فصل: تفسير الآيات (45- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (45- 49):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}.
فى الآيات السابقة على هذه الآية، ضرب اللّه مثلا لرجلين، أحدهما كافر، والآخر مؤمن، وهذان الرجلان- كما قلنا- يمثلان الإنسانية كلها، فالناس جميعا رجلان: كافر، ومؤمن.. والكافر إنما كانت آفته تلك، من واردات الحياة الدنيا، وزخارفها، والاغترار ببهجتها وزينتها.. وهذا ما كشفت عنه الآيات السابقة، في المحاورة التي كانت بين الكافر وصاحبه، واغتراره بما بين يديه من مال وبنين.
وفى قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} الآية، ما يكشف عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم باللّه رب العالمين.
فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضرّ، وأزهر، وأثمر.
ثم جاء الوقت الذي يحصد فيه.. فإن لم يحصد، قطعت الأرض صلتها به.
فصار هشيما، وحطاما. تذروه الرياح كما تذرو التراب!- {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردّهم بشرا سويّا!.
قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
تشير الآية إلى أبرز لونين وأزهاهما في هذه الحياة الدنيا، التي يفتن الناس بها، ويشغلون بها عن اللّه، وعن الحياة الآخرة، وهما المال والبنون.. وقدم المال على البنين، لأنه المطلب الأول للإنسان، فكل إنسان طالب للمال، وليس كل إنسان طالبا للولد.. فكثير من الناس لا يطلبون الأولاد، بل يعيشون بغير سكن إلى زوجة، ولكنهم جميعا لا يستغنون عن طلب المال.. ومع هذا فإنه إذا حصل الإنسان على الولد، تعلق قلبه به، وكان الولد عنده مقدّما على المال! فالمال والبنون، هما أشدّ مظاهر الحياة فتنة للناس، وأكثرها داعية لهم، وأقواها سلطانا عليهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [15: التغابن].
وفى قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا} إشارة أخرى إلى ما هو خير من الأموال والأولاد، مما يمكن أن يحصّله الإنسان في هذه الحياة الدنيا.. وتلك هي {الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} التي هي الإيمان باللّه، الذي هو رأس الأعمال الصالحة التي أمر اللّه بها من عبادات، ومعاملات، وأخلاق.. فهذا هو الذي يبقى للإنسان، ويجده حاضرا يوم القيامة، أما ما سواه فهو سراب، وقبض الريح لا يجد الإنسان منه شيئا.. {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
ووصف الباقيات بالصالحات، هو عزل لها عن باقيات غير صالحات، وهى المنكرات التي عليها أهل الضلال والكفر، إذ هي باقية لهم يجدونها يوم القيامة، ويجدون منها الحسرة والندامة قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} الواو هنا للاستئناف، لعرض صورة للحياة الآخرة، التي أشارت إليها الآيات السابقة تلميحا في قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} حيث أن هذه الباقيات الصالحات لا تتجلّى آثارها كاملة، إلا يوم القيامة.
وفى هذا اليوم تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.. فتسيّر الجبال وتزول عن مواضعها، حيث تسوّى بالأرض. وإذا الأرض كلها بارزة أي عارية، لا يخفى منها شيء، وإذا الناس جميعا قد حشروا بعد أن خرجوا من قبورهم، ولم يترك منهم أحد.
قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}.
بيان لعرض الناس على اللّه بعد الحشر، وفى هذا العرض يكون الحساب، ثم الجزاء، حيث يلقى كل عامل جزاء ما عمل.. من خير أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [7- 8: الزلزلة].
وفى قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا}.
إشارة إلى أن هذا العرض الذي يجمع الإنسانية كلها، والخلائق جميعها، هو عرض ينكشف فيه كل إنسان، ويظهر فيه كل مخلوق، فلا يختفى أحد في زحمة هذه الجموع الحاشدة.
فهم جميعا في عين القدرة صفّ واحد، يأخذ كلّ مكانه، ويلقى حسابه وجزاءه.. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} [18: الحاقة].
