فصل: تفسير الآيات (17- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (17- 24):

{وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24)}.
التفسير:
فى هذه المرحلة من رسالة موسى، يبدأ الاستعداد للمرحلة الثانية، التي هي رسالته إلى قومه بنى إسرائيل، وذلك بعد أن يخلصهم من يد فرعون.
ولكن قبل أن تبدأ هذه المرحلة، وقبل أن يدعى موسى إلى لقاء فرعون، تكون له وقفة بين يدى ربّه، يهيئه فيها لهذا اللقاء المثير المخيف.
وها هو ذا موسى يستمع إلى نداء ربه.
{وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى} إن موسى يعرف ما بيمينه، ولهذا قال على الفور:
{هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى}.
وهذا الوصف المستغرق لصفات العصا، إنما هو لما وجد موسى من غرابة، السؤال، ووقعه على نفسه.. فليس بين يديه إلا عصا كسائر العصىّ.. يتوكأ عليها، ويهشّ بها على غنمه، ويردّ بها كل عاد عليه، أو يعلق عليها أدواته.
أو نحو هذا مما تستخدم له العصىّ في يد من يحملونها.
وكأنّ موسى قد استشعر من هذا السؤال أنه يحمل شيئا منكرا، لا يليق بمن يخاطبه اللّه، ويصطفيه لرسالته، أن يحمله.. ولهذا أعطى عصاه كل الأوصاف التي يحملها من أجلها.
وفى هذا الوصف يتحقق موسى أن عصاه هذه ليست إلا عصا من العصىّ التي يحملها الرعاة، والتي يقتطعونها من أغصان الأشجار.
وإذن فليعلم موسى من أمر هذه العصا ما لم يكن يقع له في حسبان!.
{قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى}.
ولا شك أن موسى قد فزع واضطرب.. وقد فزع واضطرب فعلا، وولّى مدبرا ولم يعقب.. كما يقول سبحانه في موضع آخر.. {فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [31: القصص].
ولهذا جاء قوله تعالى له:
{قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى}.
وهكذا أخذ موسى العصا، فإذا هي على ما كان يعهدها عليه.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى}.
هو معطوف على قوله تعالى: {خُذْها} أي خذ العصا، {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ}.
ولهذا جاء الأمر هنا غير مسبوق بالقول!- وقوله تعالى: {آيَةً أُخْرى} منصوب باسم فعل محذوف، تقديره: إليك آية أخرى، إلى تلك الآية الأولى، آية العصا، التي عرفتها.. ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضاءَ} حالة كونها آية أخرى، إلى الآية السابقة، وهى العصا.
{لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى} أي فعلنا ذلك لتشهد ما لنا من قدرة، وما بين أيدينا من آيات.. فهذه بعض آياتنا، وإن آياتنا كثيرة لا تنتهى، عظيمة لا تحدّ..!
وإذا عرفت من بعض مظاهر قدرتنا ما قد عرفت، فلا يهولنّك أمر وإن عظم، ما دمت مندوبا من قبلنا، داعيا باسمنا.
{اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى}.
ولا يخيقنك طغيانه، ولا يروعنّك سلطانه.. إنك- بتأييدنا لك- أشد منه قوة، وأعز سلطانا.

.تفسير الآيات (25- 41):

{قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}.
التفسير:
ويتلقى موسى أمر ربه بلقاء فرعون.. ويقع اسم فرعون من نفسه موقعا يثير الرعب والفزع.. إنه فرعون بجبروته، وعتوه!! فيضرع إلى اللّه أن يعينه على مواجهة هذا البلاء، وأن يذهب ما به من اضطراب وفزع! {قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} حتى يتّسع لامتثال أمرك، ويتقبله قبولا حسنا، فلا يضيق به، ولا يجد حرجا منه.
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}.
فإن الموقف خطير، والأمر عظيم.. فإذا لم يكن منك العون والتيسير، فلا طاقة لى به، ولا حيلة لى فيه.
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي امنحني بيانا وقدرة على محاجّة فرعون، وغلبته، حتى يفقه هو والملأ من حوله، قولى، ويعقلوه، وحتى لا تأخذهم العزّة بالإثم، فلا يقبلوا قولا، ولا يتمهلوا حتى أبلغهم ما أرسلت به إليهم، وأسمعهم إياه، بل يعاجلوننى بالردّ، وربما بالعقاب قبل أن أبلّغ رسالة ربى.
