فصل: تفسير الآيات (42- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (42- 48):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}.
فى هذه الآيات مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء جميل من ربّ العالمين، لما يلقى من قومه من تكذيب، وسفه، وتطاول.. فتلك هي سبيل الأنبياء مع أقوامهم.. {كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ} [44: المؤمنون].. وأنت أيها النبي لست بمعزل عن هذا، ولا قومك ببدع بين الأقوام.. إنه حق وباطل، وهدى وضلال، وإنه لابد من صدام بين أصحاب الحق وأهل الباطل، وبين دعاة الهدى، وأئمة الضلال.. {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [35: الأحقاف].
وفى هذه الآيات:
أوّلا: جاء ذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، مضافين إلى أنبيائهم، على حين جاء قوم هود، وقوم صالح، وأصحاب مدين، وهم عاد وثمود، وقوم شعيب مجردين من هذه الإضافة.. فما وجه هذا؟.
الجواب- واللّه أعلم- أنه تنويع في النظم، وذلك بتوزيع الكلمات ذات النغم الواحد مثل {قوم} هذا التوزيع غير المتتابع، حتى لا يثقل على الأذن، ولا يثير الملل والسأم، فكان هذا التوزيع الذي ترى وتسمع تساوق لحنه وروعة نغمه.. ولو ذهبت تعيم النظم على أسلوب واحد، فتذكر الأقوام مضافين إلى أنبيائهم، أو تذكرهم بأعيانهم مجردين من تلك الإضافة، لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان، وتستثقله الآذان.
وثانيا: جاء الفعل {كذبت} مؤنثا مع أن فاعله مذكر وهو {قوم نوح}.
وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجيء الفعل مذكرا هكذا: كذب فما سرّ هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- أن القوم المكذبين كانوا على طبيعة واحدة من الضلال والعمى، فكأنهم- بهذا كتلة متضخمة من الظلام، لا يخرج منها إلا ما هو شر، وضرّ.. فكأنّ الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد، أو هذه القطعة من الظلام، والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن الفعل كذب مسلط على هؤلاء الأقوام الذين ذكرتهم الآية، قوم نوح، وعاد، وثمود... وهم بهذا أمة واحدة، في الضلال، وإن كانوا أمما في الأمكنة والأزمنة.
وثالثا: جاء قوله تعالى: {وَكُذِّبَ مُوسى} مخالفا للنظم، الذي كان ظاهره يقضى بأن يجيء هكذا: {وكذب قوم موسى} معطوفا على قوله تعالى {وَأَصْحابُ مَدْيَنَ}.
فما وجه هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- أن قوم موسى، وهم بنو إسرائيل لم يكذبوه، وإنما الذي كذبه هو فرعون وقوم فرعون، وهم ليسوا قوم موسى.
أما السرّ في أنه لم يذكر فرعون وقومه في الأمم والأقوام المكذبة بالرسل فذلك- واللّه أعلم- لأن موسى لم يكن من قوم فرعون، ورسل اللّه جميعا من أقوامهم.. فلم يكن موسى مبعوثا إلى فرعون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس شريعة، وإنما كانت رسالته إلى فرعون أن يدعوه إلى إطلاق بنى إسرائيل من يده كما يقول سبحانه لموسى وما يدعون فرعون إليه: {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [47: طه] هذه هي رسالة موسى إلى فرعون.
أما دعوته فرعون إلى الإيمان باللّه، فهى من مستلزمات دعوته إلى إطلاق بنى إسرائيل، تلك الدعوة المأمور بها من اللّه.. فإذا لم يؤمن فرعون باللّه، فلن يستجيب لهذه الدعوة.
وفى قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}.
هو تهديد للمشركين، الذين تصدوا للنبىّ وكذبوه، وآذوه.. فإن يكن اللّه قد أملى لهم، أي أمهلهم، ولم يعجل لهم العذاب فإنه سبحانه قد أملى للكافرين قبلهم.. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى ما أخذ اللّه به الكافرين المكذبين برسل اللّه.. {فمنهم من أغرقه اللّه ومنهم من خسف به الأرض ومنهم من أرسل عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة}.
