فصل: تفسير الآيات (40- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (40- 44):

{أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً}.
ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، الشرك، والخطر الذي يتهدّد الناس منه.. فناسب أن تجيء هذه الآية، لتضبط المشركين من أهل مكة، وهم متلبسون بشركهم باللّه، وعبادتهم الملائكة واتخاذهم لهن ربّات، على حساب أنهن بنات اللّه! وفى هذا الاستفهام إنكار عليهم، وتوبيخ لهم أن يجعلوا للّه البنات، على حين أنهم لا يرضون أن يولد لهم البنات.. فكيف يئدون البنات، ثم يعبدونهن؟ ثم كيف يجعلون للّه البنات، ويجعلون لهم البنين؟ أهذا يتفق- حتى في منطقهم- مع مقام اللّه الذي يعبدون بناته؟ إنّ أقل ما يقتضيه هذا المنطق أن يكون أبناء اللّه ذكورا، إذ كان الذكور عندهم في مقام محمود محبوب! ولهذا جاء قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} [21- 22: النجم].. منكرا عليهم هذه القسمة الجائرة، مسفّها أحلامهم الفاسدة، وتصوراتهم المريضة!- وفى قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً} اتهام لهم بهذا القول المنكر الشنيع الذي يقولونه على اللّه سبحانه وتعالى.. ووراء هذا الاتهام إدانة، وعقاب راصد شديد! وأصفاه بالشيء: اختصه به، وجعله خالصا له.
وفى نسبة الإصفاء إلى اللّه: {أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه هو الذي يهب لكم ما يهب من بنين، إنه لا يستقيم مع منطق أن يخصهم اللّه تعالى بالبنين، ثم يجعل لنفسه البنات؟
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً}.
التصريف: عرض الأمر على وجوه مختلفة، حتى يظهر ظهورا تاما، ويتضح وضوحا مبينا.. وفى القرآن الكريم معارض كثيرة للقضايا التي عرضها على العقل الإنسانى، حتى يراها على كل وجه من وجوهها، وذلك زيادة في البيان، حتى لا يكون للناس على اللّه حجة بعد هذا البيان المبين..
وفى قوله تعالى: {لِيَذَّكَّرُوا} إشارة إلى الحكمة من هذا التصريف الذي جاء في القرآن لآيات اللّه.. وذلك ليكون للناس منه عبرة وذكرى، حيث تلقاهم العبر، ناطقة الدلائل والشواهد.
وفى قوله تعالى: {وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} إشارة إلى ما في الناس، وخاصة هؤلاء المشركين من قريش، من عناد، يعمى أبصارهم عن الحق، ويصمّ آذانهم عن الاستماع إلى آيات اللّه وكلماته.. فلا يبصرون شيئا، ولا يعقلون حديثا.
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}.
فى هذه الآية ردّ على مفتريات المشركين، على اللّه، واتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه، ويجعلونهم شركاء له، قائلين: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}.
فاللّه سبحانه وتعالى- عند المشركين- هو إله مع آلهة، وربّ مع أرباب، وإن كان له المقام الأول فيهم.. وهذا ما لا يجعل للّه السلطان المطلق في هذا الوجود، بل يجعل لهذه الآلهة، وتلك الأرباب شأنا معه، كشأن الأمراء مع الملك مثلا.
الأمر الذي لابد أن ينتهى يوما إلى منازعة وشقاق، بين هؤلاء الآلهة وبين الإله الأكبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي لو كان مع اللّه آلهة، لتطاولت أيديهم إلى صاحب العرش، ولنازعوه السلطان، فرادى أو مجتمعين.. وهل سلم صاحب سلطان من أن ينازعه في سلطانه من هم دونه من أمراء، ووزراء؟ فكيف يكون مع اللّه سبحانه وتعالى آلهة أخرى ثم لا ينازعونه سلطانه؟ وهل إذا وقع تنازع في هذا الملكوت، يستقيم له نظامه هذا الذي يقوم عليه؟
قوله تعالى: {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً}.
هو تنزيه للّه، وتقديس لمقامه أن يقال فيه هذا القول المنكر، وهو ما يقوله المشركون، من أن للّه أبناء، أو بنات، هن آلهات معه.
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من مخلوقات ناطقة أو صامتة، كبيرة أو صغيرة كلها، تسبّح بحمده، تسبيح ولاء وخضوع، كما يقول جلّ شأنه:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم] وكما يقول سبحانه عن الملائكة: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [26- 27: الأنبياء].
