا، فتأتمر قريش فيما بينها على أن تكون جبهة واحدة في وجه النبي، ومن يقف إلى جواره من قومه.
وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب- رهط النبي الأدنين- أبت عليهم العصبية العربية، أن يتخلوا عن النبي، وأن يسلموه لقريش، تنال منه، وتستبد به! وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، فلا يزوّجوهم، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم.
بل إنها القطيعة التامة في كل شيء بتواصل الناس به.
وقد واجه بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر، وإباء، وأبوا أن يعطوا الدنيّة في هذا الامتحان، الذي تعرف فيه معادن الرجال.. فجمع أبو طالب- عميد بنى هاشم- أهله، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب.
واستمر هذا الحصار، نحو ثلاث سنين، بلغ بهم الجهد فيها غايته، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب! وطبيعى أن النبي الكريم، كان خلال هذه المحنة يحمل في نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب، وآل هاشم، من جهد ومشقة.. فكل ما كان يقع من آلام في محيط أفرادهم، فردا فردا، وفى جماعاتهم، أسرة أسرة، كان يقع على مشاعر النبي، ويهيج خواطر الألم والإزعاج في نفسه. قبل أن يصل إليهم.. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج! ذلك أنه- وهو النبي- يألم لآلام الناس جميعا، ويود لو حملها عنهم، أو رمى بها في مكان سحيق.. فكيف بما يقع في نفسه من هذا، للآلام التي يراها في أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد، خلال تلك المحنة، إنما كان بسببه هو، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله، لم يكن بسبب العقيدة والدّين، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين، لهان الأمر، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين! إن الآلام النفسية والروحية، بل والجسدية، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله.. كانت من أقسى ما لقى النبي في طريق دعوته من آلام.. إنه حمل آلام أهله كلها، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها.. فمن أجل النبيّ احتملوا هذه التجربة القاسية، وفى سبيل حمايته، والدفاع عنه، واجهوا هذه القطيعة المرة، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين!
رحلة في العالم الأرضى:
وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه في نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته.
كان لابد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين.
ومما ضاعف من وقع الآلام في نفس الرسول، أن سقط في ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط اللّه عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم اللّه عز وجل- ما كادت تنتهى هذه المحنة.
حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء في عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟
إنه كان في أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي.
إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات اللّه وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة في حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات اللّه، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن آخر، وأقوام آخرين غير قومه.. وستدور معارك، وتسيل دماء، ويبتلى النبي في نفر كريم عزيز من أصحابه، يسقطون في هذه المعارك، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم، بعد أن يجيئه نصر اللّه، ويفتح مكة، ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا! إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول، هو- كما قلنا- إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس، في شقّ الأرض، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ.. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات، لما يلقى فيها من حبّ! نقول إنه في هذا الجو الثقيل الخانق، الذي كان يضيق به صدر الرسول في مكة- خرج إلى الطائف، يعرض نفسه، ويقدّم دعوته إلى ثقيف يلتمس منهم الاستجابة له، والنصرة لدعوته، والمنعة بهم من قومه.. وكان معه في رحلته تلك، مولاه زيد بن حارثة! ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم، فدعاهم إلى اللّه، فلم ير منهم إلا إعراضا، وسفها، وتكذيبا، واستهزاء.
وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: واللّه لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على اللّه. ما ينبغى لى أن أكلمك!! إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول اللّه من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات اللّه وسلامه عليه: «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..».
إذ كره رسول اللّه، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى الانتقام منه، ومضاعفة الكيد له.. ولكن القوم لم يفعلوا، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه! وترك الرسول الكريم- بأبى هو وأمي- الطائف على تلك الحال، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة، وفاض صدره، ضيقا وحزنا! ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال، لا يزال يمسك منها على شيء من الأمل والرجاء، ولا يزال يطمع في خير من أهل أو صديق فيها! وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك، حتى تجتمع نفسه، وتسكن خلجاته ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام! وفى ظل هذه الشجرة، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه، يناجيه، ويطلب العون والمدد من رحمته، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء في مالك الملك، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض.. فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس!يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضىولا حول ولا قوّة إلا بك».
بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق باللّه، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، في صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر:
وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى نخلة وقضى فيه ليلته، ثم قام في جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم!.
وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبيّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (الآيات: 29- 32) من سورة الأحقاف.
فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبيّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع في كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا من جنود اللّه- لا يراهم- يحفّون به، ويستمعون إليه، ويؤمنون به، وبالكتاب الذي أنزل عليه.
ومن هذا الذي يستمع إلى كلام اللّه، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من الجنّ.
الجنّ الذي يضرب به المثل في الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!.
فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر في نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟
ولا شك أن في هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول اللّه، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به في الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير في طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.
وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!.
ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه في مكة- فإنه ما زال في حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد في سماء مكة، بينه وبين قومه.
لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، في الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لابد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع في كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها في هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم اللّه بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.
فكانت رحلة الإسراء!
رحلة في العالم العلوي:
وفى الإسراء إلى العالم العلوي.. يجد الرسول من آيات ربّه، ومن دلائل قدرته، وعجائب ملكوته، ما تذوب في عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه.
فلم يكن الإسراء في صميمه، إلا رحلة روحية لرسول اللّه، في عالم النور، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف.. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق، في سبيل اللّه، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها، واحتمل ما احتمل من أجلها.
وماذا يكون للرسول من جزاء في هذه الدنيا، على مالقى في سبيل الدعوة من عنت وإرهاق، وما أصابه من ضرّ وأذى في نفسه، وأهله، وصحبه؟ إن كلّ ما في الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء.. وإن الرسول الزاهد في كل ما في هذه الأرض، وما عليها من مال ومتاع.. فلم يكن إلا ما في السماء، هو الذي يناسب حال الرسول، ويليق به! وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى، أول سورة الإسراء.
والذي ذكره من أمر الإسراء، أنه وقع ليلا، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، فهو في مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام.
يقول ابن إسحق في سيرته: وكان مسراه- صلّى اللّه عليه وسلّم- وما ذكر منه، بلاء وتمحيصا، وأمرا من أمر اللّه، في قدرته وسلطانه.. فيه عبرة لأولى الألباب، وهدى ورحمة، وثبات لمن آمن به وصدّق، وكان من أمر اللّه على يقين.. فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وقد طلع النبيّ على قريش بهذا الخبر، وأنه أسرى به في ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس، فبهتوه، وكذّبوه، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه.. وقال قائلهم: هذا واللّه الإمر، واللّه إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة.. أفيذهب محمد في ليلة واحدة ويعود إلى مكة؟
ولم يقف الأمر عند كفّار قريش، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، فارتدّوا عن الإسلام، وارتابوا.
وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر- رضى اللّه عنه- لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا: ها هو ذا في المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر:لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟ فو اللّه إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه.. فهذا أبعد مما تعجبون منه.
ونحن نشكّ في هذه الرواية.. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شيء من أمر النبيّ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه، وما كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول اللّه، لا يفارقه أبدا!
ونعود إلى الإسراء فنقول- كما قلنا من قبل- إنه كان شأنا خاصّا بالنبيّ، ورحلة روحيّة في الملأ الأعلى، أرادها اللّه سبحانه وتعالى له، ليشرح بها صدره، وينعش بها روحه، ويذهب بها ما ألمّ به من ضيق وحزن، بموت عمّه، وزوجه، وبتألّب قريش عليه، وعلى آله، وبما لقى من أهل الطائف من لقاء بارد ثقيل، وردّ سمج قبيح.
وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء.. فهو بهذا المعنى، ليس معجزة للتحدّى، تقف من الناس موقف التعجيز لهم، والتحدّى بالإتيان بمثلها، وإنما هي إخبار بأمر شهده الرسول وحده.. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه، أو يشك في شيء مما يقول.
