فصل: تفسير الآيات (53- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (53- 57):

{وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً}.
الواو، في قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبادِي} للاستئناف، وما بعدها كلام مستأنف، موجّه إلى عباد الله.
وعباد اللّه، هم الذين أضافوا أنفسهم إلى اللّه، فقبل اللّه سبحانه وتعالى ضيافتهم، وأضافهم إليه، إضافة تكريم هكذا: عبادى.
حتى لكأن غيرهم من المشركين والضالين، ليسوا عباده، الذين يستحقون إضافتهم إليه سبحانه، وإن كانوا عبيدا له: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم].
وقوله تعالى: {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي القولة {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهى الإيمان باللّه واليوم الآخر، على حين قال المشركون والكافرون القولة السيئة، قولة الكفر باللّه وباليوم الآخر.. فهذه القولة من عباد اللّه، هي اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وذلك هو الذي يؤهّلهم لهذا المقام الكريم، فيضيفهم المولى جل وعلا إليه: {عبادى} وقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أي يفسد بينهم، ويعمل على إضلالهم، وعباد اللّه هم الذين يحرسون أنفسهم منه، ويردّون كيده إلى نحره، كما يقول سبحانه: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [42: الحجر].
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}.
هذه الآية ردّ على اعتراض، قد يدور في بعض الرءوس، فيقول قائل:
لم اختار اللّه أناسا من خلقه، فأضافهم إليه. وجعلهم عبادا له؟ ولما ذا لم يضف الناس جميعا إليه، وكلّهم عبيده، وصنعة يده؟
وقد جاء الجواب: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} إنّه كما خلقكم بيده، أقامكم بعدله وحكمته.. كلّ في مكانه الذي أراده له.. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك].
إنه ليس لمخلوق شيء مع الخالق.. {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} أيها المخلوقون، فيجعلكم من عباده، وأهل طاعته {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فيضلكم، ويختم على قلوبكم.. وليس للمرحومين من الناس، ولا للمعذبين منهم مذهب إلى غير هذا المقام الذي أقامهم اللّه فيه، وأرادهم له: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].
وفى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} إشارة إلى أنه ليس إلى النبيّ أن يغيّر من قدر اللّه في الناس شيئا.. فمن قدّر عليه الشقاء فهو من أهل الشقاء، لا يتحول عنه أبدا، ومن كتبت له السعادة فهو من السعداء لن يدفعها عنه أحد.. وليس الرسول وكيلا على الناس، يدبّر أمرهم، ويتسلط على مصيرهم، وإنما هو بشير ونذير، يؤذّن في الناس بكلمات اللّه وآياته.. كما يقول سبحانه: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [7: الرعد].
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً}.
فى الآية الكريمة ردّ على شبهة قد تقع لبعض الناس من قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}.
إذ قد يسأل بعض الناس: لما ذا كان هذا الحكم واقعا في أبناء آدم، حيث يرحم بعضهم ويعذّب بعضهم؟
فكان الجواب: إن ذلك هو حكم للّه في المخلوقات جميعا، في السموات وفى الأرض، حيث يأخذ كل مخلوق حظّا مقدورا له.. فيجيء على صفة خاصة، وفى وقت معين، ومكان محدود.. فيكون في عالم الأرض، أو السماء، ويكون نباتا، أو حيوانا أو جمادا، ويكون كوكبا أو ملكا.. وكلّ مخلوق من تلك المخلوقات، هو في عالمه، وفى جنسه، آخذ وضعا خاصا به، لا يشاركه فيه غيره من عالمه، أو جنسه! تلك هي سنة اللّه في خلقه: الإبداع في الخلق، والتّباين بين المخلوقات.
ثم بيّنت الآية بعد هذا صورة من صور التباين والاختلاف بين جماعات، هم من صفوة خلق اللّه، وهم الأنبياء.. فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم في هذا المقام الكريم، وفى تلك المنزلة العالية- ليسوا على درجة واحدة، وفى مقام واحد.. وإنما هم درجات عند اللّه.. وإن كانوا جميعا في مقام القرب، وفى منازل الرضوان.
