فصل: تفسير الآيات (65- 78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (65- 78):

{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)}.
التفسير:
فى هذه الآيات تبدأ أحداث هذا الحدث العظيم الذي كان موسى على موعد معه، والذي من أجله قطع هذه الرحلة المثيرة، واحتمل ما احتمل من جهد وعناء.
وهنا يلتقى الرجلان: موسى والعبد الصالح، ويقول المفسّرون، والمحدّثون عن هذا العبد الصالح إنه الخضر الذي يصفونه بصفات عجيبة، هي من بعض واردات ما تشير إليه الآيات، والتي يبدو فيها أستاذا كبيرا يعلّم نبيّا من أنبياء اللّه.
والقرآن الكريم، لم يتحدث عن هذا العبد الصالح أكثر من وصفه بأنه عبد من عباد اللّه، آتاه رحمة منه، وعلمه من لدنه علما.. ولا شك أن هذا الوصف يضفى على صاحبه من الألطاف الربانية ما يرفع مقامه إلى أعلى عليّين، حيث يشهد من عالم الغيب ما لم يظهر اللّه سبحانه عليه أحدا إلا من ارتضى من عباده.
أما ما ذهب إليه أكثر المفسّرين من مقولات في الخضر وفى أن يملأ هذه الدنيا حياة وأنه يطوف بآفاق الأرض، ويردّ السلام على كل من يسلّم عليه، وأنه يظهر لبعض الناس ويتحدث إليهم.. فذلك كلّه من وراء ما تحدث به آيات القرآن الكريم.
وهذا اللقاء الذي وقع بين موسى والعبد الصالح لم يدم طويلا، ولم تجر فيه بينهما إلا أحداث ثلاثة، أوقعت بينهما خلافا حادّا، ثم انتهت بفراق.
ويبدأ اللقاء بين العبدين الصالحين، بأن يعرض موسى على صاحبه أن يقبله تابعا له، يتعلم من علمه، ويغترف من بحره.. وذلك في تواضع كريم وأدب نبوىّ عظيم.. فيقول:
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.
وفى هذا العرض أمور:
1- استئذان مصحوب برجاء، وتلطّف.
2- أن يكون موسى تابعا يقفو أثر متبوعه، ويمشى في ظله.
3- أن تكون غاية هذه الصحبة، وتلك المتابعة، تحصيل العلم والمعرفة، فيفيد موسى علما، وينال العبد الصالح أجرا.
4- هذا العلم الذي عند العبد الصالح ليس من ذات نفسه، بل هو علم علّمه، وإذن فهو مطالب بأن يعلّم كما علّم.
5- هذا العلم المطلوب تعلّمه، هو مما يكمل به الإنسان ويرشد.. فهو علم يهدى إلى الحق، وإلى الرشاد، لا إلى الضلال والفساد.
ويستمع العبد الصالح إلى هذا العرض من موسى، فيرى أن العلم الذي عنده، والذي يطلب موسى تناول شيء منه، هو علم لا يستسيغه عقله، ولا يقبله منطقه، فيقول له في وداعة ولطف:
{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}؟
أي إن العلم الذي معى، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك، إذ يرفضه عقلك، ويتأبّى عليه منطقك.. والعلم الذي يفيد صاحبه، هو العلم الذي يحيط به عقله، وتتسع له مداركه، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان.. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع، وأثار في النفس قلقا، واضطرابا، وعقد في سماء الفكر، سحبا من الشكوك والريب.
وإذ يتلقّى موسى هذا الرد، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل.. ولكنه لابد أن يمضى في التجربة إلى غايتها، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر، ولو خاطر بنفسه.. فقال في أدب نبوىّ رفيع:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً}.
هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل.
وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم.
فيقول:
{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}.
أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت، ولا تنطق بكلمة، ولا تنبس ببنت شفة، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه.
وهنا تبدأ الرحلة، في رحاب هذا العلم الربّاني.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها}.
وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ سلطان على نفسه.. فيصرخ في وجه أستاذه قائلا:
{أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}!! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء.. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر.
ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، في رفق ولطف.
فلا يزيد على أن يقول له:
{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا في أدب كريم:
{لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}.
أي هذه هفوة فتجاوز لى عنها.. وخذنى برفق، ولا تشتدّ علىّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه علىّ من علمك.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ}! وهذه فعلة أشد من سابقتها وقعا، وأفدح خطبا، وأنكر نكرا.
إذ كانت الأولى في متاع من متاع الدنيا.. أما هذه، فقد وقعت على نفس إنسانية بريئة براءة الطفولة.. لم تقترف إثما، ولم تأت منكرا.. ومن أجل هذا ينسى موسى وجوده كلّه، ولا يذكر الشرط الذي بينه وبين صاحبه، ولا يلتفت إلى زلّته التي زلّها منذ قليل مع أستاذه، واعتذاره له.. فيصرخ صرخة عالية مدوّية:
{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}.
هكذا يلقى في وجه أستاذه بهذا الاتهام الصريح.. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} وكان في المرة الأولى قد لقيه بالاتهام في مواربة وعلى استحياء: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}.
فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن أن يقوم لها- حسب تقديره- عذر أبدا.. وإن كان يمكن أن يقام لخرق السفينة- ولو على سبيل المراء والجدل- عذر.
وهنا، يأخذ الأستاذ تلميذه بشيء من الشدّة، والتأنيب.. فيقول:
{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}؟ ففى كلمة {لك} نخسة قوية، ويد تمتد إلى موسى من صاحبه فتعرك أذنه! ولا يجد موسى أمام هذا البعد البعيد الذي بين منطلقه ومنطلق صاحبه، إلا أن يحسم الموقف، ويقطع الشوط الذي إن طال بينهما إلى أبعد من هذا المدى، لم تحمد عاقبته، وربما تصارعا، وتقاتلا إذ لم يعد اللسان أداة قادرة على سدّ هذه الثغرات الهائلة بينهما.. فيقول:
{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}.
لقد وجد موسى لصاحبه العذر في ضيقه به، ولومه له.. إنه قد صحبه على شرط، وها هو ذا يخرق الشرط مرة، ومرة.. وهو بسبيل أن يخرقه مرات إذا طال الطريق بهما.
{فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ}.
وهذا عمل لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.. قرية، ينزلان بها، ويطلبان إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان، فلا يجدان منهم إلا الصدّ، والدّفع.
قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية، وذهبت منها كل معانى المروءة.. ومع هذا يجدان فيها خربة، لا يأوى إليها إلا الهوامّ، فيغشيانها، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها.. ثم يريان فيها جدارا {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قد تصدّع بنيانه، وارتعشت أوصاله، وكاد يهوى إلى الأرض.. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته، فيقيم هذا الجدار المتداعى، وإذا هو وقد دبت الحياة في كيانه، فثبتت قواعده، واعتدل قوامه!! ويرى موسى هذا، فيعجب ويدهش، ويفيض به الكيل، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر في صدره من مشاعر الغيظ والألم.. فيقول لصاحبه:
{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}؟
وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده.. ولكنّه، وقد عرف أن تلك هي الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة، التي حرص عليها، وتوقع العلم الكثير المفيد منها- يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه، ولم يحصّل علما، ولم يفد معرفة، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات، التي يقع كثير منها في كل لحظة من لحظات الحياة، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، على مختلف مستوياتها.
نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا، فلا يحتسبها عليه، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما، فيمضى به إلى غاية أخرى، لعلها تكشف له علما، أو تجيء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه! ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة، بل يأخذها كما هى.. إنها اعتراض ولا شك، وإنها خروج على الشرط الذي اشترطه على صاحبه: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}! وهنا يسمعها موسى منه.. حكما قاطعا: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}!.
فقد بلغ الأمر بينهما غايته، ولم يعد ثمة أمل في أن يلتقيا على طريق واحد.
ولكن.. لم كان هذا العناء الذي عاناه موسى، حتى التقى بهذا الرجل الذي قيل له إنه سيجد عنده من العلم ما لم يجده عند غيره؟ فأين هو هذا العلم؟
إن يكن ما حصّله موسى من تلك التجربة، هو هذا الذي وقع في نفسه من أحداثها.. فما أغناه عن هذا العلم، الذي بلبل خاطره، وشتت مجتمع رأيه، وألقى فيه ما ألقى من وساوس وظنون! وإنه ما يكاد موسى يستمع إلى شيء من هذه الخواطر، حتى يطلع عليه صاحبه بقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}! أهكذا الأمر إذن؟
أهناك نبأ وراء هذه الأحداث، غير ما يحدّث به ظاهرها؟ وماذا عسى أن يكون هذا النبأ؟
وإنه لنبأ عظيم! سنرى فيما ينكشف منه علاجا لقضية من أعقد القضايا التي واجهها العقل الإنسانى، وهى مشكلة القضاء والقدر.
التي نرجو أن نعرض لها- إن شاء اللّه- بعد أن نرى تأويل العبد الصالح لموسى {ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.

.تفسير الآيات (79- 82):

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)}.
