فصل: تفسير الآيات (71- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (71- 77):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
الإمام: المقدّم من كل شيء.. وإمام القوم: رئيسهم، وصاحب الكلمة فيهم.
والفتيل: النّتوء البارز في شقّ النواة، ويضرب به المثل في الشيء الحقير.
والآية تنتقل بهؤلاء الناس، الذين كرمهم اللّه، وفضلهم على كثير من خلقه، وحملهم في البر والبحر، ورزقهم من الطيبات- تنتقل بهم من الدنيا، التي يتقلّبون فيها، ويسرحون ويمرحون، فإذاهم بين يدى اللّه في مقام الحساب والجزاء يوم القيامة.. وإذا كل جماعة مع إمامها الذي كانت تتبعه، وتنقاد له.
فأتباع الأنبياء مع أنبيائهم، وأتباع الضلال مع أئمتهم.. وهكذا كل طائفة، وكل جماعة، وكل أمة، مع إمامها، وقائدها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ} [69: الزمر].. فالنبيون والشهداء، يشهدون على أتباعهم بما كان منهم في الدنيا.
وليس علم اللّه سبحانه وتعالى بهم، في حاجة إلى من يقيم الشهادة عليهم، ولكن هذه الشهادة هي خزى وفضح للمجرمين، بعرض مخازيهم على الملأ.
وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هو عرض لأهل الفوز والنجاة في الآخرة.. وهم الذين أخذوا كتابهم بيمينهم.. فهؤلاء يجدون مسرّة بلقاء كتابهم، وتهشّ نفوسهم لقراءته، والاستمتاع بما يرون فيه من أعمال طيبة، تؤهلهم لرضوان اللّه، والفوز بالجنة.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [7- 9: الانشقاق] ويقول جل شأنه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ} [19: الحاقة].. إنه لسعيد بهذا الكتاب، وإن الفرحة لنملأ كيانه، فيطير بها فرحا هنا وهناك، يدعو من يلقاه ليقرأ ما في كتابه، وليشاركه هذه الفرحة، فيتضاعف فرحه، ويعظم سروره.
وفى إفراد الضمير العائد على الموصول في قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} ثم إعادته إليه جمعا في قوله سبحانه {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ} في هذا ما يشير إلى أن كل واحد يدعى ليأخذ كتابه بيده.. ثم إذا أخذ كلّ كتابه، اجتمع بعضهم إلى بعض، والتقى أهل اليمين بأهل اليمين، وأهل الشمال بأهل الشمال.. ومن هنا كانت قراءة أهل اليمين لكتبهم في صورة جماعية.. كل يقرأ كتابه، ويقرأ كتب أصحابه! أما أهل الشمال.. فكل منهم في شغل بما بين يديه من همّ ثقيل!! قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} هو بيان للجماعة المقابلة لأهل اليمين، الذين أخذوا كتبهم بأيمانهم، وجعلوا ينظرون فيها، ويقرءون أعمالهم الطيبة التي تبشرهم بالفوز والفلاح.
ولم تذكر الآية أصحاب الشمال ذكرا صريحا، وإنما دلّت عليهم بأوصافهم.
فهم عمى يوم القيامة، لما يغشاهم من كرب هذا اليوم، وما يطلع به عليهم كتابهم الذي يأخذونه بشمالهم، من نذر الشؤم والبلاء.. فلا ينظرون إليه، وإذا نظروا لم يبصروا شيئا.. حيث ملك الرعب وجودهم، وأخذ الفزع قلوبهم وأبصارهم! إنهم كانوا عميا في هذه الدنيا، فلم يروا آيات اللّه، ولم ينظروا فيما جاءهم به رسل اللّه من هدى ونور.. وهاهم أولاء في الآخرة على ما كانوا عليه في الدنيا، قد غرقوا في بحر متلاطم الأمواج من الكرب والبلاء، فلا يجدون طريقا للنجاة، ولا يرون وجها للفرار من هذا الهول العظيم.
قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}.
فتنه يفتنه عن الشيء فتونا: أضلّه عنه، وصرفه إلى غيره.
والافتراء: الاختلاق، وتلفيق الأخبار.
