فصل: تفسير الآيات (83- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (83- 91):

{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)}.
التفسير:
أولياء اللّه وما يبتلون به:
قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ} وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه.
وذكر أيوب في هذا المقام، هو ذكر له دلالته العظيمة، وذلك من وجوه:
أولا: أن أنبياء اللّه وأصفياءه يبتلون بالضرّ، كما يبتلى الناس، بل وكما يبتلى شرار الناس.. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر.
فأنبياء اللّه وأصفياؤه، يبتلون من اللّه فيزدادون إيمانا وقربا منه، وطمعا في رحمته.. وأعداء اللّه يبتلون فيزدادون بعدا من اللّه، وكفرا به، ومحادّة له.
وثانيا: أن أنبياء اللّه وأصفياءه، إذا ابتلوا في شيء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى اللّه، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء.. فباتوا على أمن من كل خوف، وعلى طمع ورجاء من كل خير.
وثالثا: أن اللّه سبحانه وتعالى، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم، ولا يخيّب رجاءهم فيه.
وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى، في مناجاة الخالق جلّ وعلا.
فأيوب- عليه السلام- مع هذا البلاء العظيم، الذي شمله في نفسه وأهله وماله جميعا، لم يستبدّ به الجزع، ولم تستول عليه الحيرة، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم.. بل ظلّ مجتمع النفس، ساكن الفؤاد، رطب اللسان بذكر اللّه.
فلما اشتد به الكرب، ورهقه البلاء، وأراد أن يذكر نفسه، ويشكو لربّه ما يجد، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر، وبأنفاس نديّة بالإيمان:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وكان أن سمع اللّه دعاءه، واستجاب له.
{فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ}.
وهكذا يجزى اللّه المحسنين الصابرين.. كما يقول سبحانه: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
لقد كشف اللّه عن أيوب الضر الذي أصابه في جسده، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه.
وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.
وقوله تعالى: {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} معطوف على {رحمة} أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا {أَيُّوبَ} تذكرة وموعظة {لِلْعابِدِينَ} أي الذين يعبدون اللّه، ويحسنون عبادته، ويصطبرون عليها.
فالعابدون بما لهم من صلة باللّه، ربّما يقع في نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر، إذ لا يكاد يقع في تصوّر الناس أن من وثّق طلته باللّه، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه، هو في مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى، في نفسه أو ولده أو ماله.. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة، وما فضل الطائعين على العاصين، والأولياء على الأعداء؟
هذا ما جاء قوله تعالى: {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} لينبه إليه، وليصحّح مشاعر العابدين خاصة، بهذا الذي كان منه سبحانه لعبده أيّوب- عليه السلام- وما ابتلاه به، في نفسه، وأهله، وماله، بما لم يكد يبتلى به أحد من عباد اللّه..!
وقد كان أيوب- عليه السلام- من خير العابدين المقربين إلى اللّه، حين مسّه الضرّ، كما كان من خير الصابرين على البلاء، الطامعين في رحمة اللّه، المطمئنين إلى قضائه في عباده، الواثقين بحكمته وبعدله.. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه.
وإذن فليس المؤمنون، العابدون، الساجدون، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى، وذلك ليبتلى اللّه ما في صدورهم، وليمحص ما في قلوبهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [186: آل عمران] ويقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [2: العنكبوت].
فأولياء اللّه وأحباؤه هم أكثر عباد اللّه تعرضا للابتلاء، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ، الذي تذهب الجرعة، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها، وهو النار المحرقة، التي تنصهر في حرارتها معادن الرجال، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان، وتصفو موارده، ويصبح- على ما يبدو عليه من ضعف، وفقر- أقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، ينظر إلى الدنيا، وحطامها، وما يتفاخر به الناس فيها من مال، وجاه، وسلطان- نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم، ويزهون بالجديد من ثيابهم! ثم لعلك تسأل: أما كان غير هذا البلاء، أولى بهم، وهم أحباب اللّه وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة والضرّ؟ وإذا لم يكن الإحسان.. فهلا كانت العافية من البلاء؟ وإذا كان هذا الابتلاء مرادا لغاية هي تطهير النفوس، وتزكيتها، وتخليصها من الآفات والعلل.. فهلا كان ذلك بالإحسان والإنعام.. وقدرة اللّه لا يعجزها شيء، ولا يحدّها حدّ، ولا يقيدها قيد؟
والجواب عن هذا كله:
أولا: أن اللّه سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير، ابتلى بالشر، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [35: الأنبياء].. وقد ابتلى اللّه- سبحانه- سليمان عليه السلام بالكثير الغدق من النعم، فسخّر له الريح والجنّ، وعلّمه لغة الحيوان والطير، وجعلها جنودا من جنده، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [35: ص] وقد أجاب اللّه سبحانه وتعالى ما طلب، فقال سبحانه: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [36- 39: ص] حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده، فيقول: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [16: النمل] وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم، فيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [19: النمل].