والنكير: الإنكار المنكر.. ونكير اللّه هو إنكاره على الكافرين كفرهم، وليس وراء هذا الإنكار، إلا البلاء المهين، والعذاب الأليم.
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}.
هو بيان لنكير اللّه سبحانه وتعالى، ووقعات بأسه بالظالمين والضالين.
فكثير من قرى الظالمين قد أهلكها اللّه، وأنزل بها عذابه، فوقع عليها وهى قائمة على ما كانت عليه من ظلم وطغيان.. وهذه القرى قد خوت على عروشها، أي خرّت، وسقطت على عروشها، أي سقفها.. كما يخرّ الإنسان على وجهه.
فتعطلت آبارها وردمت، لأنها لا تجد الواردين إليها، وخربت القصور المشيدة، بعد عمرانها، لأنها لا تجد من يسكنها.
لقد ذهب الجميع، وخلّفوا وراءهم هذا الخراب الموحش المخيف!.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
الاستفهام هنا، تقريع، ونخس لهؤلاء المشركين من قريش، الذين تصدّوا لرسول اللّه، وكذّبوه وآذوه، دون أن ينظروا في عاقبة أمرهم، ودون أن يلتفتوا إلى ما وراء هذا المنكر الذي هم فيه.. ولو نظروا فيما حولهم لعرفوا أنهم في معرض الهلاك، إذا هم لم يرجعوا عن هذا الضلال الذي يركبونه، فهم ليسوا أحسن موقفا من أولئك الأقوام الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فأهلكهم اللّه.
وفى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} هو إشارة إلى أن السير في الأرض، لا يفيد منه صاحبه شيئا إلا إذا كان معه قلب متفتّح، يتلقّى المؤثّرات الخارجية، ويتأثّر بها، ويتفاعل معها.. فإن لم يكن له هذا القلب اليقظ المتفتّح، فليفتح أذنه لدعوة الداعي، ونذير المنذر.
فإن الأعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تقوم مقام عينيه، وتصل ما بينه وبين الوجود.
أما هؤلاء القوم الضالون، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، ولم تكن لهم آذان يسمعون بها.. لقد عطلوا حواسهم.. فهم صمّ بكم عمى لا يعقلون.
ولم يذكر القرآن هنا أبصارهم، ولم يستدعها كما استدعى قلوبهم وآذانهم.. ولكن أشار إليها ضمنا، في قوله تعالى: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
فكأنه قال: أما أبصارهم فلا وزن لها إذا لم تكن هناك القلوب التي تتلقى عنها، وتعى ما يجيء إليها منها.
فأبصارهم معهم، وهى سليمة لا عيب فيها، ولكنهم مع هذا هم عمى، لأن العمى ليس عمى الأبصار، ولكنه عمى القلوب التي في الصدور.
وفى قوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} توكيد للقلوب، وأنها هي المرادة هنا، على سبيل الحقيقة لا المجاز، وذلك لئلا ينصرف مفهوم القلوب إلى العقول، كما يحدث ذلك كثيرا.
وقد وصفت القلوب هنا بأنها تعقل وتدرك.. فكان تحديد مكانها أمرا لازما، حتى يتقرر أنها المقصودة بذاتها، وليست العقول.
واختصاص القلب بالذكر، والنظر إليه على أنه مركز الإدراك والإلهام، في هذا المقام، لأن الدّين عقيدة، والعقيدة أساسها الحبّ والامتثال والولاء، والقلب هو منبع هذه المشاعر، ومصدر تلك العواطف.
وحقّا، إن للعقل مكانه البارز في إدراك الحقائق الدينية، وتصوّرها، وإنه بغير هذا الإدراك وذلك التصور لا تقع هذه الحقائق من القلب موقع الحبّ، والتقدير، والتقديس.. ولكن القرآن الكريم ينظر إلى القلب، لا باعتباره مصدر العواطف والمشاعر وحسب، بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية، كعضو عامل في كيان الإنسان.. فهو- من هذه الجهة- مركز الحياة في الإنسان، بل وفى كل عالم الحيوان- حيث يمدّ الجسم كلّه بالدّم المتدفق منه في العروق والشرايين، ولو توقف لحظات لمات الكائن الحىّ، وأصبح جثة هامدة.. ومن هنا كان نبض القلب هو الإشارة الدالة على وجود الحياة في الإنسان.. وحين يسكت النبض تتوقف الحياة، ويغيض مجراها، وتجفّ ينابيعها.
