فصل: تفسير الآيات (19- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (19- 25):

{هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ}.
الخصمان: هما المؤمنون، والكافرون على اختلاف ضلالاتهم.
واختصامهم في ربهم، هو اختلافهم فيه.. فالمؤمنون على طريق إلى اللّه، والمشركون والكافرون ومن على شاكلتهم، على طرق شتى تختلف عن هذا الطريق.. فهذا الاختلاف، هو أشبه بالخصام الذي يفرّق بين المتخاصمين.
ثم بينت الآيات بعد هذا، ما أعدّ اللّه لكل من هذين الخصمين المختصمين في اللّه، من عذاب، أو نعيم.
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ} أي أنهم يلبسون النار، أو تلبسهم النار، فيكونون كيانا واحدا معها، بحيث تشتمل على الجسد كلّه، وتغطيه، كما يغطى بالثوب! ثم مازال هناك شيء من الجسد لا تغطيه الثياب، وهو الرأس، الذي يغطى بالعمائم، والتيجان، ونحو هذا.
وإذن فلتتوج رءوسهم، ولكن بتيجان من نار، وبعمائم من جهنم.
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ}، وهو الماء الذي يغلى فيشوى وجوههم ثم يتخلل تلك الثياب، فيصهر ما في بطونهم من أمعاء، وأكباد، وقلوب، وغيرها مما تحويه البطون.. كما يصهر الجلود، ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم.
وليس هذا فحسب.. بل إن لهم طرائف يطرفون بها، كما كانوا يطرفون في الدنيا بألوان النعيم الذي شغلهم عن اللّه.. فهناك {مَقامِعُ} أي مطارق من حديد.. لعلها تعمل تلقائيا من نفسها.. كلما أرادوا أن يخرجوا من ثيابهم النارية تلك، أخذوا بهذه المقامع، فردّوا فيها.. وقيل لهم اخسئوا، وذوقوا عذاب الحريق.
وهذه الصور من ألوان العذاب، هو مما يتصوره الناس في الدنيا، بل ومما يأخذون به بعضهم بعضا.. فكم من صور هذا العذاب الجهنّمى استخدمه الجبابرة والظلمة في تعذيب من يخرج على سلطانهم، ويتحدّى تسلطهم وجبروتهم.
فهذا العذاب الدنيوي يجده المجرمون يوم القيامة حاضرا عتيدا، فيما يجدون من صور شتى من عذاب الآخرة، وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس في دنياهم، وليسقوا بكأس كانوا يجدون اللذة في أن يتجرع الناس مرارتها، سواء أكان عذاب الآخرة حسيا أو معنويا، جسديا أو نفسيا، وليست هذه الصور الحسيّة التي ذكرها القرآن لعذاب الآخرة، من ثياب من نار، ومن مقامع من حديد، ومن سلاسل وأغلال، ليست بالتي تتنافى مع العذاب النفسي، فما أكثر ما تتجسد صور العذاب في النفس، ويجد الإنسان للآلام النفسية وقعا مثل ما يجده من الآلام الجسدية.. وأقرب مثل لهذا ما يقع للإنسان في حال النوم من رؤى وأحلام مزعجة، أو مسعدة.. إنه يعيش فيها بكيانه كله، جسدا وروحا، وإن كان الواقع أن الروح هي التي تتلقى هذه الرؤى وتلك الأحلام، وتتعامل بها، وهى في انطلاقها بعيدا أو قريبا من الجسد.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ}.
فى ذكر اللّه سبحانه وتعالى هنا، هذا الذكر المؤكد، تكريم للمؤمنين، واحتفاء بهم، وأن اللّه تبارك وتعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة، ولا يدع هذا لملائكته.. مبالغة في تكريمهم، فضلا منه، وكرما، ورحمة.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}.
فإذا أدخلهم اللّه سبحانه وتعالى الجنة، حلّوا فيها بأساور من ذهب، ولؤلؤا، في مواضع شتّى، من أجسامهم، كأن يكون لهم من اللؤلؤ قلائد، أو تيجان، ونحو هذا، هذا إلى ما يلبسون من ملابس رقيقة، من حرير.
وهذه الحلىّ، وتلك الملابس، هي مما كان يشتهيه المؤمنون في الدنيا، وقد فاتهم أن ينالوه فيها. فكان مما ينعمون به في الجنة أن ينالوا ما كانت نفوسهم متطلعة إليه.. فهو غائب ينتظرهم.. وليس هذا كل ما يلبسون، أو يتزينون.
بل هناك ما لا حصر له من ألوان الملابس والزينة، مما لم يخطر على قلب بشر.
فهذه الألوان من صنوف الطعام والشراب، والملابس، والأنهار، والظلال، والقصور وغيرها، مما جاء ذكره في القرآن، مما يلقاه أهل الجنة- هو مما كانوا يطلبونه في الدنيا، ولا يأخذون حظهم منه، أو ينالون منه شيئا.. وكان من تمام الإحسان إليهم، أن يعرض عليهم كل هذا في صورته الكاملة، كمالا مطلقا.
قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ}.
أي أنهم كما طاب وحسن ظاهرهم، طاب وحسن كذلك باطنهم.
فلا ينطقون لغوا، ولا يسمعون لغوا.. {تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
والصراط الحميد، هو صراط اللّه.. وقد هدوا إلى أن يحمدوه حمدا دائما متصلا، لأنه هو سبحانه المستأهل للحمد، ولأن نعمه التي أفاضها عليهم تستوجب منهم أن يلزموا هذا الصراط، ولا يحيدوا عنه لحظة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
خبر إن محذوف دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
أي أن هؤلاء الذين كفروا، ولم يقفوا عند كفرهم، بل وقفوا للناس بالمرصاد، يصدونهم عن سبيل اللّه، ويحولون بينهم وبين الاتصال بالمسجد الحرام، الذي جعله اللّه مثابة للناس وأمنا، وجعل فيه للبادين- وهم أهل البادية- مثل ما للعاكفين- وهم المقيمون من أهل مكة- من حقّ في الاتصال بهذا البيت، والطواف به، والصلاة فيه.
هؤلاء الذين كفروا، ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام.. هم أشنع الناس جرما، وأغلظهم إثما.. إنهم ليسوا كافرين وحسب، بل إنهم أضافوا إلى كفرهم الوقوف في وجه المتجهين إلى اللّه، وإلى بيت اللّه- هؤلاء لهم عذاب مضاعف، فوق عذاب الكافرين.. أما هذا العذاب فقد عرفوا بعضا منه، وهو ما أعد للكافرين، كما بيّنه سبحانه وتعالى في قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}.
.. فهم أولا مأخوذون بهذا العذاب الذي يؤخذ به الكافرون.. أما ما فوق هذا، فعلمه عند اللّه.. وهو شيء فوق المدارك والتصورات.
وفى قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ} جاء فيه الفعل: {يرد} متضمنا معنى يسعى، ولهذا عدّى بحرف الجرّ فى، وهذا التضمين للدلالة على أن الإرادة هنا لا يقع عليها هذا الوعيد، حتى تكون عملا وسعيا.

.تفسير الآيات (26- 33):

{وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
التفسير:
مناسك الحج.. ومشاهد القيامة:
قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
بوأنا: أي هيأنا، وأعددنا.. وأصل البوء الرجوع إلى المنزل، والسّكن إليه.
وقوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ} أي هيّأناه له، وأعددناه.. وقد عدّى الفعل باللام، لأنه تضمن معنى الإعداد، والتمكن.
والأصل في الفعل أنه يتعدّى بنفسه لمفعولين.. تقول: بوأتك المنزل، بمعنى أسكنتك إياه.
وفى قوله تعالى: {مَكانَ الْبَيْتِ} إشارة إلى أن الإعداد كان المكان لا للبناء الذي أقيم على المكان، وهو البيت.. وهذا يعنى أن اللّه سبحانه وتعالى قد أعدّ هذا المكان، وهيأه، وأضفى عليه، ما شاء سبحانه من البركة والرحمة.. أما البناء، فقد أقامه إبراهيم، ومعه إسماعيل على هذا المكان المبارك.
فالبركة أصلا في المكان.. ثم شملت البناء الذي أقيم عليه وهو البيت فصار البيت مباركا في المكان المبارك.
وقوله تعالى: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}.
المصدر المؤول متعلق بمحذوف، تقديره: وأمرناه، أو قلنا له.. أن لا تشرك بي شيئا،.. فإن هذا المكان الطاهر المبارك، لا ينزله إلا طاهر مبارك، مبرأ من الشرك.
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
أي وطهره من الشرك، واجعله خالصا للّه، ولعباده المؤمنين به، الذين يجيئون إلى بيته طائفين، قائمين، راكعين، ساجدين.
وفى قوله تعالى: {وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} إشارة إلى أن هذا البيت سيكون لتلك الأمة الإسلامية، التي سيكون السجود معلما من معالم صلاتها، وحدها دون غيرها من أصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى، ولهذا كانت سمة المسلمين التي يعرفون بها بين الأمم، هي هذا الأثر الذي يتركه السجود في الجبهة، وقد وصفوا بهذا الوصف في التوراة كما يقول سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} (29: الفتح)
وهذا من فضل اللّه سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وإحسانه إليها، إذ أعدّ لها هذا البيت قبل أن يبعث فيها رسول اللّه، ويجيء إليها برسالة الإسلام.
وفضلا عن هذا، فإن إعداد إبراهيم لهذا البيت، وإقامته بيده، يقابله من جهة أخرى إعداده لرسالة الإسلام، إذ كان هو أبا الأنبياء، وكانت رسالة من أرسلوا من ذريته، كموسى وعيسى أشبه بتلك اللبنات التي رفع بها إبراهيم القواعد من البيت، فلما جاء الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- برسالة الإسلام، كمل البناء، وأصبح البيت مهيأ لاستقبال {الْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
الأذان: الإعلام، ورفع الصوت بالأمر المراد الإعلام به.
والرّجال: المشاة، الذين ينتقلون على أرجلهم.. جمع راجل أو رجل، يطلق على الذكر والأنثى.
والضامر: النحيف، الذي خفّ لحمه من الجهد والتعب.
والفج العميق: الطريق الطويل بين مرتفعين.
والمعنى أن اللّه سبحانه، أمر إبراهيم- بعد أن أقام البيت- أن يؤذن في الناس، ويدعوهم إلى الحج إلى هذا البيت.. فإنه إن فعل، وجد الآذان التي تسمع هذا النداء وتستجيب له، وإذا الناس من كل مكان قريب وبعيد، قد جاءوا لحج هذا البيت- يجيئون إليه ماشين على أقدامهم، كما يجيئون إليه راكبين من جهات بعيدة، فتهزل مطاياهم من طول السفر، وقلة الزّاد، ويصيها الضمور، وخفة اللحم.
وفى قوله تعالى: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} بنون النّسوة، لغير العاقل من الإبل والدوابّ ونحوها التي يعود إليها هذا الضمير- في هذا ما يشير إلى بعد الشقة التي جاءت منها هذه الدواب براكبيها، وأنها قطعت طرقا طويلة موحشة، لا أنيس فيها، فكانت هي وراكبوها كيانا واحدا طوال هذه الرحلة، حيث تقتسم معهم طعامهم وشرابهم، وتستمع إلى أحاديثهم وحدائهم.
فاكتسبت بهذا من مشاعر الألفة والأنس، ما جعلها أقرب شيء إلى الإنسان منها إلى الحيوان، حيث أنس الإنسان بها، كما يأنس برفيق سفره! فحقّ لها- والأمر كذلك- أن تخاطب خطاب العقلاء.
قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ}.
اختلف في عدد الأيام المعلومات تلك.. فهى معلومات الزمان، مجهولة العدد.
فقيل، هي الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «ما من أيّام أعظم عند اللّه ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد».
وعلى هذا فسّر بعض الصحابة الليالى العشر في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ} بأنها هي تلك الأيام العشر.. وقيل إن الأيام المعلومات، هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.. وقيل يوم النحر، ويومان من بعده.. وقيل يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده.
ولام التعليل في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} متعلق بقوله تعالى في الآية السابقة: {يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ}.
أي يأتى الحجيج إلى هذا البيت ليشهدوا منافع لهم.
والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت اللّه الحرام، كثيرة، متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها.
فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، على كلّ من يطوف بحماه، وينزل ساحته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس، على هيئة واحدة، في ملابس الإحرام، مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه، وسلطان.. إنهم هنا في هذا الموطن الكريم على صورة سواء، فيما يأنون من أعمال الحج من، سعى، وطواف، ووقوف بعرفة، ورمى للجمرات.. ومن تلبية، وتضرع، وتعبّد للّه ربّ العالمين.. إنهم في مشهد أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة.. حيث تعنو الوجوه للحىّ القيوم، وحيث تخشع الأصوات لجلاله وقيومته.. ولعلّ هذا بعض السرّ في مجيء آيات الحج في هذه السّورة التي بدئت بهذا العرض المثير لأهوال القيامة ومفازعها: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
فما أقرب الشبه بين موكب الحجيج، وبين الحشر في هذا اليوم العظيم.
إن الحجّ نفسه، هو صورة مصغرة للحياة الآخرة، التي تبدأ من الموت، ثم البعث، والحشر، والحساب، والجزاء.
ولقد أحسن الإمام النسفي، رضى اللّه عنه، في تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشّبه بينها وبين الحياة الآخرة.
يقول- رضى اللّه عنه-: فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده وغسل من يحرم، وتأهبه، ولبسه غير المخيط، وتطيّبه- مرآة لما سيأتى عليه، من وضعه على سريره، لغسله وتجهييزه، مطيبا بالحنوط، ملففا في كفن غير مخيط! ثم المحرم، يكون أشعث حيران.. فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ووقوف الحجيج بعرفات، آملين، رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطمعا، وهم من بين مقبول ومخذول- كموقف العرصات، لا تكلّم نفس إلّا بإذنه، فمنهم شقىّ وسعيد والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء، هو السّوق لفصل القضاء! ومنى، هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين وحلق الرأس والتنظيف، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف.
والبيت الحرام، الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام، التي هي من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال.
وهناك منافع عقلية، ومادية يحصلها الحجاج عن قصد، وغير قصد، حيث يلتقى بعضهم ببعض وينظر بعضهم في أحوال بعض، وفى البلاد التي جاؤا منها، وما في هذه البلاد من صور الحياة، وأعمال النّاس، وثمرات أفكارهم وأيديهم، وذلك فيما حملوه معهم من آثار الحياة عندهم، وما كان لهم من جديد ومستحدث.. وبهذا يتبادلون المعرفة، كما يتبادلون السّلع بينهم، بيعا وشراء، أو يتهادونها، مودة وإخاء.
قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ}.
الأيام المعلومات هي أيام الحج، التي تتم فيها أعمال هذه الفريضة.. وهى في أرجح الأقوال عشرة الأيام الأولى من ذى الحجة.
والذكر المراد هنا هو هذا الذكر الخاص، الذي يكون في أعمال الحج.
فكل عمل من أعمال الحج هو ذكر للّه.. فالإحرام ذكر، والطواف بالبيت الحرام ذكر، واستلام الحجر الأسود ذكر.. والسعى بين الصفا والمروة ذكر.. والوقوف بعرفة ذكر، ورمى الجمرات ذكر.. وحركات الحاج وسكناته في أيام الحجّ كلّها ذكر.. حيث يلهج الحجيج دائما بالتلبية، والتكبير.
وقوله تعالى: {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} هو متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ} والتقدير ويذكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
هذا، ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن قوله تعالى: {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ} متعلق بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ}.
وعلى أن ذكر اسم اللّه في هذه الأيام المعلومات واقع على {ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} وهى الهدى المساق إلى بيت اللّه، بمعنى أنهم يذكرون اسم اللّه عند نحر ما يقدّمون من هدى.
والذي نراه- واللّه أعلم- أن قيد ذكر اسم اللّه على بهيمة الأنعام في تلك الأيام المعلومات غير مقبول، وذلك من أكثر وجه:
فأولا: ذكر اسم اللّه على بهيمة الأنعام لا تختصّ به أنعام الهدى وحدها، بل هو أمر واجب في كل ما يذبح من حيوان للأكل، سواء ما كان منه هديا أو غير هدى، وأنه لا يحلّ أكل حيوان ذبح من غير أن يذكر اسم اللّه عليه، وهذا صريح في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (121: الأنعام) وفى قوله سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} [118: الأنعام].. فقد جاء النهى في الآية الأولى صريحا قاطعا، كما جاء الأمر بالأكل في الآية الثانية:
{مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} متضمنا النهى- بمفهوم المخالفة- عن الأكل مما لم يذكر اسم اللّه عليه.
وعلى هذا، يكون تخصيص ذكر اسم اللّه في الأيام المعلومات، وقصره على بهيمة الأنعام- لا محلّ له، إذ لا جديد فيه، الأمر الذي يجعل الآية معطلة عن إعطاء معنى يستفاد منها. وذلك مما تنزّهت عنه آيات اللّه وكلماته. وفى هذا يقول ابن حزم في كتابه المحلّى ردّا على من يقول بأنه لا يجوز أن يضحّى ليلا، محتجا بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ}.
.. وبأن اللّه تعالى ذكر الأيام ولم يذكر الليالى.. يقول ابن حزم في معرض الرد على هذا:
لأن اللّه تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحا، ولا تضحية، ولا نحرا، لا في نهار، ولا في ليل، وإنما أمر اللّه تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات.
أفترى يحرم ذكره في لياليهن؟ إن هذا لعجب!.
وحقّ لابن حزم- رضى اللّه عنه- أن يعجب، ويعجب!.
وثانيا: جاء في آية أخرى بعد هذه الآية، أمر خاص بذكر اسم اللّه على بهيمة الأنعام هذه، التي تساق هديا للبيت الحرام، وذلك في قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (الآية: 36).
وهذا الأمر الخاص بذكر اسم اللّه على أنعام الهدى عند ذبحها، هو تنويه بهذه الذبائح، وإشعار بأنها قربان للّه، وأنها شعيرة من شعائر اللّه، وعمل من أعمال الحج، وأنها ليست لمجرد الأكل، وإنما هي للبّر والإحسان إلى الفقراء، حيث يطعمون من لحومها، ويشاركون أصحابها في الأكل منها.
فليس الأمر بذكر اسم اللّه على هذه الأنعام عند نحرها، هو إنشاء لهذا الأمر، بل هو توكيد للأمر العام بذكر اللّه على ما يذبح، وأن ذكر اللّه هنا ينشئ شعورا خاصا بأن هذه الأضاحى ليست ملكا خاصا لأصحابها، وإنما هي قسمة بينهم وبين الفقراء!.
وثالثا: قصر ذكر اسم اللّه في الأيام المعلومات، على بهيمة الأنعام (الهدى) قد أوقع المفسرين والفقهاء في خلاف شديد، في تحديد الميقات الذي تذبح فيه الأضاحى.. وهل تذبح يوم النحر، أو في الثلاثة الأيام المكملة ليوم النحر، أو لآخر يوم من ذى الحجة؟ في كل هذا آراء.
ذلك.. أن ذكر اسم اللّه في أيام معلومات، قد أفسح للمفسرين والفقهاء مجال النظر في هذه الأيام، التي تذبح فيها الأضاحى.. إنها أيام، وليست يوما.. وإذن فقد لزم الاجتهاد في تحرّى الوقت المناسب من هذه الأيام لذبحها.. وقد كان!! ففى رأى أبى يوسف ومحمد- صاحبى أبى حنيفة- أنها أيام النحر، وعدّتها ثلاثة أيام.. يوم العيد، ويومان بعده.
وعن الشافعي، والحسن وعطاء، أنها أربعة أيام، يوم العيد، وثلاثة أيام بعده.
وعند ابن سيرين، يوم واحد، هو يوم النحر.
وعند أبى سلمة، وسليمان بن يسار، أنها إلى هلال المحرم..!
فأى يوم من تلك الأيام ينحر فيه الهدى، هو مجز في حدود هذه المقولات.
وهذا كلّه- فيما نرى- مخالف لقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} حيث قرن الأمر النحر بالصلاة، التي هي صلاة العيد، لا مطلق الصّلاة.. حيث يتحلل الحجيج من إحرامهم، وحيث يختمون أعمال الحجّ بهذا القربان، وحيث ينالون شيئا من حظوظ الدنيا بهذا الطعام من اللّحم في هذا اليوم، وحيث يشتركون جميعا في هذه المائدة التي دعاهم اللّه إليها، وهم في ضيافة بيته المحرّم.. وهذا مما لا يمكن تحصيله إذا وقع الذبح بعد هذا اليوم، حيث يتفرق الحجيج، ويأخذ كل طريقه إلى العودة من حيث أتى.
ثم من جهة أخرى نرى أعمال الحج كلها تجرى في صورة جماعية.. وليس هناك من حكمة ظاهرة في إفراد الهدى بهذا التحلل من قيد الجماعية في الوقت الذي يذبح فيه! هذا، وربّما فهم بعضهم من قوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} على أن {اسم الله} لا يذكر إلا عند الذبح، أما الذكر بمعناه المطلق، فهو ذكر اللّه مثل قوله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [200: البقرة] وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [10: الجمعة] وقوله سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} [35: الأحزاب].. فحيث أريد ذكر اللّه، أي تسبيحه وحمده لم تقرن به به كلمة {اسم} على حين أن كلمة {اسم} قد جاءت مع لفظ الجلالة عند إرادة تزكية الحيوان وذبحه، كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [118- 119:
الأنعام] وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [121: الأنعام].
نقول: لعل هذا هو الذي جعل أكثر المفسّرين والفقهاء يخصصون ذكر اسم اللّه في آية الحج بالذكر على بهيمة الأنعام عند الذبح.
ونقول: إن اقتران كلمة {اسم} بلفظ الجلالة هكذا: {اسم الله} لا ينهض دليلا على اختصاص ذكر اسم اللّه بذبح الحيوان.. فقد جاء في آيات أخرى، الدعوة إلى ذكر اللّه، مقترنة بلفظ {اسم} كما في قوله تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [1: الأعلى] وقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [14- 15: الأعلى] وقوله جل شأنه:
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [52: الحاقة].
وعلى هذا، فإن المراد- واللّه أعلم- من ذكر اسم اللّه في الأيام المعلومات، هو ذكره ذكرا عاما مطلقا بكل اسم من أسمائه جلّ وعلا.. ثم ذكر اسمه ذكرا خاصّا على بهيمة الأنعام عند ذبحها.
وشبهة أخرى ربما وردت على تفكير بعض المفسّرين الذين خصصوا ذكر اسم اللّه في الأيام المعلومات، وقصروه على بهيمة الأنعام المسوقة هديا للبيت الحرام.. وتلك الشبهة هي تعدّى فعل الذكر بحرف الجرّ {على} في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ}.
فإن تعدّى هذا الفعل بحرف الاستعلاء {على} قد يكون قرينة عندهم على أن ذكر اسم اللّه هنا إنما يقع على بهيمة الأنعام، ولو كان ذكرا عاما لما تعدّى الفعل بحرف الجرّ هذا، الذي يشير إشارة واضحة إلى الشيء المراد ذكر اسم اللّه عليه.
وجوابنا على هذا، أن تعدية فعل الذكر بحرف الجرّ {على} لا يقضى بأن يكون الحرف للاستعلاء، وأن يكون الاستعلاء واقعا على بهيمة الأنعام، وإنما الذي يقتضيه المقام هنا، هو أن يكون حرف {الجرّ} السببية لا للاستعلاء، كما في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ} [185: البقرة] أي بسبب هدايته لكم، وتوجيه قلوبكم وعقولكم إلى الإيمان به.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} أي يذكروا اسم اللّه بسبب ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذللها لهم، وأحلّ لهم لحومها.
وعلى هذا، فإن الرأى- واللّه أعلم- أن يتعلق قوله تعالى: {عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} بفعل يدلّ عليه الفعل السابق، ويكون النظم القرآنى هكذا: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (و يذكروه) عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ}.
هذا، واللّه أعلم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
هو تعقيب على ما جاء في قوله تعالى في الآية السابقة: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ}.
والمعنى: أنه بعد هذه الأعمال التي تتم بها فريضة الحج، يعود الحجيج إلى أنفسهم، لينظروا في شئونهم الخاصة التي أهملوها في أيام الحج، ولم يلتفتوا إليها، حيث استغرقهم الاتجاه الخالص إلى اللّه وأول ما ينظرون فيه، هو قصّ شعورهم، وتقليم أظافرهم، وهذا أول مدخل يدخلون به إلى الدنيا، بعد أن خرجوا منها منذ أول لحظة دخلوا بها في ملابس الإحرام.. وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}.
والتّفث: ما يعلق بالإنسان من قذر يتأذّى به، ويطلب الخلاص منه.
وهو بهذا المعنى أشبه بالرفث.. وهذا يعنى أنه حاجة من حاج الإنسان، ومن مطالبه الجسديّة.. سواء أكان ذلك بدفعها، أو بجلبها.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} إشارة معجزة إلى أن هذه الأمور وأمثالها، وإن كانت من حاجات الإنسان، فإنها ليست من صميم مطالبه التي ينبغى أن تكون في الاعتبار الأول عنده، مما يتصل بحاجات العقل والروح، ومما يكسو الإنسان من معانى الإنسانية ما هو خليق به، وبالكمال الذي ينبغى أن يقيم وجهه دائما عليه.
إنه لا بأس من أن يأخذ الإنسان حظه من مطالب الجسد، فيتجمل في مظهره، ويسوّى من صورته، ولكن على ألا يشغله ذلك عمّا هو أولى، وأكرم وهو تجمّل الباطن وتسويته على أكمل صورة وأحسنها، علما، وخلقا.
فذلك هو الإنسان الذي يريده الإسلام.
إنه يريده حسن الظاهر والباطن، جميل المظهر والمخبر، نظيف الإناء وما يحتويه الإناء..!
وقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}.
أي ليؤدوا للّه ما كانوا قد نذروه، تقربا إليه، من ذبائح، وصدقات وغيرها.. وإن خير وقت للوفاء بهذه النذور هو في هذا الوقت، وفى هذا الموطن.. بل إن هذا يكاد يكون أمرا لازما هنا، حيث سبق آخر عمل من أعمال الحج، وهو الطواف بالبيت العتيق، طواف الوداع.. كما يقول سبحانه بعد ذلك: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
فبالوفاء بالنذور، وبالطواف بالبيت، تختم أعمال الحج.. وكما كان أول أعمال الحج، هو لقاء البيت العتيق والطواف به طواف تسليم، يكون آخر عمل من أعمال الحج، هو الطواف بالبيت، طواف وداع واستئذان وشكر، لما لقى في رحاب هذا البيت من ألطاف اللّه، وأفضاله، وما تلقى من آلائه ونعمائه.
ووصف البيت بالعتق، لأنه أول بيت للّه وضع للناس على الأرض.
فالعتق هنا من العتاقة، وهى القدم، الذي هو صفة من صفات اللّه.. فإذا كان القدم في مقام الفضل والإحسان، فهو تقدّم في الدرجة، وسبق في الإحسان.. وبهذا يكون أهلا لأن يأخذ مكان الإمامة على غيره.. وقد استحق المؤمنون السابقون من المهاجرين والأنصار أن يكونوا وجه الإسلام، وقدوة المسلمين، وأن يكونوا أقرب عباد اللّه إلى اللّه كما يقول سبحانه:
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ} [10- 16: الواقعة].
ووصفت الخيل الكريمة بالعتق والعتاقة، فيقال خيل عتاق، لأنها تسبق غيرها من الخيل، ووصف الرقيق الذي تحرر من الرق بأنه عتيق، لأن سبق الأرقاء الذين لم يتحرروا.. إلى التحرر.
وفى التعبير عن الطواف بالتطوّف إشارة إلى الإكثار منه، وأنه أكثر من طواف واحد.. فالفعل تطوّف أكثر حروفا من طاف! قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
{ذلِكَ} إشارة إلى ما جاءت به الآيات السابقة من أحكام.. أي ذلك الذي جاءت به الآيات السابقة قد علمتموه.. وأمر آخر، يجب أن تعلموه وتعملوا به، وهو أن {مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
وتعظيم حرمات، اللّه هو الالتفات إليها، وتقديرها قدرها، في غير استخفاف بها.. فهى أمر عظيم.. من استخفّ بها هلك، ومن لم يأخذ حذره منها هوى وسقط.. وكان من الضالين.
وقوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} هو تطبيق عملىّ لحرمات اللّه.. فهناك من بهيمة الأنعام، ما أحله اللّه، وهناك ما حرّمه منها.. وهذا المحرّم هو من حرمات اللّه الواجب تعظيمها، وتوقى الاستخفاف بها، والدنوّ منها.
وما يتلى، هو ما ذكر في كتاب اللّه من البهائم المحرمة، وهى التي جاءت في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ} [3: المائدة]. وهذا يعنى أن هذه الآية نزلت بعد آية الحج.. وهذا هو الثابت من تاريخ النزول القرآنى.. إذ كانت المائدة من آخر سور القرآن الكريم نزولا.
وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} الرّجس: الدّنس والقذر.
والأوثان: الأصنام ونحوها، مما يشكّل ويصوّر، من جمادات، ليعبد من دون اللّه.. و{من} في قوله تعالى: {مِنَ الْأَوْثانِ} بيانية.. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.. فهى كلها رجس وخبث، وقذر، ولا ينضح منها إلا ما هو رجس وخبث وقذر.
وقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
الزور: هو الباطل من القول، والخارج على الحقّ.. وسمّى زورا، لأن الصدور السليمة تزورّ به، وتضيق بحمله.. ولا تتسع له الصّدور المريضة، والنفوس السقيمة.
وفى قرن {الزُّورِ} بالأوثان، إشارة إلى شناعته، وإلى أنه مأثم غليظ، يعادل الشرك باللّه.. بل إن الشرك نفسه هو ثمرة فاسدة من ثمار الزور.
إذ الشرك في صميمه، افتراء على اللّه، وتزيين للباطل، وتزويق للزور.
وهذا ما وصف به المشركون في موقفهم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ يقول جلّ شأنه: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً} [4: الفرقان] وفى الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه.. قال «الشرك باللّه وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور».
قالوا: فما زال- صلوات اللّه وسلامه عليه- يكرّرها حتى قلنا لا يسكت!.
قوله تعالى: {حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ}.
الحنفاء: جمع حنيف، وهو المائل عن طرق الضلال إلى طريق الهدى.
وقوله تعالى: {حُنَفاءَ لِلَّهِ} حال من الفاعل في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي اجتنبوا هذه المنكرات، وأنتم حنفاء للّه، أي مخلصين الدّين للّه وحده، غير مشركين به.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ}.
هو تهديد ونذير لمن يشرك باللّه، ويعدل عن طريق الإيمان الخالص به.
فإن من يفعل هذا، فقد عرّض نفسه لأبشع صورة من صور الهلاك.. إنه أشبه بمن سقط من علو شاهق، فوقع على الأرض أشلاء ممزقة، تكون طعاما لجوارح الطير.. أو تقذف به الريح في مكان سحيق، كبطن محيط، أو غور بئر.. فلا يخفّ أحد لنجدته.
قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
الشعائر جمع شعيرة: وهى ما يستجيش مشاعر الإنسان، ويحرك وجدانه.
ويراد بالشعائر، العبادات، والطاعات، وكلّ ما يتقرب به العبد إلى اللّه.
ويذهب أكثر المفسّرين إلى أن الشعائر هنا، هي الهدى المساق إلى الحرم، وأنها إنما سمّيت شعائر لأنها تشعر أي تعلم بشعيرة- أي حديدة- تشرط بها في الجانب الأيمن من سنامها.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن المراد بالشعائر هنا العبادات كلها، ومنها مناسك الحج، وأعماله، ومنها الهدى أيضا.
أما تعظيم شعائر اللّه، فهو في أدائها على وجهها، في اطمئنان، وإخبات للّه، وولاء لجلاله وعظمته.
وأما تعظيم شعيرة {الهدى} فهو برعايتها، وإكرامها، وإنزالها من النفس منزلة الإعزاز. لأنها منذ الوقت الذي اختيرت فيه لتكون هديا، قد أصبحت خالصة للّه، وأنها منذ ذلك الوقت إلى يوم النحر في ضيافة مهديها إلى اللّه.. ولهذا وجب عليه أن يكرمها، ويحسن ضيافتها، فلا يركبها، ولا يحمل عليها، ولا يعرّيها من أصوافها وأوبارها، ما دام قد أعدّها للهدى.
ثم إن من أمارات الإكرام لها أن تعلم بعلامة مميزة لها، وأن تعلق في رقبتها قلادة، تحلّيها وتزينها، وتجعل لها ميزة على غيرها.
ومن جهة أخرى، فإنه مطلوب من كلّ مسلم- حاجّا أو غير حاجّ- أن يرعى للهدى هذه الحرمة، فلا يعتدى عليه، بالسرقة، أو انتزاع ما قلد به من قلائد.
فهذا الهدى هو هدى اللّه، وليس أصحابه المتقدمون به إلى اللّه إلا رعاة له.
إنه أشبه بناقة صالح.. له حرمته، كما كان للناقة حرمتها، وقد توعّد اللّه سبحانه وتعالى ثمود بالهلاك، إن هم نالوها بسوء: {هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [73:
الأعراف].
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [97: المائدة] فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى قلائد الهدى- فضلا عن الهدى نفسه- قرينة الشهر الحرام، في حرمتها وما ينبغى للناس أن يعظموه منها.
ثم لعلك تسأل: لم هذا التعظيم للحيوان؟ ولم هذه المراسم التي تتخذ له؟ أليس ذلك ضربا من ضروب الوثنية التي جاء الإسلام لحربها، والقضاء عليها؟.
والجواب على هذا: أن الحجّ رحلة روحية خالصة، يخرج فيها الحاج من عالم المادة، إلى عالم الروح، وأن أعمال الحج التي تلقاة على طريق رحلته الروحية تلك، مقدّرة بهذا التقدير.
فالتجرّد من الملابس ولبس غير المخيط، والمهاجرة من الوطن، وترك الأهل والولد والمال، والطواف حول البيت، والسعى بين الصفا والمروة، واستلام الحجر الأسود، أو تقبيله، ورمى الجمرات- كلها أعمال ومراسم، تبدو في ظاهر الأمر متصلة اتصالا وثيقا بذوات الأشياء، لا ربّ الأشياء.. ولكنها في حقيقة الأمر، راجعة أولا وأخيرا، إلى اللّه سبحانه وتعالى، إذ كانت تلك الأعمال وهذه المراسم، إنما أدّاها الحاجّ امتثالا لأمر اللّه، وولاء وطاعة لما أمر به، وإنه ليس للعبد المؤمن باللّه، أن يراجع اللّه فيما يأمره به، وأن يطلب الحكمة لهذا الأمر.. وإنما المطلوب منه، هو أن يمتثل، ويأتى ما أمر به من غير تردد.
فهذا ابتلاء من اللّه، يبتلى به عباده، ليظهر منهم ما هم عليه من طاعة أو عصيان.
وقد كان أمر الملائكة بالسجود لآدم، ابتلاء وامتحانا لهم، فسجد الملائكة، وأبى إبليس أن يسجد، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [12: الأعراف]. فكان من الهالكين.
فهذه الأعمال التي يأتيها الحجيج، هي امتحان وابتلاء لهم، في باب الطاعة والامتثال لأمر اللّه، في غير تردد أو مراجعة.. وإلا فهو العصيان والكفر.
نعوذ باللّه منهما.
وتعالت حكمة اللّه.. فإنه سبحانه وتعالى، لم يبتل المؤمنين بهذه الأعمال ابتداء، ولم يلقهم بها على أول طريق الإيمان، بل جاءهم بها بعد أن يكون المؤمن منهم قد قطع شوطا طويلا على طريق الإيمان، حتى اطمأن قلبه به، وسكنت نفسه إليه، وثبتت قدمه عليه.
فأولا: في مسيرة الدعوة الإسلامية، لم يفرض الحجّ إلا في زمن متأخر، حيث فرض بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، وكان بهذا آخر ما فرض من أركان الإسلام.
وهذا يعنى أن المسلمين الذين خرجوا من الجاهلية إلى الإسلام، قد التقوا بالحج، بعد تلك الفترة التي عاشوها في الإسلام.. يؤمنون بوحدانية اللّه، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان.. وتلك فترة كافية لتثبيت قواعد الإيمان في قلوبهم، وإجلاء كل داعية من دواعى الوثنية والشرك منها.
وثانيا: أن المسلم- في أىّ زمن- لا يؤدى فريضة الحجّ إلا بعد أن يكون قد تمرّس بالإيمان، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان.. وكثيرا ما يكون ذلك زمنا طويلا يمتدّ إلى عشرات السنين.. فإذا جاء إلى الحجّ، والتقى بأعماله، لم يكن في خاطره أية طرفة يطرف بها إلى أماكن الحجّ وأشيائه، إلا على أنها من شعائر اللّه، وأنها معلم من معالم اللّه- سبحانه- على هذه الأرض، وأن تعظيمها هو تعظيم للّه، ومبالغة في الامتثال لأمره، حيث يقوم التعامل بين الحاج وبين ذوات أشياء هي من آيات اللّه.. وإنها في هذا لأشبه برسله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [80: النساء].
وثالثا: في قوله تعالى: {فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} إشارة إلى أن تعظيم هذه الشعائر، هو تعظيم للّه، يتجلّى فيها درجة إيمان المؤمنين، وينكشف بها ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو في ظاهرها- ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو في ظاهرها- خارجة عن منطق العقل..! والإيمان- في حقيقته- هو حبّ خالص للّه، والحبّ إذا كان صادقا، لا يسمع صوت العقل، ولا يستجيب له، وإنما يتلقى من القلب، ما يحدّثه به، ويدعوه إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: {فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ليكشف عن أن تعظيم هذه الشعائر، وإتيانها في إيمان وإخلاص، وحب وشوق- إنما هو من وحي القلوب، ومن خفقات الإيمان الثابت فيها، ومن إشارات التقوى المتمكنة منها.. وفى الكلمة المأثورة عن عمر بن الخطاب، وهو يقبّل الحجر الأسود حين قال: أعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقبّلك ما قبلتك في هذه الكلمة ما يكشف عن هذا الحبّ للّه، ولرسول اللّه، ومتابعته في كلّ قول، وعمل، وإن جاء هذا القول أو العمل، فوق مدارك العقول!.. ومن أجل هذا فقد وقف القرآن الكريم هذه الوقفات الطويلة المستأنية مع مناسك الحج، ودعا أكثر من مرّة إلى رعايتها، وتعظيمها، وذلك ليدافع هذا الشعور الذي قد يتسلّط على الإنسان من التراخي في أداء هذه الأعمال، وتلك المراسم، أو أدائها في استخفاف وتكرّه، الأمر الذي يذهب بالثمرة الطيبة، والمعاني الكريمة التي تدخل على نفس الحاج من هذه الأعمال، إذا هو أداها على وجهها الصحيح، ممتثلا أمر اللّه فيها، شارحا بها صدره، مسلما لها وجوده، مضيفا إليها مشاعره.
وهكذا يقيم الإسلام المسلمين على منطق العقل، ومشاعر القلب معا.
فهو إذ يدعوهم إلى الإيمان باللّه، والإقرار بوحدانيته، يجيء إليهم عن طريق العقل، فيقيم لهم الحجج، وينصب الأدلة والبراهين، حتى يقع الإيمان منهم موقع اليقين.. لأنه هو الأساس الذي تقوم عليه كل دعوة للإسلام، وكل أمر من أوامره، ونهى من نواهيه.. فإذا كان الإيمان باللّه عن نظر واقتناع، كان التسليم واجبا بكل ما يأمر به اللّه، أو ينهى عنه.
ثم كانت الصلاة.. وكان الصوم.. وكانت الزكاة.. وكلها أعمال يلتقى فيها منطق العقل، مع مشاعر القلب، وإن كان منطق العقل فيها أكثر من منطق الشعور، أو مساويا له.
ثم أخيرا، كان الحج.. فكان مشاعر خالصة، أو شبه خالصة، حيث يكاد العقل يخلى مكانه للقلب، ليأخذ حظه كاملا، كما أخذ العقل حظّه كاملا من الإيمان باللّه!.. وبهذا يعتدل ميزان الإنسان، وتتوازن مداركه مع مشاعره، ويتآخى عقله مع قلبه.. وذلك هو الإنسان في أعدل صورة، وأحسن تقويم، وأتم وضع!! قوله تعالى:
{لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
الضمير في {فِيها} يعود إلى قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} على اعتبار أن من هذه الشعائر بهيمة الأنعام، المساقة هديا إلى بيت اللّه.
والمعنى، أن ما يساق إلى البيت الحرام من هدى، هو أمانة في أيدى أصحابه، وأن لهم أن ينتفعوا به الانتفاع الذي لا يسوءه ولا يتضرر منه.. كالانتفاع بلبنه مثلا.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} تذكرة بالجهة التي سيهدى إليها هذا الهدى، وأن ذلك من شأنه أن يجعل لهذا الهدى حرمة ورعاية خاصة.. إذ كان آخذا طريقه إلى بيت اللّه، مع الآخذين طريقهم إليه، فله حرمة ينبغى أن تؤدّى، وله ذمام يجب أن يرعى.. فهو بعض وفد اللّه إلى، بيت اللّه!! وسمّى البيت الحرام بالبيت العتيق، لأنه أول بيت وضع للناس، كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ}.
فهذه الأولية، هي في مقام الإحسان والخير، سبق له خطره وقدره.. فكلمة عتيق هنا تضاهى كلمة عريق، أي هو عريق وقديم في مقام الخير والإحسان.. فكما سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلى الإسلام، واستحقوا بهذا السبق ما خصّهم اللّه سبحانه وتعالى به من فضل وإحسانه.. فكذلك هذا البيت، إذ كان أول بيت للّه على هذه الأرض، فقد استحق أن يكون أكرم بيوت اللّه على اللّه، وأولاها بالإجلال، والاحتفاء.. من عباد اللّه.