فالابتلاء بالإحسان والخير، عند من يعرف قدر الإحسان، وفضل المحسن وجلاله وعظمته- لا يقلّ مئونة وعبئا، عن الابتلاء بالمساءة والضر.. إنه ابتلاء!
وقد ابتلى اللّه سبحانه بعض أوليائه بالضر والمساءة، فكان ذلك- في حقيقته- إحسانا إليهم، إذ سلك بهم مسالك الخير والإحسان، وزادهم من اللّه قربا ومن رضاه رضى وزلفى.
وانظركم لقى رسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم- وهو صفوة خلق اللّه وخاتم رسله- كم لقى على مسيرة دعوته، وفى سبيل رسالته، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟
أفرأيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حين خرج إلى ثقيف، يرجو عندهم من استجابة للّه ورسوله، ما أبته عليه قريش، حتى إذا التقى بسادة ثقيف، وعرض عليهم الإيمان باللّه، ردّوه أشنع رد، ثم أغروا به سفهاءهم، فرجموه حتى أدموه.. ثم أرأيت إلى رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك، ومولاه زيد يضمد جراحه.. ثم ما كادت نفسه تهدأ، وأنفاسه تنتظم، حتى رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان، وأنفاس التسليم والرضا استمع إليها: «إلهى أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس! يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى غير أن عافيتك هي أوسع لى! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلّ علىّ غضبك، أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
إنها مناجاة، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية، ويطعم منها طعم الرضا، ولهذا طالت تلك المناجاة، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول اللّه، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به، وتنطلق بها في قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!! ثم انظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد، وقد أحاط به المشركون، وتعاورته سهامهم ورماحهم، وكادت تصل إليه سيوفهم، وقد شجّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وكسرت ثنيتاه، واستشهد كثير من أصحابه، وأحبابه، ومن بينهم عمه، أسد اللّه، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا، فما قال النبي في هذا المقام، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره في هذه الدنيا.
قال- صلوات اللّه وسلامه عليه: «اللهم اهد قومى، فإنهم لا يعلمون»!! وكما ابتلى اللّه سبحانه، أولياءه بالبأساء والضراء، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء، فكان ذلك بلاء عليهم، ونقمة من نقم اللّه بهم.. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن اللّه، وعمى عن الحق، وضلالا عن الهدى.
والقرآن الكريم يذكر لنا قارون، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم، عند من لا يقدر على الوفاء بها، ولا يقدرها قدرها، فكان أن عجل اللّه له الهلاك في الدنيا، ثم أعدّ له عذاب السعير في الآخرة.. وكذلك فرعون، الذي بسط له في السلطان، وأمدّه بموفور النعم، فما زاده ذلك إلا كفرا باللّه، ومحادة له.
فمات تلك الميتة الشنعاء، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار.
أما في الآخرة، فهو إمام من أئمة الضلال، وقائد من القواد إلى عذاب الجحيم.. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [98: هود].
وثانيا: لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر.
ولكن هذا وإن كان مما يفعله اللّه ببعض عباده وأحبابه، كما كان ذلك لسليمان- فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة، وهى درجة الابتلاء بالضراء، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه في صراع ضار مع الحياة وخطوبها، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة، الأمواج الصاخبة، وتتكسر تحت أقدامه القويّة، العواصف العاتية.. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع، وانجلى غبار المعركة، وإذا به وبين يديه راية النصر، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر! لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه، عرقا متصببا وأرقا متصلا، وعملا دائبا.
وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر، وجاهد وبذل، وحرم نفسه النوم في ظل الراحة والرفاهة، وبات ليله ساهرا، ونهاره عاملا.
وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا، لم يبذل فيه جهدا، ولم يتكلّف له عملا، وبين من فرغت يده من كل شيء، فيجدّ ويعمل في غير وناء أو فتور، وهو على ما به من حرمان ومسغبة، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام والمثل لهذا، ما نجد في حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث، وبين العامل الذي يعيش من عرقه وكدحه وجهده..! فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة، ذات لون واحد، لا يتبدل، بينما حياة العامل خصبة مليئة بالحياة والحركة، وتغاير الطعوم والألوان.
ونجد هذا في الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- فأصحاب الرسالات الكبرى منهم، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء.. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم.
إبراهيم عليه السلام، ابتلى بإلقائه في النار.. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء.