التفسير:
كان لابد للمعلّم أن يكشف لتلميذه عن خفايا هذه التجربة المثيرة، التي أراه منها ظاهرا لا يستقيم على أي منطق، ولا يتفق مع أي عاقل، ولا يلتقى مع تقدير أي إنسان سليم الإدراك.. إنها أمور تدور لها الرءوس، وتضطرب معها العقول.. وإن موسى لفى حيرة بالغة من أمر صاحبه هذا، الذي جاءه ليطلب العلم عنده، بتوجيه من ربّه.. وحيا، أو إلهاما! وقد فعل المعلم ما تقضى به الحكمة، ويعتدل به ميزان التربية السليمة- فلم يدع تلميذه نهبا للوساوس والشكوك، بل إنه ما كاد يؤذنه بالفراق، وبإنهاء هذه التجربة التي أدخله فيها، حتى أخذ يشرح له حقيقة الموقف، ويكشف له عن الوجه الخفيّ من كل حدث من تلك الأحداث الثلاثة.. فكانت قولته له: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} مشفوعة بقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.
وهنا في هذه الآيات، تأويل كلّ حدث منها.
وفى كلمة تأويل إشارة إلى أن هذه الأحداث- كما بدت في ظاهرها- لا تعدو أن تكون أشبه بالأحلام، التي لها مفهوم يغاير منطوقها في صورته، وأن هذا المفهوم لا يعلمه إلا اللّه والراسخون في العلم، وذلك كتأويل يوسف لرؤيا الملك، التي عجز العلماء عن تأويلها، وقالوا: {أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ} [44: يوسف] فالأحداث التي أجراها العبد الصالح بين يدى موسى أشبه بهذه الرّؤى، وإن كانت أبعد في المفارقة، بين منطوقها ومفهومها.
وتأويل الحدث الأول، هو كما يقول العبد الصالح: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}.
هكذا الأمر إذن؟
إنه كما يبدو الآن عمل من أعمال البرّ والرحمة لأصحاب السفينة.. وقد كان يرى من قبل عدوانا عليهم، وظلما صارخا لهم.
إن هذا الخرق الذي أحدثه العبد الصالح في السفينة، قد جعلها سفينة معطوبة، معيبة، لا تصلح للغرض الذي من أجله كان الملك يستولى على السفن، وينتزعها من يد أصحابها، قهرا وقسرا.. وبهذا تخطّت عين الملك هذه السفينة، حين رآها على تلك الحال، وبهذا أيضا سلمت السفينة من هذا العدوان، وبقيت في أيدى أصحابها المساكين، الذين يعملون عليها، ويرزقون منها.
أما هذا العطب الذي لحق بالسفينة- أيّا كان- فإنه ممكن إصلاحه.
وفى قوله: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ} لا تعنى كلمة {وَراءَهُمْ} أن الملك نفسه كان على أثرهم، وإنما تعنى أن سلطان الملك قائم عليهم، كما في قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ} [16: إبراهيم] أي أنها مسلطة على هذا الظالم، محيطة به، لا يفلت منها.
هذه واحدة! وقد تلقّاها موسى بأذن واعية، وقلب متفتّح.. فأشرق وجهه، ولمعت عيناه ببريق السّكينة والرضا.. ثم ها هو ذا يصبح كلّه كيانا مستمعا لما يقول صاحبه، في أمر هذا الغلام الذي سفك دمه، من غير ذنب ظاهر! ويجيئه الجواب في غير مهل: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}.
ويقع في نفس موسى شيء من هذا التأويل.!
إنه تأويل مستند إلى احتمالات المستقبل، وقائم على توقعات يمكن أن تقع أو لا تقع!! وكيف لموسى أن يتحقق من إرهاق هذا الغلام لوالديه- بعد أن يكبر- بما يكون منه من طغيان وفجور، وإفساد في الأرض، وكفر باللّه؟
وكيف يحكم على هذا الغلام البريء بما سيكون منه بعد سنين؟ إن ذلك مجرد فرض يفترض! وأكثر من هذا، فإن كلمة {فخشينا} تشعر بأن العبد الصالح نفسه لا يرى الأمر أكثر من مجرد احتمال غير متيقّن.. إنه مجرد خشية.. والخشية قد تقع، وقد لا تقع! ولكن يقوم بين يدى موسى شاهد يدفع هذه الوساوس، ويذهب بتلك الشكوك.
فأولا: لقد رأى السفينة التي أعطيها صاحبه، قد سلمت من يد الملك، على حين أخذ كل السّفن التي كانت صالحة للعمل، مثلها، قبل أن يصيبها العطب! فهو إذ يجيء إلى أمر الغلام وما يقال فيه، إنما يجيء إليه ومعه هذا الشعور الذي ملأ قلبه طمأنينة وتسليما لصاحبه، الذي يرى ما لا يراه.
وثانيا: كان موسى يعلم مقدّما أنّه بين يدى عبد من عباد اللّه الصالحين، قد آتاه اللّه من العلم ما استحقّ به أن يكون أستاذا لنبىّ من أنبياء اللّه.
اصطفاه اللّه لرسالته، وكلّمه تكليما مباشرا، بلا واسطة.. فإنّ من كان هذا شأنه، لا يتّهم في أخباره، وأفعاله، وإن احتاج المرء إلى تأويلها، وتوضيحها، حتى يطمئن قلبه، وتسكن وساوسه.
وثالثا: يعرف موسى عن يقين أن وراء تحركات الأحداث قوة قادرة قاهرة، هي التي تضبط حركاتها، وتجرى بها إلى قدر معلوم، سواء أكان ذلك مما يتفق مع تقدير الناس لمجريات أمورهم، ومنطلقات سعيهم، أولا يتفق.
وعلى هذا، فإنه ليس بالبعيد المستغرب- عند موسى- أن يكون هذا الذي كرهه من صاحبه وعدّه شرا، هو أمر محبوب في عاقبته، خير في مآله الذي يؤول إليه.
فإذا كان قد وقع في نفس موسى شيء من هذا التأويل لمقتل الغلام، فإن في نفس موسى أيضا كثيرا من قوى الإيمان التي تدفع هذه الشكوك التي ساورته.
وأما قول صاحبه: {فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً}.
فإنه محمول على أمرين:
أولهما: أن هذا الغلام الذي هو شرّ كلّه، وبلاء على الإنسانية، بما يحمل في كيانه من طغيان، وفساد، وكفر- هذا الغلام- وذلك شأنه- إن تأذّى به المجتمع الذي يعيش فيه، فإن ما ينضح منه من الأذى النفسىّ على أبويه المؤمنين، هو أضعاف مضاعفة لما يجده غيرهما من شروره وآثامه، إذ كان هو غرسهما الذي غرساه، وكان الشرّ الواقع على المجتمع منه، هما- لسبب أو لآخر- شركاء فيه.
فالخشية التي يصورها العبد الصالح هنا، هي خشيته على هذين الأبوين الصالحين المؤمنين، وما يدخل على قلبيهما من حسرة وكمد على مصابهما في ابنهما هذا، ثم في مصاب الناس به.. وإذا كان ذلك لم يقع بعد، فهو مما يخشى أن يقع لو ترك الغلام يأخذ مسيرته في الحياة.. والخشية لا تكون إلا مما لم يقع، لا مما وقع.
وثانيهما: أن هذا الغلام، هو بلاء على نفسه، وأنه نبتة سوء، لو تركت حتى تبلغ مداها، لأوردت صاحبها موارد الهالكين.. فكان موته في هذه المرحلة من عمره رحمة به، إذ عاجله الموت قبل أن يبلغ مبلغ التكليف، وقبل أن يأتى ما كان يمكن أن يأتى به من آثام.. فالخشية هنا، خشية منه، كما أنها خشية عليه.
أما عزاء هذين الأبوين الصالحين المؤمنين عن فقد هذا الغلام، فهو ما كشف عنه العبد الصالح في قوله: {فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}.
والزكاة: الطهر، والنقاء، والصلاح والتقوى.
والرّحم: الرحمة التي تكون بين المتراحمين، من أبناء وآباء، وإخوة وأصدقاء.
فهذا الولد الذي سيرزقه هذان الأبوان خلفا لابنهما القتيل، سيكون لهما فيه قرة عين، وأنس نفس، ومسرة قلب.. مما يريان فيه من صلاح وتقوى، وما يجدان منه من برّ بهما، وإحسان إليهما.
ثم إن بين يدى موسى- مع هذا كله- مثلا ماثلا له، فيما كان بين نوح وابنه.. فقد جعله اللّه سبحانه وتعالى في المغرقين، ولم يقدّر له أن يكون في الناجين المؤمنين.. لقد أغرقه اللّه أمام عينى أبيه.. وكان العزاء الذي عزّى اللّه سبحانه وتعالى به نوحا، قوله سبحانه له،: {يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ}!! (46: هود) فماذا يبدو من فرق بين هذا الغلام الذي قتله العبد الصالح، وبين ابن نوح الذي أغرقه اللّه؟.. إنه القدر الذي أجرى حكمه على هذين الابنين، ولم ينكشف أمر القدر لنوح إلا بعد أن أنبأه اللّه في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ}.
تماما كما لم ينكشف أمر القدر لموسى إلا بعد أن أنبأه العبد الصالح بقوله: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}.
بقيت مسألة الجدار!.
ويبدو وجه اللقاء بين ظاهرها، وباطنها بعيدا، أبعد من الحدثين السابقين.
