فصل: تفسير الآيات (27- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (27- 31):

{وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)}.
التفسير:
الملتحد: الملجأ، الذي يميل إليه الإنسان فرارا من شيء يتهدده.. ومنه الإلحاد، وهو الميل عن طريق الحق.. فرارا من أضوائه المسلطة على الباطل الذي يحرص عليه أهله.
الفرط: الإسراف في الشيء، وتبديده، وتضييعه.. وهو ضدّ التفريط.
والسرادق: الفسطاط، المحيط بما فيه. والمهل: حثارة الزيت، ونفايته، وقيل، هو النحاس المذاب.. والمرتفق: ما يرتفق به الإنسان، ويعتمد عليه في معاشه، فيجعله رفيقا له.. والسندس: الرقيق من الديباج.. والإستبرق:
الخشن الغليظ من الديباج.
قوله تعالى: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}.
هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً...} الآية وما بين الآيتين، وهوقوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.
هذا الفصل بين الآيتين، لا يقطع الصلة بينهما، إذ كان ما فصل به بينهما هو أشبه بالتعقيب على الآية السابقة على هذا الفاصل، إذ قد نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن أن يمارى في أخبار القوم إلا مراء عابرا، لا يقف طويلا عنده، ولا يستفتى في شأن أصحاب الكهف أحدا ممن يظنّ عندهم علم منه.. وكذلك مما يدخل في النهى عن المراء هذا الخبر الذي جاء به القرآن عن مدة لبثهم في الكهف، وهو ثلاث مائة سنين وتسع سنوات، فهذا الخبر الذي أخبر به اللّه سبحانه وتعالى عن مدة لبثهم في الكهف- سوف يمارى فيه الممارون ويطعنون في صدقه وإذن فقد كان على النبيّ ألا يقف لهذه المماراة، بل يلقاها في غير اكتراث، وليقل لنفسه، وللمؤمنين، وغير المؤمنين: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فعلمه سبحانه هو العلم الحق، وما سواه فظنون وأوهام.. وقد قال اللّه سبحانه قولة الحقّ {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
ثم كان قوله تعالى: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ...} الآية.
طيّا لهذا الحديث عن لبث أصحاب الكهف في الكهف، وإلفاتا للنبىّ إلى كتاب اللّه الذي معه، وإلى ما نزل إليه من ربّه، في شأن أصحاب الكهف، الذين يكثر الحديث عنهم، ويدور الجدل حولهم.. وإنه بحسب النبيّ في هذا أن يتلو ما أوحى إليه من كلمات ربّه، وألا يلقى أذنه إلى ما يدور في مجالس القوم وأنديتهم، من حديث عن أصحاب الكهف.. فما جاء به القرآن الكريم، هو الحق الذي لا ينقص أبدا، ولا يتبدّل على الزمن، بما يستجدّ من أخبار، وما ينكشف من آثار: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}.
وفى قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} توكيد لقوله تعالى: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}.
والملتحد هو الملجأ، وهو الذي يفرّ إليه الإنسان في الأزمات، وليس للنبى ملجأ إلا اللّه، في كل أمر يطرقه، وفى هذا الامتحان الذي يمتحن به في أصحاب الكهف من المشركين، وأعوان المشركين.
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
قيل إن هذه الآية نزلت في شأن بلال وصهيب، وغيرهما من المستضعفين من المسلمين الأولين، في مكة، وأنها دعوة للنبىّ الكريم أن يجعل عاطفته كلها مع هؤلاء المستضعفين، وألا يصرفه عنهم صارف الاهتمام بأصحاب السيادة والرياسة في قريش، طمعا في هدايتهم إلى اللّه، ليكون له منهم سند للدعوة الإسلامية، وقوة تدفع عن المسلمين الأذى والضرّ، مما لا تفتر قريش عن سوقه إليهم.
وإذا صح سبب نزول هذه الآية على هذا الوجه، فإن المراد بها قبل كل شيء، هو مواساة كريمة وعزاء جميل من رب كريم، لهؤلاء المستضعفين، الذين نظر إليهم ربّهم، فجعلهم في هذا المقام الكريم الذي يوجّه إليه وجه النبيّ كلّه، دون أن يعطى المشركين لفتة منه! فإنه شتان ما بين هؤلاء وأولئك.. فهؤلاء المسلمون المستضعفون، قد آمنوا بربّهم، يدعونه بالغداة والعشىّ، وأولئك المشركون، قد ألهتهم دنياهم، وأعماهم ضلالهم، فشغلوا عن النظر في أنفسهم، وضلّوا الطريق إلى ربّهم.