وإذ كان القلب بهذه المثابة، فإنه هو صاحب الشأن الأول في الإنسان، بحكم آثاره الظاهرة فيه.. إنه يعمل دائما في حال اليقظة والنوم.
وأما العقل، وإن عرفت آثاره، فإنه لا يعرف سرّه، ولو عرف سرّه، فإنه لا يخرج عن أن يكون ربيب القلب، وغذىّ ماء الحياة الذي يمدّه به، أيّا كان موضعه في كيان الإنسان، وأيّا كان مستقرّه.
فإذا أضاف القرآن الكريم إلى القلب، علما، ومعرفة، وحكمة، وإيمانا، فإنّما ذلك لأنه سلطان الجسد كلّه، وإلى صلاحه أو فساده يعود صلاح أعضاء الإنسان وفسادها، وسلامة حواسه أو اعتلالها.. وليس العقل إلا حاسّة خفية- من حواس الإنسان، ترتبط سلامته بسلامة الجسد، كما ترتبط سلامة الجسد بسلامة القلب، وفى المثل: العقل السليم في الجسم السليم.
وقد كشف عن هذا الرسول الكريم في قوله: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب».
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} [46: الحج] لا على أن القلب هو مصدر الإدراك المباشر، وإنما هو مصدر للعقل الذي يعقل ويدرك.. فلو كان القلب سليما معافى من العلل لسلم العقل، ثم لكان إدراكه للأمور سليما، وتقديره لها صحيحا.. وهذا أبلغ في الكشف عن داء الغفلة المستولى على القوم، وأنه داء ينبع من المنبع الأصلى، وهو القلب، وليس داء عارضا أصاب حاسة من الحواس.
إنه داء يسرى في الجسد كله.
وسواء إذا كان القلب هو موطن المشاعر والمدركات، أم كان عضوا من أعضاء الجسد أو جارحة من جوارحه، فإنه من حيث مكانه في الجسد، ووظيفته العضوية فيه- يعدّ مركز الحياة في الكائن الحىّ، تتأثر به كل خلية من خلايا الجسد، كما أنه يتأثر بكل خلية في الجسد.. ومن هنا صحّ أن يضاف إليه كلّ ما للجوارح من آثار، وما لكل عضو من قوى حسّية أو معنوية.
فالعين وما فيها من قوى الإبصار، هي من جنود القلب.. إذ هي غصن من أغصان الشجرة التي يقوم على تغذيتها، وإمدادها بالحياة.. وكذلك الشأن في الأذن، واليد، واللسان.. وكذلك الحال في المخ الذي قيل إنه هو موطن الشعور والإدراك!! إن الإنسان، هو في الواقع هذا القلب، لا من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من اللحم والدّم.. ولكن من حيث هو مستودع هذه الحياة المتدفقة منه، وهى الدّم الذي يسرى في العروق والشرايين، والذي يملأ الكيان الجسدى كلّه مع كل خفقة من خفقاته، قبضا وانبساطا.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الضالين الذين عموا عن الحقّ، وضلوا عن سواء السبيل، ثم هم مع- هذا الموقف المكابر المتحدّى- يستعجلون العذاب الذي أنذروا به إنهم أعرضوا عن الإيمان باللّه، وكذبوا بما جاءهم به رسول اللّه، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [13: فصلت].. وفى هذا الرد إنكار عليهم، وتسفيه لهم، إذ يطلبون الهلاك، ويستعجلون البلاء، على حين يصرفون وجوههم عن هذا الخير الذي بين أيديهم، ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة.. وهذا لا يكون من إنسان له مسكة من العقل والإدراك.
وفى قوله تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} تهديد لهم، بالعذاب الذي أنذروا به، وأنه واقع بهم.. فهذا وعد من اللّه، ولن يخلف اللّه وعده.. لأن خلف الوعد إنما يكون عن عجز عن الوفاء به.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} هو تأكيد لوقوع وعد اللّه، وإنجازه وأنهم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه، فإن للّه سبحانه وتعالى تقديرا غير تقديرهم، وحسابا غير حسابهم، وأنه سبحانه لا يقيس الزمن بمقياس الناس، فالناس يتعاملون مع أشياء محدودة، في زمن محدود، على حين أن اللّه سبحانه يدبر الوجود كله، في زمن مطلق، وبقدرة مطلقة.
وعلى هذا فإنه إذا لم يقع بهم العذاب عاجلا فهو واقع آجلا، وأنهم إذا لم يؤخذوا به في الدنيا، أخذوا به في الآخرة.. فهم أبدا في قبضة الزمن الذي هو في قبضة اللّه.. ولن يفلتوا أبدا.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
هو بيان شارح لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
والمعنى أن هؤلاء المشركين إن كانوا يستعجلون العذاب، ويشكون في وقوعه حين أبطأ عليهم، ولم يقع بهم، فما ذلك إلّا لأن لهم حسابا، وأن للّه سبحانه وتعالى حسابا، وأنهم إذا كانوا قد أملى لهم ولم يؤخذوا بظلمهم إلى يومهم هذا الذي هم فيه- فليس هذا لأنهم ممتنعون عن اللّه بقوة أو جاه أو سلطان، وإنما لأن ذلك هو حكم اللّه في عباده، وسنته في الظالمين منهم.. لا يعجل لهم العذاب، ولا يبادرهم به، بل يمهلهم ويملى لهم، حتى يراجعوا أنفسهم، ويتدبروا أمرهم، وهذا من رحمة اللّه بهم وفضله عليهم، كما يقول سبحانه: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [61: النحل] وبين يدى هؤلاء المشركين الضالين شاهد ناطق بهذا فما أكثر القرى الظالمة التي أمهلها اللّه.. ثم أخذها.. بل إن هؤلاء المشركين هم شاهد حىّ لهذا.. فهم على ما هم فيه من ظلم ما زالوا في عافية من أمرهم، لم يأخذهم اللّه بعذابه.. وتلك فرصتهم السانحة للخلاص من بأس اللّه، الذي لا يردّ.. إذا حان حينه بهم.
وفى قوله تعالى: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم في هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى اللّه، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن في غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [26: الزمر].

.تفسير الآيات (49- 59):

{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
هو توكيد لهذا الإنذار، الذي أنذر به المشركون من وقوع العذاب بهم، إذا هم لم يستجيبوا للّه وللرسول.. فهو إنذار عام للناس جميعا، ولكنه في حقيقته إنذار خاص لكل ضالّ غوىّ، ثم هو إنذار في مواجهة هؤلاء المشركين، يصرخ في وجوههم، ويصكّ أسماعهم.. وإنه لإنذار مبين واضح، بما معه من الأدلة القاطعة، والآيات الناطقة المعجزة.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
الفاء هنا، للتفريع المسبب عن هذا الإنذار الذي جاء به النذير المبين.
إذ الناس مع هذا الإنذار، بين ملتفت إليه، مستفيد منه، آخذ طريق النجاة، وبين ذاهل عنه، أو مستخفّ به، أو مكذّب له.. فهو في غفلة من أمره، قائم في وجه العاصفة العاتية التي تجتاح كل شيء، وتدمر كل شيء.
فأما الذين استمعوا لهذا النذير، وآمنوا باللّه، وعملوا الصالحات، فقد ركبوا طريق النجاة، ولهم من اللّه مغفرة، ورحمة، ورزق كريم.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.
أي: وأما هؤلاء الذين لم يستمعوا لهذا النذير المبين، ولم يستضيئوا بالنور الذي معه، بل تصدّوا لهذا النور، وأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، وبما يخرج منها من أكاذيب وأضاليل- هؤلاء هم أصحاب الجحيم، فليس لهم من صاحب إلا جهنم وما تمدّهم به من عذاب أليم.. إنهم أشكل بها، وهى أقرب شيء إلى طبيعتهم.
