فصل: تفسير الآيات (92- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (92- 104):

{إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
بعد أن ذكر اللّه سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين.. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم، إلى إدريس، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين، إلى إبراهيم أبى الأنبياء.. إلى مريم أمّ آخر نبىّ في بنى إسرائيل- بعد ذكر اللّه سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده، من ذكور وإناث، ومن بعيد عهده وقريبه- عقّب على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ}.
إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى، وتلك هي الأمة الإنسانية، التي يبعث اللّه فيها رسله، ويصطفى منها من يشاء من عباده.. فهذه هي الأمّ التي ينتسب إليها كل إنسان، وفيها هذه الوجوه المشرقة التي عرضتها الآيات السابقة، والتي ينبغى أن يقيم الناس وجوههم عليهم، وأن يقتدوا بهم، فهم جميعا من طينة واحدة، وإنما يكون التفاوت بينهم بالجهد الذي يبذله الإنسان منهم، لإعلاء إنسانيته، ورفعها عن هذا الطين!! وفى قوله تعالى: {أُمَّةً واحِدَةً} إشارة إلى تلك الوحدة التي تجمع الناس جميعا. وتجعل منهم مجتمعا واحدا، وإن اختلفوا ألسنة، وتباينوا ألوانا، وتناءوا ديارا وأوطانا.
وقوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس، وراعيهم وكالئهم، فكلهم خلقه وصنعة يده، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه.. تقلّهم أرضه، وتظلهم سماؤه، وتغاديهم وتراوحهم نعمه.
وإذا كان هذا صنبعه بهم، وشأنه فيهم، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء.
فمن شرد عن اللّه، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده، وأبى أن يستمع لناصح، أو يستجيب لداع، أو يحفل بنذير، فقد سعى بنفسه إلى حتفه، وأزهق روحه بيده.
وانظر مرة أخرى في قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} تجد هذه المعادلة:
هذه أمتكم.. أمة واحدة.
وهذا أنا ربكم.. إله واحد.. لا ربّ لكم غيره.
والنتيجة اللازمة لهذه المعادلة هى:
{فَاعْبُدُونِ} إذ أنتم مربوبون، وأنا الرّبّ.
أنتم العباد، وأنا ربّ العباد.
أنتم العابدون.. وأنا المعبود.
قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ}.
واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف.. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس في قوله تعالى: {فَاعْبُدُونِ}.
وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو: ما ذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب، لم يكونوا على طريق واحد، بل اختلفوا، وتقطعوا شيعا وأحزابا.. فكان منهم المطيع، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن، ومنهم الكافر.. منهم عابد الرحمن، ومنهم عابد الشيطان.. {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}.
وفى إضافة الأمر إليهم، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم، وهو الإيمان اللّه.
وقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} أي أن كل فريق منهم راجع إلى اللّه، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر.
قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ}.
هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى اللّه يوم القيامة.. فمن عمل صالحا وهو مؤمن، تقبّل اللّه عمله، وكتبه له.. وسيجزيه عليه الجزاء الأوفى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هو قيد لقبول الأعمال الصالحة، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا، إذ لم يزكّه الإيمان باللّه، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان باللّه، هو باطل، لا وزن له.
قوله تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين، وهو وجه الكافرين.. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين في الدنيا، والآخرة معا.
فهم في الدنيا معرّضون للهلاك، الذي يعجّل للظالمين.. وهم في الآخرة واقعون تحت عذاب اللّه، مسوقون إليه، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا، ليصلحوا ما أفسدوا.. ولكن هيهات.. هيهات.
وقوله تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم.
وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام، تأكيد لهذا الحكم، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات، التي إن ارتكبها المجرمون، فإنها لا تجيء من عند اللّه! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}.
يأجوج ومأجوج، وهم من الجماعات المفسدة في الأرض، وقد ذكرهم اللّه تعالى في قصة ذى القرنين، وقد أقام ذو القرنين في وجههم سدّا، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران، ويعيثوا في الأرض مفسدين.
وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ: {هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} إشارة إلى انهيار هذا السدّ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم.
والحدب: المكان المرتفع، ومنه الأحدب، الذي برز ظهره، وعلا.
ثم انحنى.. ومنه الحدب، وهو الميل والعطف، وينسلون: أي يجيئون في خفة وانطلاق.. كأنهم جراد منتشر.
هذا، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة.
والساعة قربت من يوم نزول القرآن، كما يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وكما يقول سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ}.
وعلى هذا، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ، بعد أن تداعى وانهار.. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية، وأتوا على معالم الحضارة، في عاصمتها بغداد، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب في نهر دجلة، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين، التي كانت تعيش في شبه عزلة عن العالم، وها هي ذى اليوم تتجمع وراء حدودها، وقد ملكت في يدها القنبلة الذرية.. وإنه ليس ببعيد هذا اليوم الذي تغزو فيه العالم كلّه.. بهذا السلاح الرهيب..!
وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج، وما قيل فيهم من مقولات، في تفسير سورة الكهف.
قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ}.
والوعد الحق.. هو يوم القيامة.. شاخصة أبصار الذين كفروا: أي جامدة، لا تطرف، من شدّة ما ترى من هول.
والآية معطوفة على محذوف، هو غاية {حتى} في قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}.
والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، وقع الفساد والاضطراب، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إلى أن اقتراب الساعة، وظهور أماراتها، ومنها خروج يأجوج ومأجوج- يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم، فتظل الحدق معلقة في الأعين، ثابتة لا تتحرك، للهول الذي يرونه.. إنهم في طريقهم إلى الفزع الأكبر.. إلى جهنم، أعاذنا اللّه منها.
وقوله تعالى: {يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ}.
هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ، وهم في فزع القيامة، وبين يدى يومها الموعود.. إنهم يدعون بالويل والثبور، ويندبون أنفسهم وهم على طريق الهلاك.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ}.
هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون، وهم يولولون، ويندبون.
وإنه لصوت مفزع، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى في حفرة، بلا وزن ولا حساب.
قوله تعالى: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ}.
أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون، آلهة ما وردوا جهنم، ولا دخلوها معهم.. إذ كيف يكون إلها من يلقى به في جهنم؟ {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ} أي كل من هذه الآلهة وعابديها، واردون جهنم وخالدون فيها.
وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا، فأنفاسهم في جهنم زفير متصل، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق، الذي لا يأذن لشيء يدخل إلى كيانهم.. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم، من كرامة وتكريم.. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، لأن إيمانهم باللّه، وتوفيقهم للأعمال الصالحة، لم يكن إلا بما سبق من علم اللّه بهم، وإرادته فيهم، وأنهم كانوا في علم اللّه، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين.
هكذا خلقهم اللّه أزلا.. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا، جروا على ما علم اللّه منهم، وعلى ما أراد لهم، فآمنوا، وعملوا الصالحات، وكانوا من عباد اللّه المكرمين.
فالإيمان والكفر، والهوى والضلال، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.
كلّ ذلك في علم اللّه القديم، وفى إرادته السابقة.. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن] وكما يقول جلّ شأنه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [7: الشورى].
وقد شرحنا هذه القضية في مبحث خاص تحت هذا العنوان: مشيئة اللّه ومشيئة العباد.
فهؤلاء الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها، ولهيبها، الكافرون والضالون.. فلا يخلص إلى المؤمنين شيء من حرّها، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة، المفزعة، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ} أي أنهم يلقون في الجنة ما تشتهى أنفسهم، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا.. {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه، إذ ملأ اللّه قلوبهم طمأنينة وأمنا، بما أراهم من فضله، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل، إذ الملائكة يلقونهم على أول الطريق في هذا اليوم، ويقولون لهم: {هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا اليوم يوم جزاؤكم، ونعيمكم، ورضوانكم، الذي وعدكم اللّه به، ولن يخلف اللّه وعده.. فهيّا استقبلوا ما وعدكم اللّه من رضوان، وجنات لكم فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} لا يحزن الذين لهم من اللّه الحسنى، الفزع الأكبر في هذا اليوم، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب، وهو يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ويصح أن يكون هذا الظرف {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} متعلقا بقوله تعالى: {نُعِيدُهُ} أي نعيد الخلق كما بدأناه، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب.
وطىّ الشيء، ضمه، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى.
وطى السماء، ضمها، ولفّها، فينكشف هذا السقف المعقود بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً}.
فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ، بما كتب فيه، فهى تطوى بعوالمها كلها، من كواكب وشموس وأقمار.
والسجلّ: أصله الحجر، الذي يكتب عليه، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه، من جلد وورق ونحوه.. وللكتب: أي على الكتب.. والكتب بمعنى المكتوبات.
وهذا التحول في العوالم العلوية والسفلية، إنما هو تصوير لما يقع في مفهوم الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حيث يشهد الوجود على غير ما يقع لحواسه ومدركاته وهو في هذه الدنيا.
وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد، يعود إلى عالم الرّوح، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود، ويسبح في عالم ماوراء المادة، وهناك يرى الأرض، والسماء غير السماء.. كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [48: إبراهيم].. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي.. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها اللّه سبحانه وتعالى، في هذا النظام المحكم.
فالأمر إذن، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه، وتنقلب أوضاع السموات والأرض.
وكلّا، فإن هذا الوجود العظيم، ليس للإنسان، ولا من أجل الإنسان، وإنما الإنسان ذرة من ذراته، وشيء من أشيائه.. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو، فتتغير لذلك مدركاته، ويرى الوجود، والموجودات بعين غير التي يراها عليه، وهو في هذا الكيان المادي.. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ، الذي يحجب نظر الإنسان، ويحصره في هذه الدائرة المحدودة الضيقة، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه في عالمه المادىّ، كما يقول سبحانه: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق].
وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة، وما يتبدل من معالم الوجود.. فهو تبدل في مدركات الإنسان وفى تصوراته، بعد خلاصه من الجسد وتحرره من أسر المادة.
وفى قوله تعالى: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء، فلا يصحّ للمشركين والكافرين، الذي يكذبون بيوم الدين، أن ينكروا هذا البعث، وأن يستبعدوه.. فهو أهون من الخلق ابتداء {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}.
{وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [78، 79: يس]- وفى قوله تعالى: {أَوَّلَ خَلْقٍ} وفى تنكير {خَلْقٍ} ما يفيد الاستغراق والعموم، فهو بمعنى أول كل خلق.. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به، وأن له من علم اللّه وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا خاصَّ به، وأن له من علم اللّه وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [49: القمر].
وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، هو أمر قضى اللّه به، ولا رادّ له.
وفى هذا يقول سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} [15- 16: المؤمنون] ويقول جل شأنه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [7: التغابن].
وهذا وعد من اللّه، ولن يخلف اللّه وعده وقد أكّده سبحانه بقوله: {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}.
وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد، عند المؤمنين، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين، الذين يكذبون بيوم الدين.