وفى هذه الآية، يردّ المكذّبون بالآخرة، إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن رأوها عيانا فيما يشبه أحلام اليقظة.. وما يكادون يصحون من غفوتهم تلك حتى يواجهوا بما كانوا يأخذون به النبيّ من عنت، وما يتهدّدونه من أذى.
حيث يريدونه على أن يترك آلهتهم، ولا يعرض لها في القرآن الذي يتلوه على الناس بشيء ينقص من قدرها عندهم، وينزل من منزلتها في نفوسهم.
ويقولون له فيما يقولون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ}.
فيجيئه أمر اللّه: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} [15: يونس].
ولا يجد هؤلاء الضالّون المتكبّرون مقنعا فيما يجيبهم به النبيّ على ما يسألون، ولا يرضيهم منه، أو يدفع عنه سفههم، إلّا أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ} إشارة إلى هذا الصّراع العنيف بين هؤلاء المشركين وبين النبيّ، وإلى ما يسوقون إليه من ألوان التهديد والوعيد.. حتى ليبلغ الأمر غايته من الشدّة والبلاء، وحتى ليكادا لنبىّ يصل إلى حال يوشك أن يفلت فيها الأمر من يده، إذ جاوز حدود ما تحمل الطاقة البشرية من جهد وعناء، كما يقول سبحانه وتعالى فيما يعرض للرسل من بلاء: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا} [110: يوسف].
فهذا التصوير للموقف، يكشف عن مدى ما يسوق الكافرون إلى النبيّ من أذى، وما يأخذونه به من عنت.. وأنه صلوات اللّه وسلامه عليه وهو في معرض هذه العواصف الهوجاء، يمسك نفسه على الطريق الذي أقامه اللّه تعالى عليه، ويضمّ يديه في قوة وإصرار على الرسالة التي حمّلها اللّه إياه، إلى أن يحكم اللّه بينه وبين قومه!.
وفى قوله تعالى: {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} إشارة إلى أنه لو تحوّل النبيّ قليلا إلى ممالأة قومه، ونزل شيئا عما يدعوهمإليه، لجاءوا إليه موادعين مسالمين، ولهدأت هذه العواصف المزمجرة حوله، ولجرت سفينته في ريح رخاء!.
قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} بيان لفضل اللّه تعالى، على النبيّ الكريم، إذ شدّ أزره، وثبّت على الحق قدمه، فلم يزلّ ولم ينحرف.
وفى قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} إشارة إلى ما عند النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من رصيد عظيم من العزم والصبر، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- مع هذا الكيد العظيم الذي يكيد له به قومه، لو ترك وشأنه لما تزحزح عن موقفه إلا شيئا قليلا.. ولكنّ أمداد السماء قد جاءته في وقتها فأمسكت به، فربطت على قلبه، وشدّت من عزمه وثبتت من قدمه.. وهكذا يصنع اللّه لأوليائه وأحبائه، فيدفع بهم إلى مواطن البلاء، حتى يبلوا بلاءهم، ويعطوا كل ما عندهم، وحتى إذا كاد يفرغ كل ما معهم، وينفد كلّ ما لديهم، جاءهم نصر اللّه، وتتابعت عليهم أمداده.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}.
ركن إلى الشيء: مال إليه.
والنبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يركن إليهم، ولم يمل إلى ما يدعونه إليه، ولو قيد أنملة، وإن كاد يفعل ذلك، ولكن اللّه سلّم.. ونحو هذا قول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ** تركت على عثمان تبكى حلائله

وقوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً}.
أي لو فعلت هذا- أيها النبيّ- وملت هذا الميل القليل لكان حسابك عسيرا.. فإن صغيرتك كبيرة، لمقامك الكريم الذي أنت فيه، وإنه على قدر علوّ مقامك يكون حسابك.
والمراد بضعف الحياة وضعف الممات، مضاعفة العذاب في الدنيا، ومضاعفته في الآخرة.. ومثل هذا قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [30: الأحزاب].
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً} إشارة إلى ما للّه سبحانه من سلطان في خلقه، وأنه- سبحانه- يجرى حكمه في عباده كما أراد، دون أن يكون لأحد اعتراض على حكمه، أو دفع له.
قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا}.
استفزّه: أجفله، وأزعجه.
أي أن هؤلاء المشركين من قومك أيها النبيّ، قد أعنتوك، وأجلبوا عليك بكل ما استطاعوا من صور البغي والعدوان، حتى لأوشكوا أن يخرجوك من الأرض، أي يطردوك منها طردا، فلا يدعون لك موضعا فيها، تدعو فيه إلى اللّه، وتبلغ رسالته.. وإنهم لو فعلوا لأخذهم اللّه بالعذاب، ولما بقيت لهم في الأرض باقية بعدك.. فهذه هي سنّة اللّه في الرسل من قبلك مع أقوامهم.
وأنهم إذا تأبّوا عليهم، وأخذوهم بالبأساء والضرّاء، أخرجهم اللّه من بين أقوامهم، ثم صبّ على هؤلاء الأقوام عذابه، فأهلكهم، مصبحين، أو ممسين.
وفى هذا تهديد للمشركين، وإنذار لهم، وأنهم إن فعلوا بالنبيّ هذا الفعل أخذهم اللّه بما أخذ به الظالمين من قبلهم.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [62: الأحزاب].

.تفسير الآيات (78- 82):

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. هي أنه لما كانت الآيات السابقة قد حملت شيئا من التلويح للنبىّ الكريم أن يعدّ نفسه للصبر والاحتمال على ما يلقى من المكاره من قومه، فقد ناسب أن تجيء هذه الآية وما بعدها، محمّلة بالزّاد الذي يتزود به، في هذا الموقف المتأزّم، الذي تنحلّ فيه العزائم، وتزلّ الأقدام، فيجد منه المدد الذي يقوّى عزمه، ويثبت قدمه. وذلك بإقامة الصّلاة من دلوك الشمس، أي من وقت الزّوال عند الظهر، {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي ظلمته.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي وصلاة الفجر، وهى صلاة الصبح، وسميت قرآنا، لأن قراءة القرآن أظهر وجوهها.. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} أي ذا شأن عظيم، يلفت إليه الأنظار، ويستدعى إليه المشاهدين.. وقيل إن هذا الوقت يحتشد فيه الملائكة، حيث يلتقى ملائكة الليل، وملائكة النهار.
ودعوة النبيّ إلى إقامة الصلاة من وقت زوال الشمس عن كبد السماء، إلى دخول الليل واشتداد ظلامه، هو دعوة له- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى إقامة أربع صلوات، هن: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.. وأما صلاة الصبح، فقد جاء الأمر بها في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}.
وقد أفردت وحدها، لما فيها من مشقّة، ولما في وقتها من بركة.
وفى قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} دعوة خاصة إلى النبي الكريم، أن يتهجّد بالقرآن.. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة.. وقد كانت تلاوة القرآن هي عبادة النبيّ في أول الدعوة، حيث جاء أمر اللّه سبحانه وتعالى إليه بقوله: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} فلما فرضت الصلاة، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبيّ، مندوبة، للمؤمنين.
والتهجّد: اليقظة بالليل بعد النوم.
ومن الليل: أي من بعض الليل، لا كلّه.. فحرف الجرّ {من} للتبعيض.
والنافلة: الزيادة، على المطلوب.
فالنبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم، مطالب في هذا، بما لم تطالب به أمته، وهو أن يقوم من الليل، بعد أن ينزع عنه لباس النوم، وأن يصحب القرآن معه، يصلّى به ما شاء اللّه له أن يصلّى.. وذلك واجب عليه هو، مندوب لأمّته.
وفى قوله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} شرح لصدر النبيّ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة، فذلك قليل في سبيل مرضاة اللّه سبحانه، والقرب منه، والفوز بالمقام المحمود عنده.
والمقام المحمود، هو مجمع المحامد كلّها، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها.
وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود، وإحلال النبيّ به- في التعبير عنه بالبعث، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها.. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء {عسى} ليظل النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- متطلعا إلى هذا المقام، طامعا فيه، راجيا أن يبلغه.. وقد بلغه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} ولا يتحقق رضاه- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلا إذا تحقق له هذا الرجاء، الذي تعلّقت به نفسه، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}.