وقوله تعالى: {وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
أي إن هذه العوالم المبثوثة في السموات والأرض، تسبّح للّه تسبيحا لا يفقهه إلا العالمون، الذين يرون في تجاوب هذا الوجود، وفى خضوعه للسنن التي أجراه اللّه عليها، تسبيحا وولاء، وعبودية خالصة للّه ربّ العالمين.. ففى التعبير بكلمة {تفقهون} إشارة إلى أن هذا التسبيح لا يراه ولا يدرك معناه إلا أهل الفقه، الذي اختصّ به الراسخون في العلم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} إشارة إلى تلك المقولات الضّالة التي يقولها المشركون في اللّه سبحانه وتعالى، وأن اللّه سبحانه وتعالى، قد أخذهم بحلمه، فلم يعجّل لهم العقاب، بل أفسح لهم في الأجل، ومدّ لهم في العمر، حتى يتاح لهم إصلاح ما أفسدوا، ويرجعوا إلى اللّه، ويستقيموا على طريق الحق، حيث مغفرة اللّه الواسعة التي تظلل بجناحها التائبين اللائذين بجناب اللّه، الطامعين في رحمته.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً}.
الواو هنا للاستئناف، والآية حديث مستأنف، يكشف عن حال المشركين، وهم في حال يستمعون فيها إلى النبي، وهو يقرأ القرآن.. إن اللّه سبحانه وتعالى قد جعل بينهم وبين النبيّ حجابا مستورا، فلا يصل شيء مما يقرأ من القرآن إليهم، ولا ينفذ إلى قلوبهم.
وفى قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إشارة كاشفة عن الداء الذي يسكن إلى كيان المشركين، ويفسد عليهم مدركاتهم وتصوراتهم وإيمانهم باللّه. إنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء اللّه.. ومن هنا، كانت الصلة بينهم وبين اللّه قائمة على هذا الضلال والفساد.
وفى قوله تعالى: {حِجاباً مَسْتُوراً} إشارة إلى أن هذا الحجاب، شيء معنوى، غير محسوس، لا يرى، فهو مستور عن نظر القوم.. إنه حجاب مضروب على آذانهم فلا تسمع، وعلى قلوبهم فلا تعقل.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً}.
هو بيان لهذا الحجاب المستور، الذي جعله اللّه سبحانه وتعالى بين المشركين وبين النبيّ، وهو يقرأ القرآن، ويرفع منه للناس معالم الهدى.. فهؤلاء المشركون قد جعل اللّه على قلوبهم أكنة، أي أغطية كثيفة، أشبه بالجحر الذي يستكنّ فيه الحيوان، ويعتزل فيه العالم الخارجي، فلا يرى أحدا، ولا يراه أحد.
كذلك جعل على آذانهم {وقرا} أي ثقلا في السّمع، فلا تسمع شيئا.. فقد يحتجب الحيوان داخل كنّه عن العالم الخارجي، ولكن يظل مع ذلك متصلا به عن طريق السّمع.. أما هؤلاء المشركون، فقد أخذ اللّه سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم.. فهم أموات غير أحياء، وإن خيل إليهم أو للناس أنهم أحياء.. يسمعون، ويبصرون، ويعقلون!- وفى قوله تعالى: {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} إشارة إلى ما ركب المشركين من ضلال، في تصورهم لمقام الألوهية.
فهم يقبلون الاستماع إلى أي حديث يذكر فيه اللّه مع الآلهة التي يعبدونها.
أما إذا ذكر اللّه وحده في قرآن أو غيره، فذلك حديث بغيض إليهم، يلقونه منكرين، بل مذعورين، إذا وقع على آذانهم: {وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} أي صدموا به، فارتدوا على أدبارهم كما ترتدّ الكرة، اصطدمت بحائط! قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً}.
فى الآية الكريمة، تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين يستمعون إلى القرآن، بقلوب مريضة، ونيّات خبيثة، منعقدة على الكيد، لا تبتغى بهذا الاستماع طلب هدى، أو التماس حق.. وإنما غايتها اصطياد المعاثر، والوقوع على ما يغذّى ضلالهم، ويقيم لهم حجة على هذا الضلال.
وفى قوله تعالى: {بِهِ} إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيّتة للشر، راصدة للعدوان!- وفى قوله تعالى: {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى} فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات اللّه، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهى بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه على القرآن، وعلى النبيّ لذى يتلو هذا القرآن فيقولون: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} قد مسّه طائف من الجنّ، فاضطرب عقله، واحتلّ تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردّده، ولا يملّ ترديده.. {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [25: المؤمنون].

.تفسير الآيات (48- 52):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}.
الأمر هنا {انظر} هو إلفات للنبىّ، ولكلّ مؤمن، أن ينظر في تلك المقولات التي يقولها المشركون، وإلى تلك الأمثال التي يضربونها، ويتحدون منها حجة على إنكار البعث.. وقد كانت تلك الأمثلة التي ضربوها مما أملته عليهم أهواؤهم الفاسدة، وعقولهم المريضة- كانت سببا في أن ضلّوا هذا الضلال، الذي ألقى بهم في متاهات لا يستطيعون الخروج منها، ولا يجدون فيها من يدلّهم على طريق يسيرون فيه، حتى في وسط هذا الضلال.. إنهم في حيرة مطبقة، يدورون فيها حول أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} حيث نفى الاستطاعة المطلقة عنهم، إلى التعرّف على أي طريق.. ولو كان من طرق الضلال.