وفى قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
إشارة إلى أن الناس يجيئون يوم القيامة ولا شيء معهم، مما كان لهم في الحياة الدنيا، من مال وبنين، وما كان بين أيديهم من جاه وسلطان.. لقد جاءوا عراة حفاة، عزلا من كلّ شيء، ضعافا، مجردين من كل قوة، كما ولدوا عراة، حفاة، لا شيء معهم!- وفى قوله تعالى: {أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
إشارة إلى الخلق الأول للإنسان، وهو خلق الميلاد.. وفيه إشارة أيضا إلى أن الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى الصبا والشباب، والكهولة والشيخوخة.. وإلى ما يجدّ للإنسان في هذه الأطوار من أحوال التملك، والتسلط، وغيرها- إنما هي جميعها من تدبير اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، ومن صنيعه به.. فكأنه في تنقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، هو خلق جديد له.. غير الخلق الأول الذي ولد به! ولكن البعث إنما يكون على صورة أشبه بصورة الميلاد، من حيث التعرّى من كل شيء ملكه الإنسان في الدنيا.
وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً}.
هو خطاب خاص موجّه إلى أولئك الذين أنكروا البعث: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [38: النحل].
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
الكتاب هنا، هو الكتاب الذي سجّلت فيه الأعمال- كل الأعمال، الصالحة، والسيئة.. كما يقول سبحانه: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [10: التكوير].. حيث ينكشف لكل إنسان عمله، من خير أو شر.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [6- 8: الزلزلة].
ويعجب الّذين كانوا لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، مما يطلع عليهم به هذا الكتاب.. لقد أحصى عليهم كل شيء.. ويقولون: {ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها}.
إنهم ما كانوا يحسبون أن شيئا من هذا سيقع، وأنه إذا وقع فلن يكون على تلك الصورة التي فضحت كل شيء كان منهم في دنياهم.. {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية].

.تفسير الآيات (50- 53):

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة قد عرضت الناس بين يدى اللّه يوم القيامة، فإذا هم مؤمنون، وكافرون.. مؤمنون قد آمنوا باللّه، واستجابوا لدعوته على يد رسله، وكافرون قد خرجوا عن أمر اللّه، وعصوا رسله.. وهنا صورة في الملأ الأعلى، تشبه هذه الصورة التي وقعت في الأرض.
حيث جاءت دعوة اللّه إلى الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا امتثالا لأمر اللّه.. ولكن كائنا من كائنات الملأ الأعلى قد غلبت عليه شقوته، ففسق، أي خرج عن أمر ربّه، وأبى أن يسجد!! فطرده اللّه من الملأ الأعلى، وألقى به إلى العالم الأرضى، صورة للتمرد والعصيان، ودعوة من دعوات الإغواء والإفساد والفسوق عن أمر اللّه، إلى جانب الدعوة التي يحملها رسل اللّه إلى الناس بالهدى والإيمان.
وفى قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} تحذير للناس من هذا العدوّ، الذي لعنه اللّه وطرده من رحمته- تحذير لهم من أن ينقادوا له، فمن انقاد له فقد فسق، أي خرج عن أمر ربّه، كما فسق هذا الرجيم الملعون عن أمر ربّه، وكان وضعه في المجتمع الإنسانى المؤمن، كوضع إبليس من الملائكة.
وفى قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} إشارة إلى هذا الخسران المبين الذي لحق أهل الضلال الذين استغواهم الشيطان فغووا، وخيّروا بين الهدى والضلال، وبين اللّه والشيطان.. فانحازوا إلى جانب الشيطان وركبوا معه مركب الغواية والضلال.
قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} ضمير النصب في قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ} يراد به أولئك المعبودون، الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه! فهؤلاء المعبودون أيّا كانوا، هم ممن زيّن الشيطان للنّاس عبادتهم، حيث أضلّهم، وأعمى أبصارهم، ثم دعاهم فاستجابوا له، وعبدوا من المعبودات من صوّره لهم، وأراهم فيه الإله الذي يعبدونه.. ومن هنا صح أن يكون كلّ من عبد غير اللّه، عابدا للشيطان، أصلا، وإن كان في واقع الأمر عابدا صنما، أو إنسانا، أو ملكا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [40- 41: سبأ].
وفى قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تشنيع على أولئك الذين يعبدون غير اللّه، ويستجيبون لدعوة إبليس، وذريته.. فإن إبليس لم يكن هو وذريته إلا خلقا من خلق اللّه، وأنهم ليس لهم سلطان مع اللّه، فما شهدوا خلق هذا الوجود، وما فيه من سموات وأرضين، بل إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم.. إذ كيف يشهد المخلوق خلق نفسه؟ وإذن فما سلطان هؤلاء المخلوقين على الناس، وهم خلق مثلهم؟ وكيف يقبل مخلوق أن يستدلّ لمخلوق مثله، بل ويعبده، من دون اللّه؟.