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي}.
أي واجعل لى معينا يعيننى على أداء رسالتى إلى فرعون، وليكن هذا المعين هو هرون، أخى، فهو بحكم عاطفة الأخوة حريص على سلامتى، يقف إلى جانبى في ساعة العسرة، ولا يتخلّى عنىّ.
والوزير، هو المعين المساعد، وهو من المؤازرة، والمعاونة.
{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي اجعله ردءا لى، يقوّى ظهرى.. واجعله شريكا لى في هذا الأمر الذي ندبتنى له، وأكرمتنى به.
فلا تخصنى وحدي بالكرامة دون أخى.
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً} أي بهذا الإحسان الذي تحسن به إلى هرون أخى كما أحسنت إلىّ، تتضاعف نعمك علينا، ويعظم إحسانك إلينا، وبدلا من أن يشكرك لسان واحد، سيشكرك لسانان، لسانى، ولسان أخى.. فأنت أعلم بنا، وبما تريده لنا من فضل وإحسان {إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً}.
{قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى}.
السّؤل: ما يسأل من خير.
وأوتى سؤله: أي أجيب إلى ما طلبه من ربّه.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}.
فى هذه الآيات عرض، للفترة الأولى من حياة موسى وهى الفترة التي تخطتها الآيات السابقة، فعرضت موسى وهو في دور الرجولة التي أصبح أهلا فيها لتلقّى الرسالة من ربّه.
وقد جاءت هذه الآيات حديثا لموسى من ربّه، يذكّره فيها بنعمه عليه، وإحسانه إليه من قبل الرسالة.. فهو سبحانه قد نظر إليه بعين اللطف والرعاية، منذ ولادته، بل ومن قبل أن يولد.. فقد ولد موسى في حال كان فرعون فيها مضيّقا الخناق على بنى إسرائيل، مسلّطا أعوانه على قتل كل مولود ذكر يولد لهم.. وكانت أم موسى حاملا به، حاملة معه الهمّ الثقيل الذي يؤرّق ليلها، ويشقى نهارها.. إنّها تحمل في كيانها وليدا تستقبله يد الذابحين إذا أطلّ بوجهه على هذه الدنيا، بل ربّما أخذته يدهم قبل أن يولد، فشقّوا بطنها عنه، وأخذوه حيّا أو ميتا..!
وفى قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى} إشارة إلى أن ما أوحى به إليها إنما كان مما يناسب هذه الحال التي هي فيها، ولهذا صدّر الوحى بكلمة {ما} الدالة على التعميم، والتي فسّرت بقوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} وهو ما أوحى إليها به.
وفى العدول عن أن يكون النظم القرآنى هكذا: ضعيه في التابوت ثم ضعيه في اليم- إلى ما جاء عليه النظم القرآنى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} إشارة إلى أن الخطر المطلّ عليها من أعوان فرعون، كان داهما دانيا، وأنها إذا لم تعجّل بهذا العمل أخذ وليدها منها.. ولهذا عطف قذفه في اليم على قذفه في التابوت بحرف الفاء، الذي يفيد التعقيب المباشر، دون فاصل زمنى بين الأمرين.
والتابوت، أشبه بالصندوق، يسوّى من خشب أو نحوه.. وفى قوله تعالى:- {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} أمر من اللّه سبحانه وتعالى إلى اليمّ، وهو النهر، أن يلقى موسى إلى الساحل، وألا يبتلعه في كيانه.. وهذا إشعار لأم موسى بالطمأنينة على وليدها، وأن اليمّ لن يبتلعه، وقد تلقّى هذا الأمر من صاحب الأمر فيه.
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}.
إنه أمر لفرعون أن يأخذ هذا الوليد.. وفرعون هذا عدوّ لموسى.. ومع هذا، فإنه لا يملك من أمر نفسه، إلّا أن يأخذ عدوّه هذا، ويربيه، ويجعله ابنا له!! فما أعظم قدرة اللّه، وما أمكن سلطانه!.
