فصل: تفسير الآية رقم (257):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (257):

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)}.
التفسير:
منذ يدخل الإنسان ساحة الإيمان ويسلم وجهه للّه وحده، وهو في ضمانة اللّه، يتولاه برحمته وهدايته وتوفيقه، ويخرجه من ظلمة الضلال إلى نور الحق، وإذا هو على نور من ربّه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
أما حين يعطى المرء وجوده للطاغوت، ويسلم إليه زمامه، فهو في ضمانة هذا الطاغوت.. أعنى في ضمانة الباطل والضلال.. فانظر إلى أين يقاد من كان قائده الباطل وحاديه الضلال؟ إنه يخرجه من النور إلى الظلمات، إذ يفسد عليه تلك الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، فيطمس عليها في كيانه، فإذا هو أعمى يتخبط في ظلام، ويقاد بيد الضلال إلى كل مضلّة وكل مهلكة.
وانظر إلى كلمة {الطاغوت} مرة أخرى، وقد جاءت مسندة إلى الفرد في الآية السابقة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، ثم جاءت مسندة إلى الجمع في هذه الآية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} دون أن تتغير صورتها في الحالتين، بل ظلت هكذا: {الطاغوت}.
وهذا ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه لا مشخّص لهذه الكلمة، وإنما هي اسم جامع لكل باطل، وكل ضلال، وكل غواية، وهو قادر على أن يحمل في كيانه الضخم كل هذه المخازي والضلالات.. إنه {الطاغوت}!!. بناء ضخم شامخ من الوهم والضلال.

.تفسير الآية رقم (258):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}.
التفسير:
هنا نجد المثل لمن آمن باللّه فكان اللّه وليّه، يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن كفر فكان الطاغوت وليّه، يخرجه من النور إلى الظلمات! ومثل الأول نجده على أكمل صورة وأتمها، في إبراهيم عليه السّلام، كما نجد مثل الثاني في هذا الذي آتاه اللّه الملك، وغمره بالنعم، فاستقبلها بالجحود والكفران، والإغراق في البهت والضلال.. ولم يذكر القرآن اسم هذا الإنسان المتمرد على اللّه، ولم يدل عليه، لأنه ساقط من حساب الإنسانية، إذ باع إنسانيته للشيطان، وأسلمها للطاغوت.. ثم إنه لا ضرورة لذكره، حتى لا يتعرف عليه أحد، فتصيبه عدواه ولو من بعيد، كما تصيب الرائحة الخبيثة بالأذى كلّ من يمر به حامل الجيف.. ثم لمن أراد أن يعرف وجه هذا الشر، وحامل هذا المنكر فإن التاريخ يقول إنه النمرود ملك كنعان.. وكم في الناس من نمرود؟
والذي تعرضه الآية الكريمة هنا، وتحرص على كشفه وتجليته، وهو هذا الصّدام الفكرى بين منطق الحق وسفاهة الباطل، بين نور الإيمان وهداه، وظلام الشرك وضلاله! يقول اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} فهذا الإنسان الذي فضل اللّه عليه وأوسع له في فضله، ومكّن له في الأرض، قد غرّه ما بيده من سلطان، فكفر بأنعم اللّه، ثم لجّ به الكفر فحادّ اللّه ورسوله، وادعى لنفسه الألوهية، وقال قولة فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى}!
فلما جاءه نبىّ اللّه، إبراهيم، يدعوه إلى اللّه، أنكر هذه الدعوة، وجحد أن يكون في الأرض إله معه، وجعل يلقى إلى إبراهيم بالحجج الدالة على ألوهيته، وأهليته لتلك الألوهية، بما في يده من سلطان بتصرف به كيف يشاء.
وكثرت بينه وبين إبراهيم المحاجّة والمناظرة.. وتخير القرآن الكريم من هذه المواقف مشهدين، يلخصان القضية كلها، ويضبطان محتواها ومضمونها.
{قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}! هذا هو ربّ إبراهيم، الذي يدين له، ويدعو إليه.. هو الذي بيده الحياة والموت، وهو الذي أمات وأحيا.. فذلك أمر لا يشاركه فيه أحد، ولا يدّعيه لنفسه مخلوق، إلا أن يركب الحماقة والسّفه.
وقد ركب هذا الجهول الحماقة والسفه وانطلق بلا عنان.. {قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}!! هكذا يقولها بملء فيه! ولم يذكر من أين هو جاء، ولا إلى أين هو يصير؟ {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}؟ (67: مريم).
ولم ير إبراهيم- إزاء هذا السّفه الوقاح- أن يقف عند هذا الجواب، وأن يكشف باطل هذا الأحمق الجهول.. فقد يذهب بالرجل الحمق والجهل فيقول لإبراهيم: ألا تصدق ما أقول؟ أتريد شاهدا؟ أنت نفسك أنا الذي أحييه، لأنى لا أريد قتلك! وأنا أميتك لو أردت! فهل تريد مصداق ذلك؟
وقد يفعلها الرجل ولا معقّب عليه!! وتحاشى إبراهيم أن يدخل مع النمرود في هذا الجدل، وأن يمد له في حبال السفسطة، بل جاء إليه إبراهيم بما يخرسه ويفحمه! {قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ}.
فهذا النظام الذي ينتظم حركة الشمس قبل أن يولد هذا الإنسان المغرور بآلاف السنين وملايينها، ليس من صنع إنسان من الناس، إنه من عمل قدرة غير قدرة الناس.. فإذا كان النمرود إلها يناظر إله إبراهيم، فليجب على هذا التحدّى، ولينقض على إله إبراهيم عملا من عمله، وتدبيرا من تدبيره! {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ}.
وأسقط في يد الرجل، وخرس لسانه وشلّ تفكيره، وسقط من عليائه مبللا في ثيابه، بعرق الخزي والخذلان! {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وهكذا يصاب الرجل في مقاتله، بطعنة نافذة من يد الحق: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (259):

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}.
التفسير:
لمّا ذكر اللّه في الآية (257) أنه ولىّ الذين آمنوا، وأنه بهذه الولاية لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، وأنهم بهذه الولاية للطواغيت يخرجونهم من النور إلى الظلمات- لما ذكر اللّه هذا الحكم، لفت النبيّ الكريم إليه سبحانه، ليريه له الأمثال والشواهد في الناس، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ، ليسكونا مثلين للمؤمنين والكافرين.. أولياء، اللّه وأولياء الطاغوت.. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه، أما المثل الآخر لأولياء اللّه فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.
فهذا العطف في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي} هو عطف لهذا المثل على المثل السابق.. والتقدير: أتريد يا محمد شاهدا لهذا الحكم الذي حكمت به، وهو أنى ولىّ الذين آمنوا أخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات؟ أتريد لهذا شاهدا؟ إليك شاهدين أو مثلين.
أما المثل الأول فتجده في هذا الذي حاجّ إبراهيم في ربه، وقد كان وليّا للطاغوت، فأخرجه من النور إلى الظلمات.
وأما المثل الثاني فتجده في ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.. فهو رجل مؤمن باللّه، وهو يريد أن يستوثق لإيمانه، ويطلب له المزيد من الأدلة والشواهد، وليس هذا بالذي يضير المؤمن أو يجور على إيمانه، مادام حريصا على طلب الحق، مجتهدا في السعى إليه، والبحث عنه، فإنه بهذه النية المخلصة سيجد العون والتوفيق من اللّه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
وفى قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها} ما يكشف عن مشاعر هذا المؤمن باللّه، حين مرّ بقرية قد اندثرت معالمها، وخمدت الحياة فيها، فتمثل له منها ما كانت عليه في سالف الزمن، وما كانت تزخر به من عمران، وما كان يموج فيه أهلها من ألوان الحياة، ومذاهب العمل.. لقد صار كل ذلك ترابا في تراب! واهتاجت مشاعر الرجل، وتمثل له من هذا الهمود الموحش صور من الماضي البعيد، وإذا القرية وأهلها حاضرة في خياله، تنبض بالحياة، وتفور بالنشاط، كإحدى القرى الحية الماثلة لعينيه هنا أو هناك.. وفتح الرجل عينيه فطار حلم اليقظة الذي ارتسم في خياله.. وتساءل: أهذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة؟
وهل تعود هذه الأجساد التي بلاها البلى وأكلها التراب؟ هل تعود مرة أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ ويهتف به هاتف الإيمان: أهذا امتحان لقدرة اللّه؟
أأنت في شك من تلك القدرة القادرة على كل شيء؟ ويجيب على نفسه: معاذ اللّه أن أمتحن أو أشك.. ولكن!! وتموت الكلمات بعد ذلك في صدره، ويمضى في طريقه في صمت ووجوم!! وهنا تجيء نجدة السماء في أطواء قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
وكانت تجربة حية وجدها الرجل في نفسه، وفى الأشياء التي بين يديه.. الرجل، وحماره، وطعامه، وشرابه.. وذلك يمثل الإنسان، والحيوان، والطعام، والماء.. إنها صورة مصغرة للقرية بكل مشخصاتها، مما يدخل عليه الفساد والانحلال مع الزمن.. الرجل وأشياؤه التي يضمها إليه.. في رحلة إلى غاية يقصدها، ومنزلة يحط عندها رحاله.. والقرية وأشياؤها التي تضمها إليها.. في رحلة إلى غاية هي سائرة إليها، ومنزلة هي منتهية عندها.. يوم يقوم الناس لربّ العالمين! وما يكاد الرجل يعطى القرية ظهره، حتى تتردد في أذنيه من جنباتها أصداء تلك الكلمات التي همس بها إلى نفسه: {أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؟ فلا يلبث أن يخرّ صعقا!.. {فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}.
إنها رحلة طويلة في عالم ما بعد الحياة، استغرقت مئة عام قطعها الرجل وأشياؤه مع القرية في مسيرتها.. وصحا الرجل بعدها، فوجد من يسأله من قبل اللّه، على لسان هاتف يهتف به: {كم لبثت} في نومتك تلك؟ وما حسب أنه طوى هذا الزمن الطويل في هذا النوم الثقيل، فقال: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ذلك ما وقع في تقديره، قبل أن يفتح عينيه على الحياة من حوله، ويرى سير الزمن بها، وأثره فيها.. فلما قيل له: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ} فزع، وكرب، وجهد أن يستحضر وجوده كله، ويقظته كلها، ليعلم أهو في يقظة أم منام.. وصحا الرجل صحوة مشرقة، فرأى الأمر على ما أخبر به.
لقد تغيرت وجوه الأرض من حوله، فأنكرها وأنكرته، بل لقد أنكر نفسه بما طرأ عليه خلال نومه الطويل، من تغيّر في هيئته.. ووقع في يقينه أنه نام نومة استغرقت مئة عام، وهتف به هاتف الحق: أن انظر إلى طعامك وشرابك.. إنه على ما هو عليه لم يدخل عليه فساد، بل ما زال طيبا هنيئا {لم يتسنّه} أي لم تغيّره السنون- وأصله لم يتسنّ، والهاء للسكت!! {وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ} إنه ما زال قائما إلى جوارك على عهدك به!! ففيك وفى أشيائك التي بين يديك آية لك وللناس، يرون فيها قدرة اللّه التي لا يعجزها شيء، ويستيقنون منها إمكانية البعث الذي يرتاب فيه المرتابون.
وحين استبان للرجل كل شيء حوله، وأشرق قلبه بنور الحق، واستنارت بصيرته بهدى اللّه، دعى إلى أن ينظر نظرا أعمق وأشمل، إذ قيل له: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً} ونشز العظام هو بروزها من بين أخلاط الجنين.. وفى النظر تتكشف عملية الخلق، وبعث الإنسان من عدم، كما يقول اللّه تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [67: مريم]. فالذى أوجد الحياة من موات، قادر على أن يرد هذه الحياة إلى موات، كما أنه قادر على أن يعيد الحياة إلى هذا الموات.. {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [104: الأنبياء].
وتنجلى هذه التجربة المثيرة عن إيمان عميق بقدرة اللّه، يملأ كيان الرجل كله، وتندفع به غيوم الشك من صدره، ويزول دخان الريب من قلبه.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهذا تصديق لما كان يعلمه من قبل، وليس إنشاء لعلم جديد. ولكن شتان بين علم وعلم، وإيمان وإيمان.. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [76: مريم].
وهنا أسئلة:
فأولا: هل هذه حادثة وقعت، أم هي مثل مضروب للعبرة والعظمة؟.
والذي نقول به هو أن كل قصص القرآن وأمثاله، وما ورد في هذا القصص والأمثال من أشخاص وأحداث، هو من الواقع الذي لا شك فيه، وإذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصا، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شيء.. تريد فيقع ما تريد، كما أرادته، دون قصور أو مهل، إنها إرادة لا يخالطها وهم، ولا يطوف بها خيال، ولا تعللها الأمانىّ.
تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فالذين يرون أن من قصص القرآن ومن أمثاله ما لا يقع، إنما يتهمون قدرة اللّه، وينسبون إليه ما ينسبون إلى البشر من عجز وقصور.
وثانيا: هل كان الذي حدث للرجل موتا حقيقيا، أم كان سباتا ونوما طويلا، كما حدث لأصحاب الكهف؟.
وكلا الأمرين يمكن أن يكون، مادام ذلك متعلقا بقدرة اللّه.
وكذلك الشأن في حماره الذي كان معه!.
على أننا- مع هذا- نميل إلى القول بأن ما حدث للرجل كان نوما ثقيلا عميقا، في مكان منعزل عن الناس والحياة، وليكن كهفا، وذلك على نحو ما حدث لأصحاب الكهف، ولكلبهم، الذي صحبهم في نومهم الطويل.
وفى قوله تعالى: {فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} مشابه كثيرة من قوله سبحانه في أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً} [11: 12 الكهف] وثالثا: ماذا أفادت هذه التجربة في واقع الحياة؟ ولم كانت مئة عام ولم تكن عاما، أو بعض عام.. فإن امتداد الزمن وقصره سواء، بعد أن يجاوز المدى الذي يمكن أن يحتمله الإنسان في الحياة بلا طعام أو شراب؟.
والجواب عن الشق الأول من السؤال، هو أن التجربة قد رفعت عن هذا الرجل المؤمن باللّه غشاوة كانت تظلل إيمانه، وتزعج طمأنينة قلبه، وفى هذا رحمة من رحمة اللّه بعبد من عباده، إذ استنقذه من الضلال، وأدخله في عباده الصالحين.. وليس هذا بالشيء القليل من معطيات هذه التجربة، كما أن هذه التجربة ليست بالشيء الكثير على قدرة اللّه- إنها لا تعدو أن تكون استيلادا لمولود جديد من مواليد الحياة! فإذا نظرنا إليها من هذه الزاوية هانت وصغرت بالنسبة لبابها الذي جاءت منه، وإذا نظرنا إليها من جهة دلالتها كانت شيئا رائعا عظيما مثيرا، للدلالة على قدرة اللّه وحكمته، وسعة رحمته! والجواب عن الشق الآخر من السؤال هو أن امتداد رحلة النوم أو الموت إلى مئة عام، إنما هو إخبار عن الحدث الذي وقع، ولو كانت هذه الرحلة عاما أو بعض عام أو عشرة أعوام أو ألف عام، لكان هذا السؤال واردا على أي زمن منها! وإذن فلا محلّ لهذا السؤال عن المائة عام! ولنؤمن بما أخبر اللّه به عنها، وأنها مئة عام.. ولنترك حكمة هذا الزمن الطويل للّه وحده.
على أنه- مع هذا- يمكن أن يقال إن المائة عام هي الزمن المناسب لتلك التجربة، إذ أن هذه المدة كافية لتغير وجه الحياة تغيرا واضحا، وخاصة في الوجه البشرى منها، فمئة عام يمكن أن تأتى في نهايتها على كل من كان حيّا من الناس في أولها.. وبهذا يكون هذا الرجل الواقع تحت التجربة في الأموات حكما، بعد أن كان فيهم فعلا وقد أماته اللّه.. وبهذا أيضا يكون كل من كان على ظهر الأرض من الناس حين قال الرجل قولته: {أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها} قد مات في نهاية المائة عام، فلما بعثه اللّه من بينهم وحده، كان بعثه شاهدا على إمكان بعثهم جميعا، وشاهدا على إمكان بعث من سبقهم، ومن سيلحق بهم.