وقدّم الأمر بالنظر إلى تلك الأمثال التي ضربوها، على هذه الأمثال، حتى يتهيأ الناظر إليها، ويخلى نفسه من كل نظر إلى غيرها.. وذلك لما فيها من فتنة وضلال.. الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر فيها، حتى يتوقى الناظر إليها ما فيها من شرّ مستطير، وخطر داهم.
قوله تعالى: {وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} هذا هو المثل الذي ضربوه.. وهو مثل واحد، وقد سمّى {أمثالا} لأنه يحوى منكرا غليظا، تتولد منه منكرات.. إذ هو ينكر البعث أولا، وينكر قدرة اللّه ثانيا، ثم يتولّد من هذا وذاك ما يتولّد، من كفر، وضلال، وشرك باللّه ثالثا والاستفهام هنا، استفهام إنكارى.. ينكرون فيه أن يبعثوا، بعد أن تبلى أجسادهم وتصير ترابا.
والرّفات: العظام المتحلّلة، التي ضاعت معالمها، وصارت ترابا في التراب.
قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً}.
ينغضون إليك رءوسهم: أي يحركونها في إنكار، وإباء، وتكرّه.
شأن من يأخذ دواء مرا، فيأتى بهذه الحركة الجنونيّة برأسه، من غير وعى! والآية تردّ على المشركين هذا الضلال، الذي ضربوا له مثلهم هذا.. إنهم يستنكرون أن يبعثهم اللّه بعد أن تبلى عظامهم، وتتحلل أجسامهم.. فدفع اللّه سبحانه مثلهم هذا بمثل هو أشدّ إنكارا عندهم للبعث، فقال تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}.
أي كونوا على أية صفة هي أبعد وأغرب من صفتكم التي تكونون عليها بعد الموت.. كونوا حجارة جامدة، لا صلة بين الحياة وبينها، أو حديدا، أصلب من الحجارة، وأبعد منها نسبا إلى الحياة.. أو كونوا أي خلق آخر يكبر في صدوركم، ويكون أبعد من الحجارة والحديد استحالة في بعث الحياة فيه.. كونوا عدما مطلقا.. فإن قدرة اللّه سبحانه وتعالى لا يعجزها شيء.. وإنكم إذا أنكرتم هذا، وقلتم: من يبعثنا إذا صرنا على هذه الحال أو تلك، فهذا هو الجواب: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إنه سبحانه، قد خلقكم من تراب وفطركم منه، أي أنبتكم كما ينبت النبات، الذي يفطر الأرض، أي يشقّ وجهها.. وإذا قلتم في إنكار: {متى هو} أي متى هذا البعث؟ فهذا هو الجواب أيضا: {عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً}.
إنكم لا تعلمون وقته، ولكنه آت لا ريب فيه، وربما كان ذلك قريبا، أقرب مما تقدّرون وتتصورون.. {وعسى} فعل يفيد الرجاء، وتوقع الحدوث لما وقع عليه.. وهذا الرجاء إنما هو بالنسبة إلى المخاطبين.. وأنهم في موقف الانتظار لهذا الأمر لذى لن يطول انتظارهم له.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}.
هو بيان لميقات هذا البعث الذي سأل المشركون عنه هذا السؤال الإنكارى، بقولهم: {متى هو}.
إنه اليوم الذي ينتظر أمر اللّه، ودعوته الموتى من قبورهم، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [25: الروم]- وفى قوله تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} ما يسأل عنه، وهو: كيف يستجيبون لدعوة اللّه لهم من قبورهم، بالحمد، وقد جاء في قوله تعالى في سورة يس {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا} فهم ينادون هنا بالويل، فكيف يستجيبون هناك بالحمد. والموقف هو هو؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم-: أن هذا وذاك وإن كان منهم في يوم البعث، إلا أن كلّا منهما في موقف غير الموقف الآخر.. فهم حين يبعثون من قبورهم، يحمدون للّه، على أن أحياهم بعد موتهم، فالحياة نعمة تستوجب الحمد والشكر للّه ربّ العالمين.. ولكنهم حين يشهدون أهوال هذا اليوم، ينادون بالويل، إذ يرون بأعينهم المصير الذي هم صائرون إليه، كما يقول سبحانه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} [53: الكهف].
ويصحّ أن يكون هذا الحمد على سبيل القهر، إذ لا يملكون من أنفسهم شيئا، فهم والحال كذلك- مسلمون، مستسلمون، يحمدون اللّه على السّرّاء والضرّاء.
وفى قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} إشارة إلى هذه الدنيا، ومتاعها القليل الزائل.. فإنه مهما عاش الإنسان فيها، ثم طويت صفحته منها، وجد أن ما عاشه في هذه الدنيا لم يكن إلا ساعة من نهار، كما يقول سبحانه وتعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [46: النازعات] وكما يقول جل شأنه: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} [35: الأحقاف].