فصل: تفسير الآيات (41- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (41- 50):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}.
التفسير:
مناسبة قصة إبراهيم مع أبيه هنا، هي أنها تمثل للنبى صلى اللّه عليه وسلم صورة من الصراع الحادّ بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين، وأن هذا الصراع قد يبلغ الحدّ الذي يفرق بين الابن وأبيه.
وإذن، فإنه ليس للنبىّ أن يأسى كثيرا على ما وقع أو سيقع بينه وبين أهله وقومه، من فرقة واختلاف، وقد جاءهم لينذرهم يوم الحسرة، ويلفتهم إلى تلك الفرصة السانحة لهم للخلاص مما هم فيه من ضلال، وإلا فالويل لهم من يوم عظيم! ومن قصة إبراهيم مع أبيه تنكشف أمور.. منها:
أولا: هذا الأدب في الخطاب، من الابن إلى أبيه.. حيث تصدّر كل دعوة من إبراهيم إلى أبيه بقوله: {يا أَبَتِ}.
.. وقد تكرر هذا النداء الرقيق الحبيب، أربع مرات.
وهذا، فوق أنه أدب يوجبه حقّ الأبوّة، هو أدب تقتضيه النبوة، ويقضى به الأسلوب الذي تقوم عليه دعوتها في الناس كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وانظر في قوله: {يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا}.
كيف يدعوه باسم {الرَّحْمنِ} ويحذره مما هو فيه من منكر غليظ، لا تناله فيه رحمة الرحمن، تلك الرحمة التي وسعت كل شيء..!
فإذا كان {الرحمن} لا يرحمه في تلك الحال التي هو فيها، فكيف باللّه، المنتقم، الجبار؟؟
إنه مدعوّ الآن إلى الرحمن من رب رحيم، فإذا لم ينته عن غيّه وضلاله، فإن مع هذه اليد الرحيمة، يد النقمة والبلاء حيث يصبح وإذا هو من أولياء الشيطان وأتباعه.. وليس للشيطان وأولياء الشيطان إلا الخزي والبلاء العظيم.
وثانيا: وكما هو الشأن دائما في أهل الضلال، وأصحاب الشناعات.
إنه لا يجيء منهم إلا ما هو منكر وشنيع، من قول أو فعل.. وهذا داء مستحكم فيهم، لا يجدى معه لين، ولا تخفف من حدته عاطفة رحم وقرابة..!
فها هو ذا الأب الضال العنيد، يلجّ في ضلاله، ويستبد به كفره، فلا تندّ منه قطرة من عاطفة نحو ابنه، ولا يلقى هذا النداء الذي ينادى به بأحب اسم يسمعه الآباء من أبنائهم: {يا أَبَتِ} لا يلقى هذا النداء عنده أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له.. وإذا هذا الأب الضال العنيد يرجم ابنه البار الرحيم، بهذا القول المنكر الغليظ:
{يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}! هكذا يقولها {يا إِبْراهِيمُ}.
ولم يقل يا بنى، أو يا ولدي.. ثم يتبع ذلك بهذا التهديد: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}!! أهكذا تبلغ غلظة القلب، وعمى البصيرة، حتى تنزع من صاحبها كل عاطفة، وحتى يجد الأب اليد التي تطاوعه على رجم ابنه؟ أإلى هذا الحد ينحدر الإنسان إلى مالا يرضى به الحيوان لنفسه مع أولاده؟
ولقد أفاق الرجل من سكرة جهله، وضلاله، حين نطق بهذه الكلمة {لَأَرْجُمَنَّكَ} ورأى أن ابنه قتيل بيده، وأنه دمه يسيل فيغطى الأرض من حوله.
ومع هذا فلم تكن هذه الصحوة لتعيد إلى الرجل ما عزب من عقله، أو لتصحح ما انحرف من عاطفته، بل إن كلّ ما كان لهذه الصحوة، هي أن جعلته يذكر أنه أب قد كانت بينه وبين هذا الإنسان الذي يهمّ برجمه، شئون وشئون.. وهذا ما جعله يمسك يديه عن هذا الفعل الآثم، فيصرخ في إبراهيم: أن أغرب عن وجهى، قبل أن يعود إلىّ جنونى، وأفتك بك!! وهذا هو سرّ العطف بين قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} وقوله تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} الأمر الذي يشير إلى أن هنا كلاما محذوفا بين المتعاطفين، تقديره: فانج بنفسك {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أي اهجرني زمنا طويلا، وليكن إلى الأبد! وانظر كيف استقبل إبراهيم هذه الثورة العاصفة المجنونة، وكيف ردّ هذا الحمق الجهول، بتلك القولة الكريمة الحانية: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا}!! أي إن ربّى كان مكرما لى إكراما عظيما.. وكما أكرمنى ربّى، سأكرمك بالاستغفار لك وطلب المغفرة من ربّى! إنها الكلمة الجديرة بأن تكون من خليل الرحمن، الذي وصفه سبحانه وتعالى بقوله. {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [75: هود].