ذلك أنه إذا أمكن أن يلتمس لأمر السفينة وجه يحمل عليه ما أحدث العبد الصالح فيها من خرق، وإذا أمكن أن يقال في قتل الغلام قول- فإنه لا يمكن أن يلتمس لأمر هذا الجدار وجه، ولا أن يقال فيه قول- إذا أخذت الأمور بظاهرها- إلا أن يكون ذلك على سبيل المغالطة والسفسطة.
فإذا قيل إن خرق السفينة كان لشيء من المعابثة أو اللهو، أو لامتحان صبر أصحابها، واستخراج ما عندهم من حكمة وعقل، في مواجهة هذا التصرف الشاذ.. وإذا قيل إن قتل الغلام كان عن خطأ غير مقصود، أو كان عن فراسة تفرسها فيه العبد الصالح، فرأى فيه- وهو غلام- الرجل الذي سيكونه.
حين يبلغ مبلغ الرجال، ويملأ الدنيا بغيا وعدوانا ومحادّة للّه، وكفرا به.
فأخذه بجزاء الذين يحاربون اللّه، ويسعون في الأرض فسادا.
نقول إذا أمكن أن يقال هذا أو ذاك، أو غير هذا أو ذاك، في خرق السفينة، وفى قتل الغلام- فأى قول يمكن أن يقال في شأن هذا الجدار المتداعى، الذي ينقضه العبد الصالح ثم يعيد بناءه؟
إن الذي كان من الممكن أن يكون من العبد الصالح إزاء أي شيء يراه فاسدا في أهل هذه القرية، التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما- هو أن يدع هذا الفساد على حاله، يعيش في أهل هذه القرية الظالمة، أو يغريه بهم، ويهيجه عليهم، فيكون العقاب الذي يؤخذون به مسلطا عليهم من قريتهم.. فإذا جاوز الأمر هذا، وأخذ العبد الصالح أهل القرية بالصفح والمغفرة، ثم جاوز هذا أيضا إلى أن يدفع شرا يأتيهم من قبل هذا الجدار المتداعى- فليكن ذلك بهدمه، حتى لا يسقط على من يجلس إليه، أو يمر به! أما أن ينقض هذا الجدار، ثم يقيمه.. فذلك مالا يحتمله أي وارد من واردات الظن، أو الوهم! خاصة، وأن الفعلتين السابقتين كانتا من العبد الصالح، قد وقعتا- فيما يبدو- عدوانا منه بغير حق، وإساءة إلى من لم يقع منه سوء..، وكان الظن بالفعلة التي تأتى بعدهما أن تجرى في هذا الاتجاه، وأن يرمى أهل القرية بصواعق مهلكة أو يتركوا وما هم فيه.. أما أن تقابل إساءتهم بهذا الإحسان، فذلك تيار مضادّ للتيار الذي كانت تجرى فيه سفينة موسى وصاحبه، ومن شأن هذا أن يحدث دوامة تضطرب فيها السفينة اضطرابا مجنونا، ثم لا تلبث أن تهوى إلى القاع!!
ولا يترك العبد الصالح لتلميذه فسحة من الوقت، يسير فيها تفكيره في هذه المدارات التي تزمجر فيها الأعاصير، والزوابع، بل إنه سرعان ما يكشف له وجه الحقيقة سافرا، وإذا موسى يجد هذه الكلمات تنفذ إلى أعماقه، فتنزل على قلبه بردا وسلاما، وتدفع سفينته في ريح رخاء، إلى شاطئ الطمأنينة والسلامة.
{وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما}.
وما ذا يقول موسى بعد هذا القول؟
إن يكن ثمّة قول يقال.. فهو تلك الخاطرة التي تخطر له، وهو يصل مجرى الأحداث بعضها ببعض، فيقول فيما بينه وبين نفسه: إذا كان صلاح الأب قد امتد إلى ولديه، فنفعهما وحفظ لهما كنزهما الذي تركه لهما من بعده- فكيف لا ينفع إيمان الأبوين وصلاحهما، هذا الغلام الذي قتل؟ وكيف لا ينفع صلاح الأبوين في استنقاذ ولد واحد، على حين ينفع صلاح أب وحده، في استنقاذ ولدين؟
وما يكاد موسى يلتفت إلى هذا، وإلى غير هذا ممّا ساوره من خطرات، حتى يلقاه أستاذه بقوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}!
إنها رحمة اللّه، ينزلها حيث يشاء، ويختصّ بها من يشاء.. حسب ما تقضى به حكمته، ويحكم به علمه في خلقه.. كما يقول سبحانه: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ} [56: يوسف] وكما يقول جلّ وعلا: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [105: البقرة].
والأمر كله في حقيقته، قائم على الرحمة.
فخرق السفينة، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة بأصحابها..!
وقتل الغلام، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة به، وبأبويه، ورحمة بالناس..!
وإقامة الجدار، كان- كما آل إليه أمره- رحمة بالغلامين اليتيمين! إن أمر اللّه، وقضاءه في خلقه.. حيث كان، وعلى أية صورة وقع، هو رحمة.. من ربّ رحيم! وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [156: الأعراف].
ورحمة اللّه إنما تجرى بأسباب، وتنزل حيث تنزل بقوى مسخرة، تدفع بها إلى المواطن المسوقة إليها، بقدر مقدور، وتقرير معلوم.
وهذا حكم يقرره الأستاذ لتلميذه، فيرى من هذا الحكم أن أستاذه ليس إلا سحابة تحمل غيثا، تدفع بها قدرة اللّه، إلى حيث يراد لها أن تنزل.
فيقول له:
{وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.
إنه لا أمر له مع أمر اللّه.. وما هو إلا رسول يفعل ما أمر اللّه به، فيمن أرسله إليه.. شأنه في هذا شأن تلميذه موسى الذي أمر بأن يبلّغ رسالة ربّه إلى من أرسله اللّه إليهم من عباده! وهنا يصافح الأستاذ تلميذه، مودّعا.. بقوله: {ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}! ويفترق الصاحبان- ويأخذ كل منهما طريقه في الحياة، على ما كانا يعهدان من قبل..!
أما العبد الصالح.. فطريقه قائم على مستوى القدر، المختفى وراء ستر الغيب، المحجب بنور اللّه، لا يراه إلا بنور من هذا النور.. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
وأما موسى.. فيأخذ طريقه القائم على مستوى الحياة، وما ينكشف له منها، حسب تقديره، وتفكيره، كإنسان ذى بصيرة مشرقة- إن انكشف له شيء لم ينكشف لغيره، فقد غابت عنه أشياء، وأشياء! وهنا إشارة لابد منها، إلى هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم في قول العبد الصالح لموسى، حين وصل الأمر بينهما مداه، فقال له: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} ثم في قوله له، بعد أن أنبأه بما لم يستطع عليه صبرا، إذ قال: {ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.
فهناك قولتان تبدوان وكأنهما على سواء: {تَسْتَطِعْ} و{تسطع} وهما كذلك في غير القرآن الكريم.. ولكنهما في كلام اللّه ليستا على سواء، في الميزان، الذي جاء عليه النظم القرآنى، وإعجازه القاهر المتحدّى! فكلمة {تستطع} فيها شدة، وقسوة، ومصارحة مكشوفة، بالعجز عن الاستطاعة.. وقد قالها العبد الصالح هكذا صريحة مكشوفة، ليقطع بها الرحلة مع تلميذه.
ولكن حين جلس إلى تلميذه مجلس المعلّم، الذي يكشف لتلميذه، معالم الطريق المظلم أو المشرق، الذي كان يطوّف به فيه- جاءه بهذه الكلمة {تسطع} وقد اقتطع منها هذا المقطع الحادّ، فإذا هي كلمة وديعة رقيقة فيها هروب من المواجهة الصريحة المتحدّية، وعليها مسحة من الحياء والخفر! ومما ينبغى الالتفات إليه أيضا، هذا الاختلاف في موقف العبد الصالح من الأحداث الثلاثة، ومكانه منها، ودوره فيها.
فهو في حدث السفينة يقول: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} مضيفا الفعل إليه، وجعله عن إرادة منه وحده.
وفى قتل الغلام، يقول: {فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}.
مضيفا الفعل هنا إلى ضمير المتكلمين {نا}.
أما في إقامة الجدار، فيقول: {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مضيفا الفعل إلى اللّه وحده.
ولا شك أن وراء هذا الاختلاف في الموقف الذي يأخذه العبد الصالح من هذه القضايا، والدور الذي يبدو فيه على مسرح أحداثها- لا شك أن وراء هذا الاختلاف أسرارا لطيفة، إذا كشف الحجاب عن بعضها، أشرقت منه وجوه وضيئة، من الإعجاز المبين، لآيات اللّه وكلماته.
فمن تلك الأسرار، لهذا الاختلاف في موقف العبد الصالح من هذه الأحداث، أنه في حادث السفينة نسب الفعل إليه بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} وذلك لأن أثر الحدث جاء في أعقاب الفعل مباشرة، بحيث لم يكن هناك وقت بين خرق السفينة، وصرف نظر الملك أو أعوانه عنها، للعيب الذي كان فيها.. ولو كان هناك وقت بين خرق السفينة، وبين مرور الملك أو أعوانه بها، بحيث يسمح لأصحابها بإصلاح ما أفسد العبد الصالح منها لما سلمت من أخذها من أيدى أصحابها.. ولما كان للخرق الذي أحدثه فيها حكمة.