وفى قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} إشارة إلى أن هذا الجانب الذي يقفه النبي مع أصحابه المستضعفين، هو جانب فيه شدة وبلاء، ومعاناة، لا يصمد له إلا أولوا العزم والصبر! إنه انحياز إلى الجانب الضعيف، وإيثار له على الجانب القوىّ، ذى الجاه والسلطان.
وفى قوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} تسفيه لهؤلاء المشركين، وما هم فيه من عناد يسوقهم إلى الهلاك، ويخرجهم من الدنيا، وقد خسروا الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً} في هذه الآية وعيد شديد لهؤلاء المشركين الذين لجّوا في طغيانهم، وعدوانهم.. فقد أعدّ اللّه لهم {ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} أي ضربت عليهم النار، فكانت سرادقا يشتمل عليهم، لا يخرجون منه أبدا.. إنها دارهم، لا دار لهم غيرها.. وإن استصرخوا فيها طالبين الغوث، كان الصّراخ لهم، والإسراع لنجدتهم، هو أن يسقوا ماء آسنا، يغلى، فيشوى الحرّ المتصاعد منه وجوههم قبل أن يصل إلى أفواههم.. ذلك هو نزلهم، وتلك هي عيشتهم.. فبئس الشراب شرابهم، وبئس العيش عيشهم! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} هذا هو الوجه الآخر من وجوه الناس يوم القيامة، وهم المؤمنون، الذين آمنوا، ثم أتبعوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، فهؤلاء لا يضيع أجرهم عند اللّه.. فقد أعدّ لهم سبحانه جنات عدن، أي جنات الخلود، لا يخرجون منها أبدا.. يقال: عدن في المكان، أي أقام واستقرّ.
هذه الأنهار التي تجرى من تحت الجنات، وتلك الأساور من ذهب التي يحلّون بها، وهذه الثياب الرقيقة من السندس، وما فوقها من إستبرق، وتلك الأرائك التي يتكئون عليها.. هذا كلّه، هو بعض ما يجد أصحاب الجنة في الجنة، مما كانت تشتهيه أنفسهم في الدنيا، ولا يجدون سبيلا إليه، إما لقصر أيديهم عنه، وإما لنزولهم طوعا عما في أيديهم، إيثارا لدينهم، واستعلاء على متاع هذه الحياة الدنيا الذي لا بقاء له.. أما ما في الجنة من نعيم، فهو مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.

.تفسير الآيات (32- 44):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)}.
التفسير:
الصعيد: التراب.. والزّلق: الذي لا نبات فيه.. والحسبان: المبالغة في الحساب، والمراد به أنه من تقدير اللّه، وأنه واقع بحساب وبقدر.
غورا: أي غائرا، قد انسرب في باطن الأرض.
فى هذه الآيات مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى لرجلين، أحدهما مؤمن باللّه، والآخر كافر به.
فالرجلان بهذا الوضع يمثلان الإنسانية كلها، إذ كان الناس أبدا فريقين:
مؤمنين، وكافرين.. مستجيبين لدعوة الرسل مؤمنين بها، أو منكرين لها، خارجين عليها.. وإذ كان ذلك من كسبهم واختيارهم، فقد استحق كل أن ينال جزاء ما عمل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
والرجلان اللذان تعرضهما الآيات، يقف كل منهما في الجانب الذي اختاره، وحرص عليه، واعتزّ به.
أما الكافر.. فقد وسّع اللّه له في الرزق.. فجعل له اللّه سبحانه وتعالى: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ} وهاتان الجنّتان قد تكونان في قطعتين من الأرض، تنعزل كل منهما عن الأخرى.. فهما في مرأى العين جنّتان، وقد تكونان جنّة واحدة، ولكنها لا تساع رقعتها، تبدو وكأنها جنتان.
والرأى الأول هو المقول به هنا، حيث جاء حديث القرآن عنهما باعتبارهما جنتين، لكل جنة كيانها، واعتبارها.
