فصل: تفسير الآية رقم (243):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (243):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)}.
التفسير:
من هم هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟
تختلف أقوال المفسرين اختلافا كبيرا في هؤلاء القوم.. وفى الأمة التي ينتسبون إليها، وفى العصر الذي كانوا فيه، وفى الحدث الذي خرجوا من أجله، وفى المعتقد الذي كانوا يعتقدونه.. إلى غير ذلك من وجوه الأقوال فيهم، والتي لا يجد المرء فيها- مجتمعة أو متفرقة- شيئا يستريح له، ويقف عنده! وندع هذه الأقوال جميعها، لنأخذ بما يقع في وجداننا، ونحن نتلو الآية الكريمة، وما بعدها من آيات.
فنقول- واللّه أعلم- إن كلمة {الذين} تجيء أكثر ما تجيء في القرآن الكريم مرادا بها جنسا خاصا من الناس، مثل: الذين آمنوا، والذين كفروا والذين جاهدوا، والذين صبروا.
1- فهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف لابد أن يكونوا على صفة واحدة، اجتمعوا عليها، وعاشوا فيها.
2- ثم إنهم من جهة أخرى- قد شملتهم حال واحدة، أحاطت بهم وعرضتهم للموت، فخرجوا من ديارهم طلبا للنجاة من وجه هذا الخطر الجاثم عليهم: {خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} 3- ثم إنهم-من جهة ثالثة- خرجوا بتدبير من عند أنفسهم، وأنهم تركوا ديارهم خفية دون أن يشعر بهم العدو المتربّص بهم، وأنه لو كان هذا الخروج من عمل عدوهم لكان التعبير عن هذا الخروج بلفظ {أخرجوا} لا بلفظ خرجوا كما جاء به الخبر القرآنى! هذه دلالات ثلاث نجدها في الآية الكريمة.
ونتفرس في وجوه الأحداث التي كانت تستدعيها الدعوة الإسلامية، وتقيم منها العبرة والعظة للمؤمنين، وفى الجماعة التي كانت مضرب المثل للمؤمنين- في الخير والشر- فنجد هذه الجماعة هي جماعة بنى إسرائيل والحدث الذي يعطى هذه الدلالات، هو خروجهم من مصر على يد نبى اللّه موسى عليه السلام! فالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف إذن، على هذا التفسير- هم بنو إسرائيل.
1- فهم الذين كانوا جماعة مستقلة بذاتها، متميزة بعاداتها وأوضاعها في المجتمع المصري.
2- وهم الذين أخذهم فرعون بالبأساء والضراء، وأنزلهم منازل الهون والذلة: {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ} [4: القصص].
3- وهم الذين خرجوا بليل مستخفين تحت جنح الظلام، دون أن يشعر بهم فرعون وجنوده، إلا بعد أن قطعوا معظم الطريق، جادّين في الهرب: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [23: الدخان].
والآية القرآنية تقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}.
ولا تحتاج الآية بعد هذا إلى شرح أو تأويل! وتقول الآية بعد ذلك: {فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ}.