وهنا سؤال، وهو: لما ذا اختصّ داود عليه السّلام بالذّكر، هو والزبور الذي آتاه اللّه إياه؟ وداود- عليه السلام- لم يكن في منزلة إبراهيم، خليل اللّه، ولا موسى كليم اللّه، ولا عيسى كلمة اللّه، ولا محمد خاتم رسل اللّه. ولم يكن الزّبور في منزلة التوراة أو الإنجيل أو القرآن.. فما تأويل هذا؟
الجواب على هذا- واللّه أعلم- أن داود عليه السلام، هو النبيّ الذي جمع اللّه سبحانه وتعالى له الملك والنبوة معا، كما جمعهما لابنه سليمان من بعده.. أي أن اللّه قد جمع له الدنيا والآخرة جميعا، فآتاه للدنيا خير ما فيها، وهو الملك، وآتاه للآخرة خير مالها، وهو النبوّة.. ولهذا يقول تبارك وتعالى مخاطبا إياه:
{يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
ولهذا أيضا لم يكن داود عليه السلام صاحب كتاب يحمل شريعة، وإنما كان الزّبور الذي آتاه اللّه إياه، صلوات وتسابيح، يمجّد فيها اللّه سبحانه، ويشكر له.. إذ أن هذا الملك الذي في يده يحتاج- كى يستقيم على ميزان الحق والعدل- إلى اتصال دائم باللّه، حتى يدفع بهذا الاتصال ما يعرض له من شهوة السلطان، ومغريات الملك.
وعلى هذا، فاختصاص {داود} بالذكر هنا، إنما هو لبيان أن التفاضل الذي يقوم بين الموجودات كلها، هو قائم بين الأنبياء والرسل.. فمنهم من جعله اللّه سبحانه نبيا ورسولا، ومنهم من جعله نبيا ولا رسالة له، إلا في خاصة نفسه وأهله، ومنهم من جعله رسولا إلى قرية، أو أمة، ومنهم من جعله رسولا إلى الناس كافة، وذلك هو مما اختص به محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- من بين رسل اللّه جميعا.. وفى ذلك يقول اللّه تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [253: البقرة] وداود- عليه السلام- قد جمع له حظ الدنيا والآخرة جميعا.. فهو ملك ليس خالص الملك، إذ يقوم على ملكه سلطان النبوة، وهو نبىّ غير خالص النبوّة، إذ يقوم على سلطان نبوته سلطان ملكه.. فهو نمط وحده بين أنبياء اللّه، وفى ملوك الأرض.
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا}.
هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يعبدون من دون اللّه مالا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. فهاهم أولاء وتلك هي معبوداتهم التي يعبدونها، فليدعوها لضرّ مسّهم، أو لبلاء وقع بهم، فهل تستجيب لهم آلهتهم تلك؟ وهل يسمعون أو يعقلون؟ فكيف إذن يتعاملون مع من لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا؟ ولكنه السّفه والضلال.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً}.
المشار إليه هنا باسم الإشارة {أولئك} هم المؤمنون الذين يعبدون اللّه، إلها سميعا بصيرا مجيبا.. وهؤلاء المؤمنون، هم في مقابل أولئك المشركين الذين يدعون خشبا مسنّدة، أو أحجارا منحوتة.. لا تسمع ولا تبصر.. وشتان بين دعاء ودعاء! وفى الإشارة إلى المؤمنين من غير ذكرهم، تنويه بهم، ورفع لمنزلتهم، وأنهم أعرف من أن يعرّفوا.
وفى قوله تعالى: {يَدْعُونَ} وفى حذف المفعول به، إشارة إلى أنهم يدعون من ينبغى أن يدعى، إذ لا مدعوّ- على الحقيقة- غيره، وهو اللّه سبحانه وتعالى.
وفى قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} بيان لما يدعو به المؤمنون ربّهم، وهو أنهم يدعونه مسبّحين بحمده، شاكرين لفضله.. فهذا هو دعاء المؤمنين: عبادة، وصلاة، وتسبيح.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [28:
الكهف].
وابتغاء الوسيلة، طلبها، وإدراكها.. والوسيلة ما يتوسّل به، ويتقرب به إلى اللّه، من عبادات وقربات.
وفى قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إشارة إلى محذوف، تقديره: أيهم أقرب إلى ربّه أكثر توسلا إليه بالطاعات والعبادات.. إذ أنه كلما قرب العبد من ربّه، اشتدت خشيته له، لازدياد معرفته بجلاله، وعظمته، فيشتدّ حرصه على مرضاته، والتفانى في العبودية والعبادة، ليزداد من اللّه قربا، كلما ازداد طاعة وخشوعا وعبودية.
وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ} هو بيان للدوافع التي تدفع المؤمنين إلى دعاء اللّه سبحانه، وإلى ابتغاء الوسيلة إليه، وهو الطمع في رحمته، والخوف من عذابه.. وتلك هي الحال التي ينبغى أن تقوم عليها الصلة بين العبد وربّه وهى منزلة بين الرجاء والخوف.. فالرجاء يدفع المؤمن إلى الإحسان، والتزام الطاعات.. والخوف، بحرسه من العدوان على محارم اللّه، ومواقعة الآثام والمعاصي.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً} تعقيب على قوله سبحانه: {وَيَخافُونَ عَذابَهُ}.
وهو أن هذا العذاب شديد، حيث يقع بأهله، لا يدفعه عنهم من اللّه دافع، وهو لهوله وشدته، يحذره ويتوقى الدنوّ منه، كلّ من يطلب الأمن والعافية لنفسه.
ولم يأت في النظم القرآنى تعقيب على قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} كما جاء التعقيب على قوله سبحانه: {وَيَخافُونَ عَذابَهُ}.
لأن أكثر ما يؤتى النّاس من استخفافهم بعذاب اللّه، أو غفلتهم عنه.. أمّا الرجاء في مغفرته ورحمته.. فالناس جميعا واقفون على باب الرجاء، حتى أن أكثرهم عصيانا للّه، ومحدّة له يتخذون من الطمع في رحمة اللّه، مدخلا يدخلون به على المعاصي في جرأة فاجرة، حتى ليقول صاحب الجنتين الذي كفر بربّه: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} [36: الكهف].. وهذا مكر مع اللّه، وتغرير بالنفس.. إن من يرجو ويطمع في رحمته، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقّى محارمه.. فإذا زلّ، كان طمعه في اللّه قائما على منطق.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [56: الأعراف] هذا، وفى الآية الكريمة وجه آخر.
وهو أن المشار إليه في قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} هم المعبودون الذين كان يعبدهم المشركون، من ملائكة وغيرهم، من عباد اللّه الصالحين.
ويكون قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو خبر لقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}.
أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه، هم عباد من عباد اللّه المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء في رحمته، وخشية من عذابه.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [50: النحل] وكما يقول جلّ شأنه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} [19- 20: الأنبياء].

.تفسير الآيات (58- 60):

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}.
{إن} حرف يفيد النفي.. بمعنى {ما} أي: ما من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة.. فهذا حكم اللّه في عباده.. {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ} [29: يس].
وإهلاك ما يهلك اللّه من القرى، هو تركها للزّمن، يفعل فيها ما يفعل في الأحياء، فإذا عمارها خراب، وإذا أهلها تراب في التراب.. كما يقول سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [88: القصص].
أما عذاب ما يعذّب من القرى، فهو ما يحلّ بتلك القرى من نقم اللّه، فيأخذها بما أخذ به القرى الظالمة، كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، حيث أهلكها اللّه سبحانه مرة واحدة، بما سلط عليها من عذاب- وقوله تعالى: {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} تقرير لحكم اللّه في خلقه.. وهو أن ذلك مما قضى اللّه به في أم الكتاب، وجرى به القلم وسطّره في اللوح المحفوظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [22: الحديد].
وفى هذا، إنذار لمشركى قريش، ولقريتهم التي تقف من النبيّ هذا الموقف العدائى، الظالم.. فتؤذى رسول اللّه، وتصدّ الناس عن سبيل اللّه.
إن هذه القرية لن تفلت من هذا المصير الذي تصير إليه القرى جميعا.
فإذا لم يأخذها اللّه سبحانه وتعالى ببأسه، ويعجّل لها العذاب، أخذها بسنته في خلقه، فابتلعها باطن الأرض فيما ابتلع قبلها من قرى وأمم! قوله تعالى: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}.
فى هذه الآية ردّ على مقترحات المشركين التي كانوا يقترحونها على النبي، وهى أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون إلىأقوامهم، وجاءوهم بآيات ماديّة.. كعصا موسى، ويد عيسى، وناقة صالح، وطوفان نوح! فهذه الآيات، التي يقترحها المشركون، قد جاءت إلى أقوام مثلهم، فكفروا بها، ولم يروا فيها الدلائل التي تدلّهم على اللّه، وتهديهم إلى الإيمان به.