وذلك أمر إن لم يلحظه موسى في حينه، ولم يدرك السرّ الذي من أجله سلمت السفينة المعطوبة لأصحابها- فإنه قد وقع منه موقع اليقين حين كشف له صاحبه عنه، وأراه أن هذا العيب هو الذي فوّت على الملك فرصة الاستيلاء عليها.
فهذا، الفعل من العبد الصالح، هو مما يجرى مجرى العادة في أفعال الناس على مستوى الظاهر.. ولو أمكنت الفرصة أصحاب السفينة أن يحدثوا فيها ما أحدث العبد الصالح لفعلوا، ولكن وسائلهم إلى هذا كانت محدودة، والأمر أسرع من أن ينتظر تلك الوسائل المحدودة القاصرة.. فلما أن فعل العبد الصالح ما فعل لم ينكر عليه أصحاب السفينة فعلته، وإلا لأمسكوا به وبصاحبه.. ولكنهم.. وقد رأوا في هذا الفعل الحكيم الحاسم ما يحقق إرادة كانت تراودهم ولا يجدون سبيلا لتحقيقها- أمسكوا عن أن يقولوا شيئا، أو يحدثوا أية حركة تنبئ عن أن أمرا قد حدث، حتى لا يفتضح هذا الفعل، الذي ربّما عدّوا صاحبه الذي فعله واحدا من جماعة حركة مضادة للملك، قائمة في وجه هذا الفعل الظالم الذي يجريه على أصحاب السفن!! إذن.. فالأمر هنا لا يخرج عن أن يكون إرادة بشرية، إزاء أمر عارض، يأخذه الإنسان بتقديره، ويجريه بإرادته..! وحقّ للعبد الصالح أن يقول:
{فأردت} ناسبا الفعل إلى إرادته.
أما في قتل الغلام، فإن الأمر مختلف، حيث كانت المسافة بعيدة بين دواعى قتله عند العبد الصالح، وبين ظاهر الحال من أمر هذا الغلام.. كما أن الحكمة التي سيكشف عنها العبد الصالح لموسى من قتل هذا الغلام، معلّق تحقيقها بمستقبل بعيد يستغرق من الزمن، مدّة الحمل بطفل، ثم ولادته، ثم بلوغه مبلغ الرجال، حيث يبدو صلاحه، وينكشف معدنه.
وهذا كله من شأنه أن يوقع في نفس موسى كثيرا من الشكوك والريب حول تقبّل هذا التعليل الذي تعلل به صاحبه لقتل الغلام.
ولهذا جاء إليه صاحبه من عل، فتحدث إليه بلسان الذي يعرض نفسه في مستوى غير المستوي الذي كان يخاطبه فيه، بعد خرق السفينة.
إنه هنا يملك من العلم ما ينبغى أن يذكره موسى إن كان قد نسيه حين جاءه يطلب التعلم من علمه.. ولهذا قال له بضمير المتكلم المعظم نفسه:
{فَخَشِينا} ولم يقل {فخشيت} ثم قال: {فَأَرَدْنا} ولم يقل {فَأَرَدْتُ}.
إنه هنا- وإن كان عبدا من عبيد اللّه- يحدّث بنعمة اللّه عليه، وبما آتاه من رحمته، وما علمه من لدنه من علم، وأنه يستند إلى قوى خفية، ينطق عنها، ويحدّث بجلالها وعظمتها.
وأمام الجدار، فقد رأى العبد الصالح أن يعود في الحديث عنه إلى مكانه الطبيعي من قدرة اللّه، وأنه لا إرادة له مع إرادة اللّه، وأن حديثه عن نفسه بضمير المتكلم المعظم لذاته لم يكن إلا من قبيل التحدث بنعمة اللّه عليه.
ولهذا قال لصاحبه.. {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما}.
فنسب الأمر كله إلى اللّه سبحانه، وأضافه إلى إرادته جلّ شأنه.
هذا وجه من وجوه النظر في هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم القرآنى لحديث العبد الصالح عن نفسه.
ووجه آخر.. وهو وجه يمكن أن يرى فيه العبد الصالح قد أضاف الفعلين الأولين- خرق السفينة وقتل الغلام- إلى نفسه، لما يبدو في ظاهرهما من ظلم وعدوان، على حين أضاف إقامة الجدار إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ كان- كما يبدو- عملا من أعمال الخير والإحسان.
ووجه ثالث.
وهو أن الأحداث الثلاثة، في مجموعها، تصور مشيئة اللّه سبحانه وتعالى ومشيئة الإنسان.
ففى خرق السفينة.. إرادة مطلقة للإنسان، ومشيئة خالصة له، يتصرف بها كيف يشاء.. هكذا: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها}.
وفى قتل الغلام، تبدو مشيئة الإنسان مختلطة مع مشيئة اللّه، داخلة فيها.
هكذا: {فَخَشِينا} {فَأَرَدْنا} فهذا الضمير يشير إلى أن العبد الصالح ليس وحده هنا، وإنما هو مع مشيئة مشيء، وإرادة مريد! وفى إقامة الجدار.. يتجرد العبد الصالح من كلّ مشيئة وإرادة.. إنه هنا ليس أكثر من أداة منفذة لمشيئة اللّه، عاملة بإرادته.
وهكذا الإنسان، في هذه الحياة، وفى كل ما يأخذ أو يدع من أمورها.
إنه يمرّ في ثلاث مراحل، مع كل أمر يعالجه.
المرحلة الأولى.. يبدأ فيها العمل، وكأنه مطلق من كل قيد يتسلط على إرادته.
والمرحلة الثانية.. يعالج فيها العمل، وهو مصطحب هذا الإحسان بالحرية الكاملة في أخذ الاتجاه الذي يتجهه.. ولكنه يجد أثناء العمل ما قد يعترض طريقه، فيعثر، أو ينحرف، أو يأخذ طريقا غير هذا الطريق الذي بدأ منه.
والمرحلة الثالثة.. يأخذ فيها العمل صورته النهائية، ويصبح أمرا واقعا، مؤثرا في حياة صاحبه بما يسرّ أو يسوء، وبما يحمد أو يكره.
وهذه المرحلة الأخيرة التي ينتهى عندها العمل، هي الإرادة العليا، وهى القدر المقدور، الذي لابد أن يصير إليه الأمر.. مهما تكن إرادة الإنسان على وفق هذه الإرادة أو خلافها..!
تلك هي بعض الأسرار التي لاحت لنا من خلال نظرنا الكليل.. وهناك أسرار لا تحصى، يراها ذوو الأبصار التي اكتحلت بنور الحق، فترى ما لا تراه العيون.
ويحسن بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة مع القضاء والقدر.
حيث كانت قصة موسى والعبد الصالح درسا عمليا لهذه القضية، التي يتحكك بها العقل، ويدور في فلكها مسير الإنسان ومصيره.
القضاء.. والقدر.. والإنسان:
موضوع القضاء والقدر لا يعتبر مشكلة يعالجها العقل، ويلتمس الحلول لها، إلا إذا نظر إليه من جانبين معا: جانب يتصل باللّه، وجانب يتصل بالإنسان.. وهذا يعنى أن الذي ينظر في هذه المشكلة، لابد أن يكون من المؤمنين باللّه، أو على الأقل من المؤمنين بما وراء المادة.. أما المادّيون الذين يقيمون وجودهم، ويسوّون حسابهم على مستوى العالم المادي، فليس القضاء والقدر من المشكلات التي تلقاهم على طريق الحياة، وتوجّه أبصارهم إليها، وتلفت عقولهم نحوها.
وتبدو المشكلة- عند المؤمنين باللّه، أو المؤمنين بما وراء المادة- هكذا:
إذا قلنا إنّ الإنسان مخيّر، كان معنى هذا أنه مطلق من كل سلطان، وأن ليس بينه وبين اللّه، أو بينه وبين أية قوة أخرى غير منظورة- علاقة، تحدّ من مجرى حياته، أو تؤثر في تصرفاته.
وفى حدود هذا القول، لا مجال للنظر في القضاء والقدر، حيث يبدو الإنسان خارجا عن دائرة المؤثرات التي تجعل للقضاء والقدر شأنا معه.
وإذا قلنا إن الإنسان مجبر، كان معنى هذا أن شيئا ما وراء الإنسان، يملى عليه، ويؤثّر في إرادته، أو يعطل مشيئته.
وهنا تبدو الصلة واضحة بين الإنسان وبين القضاء والقدر.. وهى صلة تظهر آثارها في تصرفاته، وفى موقفه حيال كل أمر يعرض له.
ولكن هاتين المقولتين، لم يسلّم العقل الإنسانى بأيّ منهما، تسليما مطلقا.
إذ كان الواقع العملىّ ينقض كل مقولة منهما، إذا أخذ بها على إطلاقها.
فالإنسان- كما يبدو له- حرّ من جهة، ومقيد من جهة أخرى.
إنه مطلق، تماما- كما يبدو- ولكن يرى أن قوة خفية تأخذ عليه طريقه إلى ما يريد.. قوة غير منظورة، تقيّد إرادته المطلقة تلك.