فما يكون هذا الحلم، ولا تلك الوداعة، ولا ذلك الرفق، إلا من مثل هذا النبيّ الكريم، الذي أدّبه ربّه أدبا رفعه به إلى مقام الخليل! ويأخذ إبراهيم طريقه إلى ربّه، ويدع أباه وقومه، وما هم فيه من عمى وضلال، بعد أن دعاهم إلى الهدى فأبوا، ومدّ يده إليهم بالخير فردّوه، وتوعدوه، {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.
ولن يشقى من يتجه إلى ربّه، ويبسط إليه يده، سائلا متضرعا.
وفى قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا}.
فى هذا ما يسأل عنه.. وهو: لما ذا اختصّ إسحق ويعقوب بالذكر هنا، ولم يذكر إسماعيل، مع أنه الابن الأول لإبراهيم، ومع أن يعقوب ليس ابن إبراهيم، وإنما هو ابن ابنه إسحق؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن إسماعيل كان قد ولد لإبراهيم، وأن إبراهيم كان على يأس من الولد من امرأته سارة أمّ إسحق إذ كانت عقيما.
فذكر إسحق، هنا، هو تذكير بتلك النعمة التي جاءت على غير انتظار، بل جاءت على يأس من أن تقع.. وهى- في صورتها تلك- أشبه بالجزاء المعجّل على هذا البلاء العظيم، الذي كان من إبراهيم في موقفه من أبيه ومن قومه، وهذا ما يشير إليه تقييد هذه الهبة بهذا الظرف، الذي اعتزل فيه إبراهيم قومه، وما يدعون من دون اللّه. كما يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ}.
ومن جهة أخرى، فإن ميلاد إسماعيل من أمّه هاجر، كان ميلادا من امرأة لم تحكم عليها ظواهر الأمور بالعقم.. فهو- والأمر كذلك- ميلاد طبيعىّ، يجرى على المألوف من حياة النّاس.
أما ذكر يعقوب، وهو ابن الابن، وليس ابنا مباشرا، فهو إلفات إلى زيادة المنّة، ومضاعفة الإحسان، حيث يرى إبراهيم أن ولده إسحق لا يبتلى مما ابتلى به هو من تأخير الولد عنه إلى سنّ الشيخوخة، وإلى حمل نفسه على مرارة اليأس من الولد..!
هذا، وسيأتى لإسماعيل ذكر خاص، في الآيات التالية، كما سنرى.

.تفسير الآيات (51- 58):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، ذكر لبعض من أنبياء اللّه ورسله.. هم موسى، وإسماعيل، وإدريس.. ثم هارون باعتباره نبيّا، غير رسول.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى موسى بأنه كان مخلصا.. أي أخلصه اللّه سبحانه وتعالى له، واختصه بكلامه.. ثم وصفه سبحانه بأنه كان نبيا، أي يجمع بين الرسالة والنبوّة، ثم وصفه سبحانه وصفا ثالثا، بأنه نودى من الحق جلّ وعلا فقال تعالى: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} أي قرب من حضرة الحق جلّ وعلا إلى حيث ناجاه، كما يناجى الخليل خليله.. كما يقول سبحانه في آية أخرى:
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [164: النساء].
وبهذه الأوصاف استحق موسى أن يقدّم على رسل وأنبياء، كانوا أسبق منه زمانا، كإسماعيل، وإدريس.. وهذا التقديم- وإن رفع من قدر موسى- لا ينقص من قدر هذين النبيين الكريمين، {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [253: البقرة].
وفى قوله تعالى عن موسى: {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا} تكريم، فوق تكريم لموسى، وأنه إذ لم يوهب له الولد، فقد وهب له نبىّ يعمل إلى جانبه، في الرسالة التي ندب لها.
وفى قوله تعالى عن موسى أيضا: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا}.
تحديد للمكان الذي نودى منه موسى، وهو أنه كان بالجانب الأيمن من الطور، حين تلقى نداء الحقّ جلّ وعلا.
والجانب الأيمن من الطور، هو الجانب الغربىّ منه.