فكان أن أخذهم اللّه ببأسه، وعجّل لهم العذاب.
وهذا هو السبب الذي من أجله، لم يجيء الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى قومه بآية كتلك الآيات.. لأنها كانت بلاء على من جاءت إليهم ولم يؤمنوا بها، ولن يكون حال هؤلاء المشركين مع أيّة آية يأتيهم بها النبي، بأحسن من حال الذين سبقوهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء المشركين:
{وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [14- 15: الحجر].
وفى قوله تعالى: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} وفى وصفها بأنها مبصرة إشارة إلى أنها كانت آية واضحة، تعيش في النّاس، وتتمشّى بينهم، يمرّون بها مصبحين وممسين.. وليست كعصا موسى، ولا يد عيسى، فكلتاهما تظهر المعجزة فيها بإذن من صاحبها، ثم تختفى، دون أن يتاح للناس تقليبها، وترديد النظر فيها.. وهذا هو بعض السرّ في اختصاص ناقة صالح بالذكر هنا، إنها كانت تعيش مع الناس، بين سمعهم وبصرهم.
وقوله تعالى: {فَظَلَمُوا بِها} إشارة أنها كانت سببا في أن اعتدوا عليها، فأصبحوا آثمين، ظالمين.. فحقّ عليهم العذاب.
وقوله تعالى: {وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} أي ما نبعث بهذه الآيات المادية إلا لتكون نذر هلاك وبلاء لمن تأتيهم.. لأنه إذا لم يؤمن بها القوم المرسل بها إليهم- وهيهات أن يؤمنوا- كان لابد أن يقع العذاب بهم، ويصبحوا في الهالكين.
فمن رحمة اللّه بهذه الأمة، أن لم تأتها الدعوة إلى اللّه بين يدى آية مادية.
فإنه لو حدث هذا، لكان فيه القضاء على أهل مكة التي طلعت منها شمس الدعوة الإسلامية، ثم لا نقطع ما بين النبيّ وقومه الذين يدعوهم إلى اللّه، إذ لم يكن له- والأمر كذلك- قوم.. وبهذا تطوى الدعوة كتابها، وينسحب الرسول من الميدان..!
ولكن اللّه بالغ أمره.. فجاءت الدعوة الإسلامية على هذا الأسلوب، لتعيش في الناس، ما دام للناس حياة في هذه الحياة! قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً}.
فى هذه الآية أمور:
أولها: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} {إذ} هنا ظرفية، تشير إلى وقت قيل فيه هذا القول للنبىّ.
فمتى كان ذلك؟ وما هو القول الذي قاله سبحانه وتعالى للنبىّ؟ وقيل هذا وذاك.. ما معنى الإحاطة بالناس؟ وما المراد منها؟
إحاطة اللّه بالناس، علمه بهم، علما محيطا، كاشفا لكل شيء منهم.
وإذن فكل آية في القرآن جاءت تحدّث عن علم اللّه، صالحة لأن تكون هي هذا القول الذي قيل للنبىّ، والذي دعى هنا إلى تذكّره.
وأقرب آية نجدها هنا، هي قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقد ذكرت قبل هذه الآية بثلاث آيات.. فتكون إذن هي الآية المقصودة، ويكون وقتها معلوما للنبىّ!- ويكون معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ} هو ردّ على المشركين الذين يقترحون الآيات المادية.. فهذه الآيات إنما ينزلها اللّه حسب مشيئته، وبما يقضى به علمه في عباده.
ثانيهما: قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ما هي الرؤيا؟ وما الفتنة التي فتن بها الناس منها؟
اختلف في الرؤيا التي أريها النبيّ هنا.. وهل هي الإسراء؟ أم أنها الرؤيا التي رآها وهو في مكة من أنه سيدخل المسجد الحرام؟ أم أنها الرؤيا التي أريها في مكة أيضا من أنه سيكون بينه وبين قريش حرب، وأن القوم سيهزمون؟. وكان فيما نزل من القرآن المكي قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} حتى ليروى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أنه كان يقول: كنت لا أدرى أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
أي أنه عرف أن هذه الآية قد جاء يوم بدر بتأويلها.