فهو مختار يفعل ما يشاء، وهو مجبر حيث يفعل أو يفعل به ما لا يشاء! وبين الاختيار والجبر، عاشت الإنسانية حائرة مضطربة، قلقة.. تقول بالاختيار، وتحلم به، وتتمنّاه.. ولكن الواقع يفجؤها بما يلغى هذا الاختيار، ويعطل وجوده.. وإذا هي أي الإنسانية، ريشة في مهب الريح، يسوقها القدر إلى حيث يشاء.
وتقول بالجبر، فلا يصدّقها الواقع الذي تعيش فيه. والذي ترى صفحته في آثار تفكيرها، وثمار إرادتها، وعزيمتها.
فلا هى.. أي الإنسانية، في الاختيار المطلق، ولا هي في الجبر المطلق.
إنها تعيش متأرجحة بينهما.. هي في اختيار وجبر معا.. ذلك ما يشعر به كل إنسان في ذاته، وتشعر به الإنسانية في مجموعها.. وذلك من الجلاء والوضوح، بحيث لا ينكره إلا أهل الجدل والمراء!!
ولكنّ القدر الذي في الإنسان، من جبر أو اختيار، هو الذي يضع الأمر موضع الخفاء والحيرة.. ويقع من الناس موقعا يثير الجدل والخلاف حقّا.
كم في الإنسان من جبر؟ وكم فيه من اختيار؟ لا أحد يدرى.. فتلك مسألة تختلف من إنسان إلى إنسان.. بل إنها تختلف في الإنسان نفسه، حسب الحالة التي يواجهها، وحسب الظروف المحيطة به، والمشاعر المستولية عليه.
على ما سنرى. من خلال هذا البحث.
ما القضاء؟ وما القدر؟
القضاء:
لم يذكر القضاء في القرآن الكريم بلفظه هذا، وإنما ذكرت مشتقاته، في آيات كثيرة.. فذكر في صورة فعل كقوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [12: فصلت] وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [20: غافر] وفى قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} [23: الإسراء] كذلك ورد من مشتقات القضاء: اسم المفعول في قوله تعالى: {وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} [21: مريم] واسم الفاعل في قوله سبحانه: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} [72: طه].
والذي ينظر في هذه الآيات، يجد تقابار واضحا بين المعاني التي تدور حولها مشتقات القضاء، وأنها تلتقى جميعا عند معنى واحد، هو: الفصل، والحسم في الأمر، وأن قضاء الأمر معناه إنجازه، وحسمه، من جهة قادرة ممكنة مما تقضى به.. منه القضاء، وهو الفصل في الخصومات، ومنه القاضي الذي يفصل بين المتخاصمين.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره:
أن القضاء يكون بمعنى الأمر كقوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}.
ويكون بمعنى الخلق كقوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ}.
ويكون بمعنى الحكم كقوله تعالى: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ}.
ويكون بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} [41: يوسف].
ويكون بمعنى الإرادة كقوله سبحانه: {إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [47: آل عمران].
ويكون بمعنى العهد كقوله تعالى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ} [44: القصص] والذي ينظر في هذه المعاني التي ذكرها القرطبي للقضاء يرى أنها جميعا تنزع منزعا واحدا، وتلتقى عند معنى واحد، هو الفصل، والحسم.
فالأمر.. والخلق.. والحكم.. والفراغ.. والإرادة.. والعهد.
كلها تنبئ عن حسم الأمر وإنجازه.. قولا، أو فعلا.
القدر:
ورد في القرآن الكريم، لفظ (ق. د. ر) مصدرا، وفعلا، واسم فاعل قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [49: القمر] وقال سبحانه: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} [10: فصلت] ومعنى هذا في المصدر، ومشتقاته: التقدير، ووضع الشيء في موضعه المناسب له.
عن عكرمة عن الضحاك، قال في قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها} أي أرزاق أهلها، وما يصلح لمعاشهم، من التجارات، والأشجار، والمنافع، في كل بلدة، ما لم يجعله في الأخرى.
من ذلك نرى أن دائرة القدر أشمل وأعمّ.. من دائرة القضاء.
فالقدر تدبير.. والقضاء حكم.
القدر تصميم.. والقضاء تنفيذ.
يقول الإمام الغزالي.
القدر: اسم لما صدر مقدّرا عن فعل القادر.
والقضاء: هو الخلق.
والفرق بين القضاء والقدر، أن القدر، أعمّ، والقضاء، أخصّ.
فتدبير الأوليات قدر.
وسوق تلك الأقدار بمقاديرها وهيئاتها إلى مقتضياتها، هو القضاء.
فالقدر.. إذن.. تقدير الأمر بدءا.
والقضاء.. فصل ذلك الأمر وقطعه، كما يقال: قضى القاضي أما الفيلسوف ابن سينا فيرى عكس هذا.
يرى أن القضاء أعمّ من القدر، وسابق عليه.
يقول:
القضاء.. هو علم اللّه المتعلّق بالكلّ، على النظام الأكمل الذي يكون في الوجود.
والقدر.. هو إفاضة الكائنات على حسب ما في علمه. فالكلّ صادر عن اللّه، ومعلوم له، وكلّ ذلك بقضاء وقدر.
أما ابن عربى.. الفيلسوف المتصوّف، أو الصوفي المتفلسف، فإنه في التفرقة بين القضاء والقدر، على رأى يتفق ورأى ابن سينا.. فهو يقول:
القضاء.. حكم اللّه.
والقدر.. تقدير ذلك الحكم.
والتقدير.. تابع للحكم.. والحكم تابع للعلم ونحن على رأينا، الذي يوافق رأى الإمام الغزالي في أن القدر أعم، والقضاء أخصّ.. لأن آيات الكتاب الكريم توحى بهذا الفهم لكل من القضاء والقدر.
ونستطيع أن نتصوّر- مجرد تصوّر- إن صح فهمنا هذا- أن القدر، هو الأسباب التي أودعها اللّه سبحانه في المخلوقات، بحيث لو جرت إلى غايتها لنتج عنها مسبباتها التي تلازمها، والتي لا تتخلّف أبدا.
فالنار- مثلا- سبب الضوء، والدفء، والإحراق.. فإذا أوقدت النار.. أخرجت ضوءا، وأعطت دفئا، وأحرقت ما يتصل بها من الأشياء التي أودع فيها الخالق من الأسباب ما يجعلها قابلة للاحتراق.. ففى كل شيء قدر، أي أسباب، وكيفيّات تنتج مسببات، فإذا تلاقت تلك الأسباب المودعة في الأشياء، كانت قضاء.
فالمسببات التي تحدث من تلاقى الأسباب بعضها ببعض، هي القضاء، فإذا تلاقت الأسباب، فتوافقت أو تدافعت فهى في دائرة القدر.. أما ما يقع من هذا اللقاء بين الأسباب- في توافقها أو تدافعها- من مسببات فهو القضاء فالقدر كون، والقضاء ظهور!
الأسباب والمسببات:
اختلفت آراء المفكرين من الفلاسفة، والفقهاء في الصلة بين الأسباب ومسبباتها.. واتسعت شقّة الخلاف بينهم حتى بلغت درجة التضادّ.
فبينما ينكر بعضهم التلازم بين السبب والمسبب، إذ يقرر بعضهم حتمية هذا التلازم، وعدم تخلفه في حال أبدا.. بل إن بعضهم تمادى في هذا، فجعل الأسباب قوّى عاملة، تعمل في وعى وبصيرة، وذلك حين رأوها تعطى نتائجها دون أن تنحرف، أو تضلّ.. وكان من هذا أن آمن كثير من هؤلاء، بالطبيعة، وعدّوها كائنا عاقلا.. يحمل في كيانه مقوّمات وجوده، مستغنيا عن مدبّر يدبّر أمره، ويقوم عليه.. ولا شك أن هذه النظرة إلى الطبيعة وأسرارها، هي نظرة محدودة، قصرت عن أن ترى القدرة القادرة التي تربط عوالم الموجودات كلها برباط وثيق محكم، بحيث تجعل منها كيانا واحدا، يجرى لغاية واحدة، في حكمة، ونظام.. {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} [3: الملك].
هذا، والفلسفة الحديثة تؤيد الرأى القائل بفاعلية الأسباب، وبالترابط بين الأسباب والمسببات.. وما كان للفلسفة الحديثة أن تقرر غير هذا، بعد هذا التقدم العلمىّ، الذي أحرزه الإنسان في كل مجال.. وليست القوانين التي استخدمها العلم في كشف أسرار الطبيعة إلّا من نسيج الأسباب وتفاعلها.. فهذا الاطراد في ظواهر الطبيعة، هو الذي أتاح للعلماء وضع قوانين ثابتة لطبائع الأشياء ولما تحدثه الأسباب من احتكاك بها.. وبهذا أمكن تسخير قوى الأشياء بمقتضى هذه القوانين، كما أمكن التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه، اعتمادا على معرفتنا السابقة بخواصّ الأشياء، وبالآثار التي تحدث عند تحريك أسبابها المودعة فيها.