وقد حفّت هاتان الجنتان بالنخيل، ليكون ذلك أشبه بسور لهما.. إلى جانب الثمر الذي يجيء من هذه النخيل.
وليس هذا، فحسب، فإن بين أشجار العنب زروعا أخرى، من حبّ، وفاكهة، وغيرها.. فهما إذن جنّتان في أعدل بقعة.. تربتها خصبة، وماؤها كثير.. {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً}.
ولهذا كان ثمرهما كثيرا مستوفيا: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم ينقص شيء مما ينبغى أن تعطيه الأرض الطيبة من ثمرات ما يغرس فيها.. ثم إلى جانب هذا كان للرجل مال آخر يثمّره وينمّيه، كالأنعام، وغيرها: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ}.
هذا هو الرجل الكافر.. صاحب خير كثير أفاضه اللّه عليه، ورزق واسع ابتلاه اللّه به.. وكان شأنه- لو عقل- أن يحمد اللّه، ويذكر ما ألبسه من نعمه.
ولكنه لم يفعل هذا، بل كفر باللّه، ولم يوجه إليه وجها، أو يرفع إليه بصرا.
وليته وقف عند هذا، بل لقد استبدّ به الغرور، وركبه الطيش والنّزق، فأخذ يكيد للمؤمنين، ويغريهم بالضلال، ليفتنهم في دينهم.. إذ كانوا مع إيمانهم باللّه، في فقر ومعسرة، وهو مع كفره باللّه، في هذا الغنى الواسع، وذلك الثراء العريض!! فلم الإيمان بهذا الإله إذن؟ وما جدوى التعلّق به إذا كان المتعاملون معه، على تلك الحال من الفاقة والبؤس؟ هذا هو المنطق الذي يبشرّ به هذا الكافر، في الناس، ويحاجّ المؤمنين به.
{فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً}.
هذا موقف من مواقف الفتنة، يلقى بها هذا الكافر بين عينى المؤمن.
إنه أكثر من صاحبه المؤمن مالا وأعزّ نفرا! ولا سبب لهذا إلا لأنه كافر.
وصاحبه مؤمن! ذلك هو منطق من أعمى اللّه أبصارهم وختم على قلوبهم.. يقول لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً} ولو كنت على ما أدين به لكنت مثلى، ولكان لك مالى، من مال، وبنين، وجاه، وقوة! ولم يقف الضلال بهذا الضّال عند هذا، بل لقد أخذ بيد صاحبه، يطوف به في جنتيه، حتى يريه بعينيه هذا النعيم الذي ينعم به من كفر باللّه!!.
ويمضى الرجل المؤمن معه في رحاب هذه الجنات العريضة.. ولعلّ صاحبه قد هيأ له أكثر من مجلس فيها، وأعدّ له أكثر من لون من ألوان الطعام من ثمارها.!
وينتظر الكافر أن تتحرك في نفس صاحبه شهوة إلى هذه الجنات، أو يبدو في عينيه إكبار وإعظام لها ولصاحبها- فلا يرى شيئا من هذا كلّه، يدخل على نفس صاحبه، أو يقارب ما بينه وبينه قيد أنملة.
وهنا، يجيء الكافر إلى صاحبه من ناحية أخرى، فيسمعه بأذنه ما رآه بعينه، لعل الكلمة هنا تفعل مالا تفعله الصورة.. واستمع إلى تصوير القرآن لهذا المشهد، وهو يصف الرجل وقد دخل بصاحبه إحدى جنتيه:
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً}.
هكذا يكيد هذا الضالّ لصاحبه، ويجيء إليه بما يظن أنه يملأ قلبه حسرة وحسدا.. فيتحدث عن جنّته هذا الحديث الذي يتيه فيه فخرا وزهوا، بما يملك بين يديه، من ثراء طائل، وجاه عظيم.. إنه ينظر إلى جنّته كأنه يراها لأول مرة، فيقول: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً}.