وفى قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} إشارة إلى ما صنع اللّه لموسى، إذ جعل عدوّه الذي يطلب قتله، محبّا له، حبّ الآباء للأبناء! وهكذا يربّى موسى في ظل من رعاية اللّه سبحانه وتعالى، تلك الرعاية التي تجعل له من الشرّ خيرا، ومن العدوّ صديقا..! {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [100: يوسف] ثم كان من تدبير اللّه لموسى، أن أعاده إلى أمه، فجمع بينه وبينها في بيت فرعون لتكون له مرضعا.. مرضعا لابن فرعون هذا المتبنّى!! ومن لطف اللّه بموسى أن نجّاه من يد فرعون، وكان فرعون قد طلبه ليقتصّ منه بقتيل قتله.. فنجا موسى، وهرب إلى مدين.. ثم ها هو ذا يعود إلى مصر، ليلقى فرعون مرة أخرى! فهل مع هذا، وبعد هذا، يخشى موسى بأس فرعون وبطشه؟
إنه قد فوّت على فرعون فرصتين كانتا قد سنحتا لقتله من قبل.
فهل كان مع موسى حول أو حيلة يدفع بهما عن نفسه ما كان سينزل به في كلتا الحالين.. حين كان فرعون يطلبه وليدا، وحين كان يطلبه قاتلا؟
فكيف يخشى فرعون الآن، بعد أن قهره مرتين، وهو لا شيء.
أما الآن فهو يحمل بين يديه آيتين، معجزتين، متحدّيتين.. يحار فرعون فيهما، ويخزى أمامهما، ويفتضح كبره وجبروته بهما، على الملأ من قومه.
ثم كيف يخاف بأس فرعون وجبروته، واللّه معه.. يخاطبه، ويؤيده؟
ولهذا جاء بعد هذا الإعداد الكامل لموسى، وبعد أن ملأ يديه من السلاح السّماوى القاهر الذي لا يغالب- جاء الأمر إلى موسى بأن يلقى فرعون، وهو أمر قد تلقاه من قبل في صيغة موجزة، أشبه بالإشارة إلى هذا الأمر المجدّد.. كما سنرى في الآيات التالية.

.تفسير الآيات (42- 56):

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)}.
التفسير:
ولا يتوجه الأمر هنا إلى موسى وحده، بل إليه وإلى أخيه هرون.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} فأنت الآن لست وحدك.. {بآياتى} أي ومعكما آياتي التي وضعتها بين يديكما {وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي} لا تضعفا ولا تفترا في ذكرى بل اجعلا ذكرى حاضرا في قلبيكما، جاريا على لسانيكما.. فهو الزاد الذي يمنحكما القوة على اقتحام هذا الهول الذي أنتما مقدمان عليه.
{اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ} فهذه هي وجهتكما.. إنها إلى فرعون.
{إِنَّهُ طَغى} وتكبر، وعلا في الأرض، وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.
{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى}.
فهذا شأن الحكماء مع الجهلاء، وموقف الأطباء من المرضى.. اللين واللطف، والموادعة.
فإن لقاء السفاهة بالسفاهة، والجهل بالجهل، هو نفخ في النار الموقدة، وإمداد لها بالوقود، الذي يزيدها اشتعالا وتأججا.
{قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى}.
كم كان فرعون باغيا متسلطا، وجبارا عنيدا؟ وكم أوقع في قلوب الناس من فزع ورعب، حتى كاد يكون ذلك طبيعة متمكنة فيهم، لا يمكن مغالبتها إلا باستئصالها بعملية أشبه بتلك العمليات الجراحية، التي تغيّر من خلق ذوى العاهات!؟
وإلّا فما بال موسى، وقد رأى من آيات ربّه ما رأى، في كل مرحلة من مراحل حياته، ثم أمدّ من السماء بهذه الأسلحة من المعجزات القاهرة المتحدية، ثم كان إلى جانبه أخ له، رفده اللّه سبحانه وتعالى به، وجعله عونا وظهيرا له- ما باله لا يزال مع هذا كلّه يخشى فرعون، ويرهبه؟ إن ذلك ليس إلا لما كان عليه فرعون من جبروت أوقع به في قلوب الناس هذا الخوف الرهيب، الذي يندسّ في كيان الناس، ولا يخرج أبدا!.