وقد رأى الأشاعرة- وهم الذين يمثلون الرأى السّنيّ- أن لا تلازم بين الأسباب والمسببات، ورفضوا أن يسلّموا بوجود أي قانون للطبيعة، واستبعدوا البديهة القائلة: بأن الأسباب المتماثلة تولد نتائج متماثلة.
وقد بنوا رأيهم هذا، على أساس أن التلازم بين الأسباب والمسبباب، فيه تحديد لقدرة اللّه على كل شيء، إذ أن هذا التلازم يحدّ من قدرة اللّه، ويجعل للأسباب قوة ملزمة للّه.
وهذا رأى لا نسلّم به، ولا نرتضييه رأيا يراه المسلم حيث لا نرى في التلازم بين الأسباب والمسببات ما يراه الأشاعرة، من أن في ذلك تحديدا لقدرة اللّه.
فاللّه سبحانه وتعالى، قد أقام الوجود على نظام، وأجراه على سنن أودعها فيه.. كما يقول سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [40: يس].. فإذا كان من نظام الكون الذي أوجده الخالق جل وعلا، أن الشمس تطلع من الشرق، وأن الأرض تدور حولها.. فهل في هذا تحديد لقدرة اللّه؟ وهل في خضوع هذه الأكوان لهذا النظام المودع فيها إلا استجابة لقدرة اللّه، وخضوع لمشيئته؟
وللفيلسوف المسلم محمد إقبال رأى يجرى مع رأى الأشاعرة، في نتائجه ولكنه يختلف معهم في مقدماته.
فإقبال يرى أسبابا قائمة في الأشياء.. ولكنه يرى- مع هذا- أن الأسباب تعمل في ظل قدرة، حكيمة، عليمة.. ومن ثمّ فإن الحوادث التي تنتجها الأسباب ليست مواليد آلية، جاءت متكررة، وإنما كل حادثة لها ذاتية مستقلة.. إنها خلق جديد، تقوم القدرة الإلهية على إبداعه وتكوينه.
الأشاعرة لا يعترفون بوجود أسباب مطلقا.. وإنما يقولون بالخلق المتجدد من غير أسباب! وإقبال يقول بالأسباب، ولكنها- في رأيه- أسباب يقظى واعية، تتخلق منها الحوادث، تخلقا يحفظ لكل حادثة ذاتيتها المستقلة.
فلا تنتظم في ركب حوادث صماء متتابعة، متماثلة.. لا نهاية لها..!
يقول إقبال:
فتقدير شيء ما ليس قضاء غاشما يؤثّر في الأشياء من خارج ولكنه القوة الكامنة، التي تحقق وجود الشيء وممكناته التي تقبل التحقّق، والتي تكمن في أعماق طبيعته، وتحقق بالتالى وجودها في الخارج، دون إحساس بإكراه من وسيط خارجى.
ومن ثمّ فإن تكامل وحدة الديمومة، لا تعنى أن هناك حوادث تامة التكوين، أشبه بأن تكون في أحشاء الحقيقة، لتسقط منها واحدة واحدة، كما تسقط حبات الرمل في الساعة الرملية!!
والواقع أن كل نشاط خالق، هو نشاط حرّ.. فالخلق يضاد التكرار، الذي هو من خصائص الفعل الآلى.
والذي نود أن نقرره، هو أن في كل شيء أسبابا مودعة فيه، وأن الأسباب تنتج مسبباتها، عند تحريكها بأسباب أخرى مناسبة لها.
أما التلازم بين الأسباب والمسببات، فليس يعنينا أن يكون هذا التلازم محكما مصمتا لا يتخلف، أم أن تكون فيه خلخلة تسمح بتخلف المسببات عن الأسباب، ما دمنا نؤمن بأن اللّه سبحانه وتعالى، هو خالق الأسباب، وهو خالق المسببات! والتلازم أو غير التلازم هو مما قضت به حكمته، وشاءته مشيئته وعلمه.
ولكن الذي يجب أن نعرفه، وأن نقيم وجودنا عليه، هو أن ملاك أمرنا في هذه الحياة قائم على أن نحرك الأسباب المودعة في الأشياء، على الوجه الذي اهتدت إليه عقولنا، وأن ننتظر النتائج المقدرة لهذه الأسباب، على حسب ما نتوقعه ونرجوه منها.
فنحن نبنى حياتنا على المستقبل أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه.. وهذا المستقبل إنما نبنيه على أسباب نحركها ونرقب ثمرتها.. إننا نزرع وننتظر الحصاد، وهيهات أن يزرع زارع ولا يجنى ثمرة ما زرع، وهيهات أن نجنى ثمرا دون أن نزرع ما يعطى هذا الثمر!! يقول الفيلسوف إقبال:
فالنفس وهى مطالبة بالعيش في بيئة مركبة.. لا تستطيع أن تحتفظ بوجودها في تلك البيئة دون أن تردها إلى نظام يعطيها- أي النفس- نوعا من الضمان فيما يتعلق بسلوك الأشياء الموجودة حولها.
وعلى هذا، فإن نظر النفس إلى بيئتها باعتبارها نظاما مكونا من علة ومعلول، هو وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها والواقع أن النفس- بتأويلها للطبيعة على هذا النحو- تفهم بيئتها، وتسيطر عليها، فتحصل بهذا على حريتها، وتزيدها قوة ونماء.
ونود هنا أن بعد هذه المقدمة، أن ندير النظر إلى قصة موسى والعبد الصالح ففى هذه القصة درس عملىّ ينكشف منه وجه القضاء والقدر، ومدى ما يمكن أن تطوله يد الإنسان، وتبلغه قدرته، تحت سلطان القضاء والقدر، وما يعمل فيه الإنسان من أسباب، وما يقع له من مسببات.
لقد كان موسى في هذه القصة، ممثلا للإنسانية في حدودها التي أقامها اللّه عليها، وفى تصرفاتها مع الأشياء على مقتضى ما تعلم منها بإمكانياتها المحدودة، على حين كان العبد الصالح، ممثلا للعالم العلوي، عالما ما وراء المحسوس، يستملى معارفه من عالم النور.. فيرى بعين الغيب، عواقب الأمور، ويصل إلى نتائجها الحاسمة، قبل أن تتحرك الأسباب، وتتولد المسببات!.
موسى يمثّل الإنسان، من حيث هو كائن محدود القدرة، لا يرى من الأشياء إلا ما على السطح، أو ما وراء السطح بقليل.. أما أعماق الأشياء وأما صميمها، فليس له إليها سبيل مهما يبلغ علمه، ومهما تكن معارفه.. إن له حدودا لا يتجاوزها، وله مجالات لا يخرج عليها، وهو في هذه الحدود يعمل، وفى هذه المجالات يتحرك- حسب تفكيره وتقديره.
ثم مع هذا، فإن الأشياء تتحرك حركتها المقدورة لها.. وهى حركات قد تتفق مع حركات الإنسان، وقد لا تتفق.
والشيء الذي ينبغى أن نؤكده، هو أن العلم والمعرفة، يكشفان للإنسان من حقائق الأشياء، بقدر ما يحصّل الإنسان منهما.. فكلما ازداد علما ومعرفة اتسعت أمامه الآفاق التي ينظر فيها إلى هذا الوجود، وتكشف له حقائق كثيرة كانت محجوبة عنه وراء هذه الآفاق التي أخفاها عنه الجهل، وضآلة المعرفة.
والذي نودّ أن نؤكده أيضا، هو انه مهما بلغ الإنسان من العلم والمعرفة فلن يبلغ من العلم بحقائق هذا الوجود، إلا قدرا ضئيلا، لا يعدل حبّة رمل من هذا الكون العظيم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول. {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [85: الإسراء].
وهنا نستطيع أن نحدد مكان الإنسان من القدر، ونتعرف إلى المجال الذي يعمل فيه كل منهما: الإنسان والقدر.
فالقدر هو دولاب ينتظم الوجود كله، وتتحرك كل أجزائه، حسب القوى التي أودعها الخالق جل وعلا في كل موجود.. وكل موجود يتحرك حركته في الاتجاه، وفى المدى المقدور له.. وأقرب شبه لهذا ما نرى في دولاب بخارى أو كهربىّ، يدور يجميع أجهزته وأجزائه، ثم إن جميع هذه الأجهزة، وتلك الأجزاء، مع اختلاف حركاتها تحقق آخر الأمر غاية واحدة، وتعمل جميعها لهدف واحد.. فلا يرى الرائي منها إلا حركة واحدة، وإلا اتجاها واحدا.. هكذا يرى المهندس الميكانيكى أو الكهربى حركات الجهاز، الذي يقوم عليه، ويديره.. إنه يعرف وضع كل قطعة منه، كما يعرف وظيفتها ودورها الذي تؤديه.