ثم ينظر في وجه صاحبه ليرى وقع هذه الكلمة على مشاعره، فيرى استنكارا وامتعاضا، وتعجبا، من هذا الغرور الذي يذهل صاحبه عن بدهيّات الأمور.. فهل رأى هذا الأحمق الجهول، فيما يدور في دنياه هذه، شيئا لا يبيد أبدا؟ وهل هذه أول جنّة كانت في هذه البقعة؟ ألا يجوز أنها قامت على أنقاض دور كانت عامرة، أو جنات كانت خيرا من جنته؟
ولكنّ هذا الغوىّ الضالّ لا يرعوى عن غيّه وضلاله، ولا يجد فيما رأى على وجه صاحبه من أمارات الاستنكار، والاستهجان، ما يمسك لسانه عن هذا الهذيان.. فيتبع قولته: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} بقولة أشنع منها، وأمعن في الضلال.. فيقول: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}! وهكذا يخلى شعوره من كلّ خاطرة تخطر له، عما وراء هذا العالم المادىّ الذي هو غارق فيه!! ويتفرّس مرّة أخرى في وجه صاحبه، ليرى وقع هذه الكلمة عليه، إذ هي ركيزة إيمانه، وأساس معتقده، بعد الإيمان باللّه..! وربّما كرّر هذه القولة مرة ومرة: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}!.. وذلك إنما يقوله ويكرره إمعانا منه في الكيد لصاحبه، والسخرية به، وبالدين الذي يدين به.!
ثم لا يقف هذا الآثم الجهول عند هذا الحدّ، بل يقطع على صاحبه تلك الخواطر التي تنبعث من إيمانه، والتي تمسك به على طريق الإيمان، وتبعث في نفسه العزاء بما سيلقى في الآخرة من جزاء حسن عند اللّه، ذلك الجزاء الذي يزرى بكل ما يملك الناس جميعا في هذه الدنيا من مال ومتاع- فيقول لصاحبه:
{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً}.
فلست وحدك يا صاحبى الذي يذهب بحظّه الذي يؤمّله في الحياة الآخرة.. فأنا كذلك سيكون لى في الآخرة- إن كانت هناك آخرة- حظ خير من حظك، ومقام خير من مقامك.. فكما أنا وأنت في هذه الدنيا على ما ترى، كذلك سنكون في الآخرة على هذا الحال.. أنا صاحب جنات خير من هذه الجنات.. وأنت كما أنت! فالوضع هناك هو الوضع هنا.. تماما كما ننتقل أنا وأنت من بلد إلى بلد.. لن يغيّر هذا الانتقال من حال أىّ منا شيئا! وهكذا يذهب الضلال بأهله إلى تلك المذاهب الممعنة في السّفه والجهالة، فيرون حقائق الأمور مقلوبة على وجوهها، وهم في هذا الوضع المنكوس الذي أقاموا فيه رءوسهم مقام أرجلهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر] ويقول سبحانه: {لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [49- 50: فصلت].
وهنا يأخذ الموقف بين الرجلين وضعا آخر.. فيتكلم المؤمن، ويستمع الكافر.
{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}؟.
فهذا هو محصّل ما وقع في نفس المؤمن من هذا الحديث الطويل، الذي تحدث به الكافر، صاحب الجنتين، المدلّ بجاهه وترائه.. إنه لم يستطع بحديثه هذا، وبما استعرض على الطبيعة من خيرات جنتيه، وما يؤمله في الآخرة من جنات خير منهما- لم يستطع أن يغيّر من موقف صاحبه، أو يؤثر في إيمانه شيئا.. فيلقاه صاحبه بما اعتاد أن يلقاه به، من إنكار عليه لهذا الضلال الذي هو غارق فيه، {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}.
وفى توجيه الخطاب إليه بصيغة الماضي.. هكذا: {أَكَفَرْتَ} بدلا من صيغة الحاضر: {أتكفر} إشارة إلى أن هذا المنكر الذي هو فيه، ليس أمرا مستحدثا عنده، بل هو داء قديم، سكن في كيانه، واستقر بين مسرى الدم من عروقه، لا يغيره شيء.
ولو كان ذلك مما يمكن أن يتغيّر لكان له في هذا الموقف الذي وقف من جنتيه، ورأى فيهما ما رأى من آيات اللّه وآلائه- ما يخفق له قلبه، وترقّ به مشاعره.
وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينا، فوليدا، فطفلا، فرجلا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيها وعجبا- في هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال.. وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه.. ثم- وبسرعة خاطفة أيضا- يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها.. فيقول:
{لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}.