وموسى عليه السلام، ابتلى من أول حياته، بإلقائه في اليم رضيعا، ثم بقتله المصرىّ، وطلب فرعون له، وفراره إلى مدين.. ثم بلقاء فرعون، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان باللّه.. ثم كان ابتلاؤه الأكبر في حياته بين بنى إسرائيل، وفى خلافهم عليه، وشرودهم منه.. فكان كليم اللّه.
وعيسى- عليه السلام- نشأ في حجر الابتلاء... تنعقد حوله، وحول أمه التهم والظنون، حتى إذا ظهر في اليهود، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير، حتى لفّقوا له التهم، وقدموه للحاكم الرومانى، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب، حسب شريعتهم، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه.. وكان كلمة اللّه.
ومحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد لقى من قومه ألوان المساءة في كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها في مكة قبل الهجرة.. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى اللّه، والجهاد في سبيل اللّه.. يقوم ليله، ويصوم نهاره.. وما شبع من طعام قط، ولا نام إلا على حشية من ليف.. وهو الذي كان يستطيع- لو أراد- أن يأكل في صحاف من ذهب، وأن ينام على فراش من حرير.. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق.
وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء، في ميزان الصياغة لمعادن الرجال، وصبّهم في قوالب الكمال والإحسان.. ولهذا كان أولو العزم من الرسل، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان، وأثقل ابتلاء.
وثالثا: الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء اللّه وأحبابه وأصفيائه، ولكنه الشأن الغالب عليهم، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم، وأقرب إلى نفوسهم، لأنهم كلما ازدادوا من اللّه قربا انكشف لهم أمر الدنيا، ومتاعها الغرور، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار، لكل ما فيها ومن فيها، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها، زادهم ذلك إحقارا لها، وبعدا عنها.
فهذا الذي نرى فيه أولياء اللّه وأصفياءه، من فاقة، وضرّ، وحرمان، ونعدّه بلاء أو ابتلاء، هو- في الواقع- مطلب لتلك النفوس العظيمة، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد اللّه.
إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس، راضين.. وإنهم ليجدون في الحرمان، من الغبطة والرضا، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها.
وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها، ويطيب لها.. وشتان بين الكلاب والأسود.. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها.
رابعا- يبتلى المحسنون والصالحون من عباد اللّه بما يبتلون به، وهم على وعد من اللّه سبحانه وتعالى، بأن وراء الضيق فرجا، وبأن مع العسر يسرا.
وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب، وتنقشع غمامات الضر.. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [155- 157: البقرة].
وكما قيل، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فكذلك كل نعمة من نعم اللّه، لا يذوق حلاوة طعمها، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها، وطال حرمانه وافتقاده لها، فإذا لقيها بعد هذا، عرف كيف فضل اللّه عليه، وكيف إحسانه إليه، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى للّه بعض ما يجب له، من حمد وشكران.
قوله تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من اللّه، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.
فأيوب، قد كان في عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء اللّه في نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم اللّه فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه.
وإسماعيل.. قد رأى أبوه في المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر اللّه، وطلب إليه رأيه، لم يتردد في الجواب، وقال: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل.
لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره في موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- في مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع في نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شيء عظيم رائع، ترجح به موازينه في الصابرين من عباد اللّه.. وذلك على حين كان أيوب في دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.
هذا وقد ذكر مع إسماعيل إدريس وذو الكفل.
أما إدريس فهو ممن ذكرهم اللّه من أنبيائه، كما يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} [56: مريم].. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له في القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل اللّه.
وأما ذو الكفل فلم يذكر إلا في هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما في صفة الصبر.. كما يقول سبحانه {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى في ذى الكفل وكان أضعف الآراء عندهم فيه، أنه نبى، من أنبياء اللّه.
والرأى عندنا واللّه أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة في حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه في هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن ذكرهما في القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما في عباد اللّه المصطفين من أنبيائه ورسله..
وفى هذا تحقيق لأمرين:
أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان اللّه سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين.
وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء اللّه، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا.
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.
ذا النون: هو يونس- عليه السلام- والنون: هو الحوت، وجمعه نينان.. وقد نسب إليه يونس، لأنه عاش في بطنه زمنا- كما سترى.
وقوله تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً} إشارة إلى أنه اختلف مع قومه، فتركهم وذهب بعيدا عنهم، مغاضبا لهم.
وفى قوله تعالى: {مُغاضِباً} إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة، واستعجلها، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب، ويدعو إلى القطيعة، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر، ويصابر، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة، فيتخلى عن مقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، مخاطبا النبيّ الكريم، صلوات اللّه وسلامه عليه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [48: ن].