إنه أمين السّماء.. لا يكذب أبدا.. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل في هذا الدين، ويؤمن باللّه ورسوله.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [7: الحشر].
إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين.. فمن آمن باللّه، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا، حتى يؤمن برسوله، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله، ويسلّم به، قبل أن ينظر فيه، أو يعرضه على عقله.. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا في قول الرسول، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به.
فهذه آيات اللّه التي كانت تنزل على الرسول الكريم، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام اللّه، إلّا إيمان المؤمنين به، بأنه رسول من عند اللّه، وإن كان في آيات اللّه ذاتها ما يحدث عن إعجازها، وأنها ليست من قول بشر.. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر في وجه آيات القرآن، واستعراض ما فيها من قوى الحق، وشواهد الإعجاز!
هذا ما ينبغى أن نقف عنده من حديث الإسراء، فإذا كان لنا أن نمدّ النظر إلى ماوراء هذا، فهو ما جاء من ذكر المسجد الأقصى، وجعله معلما من معالم الإسلام، يناظر المسجد الحرام.. وفى هذا، ما يصل مشاعر المسلمين بهذين المسجدين، ويجعلهما معا آيتين من آيات اللّه في الأرض، يستظلّ المسلمون بظلهما، ويقومون على عمارتهما وتأمين السّبل إليهما.. وهذا لا يكون إلا إذا كان هذان المسجدان داخل دار الإسلام، وتحت يد المسلمين، الأمر الذي يكشف عن وجه من وجوه إعجاز القرآن، في إخباره بالغيب، الذي لم يكن يقع لنظر أحد من المسلمين يومذاك، أو يدور في خواطرهم.
وقد مكّن اللّه للمسلمين من المسجد الأقصى، ودخل هو وما حوله في دار الإسلام، منذ خلافة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وإلى يوم الدين.. وإنه على رغم ما بذل أعداء الإسلام من جهود في إخراج هذا البيت من يد المسلمين- فإنه لا يلبث أن يعود إليهم، كما يعود إليهم، كما يعود المسافر إلى أهله، بعد رحلة، قد تطول وقد تقصر! ونحن نكتب هذا، في سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة (1969 من الميلاد) وبيت المقدس في يد اليهود، منذ عامين تقريبا، اليهود الذين عملوا لذلك من قبل ظهور الإسلام يوم كانوا خاضعين لحكم الرومان، ثم عملوا له بعد الإسلام، فأشعلوا الفتن، وأقاموا الحروب، وأغروا النصارى بالمسلمين، حتى وقع الشر بينهم في تلك الحروب التي اتصلت نحو قرنين، والتي عرفت بالحروب الصليبية.
كل هذا ليجد اليهود فرصتهم إلى هذا البيت الحرام، وهاهم أولاء قد وجدوها اليوم، مستعينين بأموالهم، وسلطانهم على أمريكا، التي ساندتهم، ووقفت وراءهم، وأمدتهم بالعتاد والرجال والأموال.
ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم، ولكن الذي ندريه ونستيقنه، هو أن هذا البيت لابد أن يعود للمسلمين، وأن يدخل في دولة الإسلام، وأن غربته في يد اليهود ستنتهى حتما، ويعود الغريب إلى أهله.. إن شاء اللّه.
هذا عن الإسراء.
أما المعراج، فإن حديثه يطول.. ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع.
قصّة المعراج:
والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه.
والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هي ما جاء في أول سورة النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}.
وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.. وذلك ليكون المعراج في حدود هذا الإطار، الذي يومأ فيه إليه إيماء، ولا يتحدّث عما احتواه من أسرار وعجائب، لم يطلع عليها إلا الرسول وحده، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..!
وقد رويت عن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، في بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت اللّه، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس في هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، في هذه القصة، دور كبير في دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال في هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به.
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى في حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عما افترض اللّه على أمّته من الصلاة، فلما قال النبيّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها اللّه سبحانة وتعالى على المسلمين في اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
ثم تقول الرواية: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبيّ إلى موسى وأخبره بما خفف اللّه سبحانه وتعالى من الخمسين إلى الأربعين- قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبيّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى فيطلب منه أن يسأل زيادة في التخفيف.. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة.. ثم خمسة.
وعندها قال النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى».
.!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا في العمل وخمسين في الأجر!!.
هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا في اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبيّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة في أن يكون من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن تجيء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة في أن يغدو النبيّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟
ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لابد من هذا؟.
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة في هذا، فيجعل من تمام الرواية: «أنها خمس في العمل وخمسون في الأجر»!!
وهذا الذي جعله واضع الرواية وجها داعيا إلى قبولها، هو في الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها.. إذ ليست الصلاة وحدها هي التي تختص بهذه المزية في اعتبار الصلاة بعشر صلوات، بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند اللّه سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}.
هذا، وقد فصّل القاضي عياض في كتابه الشفا، مذاهب القول في الإسراء والمعراج.. وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟
يقول القاضي عياض:
اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده.. على ثلاث مقالات:
1- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.. وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن البصري- والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.. وحجتهم قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وما حكوه عن عائشة رضى اللّه عنها من قولها: ما فقد جسد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
2- وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة.
وهذا هو الحق. وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.. وهو قول الطبري، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين.. وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين، والمتكلمين، والمفسرين.
3- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء:ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال:
والحق من هذا، والصحيح إن شاء اللّه، أنه إسراء بالروح والجسد في القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار.
ثم يقول:وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال:بروح عبده ولم يقل {بعبده} وقوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى}.
ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.
وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي في تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: والأكثر- أي من آراء العلماء-
أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجّب قريش واستحالوه..
ثم يقول: والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية!! وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، وأن اللّه سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات..
والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض.
وهذا يعنى أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف في نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع في أجزاء الكائن الواحد.
فالعين مثلا هي من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم الذرّة أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف في بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام في صورها وأشكالها.
وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره في قوله: إن الأجسام متساوية في قبول الأعراض يعنى أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا كثيفا كما كان.. كل ذلك في لحظة خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب، دون أن يخرج الجسد عن سلطان الروح في حالى تحليله أو تركيبه..! وذلك هو الإعجاز أو المعجزة التي تظهر من انتقال النبي الكريم بجسده الشريف إلى المسجد الأقصى، أو العروج به إلى السماء في طرفة عين! ونعود بعد هذا، فنقول: إن الخلاف في أن الإسراء والمعراج، كان بالجسد، وبالروح، خلاف لا يؤثر في حقيقة الإسراء، وما نال الرسول الكريم فيه من ألطاف ربه، وما رأى من آياته.. وإن قدرة اللّه سبحانه وتعالى لا تتقيد بتلك القيود التي تحكمها الضرورات البشرية، وخير من هذا الخلاف الذي يذهب بجلال الإسراء، ويعبث بالستر الخفىّ الملقى عليه من عالم الروح- خير من هذا أن ننظر إلى الرسول الكريم في موكب جلاله وعظمته، تحفّ به ألطاف ربه، وتحدوه رعايته، إلى حيث يسبح في عالم الحق، ويطعم بروحه من طيبات الملأ الأعلى.
أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما.
إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت في نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.. ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا المكياج.
المصطنع يجعل منها مسخا أكثر منها حقيقة.
فالبراق مثلا.. الذي يأخذ في حديث الإسراء لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا أتانا ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..!
ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة في هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء في نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون في مرابط الحيوان! وعلى أىّ فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبيّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو محمد.
فقد عاد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة.
فإن خيرها كلّه كان مخبوءا في كيانه، منطويا في صدره، ساريا في روحه.
إنه شأن من شأن اللّه مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود.
وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا للّه، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم، وأفاض عليه ما أفاض من ألطافه ومننه.. وهذا ما يدعونا إليه اللّه سبحانه وتعالى في قوله جل شأنه:
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فسبّحوا اللّه واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.