وفى قوله تعالى: {سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ} إشارة إلى سعى هؤلاء المشركين، وأنه سعى للباطل والضلال، حيث يسعون لإعجاز آيات اللّه، وغلبتها وصرفها عن طريقها.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر {فى} الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أنهم يدخلون في آيات اللّه ويلبسون الحقّ بالباطل، إذ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلقون فيه بالهذر من القول، والسّخف من الكلام، كما حكى القرآن ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [26: فصلت].
وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إلى قوله تعالى: {مُعاجِزِينَ} وأن تقف لويلا عندها، فإن لها شأنا في تلك القصّة العجيبة المثيرة، التي نسج خيوطها المفسّرون والقصّاص، من واردات الخيالات والأوهام، فكان منها تلك الخرافة المعروفة (بالغرانقة العلا) التي كثرت فيها الأقوال، وتضاربت حولها الآراء، حتى كادت تدخل مدخل الواقع، وتلبس ثوب الحقيقة، لدورانها على الألسنة، وتقليب وجوه الرأى فيها، وهى كائن ميت، كان من الواجب أن يوارى من أول يومه، ويدفن في التراب، وألا ينبش بين الحين والحين، فإن تقليب جثث الموتى لا تجيء منه إلا الروائح الخبيثة، التي تزكم الأنوف، وتكظم الأنفاس! وقد كنّا نريد ألا ننبش هذا الجسد المتعفن، وألا نثير منه تلك الروائح الخبيثة التي تضيق بها صدور المؤمنين، لولا أننا نخشى أن يكون لبعض المؤمنين نظر فيها، ووقوف أو توقّف عندها، وهم يقرءونها في كتب التفاسير، ويجدونها في ثنايا كتب السيرة النبويّة العطرة!.
فيثير ذلك في نفوسهم قلقا، واضطرابا، ويحرّك في صدورهم وساوس وظنونا! ولهذا لم نر بدّا من الوقوف عند هذه القصة، والكشف عن زيفها وباطلها..!
ولكن قبل الدخول في هذا البحث، أعود فأذكّرك بالنظر إلى قوله تعالى في الآية السابقة: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ}.
وإلى أن هذه الآية موجهة إلى المشركين، وإلى عبثهم بآيات اللّه، وإلى مغالبتها ومعاجزتها باللّغو فيها.
فالمشركون متّهمون بهذه الجريمة، وهى الدخول إلى آيات اللّه، بما يغيّر وجهها، ويبدّل صورتها، ويعطيهم الحجة عليها، بعد أن كانت لها الحجة عليهم.
إذا عرفنا هذا، وسلمنا به- وهو واضح لا يحتاج إلى من يدلّ عليه، وهو أمر مسلّم به، لا يجوز الخلاف فيه- كان ذلك هو مقطع القول في هذه القضية، وكلمة الفصل فيها.. وكانت كلّ الدعاوى التي تدّعى لها، وكلّ الروايات التي تساق لإثبات شخصيتها، ضلالا في ضلال، لأنها تصادم صريح لفظ القرآن، وتنقض خبرا من أخباره.. وذلك كما سترى.
الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هذه الآية الكريمة، هي التي ولّد منها المفسّرون وأصحاب السّير، قصة الغرانقة هذه.. ولكنا ندع هذه القصة الآن، وننظر في الآية الكريمة نظرا غير مرتبط بما يقال من روايات عن أسباب النزول- ننظر إليها على أنها قرآن يتلى، ويتعبّد بتلاوته، دون أن يكون لسبب النزول- أيّا كان- أثر في موقعه من قلوبنا، أو عقولنا!- فقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هو خبر يتضمن حكما عاما، لا انفكاك منه.. يقع على رسل اللّه وأنبيائه جميعا.. وهذا الحكم، هو: أنه ما من رسول من رسل اللّه، ولا نبىّ من أنبيائه، إلا والشيطان راصد له، وأنه كلّما تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته! هذا صريح ما تنطق به كلمات اللّه، في وضوح وجلاء.. وإن كان هناك ما يسأل عنه، فهو كلمة التمنّى.. فما معنى التّمنّي، وماذا كان يتمنّى الرسول، أو النبيّ؟ ثم ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو النبيّ؟
والتمنّى في اللغة معروف، وهو طلب النّفس لرغيبة من الرغائب المحبوبة، البعيدة عن أن تنال، بعدا يكاد يبلغ حدّ الاستحالة.