والسؤال هنا: هل كتب اللّه سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم، الموت، بعد أن خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت؟
نعم..!
فإنه بعد أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وبعد أن رأوا من آيات اللّه ما رأوا عادوا فكفروا بآيات اللّه وعبدوا العجل، واتخذوه إلها من دون اللّه.
فكان أن عاقبهم اللّه بأن كتب عليهم التيه في الصحراء أربعين سنة، كما قال اللّه تعالى: {قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [26: المائدة].. وهذا موت أدبى ومادىّ معا.. فقد عزلهم اللّه بهذا التّيه عن الحياة، وعن المجتمع البشرى كله، لا يدرون أين هم في هذا القبر الكبير الذي أطبق عليهم، وسدّ دونهم منافذ الخروج منه! ثم تقول الآية الكريمة بعد هذا: {ثم أحياهم} أي قال لهم اللّه موتوا، فماتوا.. ثم أحياهم أي أخرجهم من هذا التيه، وبعثهم من هذا القبر المشتمل عليهم، بعد أن قضوا الأربعين سنة المحكوم عليهم بها.
وتقول الآية في خاتمتها: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} تنبيها لأولئك الغافلين عن نعم اللّه وأفضاله، ليقوموا بحق شكرها، بالإخبات للّه والحمد له، ولكن أكثر الناس يجحدون بآيات اللّه ويكفرون بنعمه! وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} تشنيع على بنى إسرائيل وإدانة لهم بأنهم استقبلوا نعم اللّه بالجحد والكفران.. كانوا في قبضة فرعون أمواتا أو كالأموات فأحياهم اللّه، إذ خلصهم من عدوهم، ولكنهم كفروا النعمة وجحدوا المنّة فأماتهم اللّه بالتيه في الصحراء أربعين سنة، ثم أحياهم إذ أخرجهم من هذا التّيه، فلم يكن منهم إلا الجحود والكفران.
هذا، ومورد الآية الكريمة هنا، أنها تمثل للمسلمين موقفا أشبه بالموقف الذي كانوا يقفونه يومئذ، وأنه إذا كان بنو إسرائيل قد مكروا بآيات اللّه وجحدوا فضله فليكن المسلمون على حذر من أن يضلوا كما ضل القوم، وأن يقعوا فيما وقعوا فيه! والآية الكريمة نزلت في سورة البقرة التي كانت أول القرآن نزولا بعد الهجرة.. فهى تذكّر الرسول والمسلمين بأن قوما قبلهم قد خرجوا من ديارهم فرارا بأنفسهم من وجه الظلم والقهر والإذلال، كما خرج النبيّ والمهاجرون معه من ديارهم فرارا بدينهم، وأن يفتنهم المشركون فيه {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
وأن اللّه- سبحانه- الذي نجّى بنى إسرائيل من عدوهم سينجّى النبي وأصحابه من عدوّهم، وأنه كما أحيا هؤلاء القوم وحفظ عليهم حياتهم سيحيى المسلمين ويحفظ عليهم دينهم! ثم إنه سبحانه- وقد جحد بنو إسرائيل نعمته فرماهم في التيه- يرصد عقابه لكل من لا يشكر له، ويستقيم على طريقه القويم.
فليأخذ المسلمون العظة من هذا الحدث. وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء القوم من فتنة وضلال!