وفى قوله تعالى: {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} عرض لإبليس وذريته في هذه الصورة الساقطة من بين المخلوقات جميعا، وأنهم مضلّون، مفسدون.. وأنه إذا جاز أن يتخذ اللّه سبحانه وتعالى من خلقه عضدا، أي معينا- وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا- فإنه لن يتخذ أرذل خلقه، وأبعدهم من رحمته.. إنه لا يستقيم أبدا أن يقرّب الإنسان أبغض الناس إليه، ويتخذهم أعوانا له، وبين يديه من هم أحباؤه، وأصفياؤه، وأهل ودّه؟ فكيف باللّه سبحانه وتعالى، وبحكمته وعلمه بخلقه؟
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}.
الموبق: المهلك، وهو هنا النار التي يلقى فيها المشركون.
وهذه الآية عرض عام لما يكون بين المشركين، وبين من اتخذوهم شركاء من دون اللّه، حين يجدّ الجدّ، وتقع ساعة الحساب.. عند ذلك ينادى منادى الحق على هؤلاء المشركين: أن ادعوا شركاءكم الذين زعمتم، أي الذين اصطنعتموهم من مزاعم أوهامكم وظنونكم.. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}.
بل أنكروهم، وأنكروا أن لهم صلة بهم.. أو لم يستجيبوا لهم أصلا، إذ كان ما عبدوه وهما باطلا، لا وجود له.. {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} أي جعلنا بين المشركين وبين من أشركوا بهم {موبقا} أي حاجزا من النار يلقى فيها هؤلاء المشركون، دون أن تمتد إليهم يد من هؤلاء الشركاء الذين كانوا يعبدونهم، ويلقون إليهم بالمودة والولاء، فهذا الذي كان بين المشركين وبين معبوداتهم من ولاء ومودة، قد صار هلاكا، ووبالا، ونارا تلظّى! وفى قوله تعالى: {شُرَكائِيَ} بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، مع أنهم ليسوا شركاءه على الحقيقة- في هذا عرض لتلك الجريمة الشنعاء على أعين هؤلاء المجرمين، ليروا في هذا الموقف ماذا كان منهم من منكر غليظ، إذ جعلوا للّه شركاء! إن ذلك أشبه بعرض جثة القتيل على قاتله، وهو مقود إلى القصاص منه، حتى يعاين من ذلك، الحال التي سيصير إليها، وهى أن يقتل كهذه القتلة! قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً}.
المجرمون هنا، هم هؤلاء المشركون، الذي عرضوا في هذا العرض الذي جمع بينهم وبين من أشركوا بهم من دون اللّه.. فقد أمروا أن يدعوا شركاءهم، فلما دعوهم ولم يستجيبوا لهم، تلفتوا فإذا هي النّار بين أيديهم.. فلما رأوها ظنوا أنهم واقعون فيها.. وقد صدق ظنهم في هذه المرة، وأصبح يقينا واقعا.
إذ لا مصرف لهم عنها، ولا نجاة لهم من الوقوع فيها.

.تفسير الآيات (54- 59):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)}.
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف الذي جاءت به الآيات السابقة، لمواقف المؤمنين والمشركين، وأولياء الرحمن وأتباع الشيطان، وما يرى هؤلاء وأولئك من جزاء في الآخرة- بعد هذا، تعود آيات القرآن الكريم، فتلتقى بالمشركين من أهل مكة مرة أخرى، وتذكرهم بما يتلى عليهم من آيات اللّه.. فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بقوله تعالى: {هذَا الْقُرْآنِ} وهو معروف لهؤلاء المخاطبين- تنويه بشأن هذا القرآن، وبمقامه العالي الرفيع، الذي لا يراه إلا من رفع رأسه عن تراب هذه الأرض، واستشرف ببصره إلى مطالع الحق في آفاقه العليا، عندئذ يأخذ الإنسان الوضع الذي يمكن أن يرى فيه من معالم الوجود، ما لم يكن يرى منها شيئا، وهو ينظر إلى موقع قدميه! والتصريف: هو الإرسال، والبعث، والسوق.. ومنه تصريف الرياح، وهو هبوطها من أكثر منه؟؟؟.. وتصريف الأمثال: سوقها، وبعثها، مثلا بعد مثل.