ومعنى {يفرط} أي يعجل علينا بالعقوبة، قبل أن يسمع منا ما أرسلنا به إليه، {أَوْ أَنْ يَطْغى} أي يتجاوز هذا إلى العدوان على ذاتك والتطاول على مقامك العلىّ.
{قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى}.
وفى ظلّ هذا الوعد الكريم من اللّه سبحانه، يجد موسى وهرون ما يسكن به خوفهما، وتثبت به أقدامهما.
{فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى}.
وهكذا يلقى اللّه سبحانه وتعالى إليهما بمحتوى الرسالة، ويلقّنهما الكلمات التي يقولانها لفرعون، في هذا الإيجاز الخاطف، وفى تلك العبارات القصيرة المتتابعة، التي تشبه طلقات المدفع! {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى}.
إن فرعون لا يصبر على الاستماع، وإنّ أحدا لا يجرؤ على أن يجرى معه حديثا ممتدا.. فما اعتادت أذنه أن تسمع كلاما، وإنما هو الذي يتكلم.
وسرعان ما تتحول الكلمات إلى أفعال.
ولهذا كان هذا التدبير الحكيم، بتلخيص الرسالة التي جاءه بها موسى وهرون من ربهما، وإيجازها هذا الإيجاز المعجز! لقد أدى الرسولان رسالة ربهما.. وها هما ذان الآن يستعدان لمواجهة العاصفة.
ولكن لا تزال للرسالة بقية، وإن ظهر أنها أنهيت بهذا السلام الذي ختمت به. وإنه لا بأس من أن يستمع فرعون أو لا يستمع إلى بقية الرسالة، فقد استمع إلى الصميم منها، وما بقي هو أشبه بالتذييل لها، والتعقيب عليها.. ولهذا يقول الرسولان، في صوت خفيض، وهما يتراجعان إلى الوراء:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}! إنه أشبه بالحديث إلى النفس، أكثر منه بالحديث إلى فرعون..! إنهما لا يواجهان فرعون بهذا القول باعتباره مقولا من مقولاتهما، وإنما هو وحي أوحى إليهما به.. وإنهما ناقلان لهذا الوحى.. لا أكثر ولا أقل.
ويدهش فرعون لهذه المفاجأة، التي طلع بها عليه هذان الرسولان، وتضل من وعيه الكلمات التي سمعها، ولا يمسك منها إلا بالكلمة الأولى منها.. {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ}.
ويقلّب هذه الكلمة {ربّك} ويوردها على ذاته الإلهية، فيرى أن الرسولين ينسبانه إلى ربّ.. وهذا هو النكر أعظم النكر؟ أربّ يضاف إلى ربّ؟ إنه إن تكن ثمة إضافة فهو الربّ الأعلى الذي تضاف إليه الأرباب.
وإنه إذا جاز أن يكون للناس رب. فلن يكون له هو رب.
ولهذا اتجه إلى موسى مخاطبا في تهكم واستنكار.
{قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} إنه لا ينتسب إلى رب، فإذا كان لموسى وهرون رب غير فرعون فليقولا له من هو؟ ولهذا لم يقل فرعون: من ربى هذا؟ بل قال من ربكما أنتما؟
وكان جواب موسى: {قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}.
وفى هذا الجواب، تحدّ لفرعون، وأنه ليس هو ربّا بهذا الادعاء الكاذب الذي يدعيه، ويقبله منه قومه!
ربنا خالق كل شيء، ومدبر كل شيء.. فهل لك يا فرعون في هذه المخلوقات من خلقته ودبرت أمره؟
إن الرب الخليق بهذا الاسم، الجدير بهذا الوصف، هو من يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت.. فمن خلقت يا فرعون؟ ومن أحييت؟
وقوله: {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي خلق كل مخلوق على الصورة التي بها يستقيم وجوده.. فكل شيء مخلوق بتقدير، وحساب.
وقوله: {ثُمَّ هَدى} هو من تمام الخلق، حيث أودع الخالق العظيم، في كل مخلوق، ما يتهدّى به إلى حفظ ذاته، وبقاء نوعه.