هو دعاء علّمه إياه ربه، ليدعو به عند كل أمر يعالجه، ويعمل له، وهو أن يستعين ربّه عليه، بأن يدخله مدخل الصّدق إلى هذا الأمر، ويسدّد خطاه عليه، ويهيئ له الأسباب المنجحة له، حتى يخرج منه موفقا، بالغا الغاية المرجوة منه.
فالدخول إلى أي أمر ما، هو مباشرته، والخروج منه، هو الفراغ منه.
كالمعركة مثلا في ميدان القتال.. الدخول إليها هو الالتحام في القتال، والخروج منها هو انتهاء المعركة بانتصار أحد الفريقين المتقاتلين.
والدخول مدخل الصدق إليها، يكون أولا وقبل كل شيء بتخليص دوافعها من البغي والعدوان، بأن تكون دفاعا عن حق، ودفعا لظلم.
ثم يكون ثانيا، بالإعداد لها إعدادا روحيا وماديا، بتوطين النفس على الاستشهاد في سبيل اللّه، وباستيفاء وسائل الحرب، وخطط القتال.
وهكذا كل أمر يعالجه النبيّ.. يدعو اللّه أن يكون دخوله إليه من مدخل الحق، لا يبغى غير الحق ولا يعمل لغير الحقّ. وأن يكون خروجه منه من مخرج الحقّ، فلا يتلبّس أثناء ممارسته لهذا الأمر بشيء من الباطل.. وهذا إنما يستعان عليه باللّه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً} فبهذا السلطان الذي يمدّه اللّه به، يجد الحراسة القوية الأمينة، التي تدفع عنه كلّ عارض يعرض له من وهن أو ضعف أو خذلان.
قوله تعالى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}.
هو الوصف الكاشف لخاتمة أمور النبيّ كلّها، قبل أن تجيء خاتمتها.. فكل أموره- صلوات اللّه وسلامه عليه- سيدخلها مدخل صدق، وسيخرج منها مخرج صدق، مستندا إلى سلطان اللّه، مؤيّدا بنصره.. وهذا إعلان- مقدّما- بانتصار الحق الذي يدعو إليه النبيّ، ويعمل له، وهو دعوة الإسلام، وهداية الناس إلى اللّه.
وقد تحقق هذا.. فانتصرت دعوة الإسلام، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا!.
روى أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، حين دخل مكة فاتحا، دخل الكعبة وفيها حشود حاشدة من الأصنام التي كان يعبدها المشركون، فجعل صلوات اللّه وسلامه عليه- يدفع بها صدورها، فتتهاوى على الأرض، وهو يقول:
{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}.
قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً}.
هو إلفات إلى هذا القرآن الذي بين يدى النبيّ، والذي يتلقّى آياته وكلماته من ربّه- إنه هو الحقّ الذي فيه الشفاء لما في البصائر من عمى، وما في القلوب من ضلال، وهو الرحمة التي تبسطها يد الرحمن الرحيم إلى عباده ليستشفوا بها من جهالتهم وضلالهم.. ثم هو الرائد الأمين الذي يدخل المصاحب له مدخل الصدق، ويخرجه مخرج الصدق، ويجعل له من عند اللّه سلطانا نصيرا.
والمؤمنون، الذين يستجيبون لدعوة النبيّ هم الذين ينتفعون بكلمات اللّه وآياته، ويجدون فيها الشفاء والرحمة.
أما الذين يشاقّون النبيّ، ويصدّون عن سبيل اللّه، فلن يزيدهم القرآن إلّا ضلالا إلى ضلالهم، ومرضا إلى مرضهم.. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [10: البقرة].
وفى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} إشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما يتنزل حالا بعد حال، ولم ينزل جملة واحدة.. وهذا يعنى أن كل ما ينزل من القرآن، هو شفاء ورحمة، سواء ما نزل، أو سينزل.. لا أنّ بعضه فيه شفاء ورحمة، وبعضه الآخر ليس فيه شفاء ورحمة، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين.. فكل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، وكل القرآن لا يزيد الظالمين المكذبين به إلا خسارا وتبابا.