فها هو ذا أنا.. أنا هو الذي تراه أيها الصاحب والذي عرفت موقفه من قبل.. {اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أما أنت فكما رأيت وعلمت!.
فالضمير: {هو} كما أحبّ أن أفهمه- هو ضمير الغيبة، المقابل لضمير الحضور {أنا} المدغم في حرف الاستدراك لكن.
وبهذين الضميرين: ضمير الحضور، وضمير الغيبة، تتحقق للرجل المؤمن صورتان: صورة حاضرة له بعد أن دخل الجنتين، مجدّدة للصورة الماضية التي كانت له قبل أن يدخل مع صاحبه جنتيه.. فهو هو لم يتغير منه شيء، بعد تلك التجربة المثيرة التي أدخله فيها صاحبه، وأراد بها أن يجرّه وراءه، في طريقه القائم على الكفر والضلال!.
وإذ ينكشف كل من الرجلين لصاحبه على هذا الوجه.. يعود المؤمن إلى صاحبه، ناصحا هاديا، لا كما جاء إليه صاحبه مضلّا مغويا.. فيقول له:
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}.
وفى هذا العرض، يكشف المؤمن لصاحبه الموقف الذي كان جديرا به أن يقفه، حين دخل جنّتيه، ورأى فيهما ما رأى من بديع صنع اللّه، وروعة قدرته.. فيقول: {ما شاءَ اللَّهُ} أي هذا ما شاءه اللّه وقدّره لى.. ولو شاء غير هذا لكان.. فسبحانه له الحمد، والشكران.. وليس لى من هذا الذي بين يدى شيء.. فأنا العاجز الضعيف، الذي لا يملك من أمره شيئا.. {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
فما لم يكن للإنسان عون من اللّه، فهو الضائع المخذول.
ثم إذ لم يكن من {الكافر} أن يقول هذا القول، ولم تحدثه نفسه بشيء منه.. لوّح له صاحبه بهذا النذير الشديد، وقرعه بتلك القارعة المزلزلة:
فقال له: انظر إلىّ {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ}.
فذلك ليس بالذي تعجز عنه قدرة اللّه.. فاللّه سبحانه يملك الناس ويملك ما بأيدى النّاس، وبسلطان قدرته، وبتقدير حكمته، يبدّل أحوال الناس كيف يشاء، فيفقر ويغنى، ويذلّ ويعزّ، ويضع ويرفع.. فإذا كنت كما ترانى الآن أقلّ منك مالا وولدا، فغير بعيد على اللّه أن أصبح أو أمسى، فإذا أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا.
وليس الأمر واقفا عند هذا، بل إنه من الممكن أن يقع في يدىّ من المال والبنين أكثر مما معك، ثم إن هذا الذي معك يفرّ من بين يديك، فتلتفت فلا تجد منه شيئا.
وانظر إلى قوله تعالى: {فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}.
ثم أمعن النظر في هذا العطف بين الفعلين: {يؤتين} و{يرسل} حيث تتجلّى من ذلك قدرة اللّه في التبديل والتغيير، ففى الحال التي يرسل اللّه فيها رحمة من رحمته إلى هذا الفقير المعدم، فيلبسه ثوب الغنى، يرسل على هذا الغنىّ ما يذهب بغناه، وإذا هذه الجنة الزاهية الزاهرة ينقضّ عليها {حسبانا} من السماء، أي جائحة، تجيء فجأة، وتهبّ من حيث لا يدرى أحد، فتعصف بها، وتجعلها رمادا! أو يغور هذا الماء المتدفق من هذا النهر الذي يقيم حياتها، فإذا هي وقد جفت شرايين الحياة منها، وأخذت تموت موتا بطيئا بين عينى صاحبها الذي لا يملك لدائها دواء.
والذي تذهب نفسه حسرة مع كل يوم يطلع عليها وعليه.
وقد صدق حدس الرجل المؤمن، وصحّ ما توقعه لصاحبه هذا الذي أطغته النعمة، فنصب للّه الحرب، يقاتل أولياءه، ويصدّهم عن دينه، ويضلّهم عن سبيله.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً}.
وهكذا تجيء الخاتمة، وتحقّ كلمة اللّه على القوم الظالمين.. وإذا هذه الجنة وقد أحيط بها، وشملها البلاء من كل جانب، وإذا صاحبها يقف على أطلالها كما يقف الأب على أشلاء أبنائه، وقد نزلت بهم نازلة أخذتهم جميعا.