وهذا دليل على أن كل مخلوق- صغر أو كبر- هو عالم بذاته، في تقدير اللّه سبحانه وتعالى، وتصويره له، وقيامه على أمره.
وقد وجم فرعون لهذا الجواب المفحم.. فأدار الحديث إلى وجه آخر.
{قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى}؟.
ولم القرون الأولى؟ وهل فرغت يا فرعون من النظر في نفسك، وفيمن حولك، وما حولك؟
إنها مماحكة، يراد بها التضليل، والتمويه على من حوله.. ليروا منه أنه قد أخذ بقول موسى، وبوصفه لربه.. وحتى لكأن هذا الوصف ينطبق عليه هو.. وإذن فلا خلاف!! ويجيب موسى على هذا السؤال المماحك:
{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى}.
لم يشأ موسى- في هذا الجواب- أن يجرى مع فرعون في هذا التيه، وأن يبتعد عن غايته التي جاء من أجلها.
ولهذا جاء إلى فرعون بالجواب على تلك الصورة: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} أي لا أعلم من أمرها شيئا.. وإنما علم ذلك عند ربى.. ثم أتبع ذلك بقوله: {فِي كِتابٍ} أي أن أخبار هذه القرون السابقة وأحوال الشعوب والأمم الغابرة، مسطورة في كتاب.. ثم لكى يقطع على فرعون الطريق إلى أن يسأله وهل ربك ينسى حتى يسجل ما يقع من أحداث؟ لكى يقطع الطريق إلى هذا، قال: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} أي أن هذا الكتاب الذي تسجل فيه أحداث الوجود، إنما هو بعض علم اللّه، كما أن هذا الوجود هو بعض قدرته.
أما ربى فإنه لا يضل ولا ينسى.
هذا هو ردّ موسى على فرعون، وجوابه على هذا السؤال المماحك الغبي.
أما قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى}.
أما هذه الآيات الأربع، فإنها معترضة بين أحداث القصة، لتذكر بنعم اللّه، وتزيد في العرض لدلائل قدرته، ثم إنها من جهة أخرى فاصل بين مجرى الأحداث، يخرج فيه الناس من هذا الجو المتأزم، إلى رحاب هذا الوجود، حيث يستمعون فيه إلى هذا النشيد العلوي، المسبح بحمد اللّه، المحمل بجلائل نعمه وأفضاله على عباده.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أي مهادا، وبساطا ممتعا، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا} أي طرقا تسلكونها في البر والبحر.. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى} أي أخرجنا بهذا الماء عالم النبات كله من حشائس، وزروع، وأشجار.. وهو عالم متزاوج كعالم الحيوان والإنسان، فيقوم التوالد فيه كما يقوم في عالم الإنسان والحيوان.. باللقاح بين الذكر والأنثى.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ} إنه أمر يراد به التذكير بهذه النعمة العظيمة، التي تقوم عليها الحياة للناس ولأنعامهم.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ} أي في هذه المعارض من قدرة اللّه، المبثوثة في هذا الوجود آيات مبصرة {لِأُولِي النُّهى} أي العقول الواعية، والبصائر المدركة.
{مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى}.
أي هذه الأرض التي أنتم عليها، والتي جعلها اللّه بساطا ومعاشا لكم، هي أمّكم التي خلقكم اللّه منها، وهى القبر الذي يضمكم، ويعيدكم إلى التراب كما كنتم، وهى التي تنشق عنكم، فتخرجون منها مرة أخرى، إلى الحياة الآخرة.
{وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى}.
وإذا كان في آيات اللّه تبصرة لأولى الأبصار، فإن هناك من لا يهتدى بها، ولا يجد فيها هاديا يهديه إلى اللّه.. ومن هؤلاء أو على رأس هؤلاء- فرعون الذي أراه اللّه آياته كلها.
فأراه من المحسوس آيات، وأراه من المعقول آيات.. فكذب وأبى أن يستجيب لما دعى إليه من هدى وإيمان.
والآيات المحسوسة هي ما كان بين يدى موسى من معجزات، والآيات المعقولة هي ما حدّثه به موسى عن ربّه، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فهذه الآيات بمحسوسها ومعقولها، تمثل الآيات كلّها التي لا تنتهى عدّا.