وهذا التحديد الجغرافى لمكان النداء، يشير إلى أن موسى كان قادما من مدين في طريقه إلى مصر، وأنه في متوجّهه هذا كان يخترق أرض الطور، التي يشرف عليها الجبل المسمى بهذا الاسم في صحراء سيناء على ساحل البحر الأحمر.
فكان الجانب الغربي من الطور على يمين موسى، والجانب الشرقي على يساره.
وحين ناداه ربه، سمع النداء من جانبه الأيمن، وهو الجانب الغربىّ من الطور، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [44: القصص].
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا}.
الصفة البارزة الموصوف بها إسماعيل في ديوان الأنبياء والمرسلين، هى، أنه {كانَ صادِقَ الْوَعْدِ}.
والوعد، هو قوله لأبيه: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وذلك حين قال له أبوه: {يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى} [102: الصافات].
وصدق الوعد في أنه كان قولا صدقه العمل، فلم يكن قوله لأبيه: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} مجرد قول يقال، ولكنه كان مصحوبا بنية صادقة على إمضاء هذا القول إلى غايته.. وقد تبين هذا حين جاءت ساعة التنفيذ.. فاستسلم إسماعيل لأمر ربه، وأعطى رقبته للسكين.. كما يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [103- 105: الصافات]:
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا}.
إدريس عليه السلام، هو من ذرية آدم الأولين، وهو جدّ أعلى لنوح ولهذا اختصّ بالذكر لأنه ليس من الأنبياء الذين جاءوا من ذرية إبراهيم.
والذين لم يذكروا هنا كعيسى، ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، ففى ذكر إبراهيم ذكر لهما، لأنهما من ذريته.. كإسحاق، ويعقوب، ويوسف.
أما ذكر إسماعيل- وهو ابن إبراهيم- فهو تنويه خاص به، إذ كان من ذريته خاتم النبيين محمد، صلوات اللّه وسلامه عليه.
هذا، ولم يلحق بإدريس وصف الرسول، إلى جانب الوصف بالنبوة.
فهو- بهذا- نبى، وليس برسول.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا}.
الإشارة هنا {أولئك} مشار بها إلى المذكورين في الآيات السابقة، من النبيين.. وهم موسى، وإسماعيل، وإدريس.
وهؤلاء الأنبياء الثلاثة، يمثلون الصور كلها التي جاء عليها أنبياء اللّه ورسله.
فموسى يمثل الأنبياء المرسلين، أصحاب الكتب السماوية، والرسالات، الخارجة عن نطاق الأهل والأسرة، إلى القوم، والأمة.
وإسماعيل.. يمثل الأنبياء المرسلين، الذين لم تكن لهم شريعة خاصة، ولم يكن بين أيديهم كتاب سماوى منزل عليهم، وكانت دعوتهم إلى اللّه مقصورة على آل بيتهم.
وإدريس.. يمثل الأنبياء غير المرسلين.
وهذا يكشف عن بعض السر في أن ذكرهم في هذه الآيات لم يجيء على حسب ترتيبهم الزمنى، بل جاء على حسب درجاتهم في مقام النبوة.
فهؤلاء الأنبياء الثلاثة، موسى، وإسماعيل، وإدريس، يمثلون وجوه النبوة، في درجاتها الثلاث:
والإشارة إليهم بأولئك، هي إشارة إلى جميع الأنبياء والمرسلين، الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين! وحرف الجر من في قوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ} هو للبيان، وليس للتبعيض.. إذ أن كل النبيين، هم من الذين أنعم اللّه عليهم، بهذه النعمة الجليلة، التي لا تعدلها نعمة فيما أنعم اللّه به على عباده من نعم! وهم جميعا ممن هداهم اللّه، واجتباهم.. هداهم إلى الحق، والإيمان، واختصهم بنعمة النبوة والرسالة، أو النبوة وحدها.
وأما حرف الجر من في قوله تعالى: {من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل} هذا الحرف في مواضعه الثلاثة للتبعيض.. أي إن هؤلاء النبيين الذين أنعم اللّه عليهم هم من بعض ذرية آدم، وهم بعض من آمن مع نوح وحمل معه في السفينة، وهم بعض ذرية إبراهيم وإسرائيل، وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.. إذ ليس كل أبناء هؤلاء وذرياتهم من النبيين، ولا ممن هداهم اللّه واجتباهم، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية التالية لهذه الآيات وهى قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.

.تفسير الآيات (59- 63):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)}.
التفسير:
الخلف بسكون اللام، الفاسد، الضالّ من الذرية، على خلاف الخلف، بفتح اللام.. فكأن الخلف خلف يجمع بين الخلف والخلف.. وهذا من الصيغ القرآنية العجيبة، التي تزداد بها اللغة ثراء، وتزدان حسنا.
وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
هو تهديد لهؤلاء الضالين، الذين خرجوا على سنن الفطرة السليمة، كما خرجوا على واجب الولاء والطاعة لآبائهم المكرمين من عباد اللّه، واتبعوا الغاوين والمفسدين من الآباء.
وفى قوله تعالى: {أَضاعُوا الصَّلاةَ} تنويه بشأن الصلاة، ورفع لقدرها إذ كانت الصلاة عماد الدين، في كل شريعة، وكل ملة.
وقد نوه اللّه سبحانه وتعالى بإسماعيل عليه السلام، فجعل دعوته بالصلاة في أهله، رسالة رسول.. {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ}.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وعيد بالعاقبة السيئة التي سيؤول إليها أمر هؤلاء الضالين، الذين أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات.
والغىّ: هو الضلال.. وقد جعل في مقام الهلاك والعذاب في جهنم، لأن القوم كانوا غواة، وأنهم سيلقون هذا الغىّ، وسيجدونه حاضرا يوم القيامة، وبه سيردون مورد الهلاك، وبه يصلون العذاب! قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
هو استثناء منقطع، و{إلّا} بمعنى {لكن}.
وبهذا الاستثناء يفتح باب النجاة من هذا المهوى الذي هوى فيه الضالون إلى جهنم.. فمن دخل هذا الباب، وتاب عما هو فيه من منكرات وضلالات، وصحّح إيمانه باللّه، فهو من عباد اللّه، الذين سيلقاهم في الآخرة برضوانه، وبجنات لهم فيها نعيم مقيم.
{فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
وقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}.
هو بيان للجنّة، التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} فهى في سعتها جنات، وإن كانت جنّة واحدة.. وهى جنات عدن، أي خلود وإقامة، لا يتحول عنها أهلها أبدا، وهى التي كانت وعدا تلقّاه المؤمنون باللّه من ربّهم في الدنيا، فآمنوا بهذا الوعد على الغيب، دون أن يروه، وقبل أن يتحققوا منه عيانا.. إنه إيمان باللّه، وبكل كلمات اللّه.. فهو إن يكن وعدا، فإنه حاضر في يقين المؤمنين، وهم بهذا الوعد أوثق مما في أيديهم.. {إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي آتيا، أو يؤتى إليه الموعودون به.
لا يتخلّف أبدا.. إن لم يجئهم جاءوا هم إليه.
وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
هو وصف لهذه الجنة، أو تلك الجنات، وأن أهلها في أمن وسلام، لا يسمعون فيها كلمة لاغية عابثة، فإن اللغو والعبث هو شغل الفارغين التافهين أما أصحاب الجنة فهم كما وصفهم سبحانه وتعالى: {فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} [55: يس] وشغلهم هو هذا النعيم الذي يملأ كل لحظة من لحظات وجودهم.
و{إلا} في قوله تعالى: {إِلَّا سَلاماً} بمعنى لكن، أي لا يسمعون لغوا، ولكن يسمعون سلاما.
وفى قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} إشارة إلى أن أهل الجنّة قد تركوا وما هم فيه من نعيم الجنّة، يطعمون منه، وإنما هم مع هذا محفوفون برعاية اللّه، آخذون من عطائه، الذي يلقاهم به بكرة وعشيّا.. فكل ما يناله أهل الجنة من صنوف النعيم، هو رزق من رزق اللّه، المجدّد عليهم، حالا بعد حال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً} [25: البقرة].
قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا}.
الإشارة هنا تنويه بالجنة، التي ذكرت بأوصافها، وأوصاف أهلها في الآية السابقة.
فهذه الجنّة المشار إليها هنا، هي الجنة السابقة، والتقدير تلك هي الجنّة التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيّا من عباده، أي مؤمنا به، مستقيما على أوامر شريعته ونواهيها. فيأتى ما أمر اللّه به، ويجتنب ما نهى اللّه عنه.
وفى التعبير عن دخول الجنة بالميراث، إشارة إلى أن أهلها ممكّنون من كل نعيم فيها، يتصرفون فيه كيف يشاءون، كتصرف الوارث فيما ورث.
لا يبخل على نفسه بشيء منه، إذ كان ذلك الميراث من غير كسبه، بل جاءه صفوا عفوا.
والجنة، هي ميراث للمتقين، لم يكن نزولهم منازلها إلا برضوان اللّه، ورحمته.. وإلا فإن ما عملوه في دنياهم من طاعات وما قدموه من صالح الأعمال، لا يؤهّلهم لدخولها.. كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته».