فصل: تفسير الآيات (105- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (105- 112):

{وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}.
المراد بالزّبور هنا- واللّه أعلم- الكتب السماوية، التي هي بعض الكتاب الأم، كتاب اللّه، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد.
وأصل الزبور: القطعة من الشيء وجمعه زبر، كما يقول تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} والذكر: على هذا التقدير، هو أم الكتاب.
والمعنى، أن اللّه سبحانه وتعالى كتب وقضى في الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا في الكتاب الأمّ {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}.
والمراد بميراثهم الأرض، أنهم هم الذين ينتفعون بحياتهم فيها، ويتزودون فيها الزاد الطيب، الذي يلقونه يوم القيامة، فيكون لهم مطية يجوزون بها النار إلى الجنة، حيث ينعمون ينعيمها الخالد.. فهذا كلّ ما يجنى من ثمر، وما يحصل من خير في هذه الدنيا، وهو الذي يستحقّ أن يسمى ميراثا.
أما غير المؤمنين، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا، ومهما وقع لأيديهم منها من مال، وجاه، وسلطان- فلن يكون لهم من هذا شيء في حياتهم الآخرة، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته.. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [46: النازعات].
فالمراد بالميراث هنا، الميراث النافع، الذي يبقى لما بعد الموت، حيث يجده الإنسان، وكأنه في حياته الثانية، قد ورث حياته الأولى.. أو كأنه هذا الحىّ في الآخرة، الذي ورث هذا الميت الذي كان في الدنيا.. وهذا هو بعض السرّ في التعبير بكلمة {يَرِثُها}.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ}.
أي إن في هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص، وما فيه من عبر- لبلاغا، أي لبيانا كاشفا شافيا.. أو أن في هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} إن في هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة.
والمراد بالعابدين، المؤمنون، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم، وهى التعبد للّه، والولاء له.. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد اللّه، وذكره، ذكرا متصلا.
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}.
الخطاب للنبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وأن اللّه سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا.. كما يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «أنا رحمة مهداة».
ويسأل سائل:
كيف يكون النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم، وما بين أسودهم وأحمرهم، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا، وقوله تعالى {لِلْعالَمِينَ} يفيد العموم والشمول؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- من وجوه:
أولا: أن الهدى الذي جاء به- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو خير ممدود للناس جميعا، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد، بل إنها مبسوطة لكل إنسان، أيّا كان لونه وجنسه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى لنبيه الكريم: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [158: الأعراف] فهو صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة مهداة، يطرق بها باب كل إنسان، من غير أن يطلب لذلك أجرا، وليس على النبي- بعد هذا- أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم.. إنه أشبه بالشمس، وهى رحمة عامة لكل حىّ.. ولكنّ كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها، وكثير من الأحياء، إذا آذنهم ضوؤها انجحروا وقضوا يومهم في ظلام دامس.. فآية النهار قائمة، ولكنها بالنسبة لهم منسوخة غير عاملة.
وثانيا: أن الذين آمنوا بهذا النبيّ، والذين يؤمنون به في كل جيل من أجيال الناس، وفى كل أمة من الأمم، وفى كل جماعة من الجماعات، هم رحمة في هذه الدنيا على أهلها جميعا، إذ كانوا- بما معهم من إيمان- عناصر خير، وخمائر رحمة، ومصابيح هدى.. وبهم تنكسر ضراوة الشر، وتخفّ وطأة الظلم، وترقّ كثافة الظلام.
وثالثا: هذا الكتاب الذي تلقّاه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وحيا من ربّه، وهذه الآيات المضيئة التي نطق بها، والتي وعتها الآذان، وسلجتها الصحف.. كل هذا رحمة قائمة في الناس جميعا، وميراث من النور والهدى، يستهدى به الناس، ويصيبون منه ما يسع جهدهم، وما تطول أيديهم من خير.
وعلى هذا، فالمراد بالعالمين، الناس جميعا، منذ مبعث النبيّ، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَرْسَلْناكَ} الذي يفهم منه أن الرحمة كانت منذ إرساله ومبعثه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
هذه هي الرحمة التي يؤذّن بها النبيّ في الناس، ويقدمها هدية لهم.
{أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ}.
هذا هو مفتاح الرحمة، وذلك هو مفتاح الهدى.. فمن أمسك بقلبه هذا المفتاح، ثم أداره، فقد وضع يده على كنوز الخير كلها.
وفى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
هو تحريض للناس جميعا على الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، التي خفّف محملها، وغلا ثمنها.. إنها كلمة واحدة: لا إله إلا اللّه فما أخفها على اللسان، وما أطيب بردها على القلب، وما أقوم سبيلها إلى العقل!! فهل يلتوى بها فم؟ وهل يضيق بها صدر؟
وهل يزورّ بها عقل؟ إن ذلك لا يكون إلا عن آفات تغتال فطرة الإنسان، وتفسد كيانه.
وانظر في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؟ لقد طلب منهم الإسلام أولا، وهو الإقرار باللسان، بهذه الكلمة السمحة السهلة.. ثم إنها بعد هذا كفيلة بأن تفعل فعلها في كيان الإنسان، وتؤتى ثمراتها الطيبة المباركة كلّ حين.. إنها هي الكلمة الطيبة التي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} [24، 25 إبراهيم].
إنها كلمة لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه.
وأنت ترى في هذا سماحة الإسلام، وأسلوبه الرائع المعجز في دعوة الناس إلى الهدى.. إنه يلقاهم بأيسر السبل، وأخفّ الأمور.. حتى إذا ذاقوا حلاوة الإيمان، واطمأنت قلوبهم بكلمة التوحيد، وجدوا في أنفسهم القدرة على احتمال التكاليف الشرعية، والوفاء بها.. إنها المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإيمان.. ثم يغرس ما شاء أن يغرس من خير، ويجنى ما قدر اللّه له أن يجنى من ثمر!! ففى سنن أبى داود عن جابر بن عبد اللّه قال: اشترطت ثقيف على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «سيتصدّقون ويجاهدون إذا أسلموا»! ولا شكّ أن هذا أقوم أسلوب، وأعدل منهج في التربية، حيث التدرج من السهل إلى الصعب.. خطوة خطوة، حتى يبلغ المرء مأمنه، وحتى يدخل الإيمان قلبه، ويخالط مشاعره.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ} وهذا هو موقف النبي ودعوته، ممن لم يستمعوا له، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه.. {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ} أي أعلمتم بما أرسلت به إليكم.
والأمر بينى وبينكم الآن، وبعد أن توليتم قد عاد إلى ما كنّا عليه من قبل.
أنا على دينى، وأنتم على دينكم.. وأنا لى عملى، وأنتم لكم عملكم.. أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون، وستعلمون عاقبة ما أنذرتكم به.
أما متى يكون هذا؟ فعلمه عند ربى، وما أدرى أقريب هذا أم بعيد؟ إن ربى الذي يعلم كلّ شيء، لا يخفى عليه من أمركم شيء.. سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به!.
قوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}.
إن هنا هي المخففة من إنّ الثقيلة، وليست نافية، كما جاءت في الآية السابقة: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ}.
على ما ذهب إليه المفسّرون.
والمعنى: إننى وإن كنت لا أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون، فإننى أدرى هذا الذي أنتم فيه من شرود عن اللّه بما في أيديكم من مال ومتاع.
لعله فتنة لكم، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وإنه {مَتاعٌ إِلى حِينٍ} أي متاع إلى أجل محدود لا تتجاوزونه.. فلستم خالدين في هذه الدنيا، وليس في أيديكم ضمان لهذا المتاع الذي معكم، فقد تصبحون وليس في أيديكم شيء منه..
وقد جاء الخبر مصحوبا بلعلّ التي تفيد الرجاء، لأن ذلك الخبر ليس على سبيل القطع بالنسبة للمخاطبين جميعا.. فإن فيهم من يثوب إلى رشده، ويستجيب للدعوة، ويدخل في دين اللّه.
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.
هو حكاية لقول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، الذي يعقّب به على هذا الموقف الذي بينه وبين المشركين، الذين يقفون منه هذا الموقف المنادي فيدعو ربّه أن يحكم بينه وبين هؤلاء المشركين، والضالين {بِالْحَقِّ} فيعطى كلّا حقّه.. ماله، وما عليه.
واللّه سبحانه وتعالى لا يحكم إلا {بِالْحَقِّ} وفى قول النبيّ {احْكُمْ بِالْحَقِّ} تطمين لهؤلاء المشركين الضالين، وهو أنه إذ يدعوهم إلى الاحتكام إلى اللّه، فإنما يدعوهم إلى من يحكم بالحقّ، وهو لا يطلب من اللّه سبحانه محاباة له، إذ كان مؤمنا باللّه وهم أعداء للّه.. إنه لا يريد غير الحق، من الحق جل وعلا وهذا شأن الواثق من الحق الذي في يده.
ويجوز أن يكون المراد {بِالْحَقِّ} هنا، الحقّ الذي يعلمه النبيّ، وينتظره من ربّه.. فأل في {الحق} للعهد، أي الحق المعروف، المعهود عند اللّه، وليس طلب النبيّ الحكم بالحق إلا إحالة للأمر الذي بينه وبين قومه إلى صاحب الأمر يقضى فيه بحكمه.
وقوله تعالى: {وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.
هو خاتمة هذه السورة.
وفى هذه الخاتمة ينهى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- موقفه مع قومه، مع الضالين والمعاندين، بأن يتركهم لحكم اللّه فيهم، وقضائه بينه وبينهم، وهو حكم عدل، وقضاء حق.
أما ما يجد النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- من خلافهم عليه، واتّهامهم له، ورميهم إياه بتلك الرّميات الطائشة، كقولهم عنه: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه ساحر- فذلك مما يستعين اللّه على حمله منهم، من غير أن يحمل لهم ضغينة، أو يخرج به ذلك على غير ما يريده من اللّه لهم، من هداية، إلى أن يدعو عليهم، كما دعا كثير من الأنبياء على أقوامهم، فأخذوا بعذاب اللّه، ووقع بهم البلاء وهم ينظرون.. فما جاء صلوات اللّه وسلامه عليه إلا رحمة للعالمين، وهو بهذه الرحمة حريص على أن ينال قومه وأهله حظّهم منها.. فإن لم ينل المعاندين والمنكرين شيء من هذه الرحمة، فلا أقلّ من ألا يصيبهم عذاب في هذه الدنيا، كما أصيبت الأمم الأخرى.. أمّا في الآخرة فأمرهم إلى اللّه، يحكم فيهم بما شاء، وهو أحكم الحاكمين.
ولقد مضى النبيّ في طريق دعوته، صابرا، مصابرا، يلقى المساءة بالإحسان والأذى بالمغفرة، حتى إنهم ليخرجونه من البلد الحرام، ويزعجونه من بيته وأهله.. ثم يجمعون جموعهم في جيش لجب، يريدون أن يدخلوا عليه المدينة موطنه الذي هاجر إليه، فيلقاهم النبيّ بهذا العدد القليل من أصحابه في بدر، فتكون الدائرة عليهم، وينصر اللّه النبيّ وأصحابه نصرا عزيزا.. ثم لا يأخذ القوم من هذا آية، ولا يتلقون منها عبرة وعظة، بل يعاودون الكرة في العام التالي، ويجيئون إلى المدينة طالبين الثأر لبدر، وقد حشدوا للمعركة، ما يملكون من قوة.. ويلتقى بهم النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار في أحد.. وينتصر المسلمون أولا، ثم يهزمون، ويصاب النبيّ ويسيل دمه، وتنكسر رباعيته، ويقتل نفر كرام من أهله وأصحابه، ومنهم عمّه حمزة، ويرفع رسول اللّه بصره إلى السماء، وفى قلبه أسى وحسرة، وكأنه يهمّ أن يسأل ربّه أن يأخذ له من هؤلاء المعتدين الآثمين.. ولكن تغلبه عاطفة المودة والرحمة، وإذا هذه الكلمات الحانية الودود تدفع من طريقها تلك الكلمات الثائرة الغضبى، وإذا شفتاه المباركتان، الطيبتان، المحسنتان، تردّدان في ضراعة ضارعة: {اللّهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون}.
فيا رسول اللّه، ويا خير خلقه، ويا صفوة أنبيائه، ويا خاتم رسله.. عليك صلوات اللّه وسلامه عليه ورحمته وبركاته.
ويا رسول اللّه، ويا رحمته المهداة للعالمين. عليك صلوات اللّه وملائكته والمؤمنين {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.

.سورة الحج:

نزولها: اختلف فيها، فقال بعضهم: إنها مكية إلّا آيات، وقال آخرون: إنها مدنية إلّا آيات.. ونحن نغلّب الرأى القائل بأنها مدنية إلا بعض آيات منها فمكية.. ويكفى أن تسمّى سورة الحجّ، والحجّ إنما فرض بعد الهجرة.
عدد آياتها: ثمان وسبعون آية.
عدد كلماته: ألفان ومائتان، وإحدى وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها:
كانت سورة الأنبياء- السابقة على هذه السورة- حديثا متصلا عن أنبياء اللّه ورسله، وما ابتلاهم اللّه سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية في الدنيا، وإلى رضا اللّه ورضوانه في الآخرة.
وقد بدئت هذه السورة- سورة الأنبياء- بهذا الخبر المثير: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين، الذي جاء به قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأنه المبعوث رحمة للعالمين، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه، فمن تولّى، فما على النبيّ من أمره شيء.. والموعد الآخرة، حيث يفصل اللّه بين العباد.
وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان، أو هذا النذير الصارخ: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
وواضح ما بين بدء هذه السورة، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم.. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج في أعقاب سورة الأنبياء، من غير فاصل بالبسملة، وكأنها بعض منها، وتعقيب على مقرراتها.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.