ولا يعترض على الرأى الأول بأن {الرؤيا} تشير إلى أن الإسراء كان رؤيا منامية، مع أن الرأى المعوّل عليه أنها كنت رؤية اليقظة.. ذلك أن الرؤيا تستعمل في اللغة بمعنى الرؤية.. وخاصة إذا كانت الرؤية بالليل، كالسير فإنه إذا كان في الليل سمّى سرى، مع أنه في حقيقته سير.
أما الفتنة التي فتن بها الناس من هذه الرؤيا، فقد ارتدّ بعض ضعاف الإيمان من المؤمنين، بعد الإسراء.. كما أن رؤياه صلّى اللّه عليه وسلّم دخول المسجد الحرام، كانت مثار اضطراب وبلبال بين المسلمين، حين جاء النبيّ بالمسلمين معتمرا قبل الفتح فردّته قريش، وعقد صلح الحديبية بينه وبينها.
وكذلك الشأن في رؤياه- صلّى اللّه عليه وسلّم- أنه سينتصر على قريش في أول معركة معها.
والرأى الراجح أن {الرؤيا} هي الإسراء، وقد عرفت الاعتراض على هذا الرأى، وردّنا عليه.
وثالثها: قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}.
ما الشجرة الملعونة في القرآن؟ ولم لعنت؟ ثم لم كانت فتنة؟
لم يذكر القرآن الكريم، شجرة موصوفة بتلك الصفة، وهى اللعنة.
ومن هنا ذهب المفسّرون مذاهب شتّى في هذه الشجرة.
والذي نتخذه دليلا في بحثنا عن تلك الشجرة، أنها ذات صلة بقريش، وأنها مثار فتنة للمشركين.
وعلى هذا، فإنا نجد في القرآن الكريم شجرة ذكرت في سورة الصافات وهى من القرآن المكي، وقد تهدّد بها اللّه سبحانه وتعالى، المشركين، وأذاقهم طعامها النكد، في هذه الدنيا، قبل أن يملئوا منها بطونهم في جهنم، فقال تعالى: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [62- 68: الصافات]. وفى سورة الواقعة، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [51- 56: الواقعة] وفى سورة الدخان، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [43- 46].
فهذه الشجرة قد ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في القرآن المكي، وعرضها في هذه المعارض، مهددا بها المشركين، متوعدهم بها، مذيقهم طعامها الذي يغلى في البطون كغلى الحميم.
وقد كان المشركون، يستمعون إلى هذا القرآن، ويتناجون بما تملى لهم أهواؤهم وضلالاتهم فيه، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى} [47: الإسراء].
وقد كانت هذه الشجرة مثار استهزاء وسخرية فيما بينهم، كما أنها كانت مادة للعبث منهم بالمسلمين، وبمعتقدهم في صدق الرسول، الذي يقول لهم مثل هذا القول.. إذ كيف يقول محمد بأن النار التي سيعذّب فيها من لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، هي جحيم، وأنّها نار تلظى، وقودها الناس والحجارة- كيف يقول هذا، ثم يقول إن هناك شجرة أو أشجارا من زقّوم تطلع فيها، ثم تثمر ثمرا يأكله المعذّبون بتلك النار؟ أهذا قول يتفق أوله مع آخره؟ النار التي تأكل كل شيء، تصلح لأن تكون مغرسا ومنبتا لشجر؟
وأكثر من هذا، فقد بدا لبعض الذين سفهوا أنفسهم من هؤلاء المشركين، أن يتخذوا من هذا الوعيد الذي توعدهم اللّه به، مادة للتسلية، والعبث، إمعانا في الاستهزاء والسخرية، ومبالغة في التكذيب والتحدي.
فمن ذلك ما روى عن أبى جهل أنه كان يقول: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر؟ وما نعرف الزّقوم إلا التّمر بالزّبد، ثم يأمر جارية له، فتحضر تمرا وزبدا، ثم يقول لأصحابه: تزقّموا! وقد وجد هذا القول سبيلا إلى بعض ضعاف الإيمان، وصغار الأحلام من الذين دخلوا في الإسلام، فوقع الشك في نفوسهم، فكان ذلك داعية لهم إلى أن يرتدّوا عن الإسلام، خاصة وأنهم في وجه محنة قاسية، وبلاء عظيم، لا يمسكهم عليه إلا إيمان وثيق، فإذا زاحم هذا الإيمان شيء من هذه الشكوك الكاذبة، التي يسوقها إليهم المشركون، وجد ضعاف الإيمان منهم الفرصة سانحة للخروج من هذا البلاء، بأوهى سبب! وهذا، ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}.
فهاتان آيتان من آيات اللّه المأدبة، وهما القول بالإسراء، والقول بتلك الشجرة التي تنبت في أصل الجحيم.. وفى هاتين الآيتين فتنة للناس، أي لهؤلاء المشركين، كما كانت الآيات المادية في الأمم السابقة فتنة لتلك الأمم! وأنه إذا كان المشركون يريدون آيات مادية فهاتان آيتان مادّيتان، أو شبه ماديتين، وقد كانتا فتنة لهم.. فهل تزيدهم الآيات المادية إلا فتنة إلى فتنة؟
وفى قوله تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً} إشارة إلى أن هذه الآيات المادية أو شبه المادية، هي نذير بلاء وفتنة، ومطلع عذاب عاجل يقع بالمشركين، إن هم أصروا على موقفهم هذا الذي يقفونه من آيات اللّه..!
بقي أن نعرف لم وصفت الشجرة بأنها ملعونة؟ ولم تلعن وهى لم يكن منها ما يستوجب اللعن؟
والجواب:
أولا: أن اللّه سبحانه وتعالى قد وصفها بأنها تنبت في أصل الجحيم، ووصف طلعها- أي ثمرها- كأنه رءوس الشياطين.. والشيطان ملعون من اللّه.. فهى لهذا عدوّ مبين للإنسان، الذي سيسوقه شؤمه إلى أن يطعم منها، فيجب أن يحذرها، كما يحذر الشيطان.. فناسب ذلك أن تبدو لأعين النّاس في صورة الشيء الملعون، الذي يحذر، ويتوقّى.
وثانيا: أن وصف الشجرة بأنها ملعونة، لا ينبنى عليه أنها ملعونة من اللّه، وإنما هو وصف بالنسبة لآثارها فيمن يذوق طعمها، فهو طعام كريه، لا يطعمه إلا الخاطئون.. فإذا وصف الشيء بأنه مرّ المذاق، أو خبيثه، فهو بالنسبة لطاعمه.. وقد لا يكون طعمه على تلك الصفة في حقيقته.
ثالثا: جاء في قوله تعالى في وصف الشجرة: {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}.
فهى فتنة، كما أن الشيطان فتنة.. وقد جاء في قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} أي هي فتنة كذلك.
وهذا مما يرجح القول بأن المقصود بالشجرة هي شجرة الزقوم، كما يقيم ذلك دليلا على أنها شجرة ملعونة.
أما عن استنكار المشركين للجمع بين النار، والشجر.. فذلك لجهلهم بقدرة اللّه، أولا، ولجهلهم بأسرار الطبيعة ثانيا.. فالنار، والشجر، والماء، والطين.. وكلّ ما يرون فيه من تناقض. هو من أصل واحد، ومن مادة واحدة، وإن اختلفت صوره وأشكاله.. وقد استطاع العلم الحديث أن يحوّل الأشياء من حال إلى حال، بإجراء بعض التغييرات في تركيب عناصرها، كتحويل الصلف إلى لبن، والخشب إلى ورق مصقول، أو حرير ناعم.
إلى غير ذلك مما يتحول به الشيء من النقيض إلى النقيض.
بل إن الطبيعة نفسها لتقوم بهذه العمليات كل يوم، فتحول الهواء الشفاف إلى ماء، وتحول الماء إلى هواء.. كما تحول الماء السائل إلى ثلج جامد، والملح الذي يتغذى به النبات إلى مادة سكرية، كما في القصب، وأشجار الفاكهة.
وقد أشار القرآن الكريم، إشارة خاطفة إلى تحوّل الأشياء إلى طبيعة غير طبيعتها، كالشجر يتحول إلى نار، فيقول سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [80: يس].. ففى الشجر نار مستكنة، كما أن في النار ماء مستكنّا.. فليس إذن بالمستحيل أن يجتمع الشجر والنار، وأن تنبت في أصل الجحيم أشجار تأخذ طبيعة النار، وتتغذّى منها.