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} حسرة وكمدا.. {عَلى ما أَنْفَقَ فِيها} من مال وجهد {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها}.
لا ترقّ لنحيبه، ولا تستجيب لصراخه، بل تظل هكذا خاوية على عروشها، لا تريه منها إلا هذا الموات الذي يزيد في حسرته، ويضاعف من آلامه.
فقوله تعالى: {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} حال كاشفة عن حاله، وهو يندبها، ويقطّع نفسه حسرة عليها، وهى بين يديه جثة هامدة، لا يجدى معها هذا العويل الصارخ، وهذا النحيب المتصل.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} هو حكاية لقوله الذي سيقوله يوم القيامة، يوم يساق إلى موقف أشدّ هؤلاء، وأقسى قسوة من هذا الموقف الذي هو فيه إزاء جنته تلك الخاوية على عروشها.. ففى هذا اليوم تشتد حسرته، ويتضاعف ندمه، ويقول فيما يقول: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
.. ولكن أنّى له أن يصلح ما أفسد؟ لقد فات وقت الندم.
وهل نفعه بكاؤه، وأغنت عنه حسرته في الدنيا، حين أخذ اللّه جنّته، وأرسل عليها حسبانا من السماء، فأصبحت خاوية على عروشها؟ إن يكن ذلك قد ردّ عليه ما فات، فقوله يوم القيامة: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} قد يكون له أثر في إصلاح ما أفسد.. وأما وقد هلكت جنته إلى غير رجعة، فإنه هو أيضا هنا في الهالكين المعذبين في النار، من غير أمل في الخروج مما هو فيه.
ولو كان قوله: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
لو كان هذا قولا قاله في دنياه- كما يقول بذلك بعض المفسّرين- لكان له في هذا القول رجعة إلى اللّه، ولا نتقل به من الكفر إلى الإيمان، فإنه لا زال في دار عمل.
وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً}.
هو تعقيب على موقف هذا الكافر الذي لجّ به كفره.
فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى.. أما في الأولى فقد أهلك جنته أمام عينيه وبين أهله وقومه، وأما في الآخرة: فهو إلى مصير أسوأ من هذا المصير الذي أحرق كبده، وأذلّ كبرياءه.. وليس له هنا أو هناك من فئة ينصرونه، ويحولون بينه وبين أمر اللّه فيه.. {وَما كانَ مُنْتَصِراً} هو بذاته وبما كان يجده في كيانه من عزة وقوة.
وقوله تعالى: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً}.
{هنالك}: الإشارة هنا إلى يوم القيامة، وإلى كل موقف يكون بين الحق والباطل.
والولاية: النصرة، والتأييد، والعون.
والمعنى: أنه في يوم القيامة، حيث يشتد البلاء، ويعظم الكرب، وتدور أعين الناس في كل مدار، باحثين عمن يدفع عنهم هذا البلاء، ويأخذ بيدهم إلى طريق الخلاص والنجاة.. فيتلفت الصديق إلى صديقه، والابن إلى أبيه، والأخ إلى أخيه، والعابد إلى معبوده الذي كان يعطيه كل ولائه، ويفوض إليه كل أموره.. ولكن لا أحد يسأل عن أحد، ولا أحد يعنيه شأن أحد.. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
والمؤمنون باللّه وحده، هم الذين يجدون ولاءهم للّه سبحانه، هو الذي قد خفّ لنجدتهم، في ساعة العسرة، وأخذ بيدهم إلى جانب النجاة.. فكل ولىّ كان للإنسان في دنياه قد فرّ عنه في هذا الموطن، أما من كان ولاؤه للّه، فقد وجد هذا الولاء إلى جانبه، مؤيدا له، وناصرا! فالولاية الحقّ، هي ما كانت للّه، حيث لا تخذل صاحبها أبدا.
أما ولاية غير اللّه، فإنها سراب خادع، إذا جاءه الإنسان لم يجده شيئا.
والضمير {هو} يعود إلى معنى الولاية، وهى الإيمان باللّه، واللجأ إليه، فذلك خير {ثوابا} أي جزاء وخير {عقبا} أي عاقبة، حيث الجنة والنعيم المقيم.