.تفسير الآية رقم (244):

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}.
التفسير:
لقد نجّى اللّه المسلمين من عدوّهم، كما نجّى بنى إسرائيل من عدوّهم، ولكن بنى إسرائيل كفروا وجحدوا، وضنّوا أن يعطوا شيئا من أنفسهم للّه الذي استنقذها وخلّصها. وهذه دعوة للمسلمين الذين خلصهم اللّه من البلاء، وعافاهم من السوء الذي كانت ترميهم به قريش- دعوة لهم أن يقاتلوا في سبيل اللّه، وأن يدفعوا يد الضلّال والمفسدين عن طريق الحق والخير والسلام، فتلك هي الزكاة التي يؤدونها عن هذه النعمة التي ألبسهم اللّه إياها، وبذلك تضعف قوى البطش والطغيان، فلا تتسلط على عباد اللّه كما كانت متسلطة عليهم هم، من قبل أن يمنّ للّه عليهم، وينجّيهم مما كانوا فيه من بلاء!

.تفسير الآية رقم (245):

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}.
التفسير:
إن مجال الجهاد في سبيل اللّه متعدد الميادين، مختلف الوسائل.
فمن جهاد بالنفس وبيع لها في سبيل اللّه، إلى جهاد بالمال، وبذل له في وجوه الخير والنفع، إلى جهاد بالكلمة الطيبة الصادقة في دعوة الحق والخير.
كل أولئك وما شابهه جهاد مبرور في سبيل اللّه.
ومن لطف اللّه بعباده ورحمته لهم أنه يمنحهم الحياة، ويفضل عليهم بالمال، ثم يجعل ذلك ملكا خالصا لهم، ثم يعود بفضله عليهم فيشترى منهم تلك الأنفس، ويقترض منهم هذا المال، ثم يعود بفضله وكرمه فيؤدى إليهم ثمن ما اشترى، وقيمة ما اقترض أضعافا مضاعفة.. وكان له- سبحانه- أن يأخذ ما منح، ويسلب ما أعطى، بلا عوض، ودون مقابل، ولكنه ذو رحمة واسعة وفضل عميم! {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (246):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}.
التفسير:
مثل آخر من بنى إسرائيل تعرضه الآية الكريمة لأنظار المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلّا أن يقولوا ربنا اللّه.. وفى هذا المثل يرى المسلمون صورة كريهة للمهانة والذلة تركب القوم، فإذا هم جبناء أذلّاء، لا يدفعون عن حرماتهم، ولا يردّون يد العدوّ المتسلط عليهم! إن هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل- وهم سادة القوم وأشرافهم- هم أبناء أولئك الذين أماتهم اللّه ثم أحياهم، بأن أدخلهم الأرض المقدسة، وجعل لهم مقاما فيها، فلما ركبهم البغي والعدوان سلط اللّه عليهم من بدّد شملهم، وخرب ديارهم وأزال ملكهم، ونبذهم بالعراء في تيه أشبه بالتيه الذي عاش فيه سلفهم.. وإذ دبّ في القوم دبيب الحياة، وتحركت فيهم أثارة من نخوة ورجولة قالوا لنبيهم: اختر لنا ملكا نجتمع إليه، ونقاتل تحت رايته، لنستعيد ملكنا، ونجتمع إلى ديارنا! ونبيهم يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، ويرى من أنفسهم ما لا يرون.. إنهم أكثر الناس أقوالا وأقلّهم أفعالا.. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم! {قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيلقاهم النبيّ بما يتوقع أن يكون منهم {قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا} وتأخذهم الحميّة، وتغلب عليهم شهوة القول.. فيقولون: {وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا} إنهم يجدون أكثر من دافع يدفعهم إلى القتال.. لقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وشرّدوا هم وأبناؤهم.. فهل يصبر على هذا الضيم أحرار الرجال؟ ولكن أين هم الرجال؟ {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
لقد فضحوا أنفسهم حين دخلوا في هذه التجربة، وكانوا من قبل أن يطلبوا الدخول فيها، في ستر من أمرهم، ولكن أبوا إلا أن يركبوا مراكب الرجال، فزلت أقدامهم، وعفرت وجوههم في تراب الخزي والمهانة.. إلا قليلا ممن أراد اللّه له السلامة والأمن، فثبت قدمه، وربط على قلبه.

.تفسير الآية رقم (247):

{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)}.
التفسير:
وتشرح هذه الآية والآيات التي بعدها ما أجملته الآية السابقة، من هذا الموقف المتخاذل الذي كان من هؤلاء القوم، الذين يمكرون بآيات اللّه، ويستخفّون بأوامره وأحكامه.
لقد اختار لهم اللّه ملكا يقاتلون معه، وذلك إجابة لمقترحهم الذين اقترحوه.. فجعلوا يفتشون في هذا الملك المختار من قبل اللّه، ويفندون الأسس التي قام عليها اختياره، وفى ذلك ما فيه من جرأة على اللّه، وعدوان على ما يقضى به ويحكم فيه.
وليتهم إذ نظروا، وقعت أنظارهم على ما في الإنسان من فضائل نفسية وروحية، هي التي يكون بها التفاضل والتمايز بين إنسان وإنسان.. ولكنهم لم ينظروا إلا إلى ما أشربته قلوبهم من حبّ المال، الذي هو ميزان المفاضلة والفضل عندهم.. فحين رأوا أن الملك المختار لم يكن أكثرهم مالا، وأوسعهم ثراء، أنكروا أن يكون ملكا عليهم، وقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ} وتلقّوا الإجابة من نبيهم مسكتة مفحمة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ}! فهل لهم أن يحتكموا على اللّه؟ لقد اصطفاه اللّه عليهم.. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ} ثم إن هذا الذي اصطفاه عليهم قد زاده اللّه بسطة في العلم والجسم، فإذا كان فيهم من يفضله في المال، فهو يفضلهم في كمال الجسم وتمام العقل، وذلك مما يكمل به الملك ويجمل به الملوك! جمال وروعة في المظهر، وفى المخبر معا.
{وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} يصطفى من يشاء لما يشاء، وسع فضله كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، فلا معقّب لحكمه، ولا منازع له في سلطانه. {فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}؟

.تفسير الآية رقم (248):

