فصل: تفسير الآيات (73- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (73- 76):

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}.
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة جهنم وأهوالها، وعرض أهل الضلال عليها، ثم إلقاءهم فيها.. جاءت هذه الآيات بعد ذلك لترد هؤلاء الضالين إلى الحياة التي كانوا فيها، بعد هذه الرحلة المرهقة التي رأوا فيها جهنم عيانا، وطلع عليهم من أنفاسها الملتهبة ما يكظم منهم الأنفاس، ويشوى الوجوه.
جاءت هذه الآيات، لتعرض هؤلاء الضالين المشركين، بعد تلك التجربة، لترى أثرها فيهم، وفى موقفهم من الدعوة إلى الإيمان باللّه، والاستجابة لرسول اللّه- وإذا هم على غيّهم وضلالهم: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} أي واضحات مشرقات: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن أم هؤلاء الذين مع محمد..؟
أي الفريقين منا ومنهم {خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي خير حياة، وخير تمكنا من هذه الحياة، وأحسن مظهرا، حيث يضمنا نادينا، وحيث يجتمعون هم إلى محمد؟ إننا في نعمة ظاهرة، وفى حياة رافهة، وفى مجالس عامرة بسادة القوم، ووجوه الناس.. وهم بين عبيد أرقاء، وبين فقراء لا وزن لهم في الناس، ولا مكانة لهم في المجتمع.
واللام في قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا}: إما أن تكون لام التعدية، وعلى هذا يكون القول من الذين كفروا موجها إلى الذين آمنوا.
وإما أن تكون متعلقا بمحذوف، تقديره {محقّررين} أو {كائدين} للذين آمنوا.. أي قال الذين كفروا محقرين للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاما..؟
وفى قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً}.
تهديد لهؤلاء المشركين، وتسفيه لجهلهم وضلالهم، إذ تمسكوا بهذه الدنيا وجعلوا كل وجودهم لها- فهؤلاء الضالون لن يخلدوا في هذه الدنيا، ولن ينفعهم ما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين.. إنهم هالكون لا محالة، طال الزمن بهم أم قصر.. فإن شكّوا في هذا، فلينظروا في الأمم التي خلت من قبلهم، وما كان بين هذه الأمم من أصحاب أموال، ورياسات.. كانوا أكثر منهم مالا ومتاعا، وأبهى منظرا، وأعظم جاها وسلطانا.. فأين هؤلاء؟
لقد هلكوا فيمن هلك.. وسيهلك هؤلاء المشركون- سادة ومسودين- ولن تبقى منهم باقية!.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا}.
أي من كان على تلك الحال من الاستغراق في الضلالة، واستهلاك وجوده فيها، فإنه لن يرجع عن ضلالته، ولن يستمع لنصح ناصح، أو عظة واعظ.
وإذن {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} وليترك له الطريق مفتوحا إلى غايات الضلال، فلا يضيّق اللّه عليه في الرزق، ولا يبتليه بشيء في نفسه أو ولده، حتى لا ينصرف عن هذا الضلال، الذي هو غارق فيه.. كما يقول سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ} هو تكريم لهم، وإحسان منا إليهم؟ كلا.. ولكن {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} [55- 56: المؤمنون].
وفى قوله تعالى: {مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ} إشارة إلى أنه مستغرق فيها، وأن الضلالة ظرف قد احتواه، واشتمل عليه، فلا مخرج له منه.
وفى فعل الأمر: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} إشعار بأن هذا قضاء قضاه اللّه سبحانه وتعالى في أهل الضلال، وأوجبه جل شأنه على نفسه، كما أوجب رحمته لمن سبقت لهم من اللّه الحسنى.. فكأن ذلك أمر تقتضيه حكمة اللّه من اللّه..!
وفى إسناد فعل الأمر إلى {الرحمن} إشارة أخرى إلى أن هذا المدّ من اللّه سبحانه وتعالى للمشركين إنما هو- مع ما فيه من خذلان لهم- محفوف بالرحمة، إذ لو شاء اللّه سبحانه، لأخذهم بذنوبهم، ولعجّل اللّه العذاب في الدنيا، ولما أمهلهم تلك الفسحة من العمر، ليكون لهم فيها نظر إلى أنفسهم، وعودة إلى اللّه.
{حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً}.
حتى حرف غاية إلى هذا المد الذي يمده اللّه للمشركين، وأنه منته بهم إلى أمرين:
إما العذاب في الدنيا، بمهلكة يصبّها اللّه سبحانه عليهم، ويأخذهم بها، أو بالهزيمة والخزي على أيدى المؤمنين، فيما سيكون بينهم وبين المسلمين من قتال، كما يقول سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا} [52: التوبة].
وإما عذاب الآخرة.. فإنهم إن أفلتوا في الدنيا من هذا العذاب أو ذاك، فإنهم لن يفلتوا من عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، كما يقول سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [44- 48: القمر].
وعندئذ، سيعلم هؤلاء الضالون: {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} وسيرون أىّ الفريقين {خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا}.
هو بيان لما يلقى المؤمنون المهتدون من إحسان اللّه سبحانه إليهم، وألطافه بهم.. إنه سيمدهم في الدنيا بالهدى، ويزيدهم فلاحا إلى فلاح، وإيمانا مع إيمان، على حين يخذل اللّه سبحانه المشركين، ويمدّ لهم في الغى والضلال.
وفى قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا} تعقيب على ما للأعمال الصالحة من آثار طيبة، تثمر لأهلها ثمرا طيبا.. إنهم غرسوا في مغارس الخير، وقد بارك اللّه عليهم فيما غرسوا، وحرسه لهم من الآفات والمهلكات، وها هم أولاء وقد نضج الزرع، وطاب الثمر.!
والمردّ: المرجع، والمآل، والعاقبة.

.تفسير الآيات (77- 87):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً}.
الاستفهام هنا للتعجب، والمخاطب هو النبي، صلى اللّه عليه وسلم، ثم هو خطاب لكل من هو أهل للخطاب.
والتعجب، والعجب، هو من أمر هذا الذي كفر بآيات اللّه، ولم يؤمن بأن لهذا الوجود إلها خالقا، وربّا قائما على ما خلق- ومع هذا الإنكار للّه من هذا الكافر الجهول، يقسم بأنه سيؤتى في الآخرة- إن كانت هناك آخرة- سيؤتى مالا وولدا، كما أوتى في هذه الدنيا، الكثير من المال والولد! هكذا يذهب الشيطان بأوليائه، تلك المذاهب البعيدة في الضلال، ويقيم لهم حججا من الوهم والخيال، فهم كافرون باللّه، إذا لم تكن هناك آخرة.
وإذن لا خسران عليهم من هذا الكفر.. وهم مؤمنون باللّه إن كانت هناك آخرة، وإذن فلن يفوتهم حظهم الكبير إن كان للناس هناك حظوظ من مال وبنين!! {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [12: يونس].
قيل إن هذه الآية نزلت في بعض مشركى قريش، ولم يتفق المفسّرون على واحد بعينه، قيل فيه هذا القول.
وهذه الروايات المتعارضة المتضاربة في أسباب النزول، تدعونا إلى أن نسقط هذه الآراء جميعها، ولا نأخذ بواحد منها، إذ أن ذلك يعد ترجيحا بلا مرجّح! والذي نطمئن إليه، هو أن الآية تشير إلى الرجل صاحب الجنتين، الذي جاء ذكره في سورة الكهف، في قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} [36: الكهف].
فالآية إلفات إلى قصة هذا الرجل، وقد سمعها المشركون من قبل، فيما كان يتلوه النبيّ عليهم من آيات ربّه.. وهذا يعنى أن سورة مريم، قد نزلت متأخرة عن سورة الكهف.
قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} هو استفهام إنكارى، ينكر فيه على هذا المتألّى على اللّه.. الكافر به، هذا الادعاء الذي يدعيه، وأنه سيؤتى يوم القيامة مالا وولدا.. مثل ما أوتى في الدنيا المال والولد.. فهل اطّلع الغيب، وقرأ ما سطر له في علم اللّه؟
أم أنه اتخذ عند اللّه عهدا بذلك؟.. إنه لا هذا ولا ذاك، فكيف صحّت عنده هذه الدعوى، وعلى أي أساس أقامها؟ إنه لا شيء إلّا الوهم الذي يمليه الضلال، ويزين وجهه الهوى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر].
قوله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً}.
كلا، كلمة ردع، وزجر، وتكذيب لهذا الادعاء الفاسد.. ونفى مؤكّد لهذا الافتراء.. فلن يؤتى هذا الشقي مالا ولا ولدا، وإنما سيكتب عليه قوله هذا مع ما يكتب من أقواله وأفعاله المنكرة، ثم يكون حصاد هذا كلّه لا مالا ولا ولدا، وإنما هو المزيد من العذاب، والمضاعفة من البلاء.
أما ما في يديه من مال وولد، في هذه الدنيا، فسيخرج من يديه، ويصبح ميراثا لغيره لا يمسك بيده شيئا منه يوم القيامة، بل يأتى فردا، عاريا، حافيا، كما ولد من بطن أمه.. عاريا حافيا! قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}:

الضمير في {وَاتَّخَذُوا} يعود إلى المشركين الذين ذكروا من قبل في قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}.
فهؤلاء المشركون، قد اتخذوا من مستولدات أوهامهم وضلالاتهم، آلهة يعبدونهم من دون اللّه، ويرجون عندهم الخير، ويلتمسون منهم العون، والقوة، والتمكين في الأرض.
قوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}.
أي ولكن هؤلاء الآلهة التي هي صنعة أولئك المشركين، سينكرونهم يوم القيامة، وينكرون صلتهم بهم، بل ويكونون شهادة قائمة عليهم بما يفضحهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما..!
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}.
الاستفهام هنا للأمر.. وتقديره انظر كيف أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين.. تؤزهم أزّا.. أي تغريهم إغراء، وتدفعهم إلى الضلال دفعا.
فالمشركون- والحال كذلك- مدفوعون دفعا إلى هاوية مهلكة، لافكاك لهم منها.. إن هناك قوى خفية تدفع بهم إلى الشر، وتغريهم به، وتوردهم موارده.
وإذن، فلا تعجل عليهم، واصبر حتى يحكم اللّه بينك وبينهم، وسترى قضاء اللّه فيهم.. فإنهم مأخوذون بذنوبهم، التي تزداد كل يوم يمضى من حياتهم في هذه الدنيا.. وهذه الذنوب محصاة عليهم، معدودة فيما يعدّ لهم من سيئات وآثام.. فكلما طالت أيامهم في هذه الدنيا، كثرت أحمالهم من الذنوب، وضوعف لهم العذاب.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً}.
{يوم} ظرف، متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: {إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} فهذا العدّ الذي يحصى على المشركين أفعالهم المنكرة، يلزم منه الجزاء والعذاب.. والتقدير إنما نعدّ لهم عدّا، فنأخذهم بما كسبوا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا.
وحشر المتقين إلى الرحمن، جمعهم إلى ساحة فضله وإحسانه، في هيئة وفد كريم، يفد إلى جناب كريم، حيث ينزل منازل الإكرام والإعزاز.
وسوق المجرمين إلى جهنم وردا، هو دفعهم إليها، وسوقهم نحوها، كما تساق الأنعام.. فهم أشبه بقطيع من الماشية يساق إلى المذبح، ولا يدرى ماذا يراد به هناك! وفى التعبير عن المشركين بالمجرمين، وصف لهم بالصفة البارزة فيهم، والتي هي لازمة من لوازم الشرك.. فالمشرك مجرم آثم.
ومعنى {وردا} واردين، جمع وارد، والوارد، من يرد الماء ليشرب ويرتوى من ظمأ.. وهؤلاء إنما يردون عطاشا ليرتووا.. ولكن لا يجدون هناك إلا حميما وغسّاقا، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [51- 56 الواقعة] قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً}.
أي إن هؤلاء المجرمين المساقين إلى جهنّم، الواردين حياضها على ظمأ يحرق أكبادهم- لا يملكون ما يشفع لهم عند اللّه، ويعدل بهم عن هذا المورد الوبيل الواردين عليه.. لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، وأمضى هذا العهد ووفى به، فإن له شفاعة عند اللّه.. في نفسه، وفى غيره أيضا.
ومن هذا العهد ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [111: التوبة] فهذا عهد عاهد اللّه عليه المجاهدين في سبيله، وقد اتخذ المجاهدون هذا العهد من اللّه، ووفوا به، فكان شفاعة لهم عند اللّه من عذاب جهنم.
والإيمان باللّه، وبشريعة اللّه، هو عهد بين المؤمن وربّه، فإذا وفى بما عاهد اللّه عليه، أنجز اللّه له ما وعده من رضوانه، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} [60- 61: يس].

.تفسير الآيات (88- 98):

{وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)}.
التفسير:
الإدّ: الأمر المنكر، الذي يثقل كاهل صاحبه، ويقصم ظهره.
يتفطّرن: يتشققن، خوفا وإشفاقا من هذا البهتان العظيم.
قوما لدّا: أي ذوى لدد وشدّة في الخصومة، ولجاجة في الجدل.
الركز: الصوت الخفيض.
وقوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا}.
هو عرض لمقولة من مقولات الضالين، وهم تلك الطوائف من اليهود والنصارى، الذين نسبوا إلى اللّه الولد، فقالت اليهود: عزير ابن اللّه، وقالت النصارى: المسيح ابن اللّه.
وفى الإخبار بقولهم هذا، تهديد لهم، ووعيد شديد، بما سيلقون من وراء هذا الافتراء، الذي فزعت له السموات والأرض، حتى لقد اضطرب كيانهما، فكادت السموات تتشقق، وكادت الأرض تتصدع وتنخسف، وكادت الجبال تنهدّ وتتهاوى.
فمن يمسك على هذه الموجودات وجودها، ومن يحفظ عليها نظامها، إذا كان للّه ولد؟ إن إلها يتخذ ولدا لأعجز من أن يقوم على أمر نفسه، فضلا عن أن يدبّر وجود غيره ويحفظه.
وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} هو ردّ على تلك المقولة المنكرة.
قد نطق به الوجود كلّه، الذي يرى آثار اللّه فيه، وتدبيره له- نطق به منكرا هذا القول المنكر.. الذي جاء به الضالون، من واردات الإفك والزور.
قوله تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً}.
هو بيان، وتفسير للضمير في قوله تعالى: {منه} أي تكاد السموات يتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تنهدّ، من أن ينسب هؤلاء الضالّون ولدا إلى اللّه.. إذ ما يصحّ، ولا يجوز أن يتخذ الرحمن ولدا.. فما يتّخذ الولد، إلّا ليسدّ حاجة في نفس والديه.. واللّه سبحانه وتعالى في غنى مطلق عن أن يحتاج إلى شيء، فكل ما في السموات والأرض ملك للّه، خاضع لمشيئته، كلهم عبد، وعابد له.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً}.
هو بيان لقدرة اللّه تعالى، وسلطانه على هذا الوجود، وأن كلّ موجود فيه- صغر أم كبر- هو بيد القدرة الممسكة به، العالمة بكل ما في ظاهره وباطنه.. وكل إنسان سيأتى يوم القيامة فردا، لا يصحبه أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا متاع.. فهؤلاء الضالّون محصون في علم اللّه، معروفون بذواتهم وأعمالهم، ومعدود عليهم كل نفس يتنفسونه، فلا يقع في ظنهم أنهم غائبون عن اللّه، تائهون في خضمّ هذا الوجود..!
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا}.
وأهل الفوز من الناس جميعا، هم أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فهؤلاء، حين يأتى الناس يوم القيامة، ولا شيء معهم- سيأتون هم ومعهم صالح أعمالهم، التي تقربهم إلى اللّه، وتدنيهم من رحمته، وتنزلهم منازل مودّته وألطافه.
قوله تعالى: {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا}.
الضمير في يسّرناه، يعود إلى القرآن الكريم، الذي لم يجر لهم ذكر في هذا العرض الذي جاءت به الآيات السابقة.. وفى هذا تنويه بفضل القرآن، وأنه هو المذكور في هذا الموقف، والملجأ الذي يلجأ إليه الناس، ويجدون فيه الهدى، والنجاة من أهوال يوم القيامة.
فهذا القرآن ليس مما يخفى أمره على من يريد الهدى، ويلتمس النجاة.. إنه لا هدى إلا منه، ولا نجاة إلا بالتعلق به.. وإنه ممهد السبل، واضح المناهج، قريب التناول.. إنه يخاطب القوم بلسانهم الذي يتخاطبون به، فلا غموض فيه ولا إبهام.. إنه ليس سجعا كسجع الكهان، ولا تمتعة كتمتمة السحرة.
ولكنه بلسان عربى مبين.. وهذا الأسلوب الذي جاء عليه القرآن بلسان النبيّ، ولسان قومه، إنما ليكون حجة قائمة على الناس.. يدعوهم إلى اللّه، وإلى الإيمان به، وامتثال أو امره، واجتناب نواهيه.. فمن آمن، وعمل صالحا، فيا بشراه بما يلقى من نعيم الجنات ورضوان الرحمن.. ومن أبى، وأعرض.
فيا لخسرانه، ويا لحسرته.. يوم لا ينفع مال ولا بنون..!
وفى قوله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} إشارة كاشفة إلى تلك الآفة التي حجزت المشركين عن الاهتداء بهذا الهدى، والاستضاءة بذلك النور.
وإن آفتهم لهى هذا اللجج في الخصومة والجدل، كما يقول سبحانه فيهم:
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [58: الزخرف].
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا أمسكوا على ما هم عليه من عناد وضلال، فإنهم سيخرجون من هذه الدنيا بأخسر صفقة.
فما هي إلا أيام يعيشونها في هذه الدنيا، ثم يطويهم التراب، كما طوى أمما وقرونا كثيرة من قبلهم، فأصبحوا ترابا هامدين، لا يذكر لهم أثر، ولا يسمع لهم نبأ!.