وكلّ مثل فيه العبرة والعظة، وفيه ما يفتح للعاقل الطريق إلى الحقّ والهدى.. فكيف وهى أمثال كثيرة، تلتقى مع كل عقل، وتتجاوب مع كلّ فهم.. ولكن الجدل والمراء، آفة الإنسان، والحجاز الذي يحجز عقله عن أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين النور والظلام! {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.
.. فتلك هي بليّة الإنسان، ومضلّة الضالين، ومهلك الهالكين، من أبناء آدم.
قوله تعالى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا}.
الناس هنا، ليسوا مطلق الناس، ولكنهم المكابرون المعاندون، الذين غلبت عليهم شقوتهم، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يصيخوا لصوت الدّاعى الذي يدعوهم إليه، وهم مشرفون على هاوية سحيقة تلقى بهم في مهاوى الهلاك.. والهدى الذي جاءهم: هو القرآن الكريم.
فهؤلاء الأشقياء الضالون، لم يمنعهم مانع من خارج أنفسهم أن يؤمنوا، ويستغفروا ربّهم على ما فرط منهم في جنب اللّه، وفى جنب رسل اللّه- ما منعهم من ذلك إلا ما ركّب فيهم من عناد عنيد وجدل سقيم، وأنهم- وهذا شأنهم، وتلك حالهم- لن يؤمنوا {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} وهى وقوع البلاء بهم، وأخذهم بما أخذ اللّه به الضالين المكذبين قبلهم، من هلاك مبين، لا يبقى لهم أثرا.. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} أي أو حين يطلع عليهم العذاب فيرونه عيانا، مقبلا عليهم، كما رأى فرعون الموت مقبلا عليه.. فقال: آمنت! ففى النظم القرآنى الذي جاءت عليه الآية حذف، يدل عليه السياق.
وتقديره: {وما منع الناس شيء أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم} ولكنهم لن يؤمنوا {إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}.
قوله تعالى: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً}.
أي إنه ليس هناك قوة خارجة عن كيان الإنسان ترغمه على الإيمان باللّه.
وإن رسل اللّه الذين أرسلوا لهداية الناس، ودعوتهم إلى الحق، لا يملكون هذه القوّة التي تحمل الناس حملا على الهدى، وتكرههم إكراها على الإيمان:
{وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} فتلك هي مهمّة الرسل، وهذه هي وظيفتهم في أقوامهم.. يبلغونهم رسالة ربهم، وما تحمل إليهم من مبشّرات ومنذرات.
وفى قوله تعالى {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} بيان لموقف المعاندين الضالين، من دعوة الرسل، وأنهم يلقون رسالة اللّه، ودعوة الرسل بالمراء والجدل، وليس بين أيديهم في هذا الجدل، إلا الباطل يرمون به في وجه الحق، يريدون به أن يدحضوه، أي يوقعوه ويهزموه.
وفى قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً} تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يسخرون بآيات اللّه، ويهزءون برسله، وبما ينذرونهم به من عذاب اللّه، فيقولون فيما يقولون: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [32: هود].
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} وإنه لا أظلم من إنسان جاءه من يذكّره بآيات ربّه- وكان من شأنه بما معه من عقل أن يذكر آيات ربّه المبثوثة في هذا الوجود، ويتهدّى إليه، ويؤمن به- من غير أن يدعوه أحد {فَأَعْرَضَ عَنْها} وأصمّ أذنه عن الاستماع إليها، {وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} من آثام وضلالات.
إنه لهو الظلم أعظم الظلم، وهو الضلال أظلم الضلال، أن يقع الإنسان في الوحل، ثم يجيء من يمدّ يده إليه لاستنقاذه، بعد أن يكشف له الحال الذي هو فيه، فيأبى أن يسمع، ويمتنع أن يجيب!.
وانظر إلى تلك المنّة العظيمة، بإضافة هذا الإنسان الجحود، إلى ربّه واستدعائه إليه باسمه تعالى: وبآلائه التي يضفيها عليه، وهو يأبى إلا نفورا، وإلا إمعانا في الكفر والضلال!.