أما من ينظر إلى هذا الجهاز نظرا سطحيا بغير علم، فإنه لا يرى فيه إلا أشياء صاخبة مضطربة، يضرب بعضها وجه بعض! كذلك هذا الوجود الذي نحن فيه، وهذا العالم الذي تقلّنا أرضه، وتظلنا سماؤه- حيث ننظر، فلا نرى- لعلمنا القاصر.. إلّا فوضى، وإلا اضطرابا، وإلا تخالفا وعنادا بين كل موجود وموجود، الأمر الذي يوقع بين الموجودات هذا الصراع الحادّ المتصل.. سواء في ذلك عالم الجماد، وعالم الأحياء.. فالبحر تهيجه العواصف وتثيره الرياح، وهو بالتالى يصخب ويموج، ويضرب بأمواجه العاتية في أصول الجبال، فتتصدع وتنهار.. والجبال بدورها، تتصدى للرياح العاتية فتلطم وجهها، وللسحب السائرة، فتمزّق أوصالها، وتلقى بها تحت أقدامها.. وكذلك الشأن في عالم النبات والحيوان، والإنسان.. هي في صراع دائم، فيما بينها وبين الموجودات القريبة أو البعيدة منها.. والإنسان بخاصة يواجه الموجودات كلها، ويدخل معها جميعها في صراع، لا يلقى معها سلاحه إلا إذا استسلمت له، وأعطته ولاءها.
هكذا يبدو الوجود غارقا في الفوضى، لمن ينظر إليه نظرا شاردا، لا يستصحب معه فيه عقله، ولا يفتح له قلبه.
أما حقيقة هذا الوجود، فهو نظام محكم دقيق، وتناغم منسجم رائع، وتجاوب بين كل ذرة من ذراته، وكل موجود من موجوداته.. {ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} [3- 4: الملك].
أرأيت إلى جماعة كبيرة من العازفين على مجموعات متعددة من آلات الموسيقى، يقومون على أداء لحن رائع منسجم متناغم؟
إن الذي لا يحسن لغة الموسيقى، ولا يعطى أذنه وقلبه لهذا اللحن الذي يجتمع من هذه الأنغام التي ترسلها أيدى العازفين، وأفواههم وأرجلهم، من تلك الآلات التي يقومون بالأداء عليها- لا يرى إلّا فوضى مجنونة متخبطة، ولا يسمع إلا ضجيجا وصخبا وتلاطما.. أما حقيقة الأمر، فهو- عند الموسيقى- على خلاف ذلك تماما.. إنه يرى تآلفا وتلاقيا، ويسمع تجاوبا وتناغما، فيجد لذلك روح روحه ونشوة فؤاده، ويقظة وجدانه.
ذلك أشبه شيء بالوجود في نظر من يعلم ومن لا يعلم! وننظر مرة أخرى إلى ما كان بين موسى والعبد الصالح.
لقد كان موسى يسير في اتجاهه الإنسانى.. ويأخذ طريقه على قدر ما ينكشف له من عوالم الوجود.
على حين كان العبد الصالح يسير في اتجاه الدولاب القدرىّ.. ويأخذ الأمور على الوجه الذي تستقيم فيه مع حركة هذا الدولاب القدرىّ.. وقد وقع الصّدام، بل والصراع بين الاتجاهين.
والواقع أنه لم يكن ثمة خلاف بين هذين الاتجاهين.. إذ كل منهما منته إلى نهاية واحدة، يلتقيان عندها.
وكل ما في الأمر، أن الحركة القدرية في هذه المرحلة القصيرة التي صحب فيها موسى صاحبه، قد وجدت في العبد الصالح مفسّرا لها، وكاشفا عن وجهها، ولولا هذا لظلّت في عينى موسى وفى تفكيره قدرا لا يدرى له مفهوما، ولا يعرف له متأوّلا.. تماما كما يقع لعينى الإنسان منا كلّ يوم من مئات الأحداث، في نفسه، وفى غيره، دون أن يعرف وجه الحكمة فيها.. ولو أننا وجدنا مثل العبد الصالح من يكشف لنا عما وراء هذه الأحداث، لما أصابنا همّ، ولما بتنا على قلق، لما وقع أو يتوقع من سوء، وما نزل أو ينزل من مكاره، ولظهرت لنا هذه الأحداث آخذة أتمّ وضع وأصلحه لنا، ولنظام الوجود العام كله.. وهذا ما تشير إليه المأثورة الإسلامية: لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع! وإذن.. فالماديون الذين ينكرون القدر، هم محقّون ومبطلون في آن.
هم محقون، لأن كل ما ينسب إلى القدر، ويضاف إليه، ليس شيئا خارجا على سنن الكون، ولا مطلقا من العلل والأسباب التي تحكم الوجود وتمسك بكل موجود.. وغاية ما في الأمر، أن هذه العلل، وتلك الأسباب مطوية عنّا، بعيدة عن واقع علمنا، وأنها لو انكشفت لنا لما كان فيها إلا ما نراه في كل أمر نعلم حقيقته، ونعلم العلل والأسباب المتحكّمة فيه.
وهم مبطلون.. لأن العلم الذي في أيديهم، والذي يستطيعون به النظر في الوجود- هو علم قاصر محدود، لا يحمل من الطاقات الضوئية، إلا شعاعات باهتة متكسّرة، لا تنفذ إلى أعماق الوجود، ولا تكشف إلا بعض ما يظهر على حافانه وحواشيه.. وعلى هذا، فإنه ستظل موجودات الوجود كلها- فيما عدا هذه القشور منها- بعيدة عن متناول العلم، مجهولة الأسباب والعلل.. وهى التي تطلع علينا حين تطلع، قدرا مقدورا.. لا نعرف لها تأويلا، ولا ندرى لها تفسيرا! والعبرة الماثلة لنا من قصة موسى والعبد الصالح، هي أن نلزم أنفسنا الأخذ بالأسباب الظاهرة لنا، وأن نصرّف أمورنا بمقتضى هذه الأسباب التي تقع في تفكيرنا وتقديرنا، وألا نتطلّع إلى ما وراء ذلك.. ففى هذا- وفى هذا وحده- ضمان لاستقامة تصرفاتنا، مع ما يصلح عليه أمرنا، وأمر المجتمع الإنسانى الذي نعيش فيه.
إن القوى المحدودة التي أودعها اللّه فينا، هي التي تتفق اتفاقا تامّا مع الوجود الذي أقامنا اللّه عليه، ومع الموجودات التي أوجدنا اللّه معها.
فجوارحنا، ومدركاتنا، مضبوطة على أعدل وضع يمكن أن يعطينا من الحياة أكبر قدر يمكن أن نأخذه منها، وأن ننتفع به على الوجه الملائم لنا.
ولو خرجت مدركاتنا وحواسنا عن هذا المعدّل- بالزيادة أو النقص- لاضطرب وجودنا، وفسد نظام حياتنا.
فالماء الذي نشربه، والذي نراه نظيفا، سائغا- إذا نظرنا إليه بما وراء أبصارنا- كالمجهر مثلا- رأيناه مسبحا لجيوش كثيرة من الحيوانات.. وهو بهذه النظرة يتحول- في تصورنا- من طيّب سائغ، إلى ماء تعافه النفس، وتقزّز منه، وتموت عطشا دون أن تقدم على شربة منه.
وكذلك قل في كل ما نأكل وما نشرب. إننا لا نرى في مأكولنا ومشروبنا ما نكره، ولكنا إذا نظرنا إليه بعيون مجهريّة، تبين لنا أن هناك عوالم سابحة فيه، من غرائب المخلوقات، تأخذ طريقها إلى جوفنا، دون أن نراها، فلا يهنئونا مع ذلك طعام، ولا يسوغ لنا شراب! وقل مثل هذا في المسموعات، والمشمومات والمذوقات، إذا نحن جئناها بحواس أقوى أو أضعف من حواسّنا.. إنّها تقع منا موقعا بغيضا كريها.
من الخير إذن، ومن الرحمة بنا أن نعيش فيما خلقنا اللّه بما خلقنا به، وألّا نذهب إلى أبعد مما قدّر لنا.. بل نجعل الأسباب المعروفة لنا، هي الأساس الذي نتصرف بمقتضاه، في تعاملنا مع الحياة، وملابستنا للموجودات.. ثم ليكن قبل هذا كلّه، إيماننا بقدرة الخالق، وبتقديره لكل شيء، وأننا إنما نعمل لنحقق إرادته مما أودع في الكائنات من أسباب، وبما جعل لها من مسببات.
فهذا الإيمان هو الذي يسند الإنسان في صراعه مع الحياة، وهو الذي يشدّ عزمه، ويدفع به إلى غايات لا يتطلع إليها أولئك الذين فقدوا هذا الإيمان.
وشتّان بين من يعمل، وهو على يقين بأنه في رعاية ربّ الأرباب، وأقوى الأقوياء، وبين إنسان يعمل معزولا عن الشعور بهذا الإيمان.. يعمل في حدود جهده البشرى المحدود، دون سند أو ظهير! إن النعمة في كل صورة يتلقاها المرء عليها، لا يدخل منها على قلب المؤمن بالقدر، زهو ولا خيلاء.. لأنها من عند اللّه! وإن البلاء، والشدّة، والضرّ.. لا يقع منها على قلب المؤمن بالقدر، يأس ولا قنوط من روح اللّه.. {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}.
الكافرون باللّه، وبما قدّر اللّه! والقدر بهذا المفهوم لا يخلى الإنسان من مسئولياته، إزاء الحياة، وإزاء التكاليف المنوطة به فيها.. فهو مطالب بأن يجهد جهده، ويبلى بلاءه في كل أمر يعرض له، وأن يلقاه بكل حوله وحيلته، وأن يجيء إليه بعلله وأسبابه، التي يراها ويقدّرها.. فإن هو فرّط أو قصّر، كان ملوما، وكان أهلا للجزاء الذي يناسب تفريطه، وتقصيره.