ففى هذا تعريض بيونس- عليه السلام- وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء.
وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف، وعقابه عليه.
ولم يكن من يونس عليه السلام هذا الظن بربه، وبقدرته، وإنما حاله التي كان عليها هي التي تعطى هذا الوصف له.. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل.
قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
هنا كلام مضمر، يشير إليه العطف بالفاء {فَنادى}.
وهذا المضمر، قد ذكر في آيات أخرى من القرآن الكريم، وفى هذا يقول سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [139- 142: الصافات].
فحرف العطف الفاء يشير إلى هذه الآيات.. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه، ظانّا أن لن نقدر عليه، أبق أي هرب {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة، حتى فاض، وكاد يغوص في الماء.. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها، ثم من بعض الراكبين فيها، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة، ويلقى بنفسه في الماء، ولو كان في ذلك هلاكه، إذ أن في هلاكه نجاة كثيرين.
وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم، ليلقوا بأنفسهم في البحر.
{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
أي الساقطين، المخذولين.. وأرض دحض أي زلق، لا تمسك قدمى من يمشى عليها، وحجة داحجة: أي ساقطة، غير مقبولة.
فلما ألقى يونس بنفسه في الماء، التقمه الحوت. {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} والمراد بالنداء، الدعاء، والتسبيح للّه.. كما يقول سبحانه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و{الظُّلُماتِ} هي هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه في بطن الحوت، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء.
وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات، هي ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل.
وأنه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لإيجاد وجه لجمع الظلمات.. والبحر نفسه هو ظلمات، وبطن الحوت ظلمات وظلمات.. فما الحاجة إلى الليل، حتى تصبح الظلمة ظلمات؟ وهل في أعماق البحر، أو في جوف الحوت، حساب للّيل أو النهار، والظلام والنور؟.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} [40: النور] إن ما في أعماق البحر، ليست ظلمات وحسب، وإنما هي ظلمات، فوق ظلمات، فوق ظلمات! وقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي أن اللّه سبحانه قد استجاب دعاء يونس، ونجّاه مما هو فيه من غمّ، وكذلك ينجى اللّه المؤمنين، مما ينزل بهم من سوء، وما يصيبهم من بلاء.
ويونس لم يدع إلا بقوله: {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه.. ففيم استجاب اللّه له؟
والجواب- واللّه أعلم- أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله، ويطلبه موقفه.
إنه قد أتى من قبل نفسه، وإنّ نفسه هي التي أوقعته في هذا البلاء، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه، فهو في دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه، والنجاة من شباكها، وذلك بإخلاص العبودية للّه، والبراءة من كل شيء، حتى من نفسه هذه، والاستسلام للّه الذي لا إله إلا هو.
وإنه إذا خلص من نفسه، وبرئ من أهوائها ونوازعها، فقد خلص من كل سوء، وأمن كل مكروه.. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت، وكانت نجاته من هذا البلاء.. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى اللّه، ويبرأ من نفسه وما توسوس له به.. إنه يكون أبدا على شاطئ النجاة!.
قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ}.
وزكريا- عليه السلام- كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيّا.. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح اللّه، فدعا ربّه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ}.
وفى قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} تعقيب على قوله: {لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هي مشيئتك، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها.
وفى قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} إشارة إلى ما كان في امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها اللّه سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ}.
الضمير في {إِنَّهُمْ} يعود إلى زكريا، وزوجه، وولدهما يحيى.. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان باللّه، والطمع في رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله.
والرّغب: الرغبة، والطمع.. والرّهب: الخوف، والخشية.
قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ}.
التي أحصنت فرجها، هي مريم ابنة عمران.. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء، والمذكورون هنا جميعا أنبياء، ومنهم ذو الكفل- كما أشرنا إلى ذلك من قبل-.
وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء، الذي تكشّف عن نعمة سابغة، وفضل عظيم، لم يكن لأنثى غيرها.
لقد حملت بنفخة من روح اللّه، وجاءت بالمسيح عليه السلام.. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به في قومها من طهر لا يحوم حوله شك، ومن عفة لا يطوف بها دنس.. ومع هذا فقد واجهت المحنة، واحتملتها في صبر، مستسلمة لأمر اللّه، راضية بحكمه، وكان عاقبة أمرها أن كانت هي وابنها آية للعالمين، تتجلّى فيها قدرة اللّه، وما له في عباده المخلصين من فضل وإحسان.
لقد كانت هي آية من آيات اللّه، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل، وكان ابنها آية من آيات، اللّه إذ ولد بنفخة من روح اللّه، من غير أب.