وفى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} بيان للعلة الكامنة في هؤلاء الضالين، الذين أعرضوا عن آيات اللّه، واتخذوا آياته وما أنذروا به هزوا، وتلك العلّة هي أن اللّه سبحانه وتعالى- لحكمة أرادها- قد جعل على قلوبهم {أكنّة}، أي حجبا تحجبها عن الهدى، وأن تفقه آيات اللّه، وجعل في آذانهم {وقرا} أي صمما، فلا تسمع ما يتلى عليها من آيات اللّه.. فهم لهذا لن يهتدوا أبدا: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة].
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} [23: محمد].
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}.
الموئل: الملجأ، والمهرب.. والخطاب للنبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وفحوى الخطاب مراد به قومه.. وإذ كشفت الآية السابقة عن جحود الإنسان، وكفره بآلاء ربّه، وإعراضه عن الاستماع لدعوته إليه- فقد جاءت هذه الآية لتكشف عن سعة رحمة اللّه ومغفرته لعباده، وهم على حرب معه ومع أوليائه.
فقد وسعتهم رحمته، ومغفرته، فلم يعجل سبحانه وتعالى لهم العذاب، ولم يأخذهم بما هم أهل له من نقمة وبلاء، كما أخذ الأمم السابقة من قبلهم، بل أمهلهم، وأفسح لهم المجال لإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، والرجوع إلى ربهم من قريب.
وهذا- ولا شك- من خصوصيات هذه الأمة، التي اختصها اللّه بها، تكريما لرسوله الكريم، حيث يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال].
وأكثر أنبياء اللّه ورسله، قد شهدوا بأعينهم مصارع أقوامهم.. ولكن هذه الأمة قد عافاها اللّه من هذا الابتلاء، وأكرم نبيّها فلم يفجعه في أهله وقومه.
وكان من تمام هذه النعمة على النبي الكريم وعلى أمته، أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدع هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى رأى بعينيه قومه جميعا يدخلون في دين اللّه أفواجا، ورأى العرب جميعا أمّة مؤمنة باللّه، وحتى تلقى من ربّه- سبحانه وتعالى- هذا الثناء العظيم على أمته بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران] وفى قوله تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} إشارة إلى أن مغفرة اللّه ورحمته، لا يدفعان بأسه عن القوم المجرمين.. فهناك حساب، وهناك جزاء، توفى فيه كل نفس ما كسبت.. وليس لأحد سبيل إلى الفرار من هذا الحساب، وذاك الجزاء!.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.
الإشارة هنا، إلى تلك القرى التي أهلكها اللّه من قبل، كقرى عاد، وثمود، ولوط.. فهذه القرى وغيرها ممن كفروا بآيات اللّه وعصوا رسله، قد أهلكهم اللّه، وعجّل لهم العذاب في الدنيا، ولم يمهلهم كما أمهل أهل هذه القرية مكة والقرى التي حولها، رحمة منه سبحانه وإكراما لنبيه الكريم.. وفى هذا تهديد لمشركى مكة، وإلفات لهم إلى أنهم واقعون تحت حكم القوم الهالكين، فتلك هي سنة اللّه التي قد خلت في عباده، لمن كفروا باللّه، وعصوا رسله.. وقد كفر أهل مكة باللّه، وعصوا رسله.. وإن فيما أخذ اللّه به القرى الظالمة من قبلهم لعبرة لهم.. وعلى هذا فإنه وإن أمهل اللّه أهل هذه القرية، فلم يعجل لها الهلاك، فإنهم هالكون لا محالة: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}.
فالضمير في {لِمَهْلِكِهِمْ} يعود إلى أهل مكة، وهو أولى من عوده إلى أهل القرى المشار إليها في أول الآية.. إذ كان قوله تعالى: {لَمَّا ظَلَمُوا} يحمل معه الموعد الذي أهلكوا فيه، وهو عند ظلمهم وكفرهم باللّه، وعدوانهم على رسلهم.. فعود الضمير إلى أهل مكة الذين أشار إليهم قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}.
أولى من عوده على أهل القرى، إذ يحقق معنى جديدا، فيه تهديد لمشركى مكة، وقطع لآمالهم في هذه الحياة، وتصحيح لظنونهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، وأنهم ليسوا خالدين في هذه الدنيا.