فليس إيمان المؤمن بالقدر، وبأنه صائر آخر الأمر إلى المصير المقدور له- ليس هذا الإيمان بالذي يخلى المؤمن من المسئوليات المنوطة به.. فهو مطالب بأن يقدّر ويفكر، ويدبّر، ويعمل بالقدر الذي يسعفه به تفكيره، ويحتمله جهده.
وهذا- على الأقل- هو الذي يعفيه من المسئولية أمام عقله وضميره! وفى نظرة الإسلام إلى القدر، تلك النظرة التي يبدو منها القدر غائبا كحاضر- في هذه النظرة يقوم القدر على الناس، سلطانا رحيما، يفيئون إلى ظلّه الظليل، إذا هم أضناهم السير ولفحهم الهجير وأقعدهم الإعياء! فالقدر في التفكير الإسلامى، لا يلتقى به المسلم إلا عند آخر المطاف من سعيه الذي سعى، وعمله الذي عمل، لا أن يقدّمه بين يدى كل عمل، فإن هذا من شأنه أن يقعد بالإنسان عن أن يعمل أو أن يسعى، تاركا زمامه للقدر، يتصرّف كيف يشاء.
وفى هذا اللقاء الذي يلتقى فيه الإنسان مع القدر- بعد كل عمل لا قبله- في هذا اللقاء يلقى الإنسان بوجوده كلّه، وبما أصاب، أو أصيب به- يلقى بهذا كله في ساحة القدر! فإن يكن قد أصاب خيرا لم يقل قولة قارون من قبل: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [78: القصص] بل يقول قولة المؤمنين الشاكرين: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [40: النمل].
وإن أصابته مصيبة، أو مسه ضر، لم يقل: {أَنَّى هذا} [165: آل عمران].
بل يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} [156: البقرة] أو يقول:
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [18: يوسف].
أما غير المؤمن، فإنه لا يلتقى بهذا الوجه الكريم في السراء أبدا، ولا يتلقّى هذا العزاء الجميل في الضراء أبدا.
إنه إن أصاب خيرا، أشر وبطر، وطغى وبغى، وإن أصابته مصيبة احترق بنارها، كمدا وحسرة، دون أن يجد لمصيبته عزاء من إيمان، أو مواساة من قدر! وانظر إلى هذا العزاء الجميل الذي عزّى اللّه سبحانه وتعالى به النبيّ والمؤمنين فيمن أصيبوا فيهم من الشهداء في غزوة أحد: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [156: آل عمران].
و{لو} هذه، هي التي تدمى قلوب الذين لا يؤمنون باللّه، ولا يستسلمون لقدر اللّه، في أعقاب الشدائد والملمات، وهى التي تنكأ جراحهم كلما عملت يد الزمن على التئامها! وفى الحديث الشريف كما رواه مسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كان كذا وكذا؟! ولكن قل: قدّر اللّه، وما شاء اللّه فعل.. فإن لو تفتح عمل الشيطان».
وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو أن الرضا، الذي يستقبل به المؤمن ما يقع من مقدرات القدر- ليس هذا الرضا عن قهر وإلزام، وإنما هو عن إرادة واعية مدبّرة مقدّرة.. ذلك أنه ليس من الدين، ولا في الدين- أعنى الإسلام- ما يحول بين الإنسان وبين حقه الطبيعي، في معالجة الواقع، وفى محاولة تغييره يكل ما يملك من وسائل كريمة سليمة، ناظرا إلى اللّه، طامعا في رحمته، مستمدا العون والتوفيق من لدن رب رحيم كريم.
إن الرضا بالواقع الكريه البغيض، ليس في الإسلام، ولا من الإسلام.
لأن ذلك معناه إهدار لعقل الإنسان أن يفكر، وتعطيل لإرادته أن تعمل ووقوف بالحياة أن تتحرك، بل وتمكين للشر أن يستشرى، واعتراف للباطل أن يقيم حيث شاء.. آمنا مطمئنا، لا يلقاه أحد بإنكار، ولا يزعجه منكر بسوء!.
وكلّا.. فإن هذا غير سبيل الأحياء في الحياة، كما هو غير سبيل الدّين والمتدينين.
وتاريخ الإسلام، يحكى فصولا طويلة، مثّل فيها هذا الدور الغبىّ الدخيل على الإسلام، فقتل في الناس الهمم الصادقة، وأطفأ من صدورهم وقدة العزمات المتوثبة لملاقاة البغي وردع الباغين.. وذلك حين قام في الناس من يدعونهم إلى الاستسلام للقدر، والرضا بالمقدور.. وتلك كلمة حق أريد بها باطل.
إذ كانت أشبه بمخدّر ثقيل، أمات في الناس مشاعر الإحساس بكل ظلم، فاستساغوا طعمه، واستناموا في ظلّه، يجترّون كل ما يلقى إليهم من عسف، وما يساق إليهم من بلاء.. وإنه لولا هذا ما استطال حكم أمراء السوء، ولا امتدّ سلطان الملوك والسلاطين الباغين المفسدين، دون أن يلقاهم أحد بنكير، أو يؤاخذهم مؤاخذ بما اقترفوا من مظالم، وما ارتكبوا من آثام.
إن مهمّة الرسل، والمصلحين في الناس، إنما هي في صميمها ثورة على أوضاع قائمة جائرة، وحرب على مظالم صارخة، هي في نظر الحق والعدل منكرات يجب أن تزول، وهى عند البغاة والمتسلطين حق مشروع، ثم هي عند أدعياء الإيمان قدر مقدور! ولا نريد أن ندع هذا البحث في القضاء والقدر قبل أن نذكر رأيا لابن القيّم في هذه القضية، يعتبر- في رأينا- مقطع الفصل فيها، عند المؤمنين باللّه، وبما للّه من أحكام في عباده.
يقول ابن القيّم في كتابه: روضة المحبين:
فأحكام العالم العلوىّ والسّفلىّ وما فيهما، موافقة للأمر.
إما الأمر الدينىّ، الذي يحبّه اللّه ويرضاه، وإما الأمر الكونىّ الذي قدّره وقضاه هو سبحانه لم يقدّره- أي الأمر الكونىّ- سدى، ولا قضاء عبثا، بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة، وما يترتب عليه من أمور، يحبّ غاياتها وإن كره أسبابها ومبادئها فإنه سبحانه وتعالى يحبّ المغفرة، وإن كره معاصى عباده، ويحبّ الستر، وإن كره ما يستر عبده عليه، ويحبّ العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار.. ويحب العفو، وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار.. ويحبّ التوّابين وتوبتهم، وإن كره معاصيهم التي يتوبون إليه منها.. ويحب الجهاد وأهله، بل هم أحبّ خلقه إليه، وإن كره أفعال من يجاهدونهم.
ثم يقول: وهذا باب واسع، قد فتح لك، فادخل منه، يطلعك على رياض من المعرفة مونقة، مات من فاتته بحسرتها، وباللّه التوفيق.
ثم يقول: وسرّ هذا العباب، أنه- سبحانه- كامل في أسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق، من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه ما وهو- سبحانه- يحبّ أسماءه وصفاته، ويحبّ ظهور آثارها في خلقه، فإن ذلك من لوازم كماله فإنه- سبحانه- وتر يحبّ الوتر.. جميل، يحبّ الجمال.. عليم، يحبّ العلماء.. جواد، يحبّ الأجواد.. قوىّ، والمؤمن القوىّ أحبّ إليه من المؤمن الضعيف.. حيىّ، يحبّ أهل الحياء.. وفىّ، يحبّ أهل الوفاء.. شكور، يحبّ الشاكرين.. صادق، يحبّ الصادقين.. محسن، يحبّ المحسنين فإذا كان- سبحانه- يحبّ العفو، والمغفرة، والحلم، والصفح، والستر- لم يكن بدّ من تقدير الأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها، ويستدلّ بها عباده على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدعى إلى محبته، وحمده، وتمجيده، والثناء عليه بما هو أهله.. فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق.. وإن فاتت من بعضهم، فذلك الفوت سبب لكمالها وظهورها فتضمّن ذلك الفوت المكروه له- سبحانه- أمرا هو أحبّ إليه من عدمه!فتأمّل، هذا الموضع حق التأمل وهذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم، حين يجمعهم في صعيد واحد، ويوصّل لكل نفس ما ينبغى إيصاله إليها من الخير والشرّ، واللذة والألم، حتى مثقال الذّرة، ويوصّل كلّ نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنّها أولى بها فحينئذ ينطق الكون بأجمعه، بحمده، تبارك وتعالى، قالا (أي قولا) وحالا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فحذف فاعل القول، لأنه غير معيّن، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه.. فيحمده أهل السموات، وأهل الأرض، والأبرار والفجّار، والجنّ والإنس.. حتى أهل النار! قال الحسن البصري وغيره:لقد دخلوا النار وإن حمده لفى قلوبهم وهذا-واللّه أعلم- هو السر، الذي حذف لأجله الفاعل، في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها} وقوله: {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} كأنّ الخلق كله، نطق بذلك وقاله لهم.. واللّه تعالى أعلم بالصواب. ا. ه.