{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}.
التفسير:
لم يطمئن القوم إلى ما أخبرهم به نبيّهم عن طالوت، وأن اللّه قد اصطفاه لهذه المهمة، وأن عنده من مستلزمات الملك ما ليس لأحد منهم.. بسطة في العلم والجسم.. ولكنهم أبوا أن يخفّوا للانضواء إليه والقتال تحت رايته.
فجاءهم نبيهم بآية محسوسة، يجدونها بين أيديهم، أمارة على اصطفاء اللّه له، وهو أن يعود إليهم التابوت الذي افتقدوه من زمن بعيد، وفى هذا التابوت سكينة واطمئنان لهم، إذ كانوا يجدون في وجوده بينهم دلالة على رضى اللّه عنهم وتأييده لهم في القتال. وفى هذا الصندوق أيضا بعض من مخلفات موسى وهرون.
وفى هذا شاهد واقعي يشهد لصدق النبيّ، ويؤيد ما بلّغ به عن ربّه في شأن طالوت! والتابوت هو صندوق يقال إنه هو الذي كان قد وضع فيه موسى حين ألقته أمه في اليمّ، ويمكن أن يكون صندوقا من صنع موسى كان يضع فيه الألواح والعصا، وغير ذلك من آثاره وآثار هارون، وكانوا يصحبون التابوت معهم في حروبهم، تبركا به، فلما كان القوم في بعض حروبهم مع عدوّهم، وغلبوا على أمرهم، واستبيحت ديارهم وأموالهم، حمل أعداؤهم هذا التابوت، فيما حملوا من مال ومتاع! فكانوا بعد ذلك لا يجرءون على ملاقاة عدو! وجاءهم التابوت وما كان فيه من آثار، وعندها وجدوا السكينة، والاطمئنان.. فآمنوا وصدّقوا، ورضوا بطالوت ملكا وقائدا.. وهكذا يقاد القوم قسرا، بيد الآيات المعجزة القاهرة، التي تسدّ عليهم منافذ، المعاذير والعلل، التي يقيمونها بين يدى كل أمر يدعون إليه من اللّه!

.تفسير الآية رقم (249):

{فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}.
التفسير:
أما والقوم قد أبوا أن يصدّقوا إلا أن يروا بأعينهم، فقد ابتلاهم اللّه، ووضعهم أمام تجربة حسيّة يدعوهم إليها طالوت الذي جاءهم بالآيات ليحملهم على التصديق به.. وليس لهم بعد ذلك أن يخرجوا عن طاعته، بعد أن استيقنوا أن اللّه قد اصطفاه عليهم.. وها هوذا يدعوهم إلى محنة قاسية، لم يكن لهم أن يتحللوا منها بحال أبدا.. إنها من طالوت، وإن طالوت من اللّه، وشاهده في يده!! {قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}.
هذه هي التجربة، وهذا هو الابتلاء.! فالقوم عطشى والماء بين أيديهم، وكلمة اللّه إليهم: ألّا يشربوا من هذا الماء وألا يرووا ظمأهم.
وفى هذا:
أولا: امتحان لإيمانهم، واستجابتهم لما يدعون إليه، وهم في وجه تجربة أقسى وأمر، هي لقاء العدوّ الذي عرفوه وعرفوا بأسه وجبروته وبطشه بهم، وبآبائهم من قبل! وثانيا: أن ذلك رياضة لهم وتدريب على احتمال مكاره الحرب وأهوالها، وربما كان الظمأ أهون شيء فيها.
هذا بعض ما تنطوى عليه التجربة في كيانها، ولكن القوم لا يرون إلا ما يطفو على ظاهرها، وأنها ليست إلا تحكما من طالوت، لا يمليه عليه إلا حبّ التسلط والاستبداد، وهذا ما يضاعف من كمدهم وحقدهم.. ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم.. إنهم يحومون حول الماء ولا يردونه، وتحترق أكبادهم ظمأ ويحرم عليهم أن يشربوا منه.. {كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [16: فصلت].
وإن القوم لعلى ما هم عليه من فساد طوية واعتلال نية.. فخرجوا عن أمر نبيهم، وشربوا من النهر وعبّوا، إلا قليلا منهم ممن عافاه اللّه من هذه المحنة، فتجنّب النهر ولم يشرب منه! وقد اعتزل طالوت أولئك الذين شربوا، وخلص بالذين لم يشربوا أو اغترفوا غرفة بأيديهم.. وحين رأى القوم عدوّهم يقودهم قائدهم الجبار جالوت فزعوا واضطربوا وقالوا: {لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ} ولكن قلة قليلة منهم ممن آمن باللّه، ووثق بما أعده في الآخرة لعباده المؤمنين، فآثروا الآخرة على الدنيا، وزهدوا بما في أيديهم طمعا بما في يد اللّه- هؤلاء لم يلتفوا إلى ماوراءهم من أهل وولد ومال، ولم يخفهم الموت الراصد لهم في يد أعدائهم، فلم يهابوا العدوّ وكثرته وقوته، وأطمعهم هذا الشعور في عدوّهم، ورأوا أنهم في قلتهم المؤمنة الصابرة أقوى من عدوّهم الذي لا يؤمن باللّه ولا يصبر على المكروه، إلا طمعا في مغانم الدنيا ومتاعها.. وإذ قال غيرهم: {لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ} قالوا هم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.