وقد فرّق علماء النحو والبلاغة بين الترجّى، والتّمنّي، كما فرّقوا بين حرفى الطلب: ليت، ولعلّ.. فقالوا: إن {ليت} للتمنّى، وهو طلب محبوب لا يدرك، و{لعلّ} للترجّى، وهو طلب مرغوب يمكن إدراكه والحصول عليه، وإن كان بعيدا.
وفى القرآن الكريم، جاء لفظ التمني بهذا المعنى، الذي هو طلب الشيء البعيد.. كما في قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [94- 95: البقرة].
والخطاب هنا لبنى إسرائيل، وهم مطالبون في هذا الخطاب أن يتمنّوا شيئا لا يمكن أن يقع منهم، وهو تمنّى الموت.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} كاشفا عن هذا.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} جاء مؤكدا لعدم وقوع هذا الأمر منهم، إذ أن الحريص على الشيء لا يتمنى إفلاته من يده، فكيف إذا كان أشدّ الناس حرصا عليه؟
وجاء في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى} [24: النجم] وهو ينكر على الإنسان أن يقع له ما يتمناه، ويجرى على هواه وهواجسه.
وجاء في القرآن الكريم كذلك في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [78: البقرة] والأمانىّ جمع أمنيّة.
وعلم الأميين من أهل الكتاب، بالكتاب، هو علم بعيد عن الحقّ، بعد الأمنية عمن يتمنّاها.
ذلك هو التمني، على ما عرفته العرب، وجاء به القرآن الكريم، وهو أنه طلب أمر محبوب، بعيد الإدراك، أو مستحيله.
فما هي أمنية كلّ رسول، وكلّ نبىّ؟
إن أمنية كلّ رسول، ورغيبة كلّ نبىّ، هي أن يرى قومه على الهدى الذي يدعوهم إليه، وأن يصبحوا جميعا في المؤمنين باللّه.. فتلك هي رسالته في الناس، يعيش لها، ويعمل من أجل تحقيقها، وأن سعادته كلها هي أن يرى نجاح مسعاه، وثمرة جهاده، في هذه الأعداد التي استجابت له واتبعته، وأنه كلما كثرت هذه الأعداد، تضاعفت سعادته، وعظمت غبطته.
هذه هي أمنية كل رسول، وكل نبىّ.. لا أمنية لأحد منهم غير هذه الأمنية! ولكن الأمانىّ- كما قلنا- بعيدة التحقيق! وأمنية الرسول أو النبيّ في أن يكون الناس جميعا مؤمنين- أمنية تقع في دائرة المستحيلات، لأنها تطلب من الحياة مالم تجد به، وتريد الناس على غير ما أقامهم اللّه عليه.. فالحياة لم تعرف المجتمع الإنسانىّ على طريق سواء، يضمّ جميع أفراده.. والناس- كما خلقهم اللّه- مؤمن وكافر، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
وإذن فأمنية أي رسول وأي نبىّ، غير ممكنة التحقيق.. ومع هذا فإن على كل رسول وكل نبىّ أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويدعو الناس جميعا إلى اللّه، ويؤذّن فيهم بآيات اللّه! ولكن صوت الحق هذا، تلقاه على الطريق أصوات منكرة، بعضها ينبح نبح الكلاب، وبعضها يعوى عواء الذئاب، ومنها ما ينهق نهيق الحمير، ومنها ما يفحّ فحيح الأفاعى.. فيتألف منها ومن كثير غيرها من كل صوت منكر- إعصار مجنون، يكاد يخنق هذا الصوت الكريم، ويغطى سماءه الصافية، بما يثير من غبار ودخان! فهذه هي أمنية الرسول أو النبيّ، وتلك إلقاءات الشيطان فيها.. إذ ليست كلّ هذه الأصوات المنكرة إلا صنيعة الشيطان، وإلا غرسا من غرسه النكد، وثمرات من ثمر هذا الغرس الخبيث.
ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}.
وواضح مما رأيت، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ، كانت أبدا هي هداية قومه جميعا إلى اللّه، وأن إلقاء الشيطان في هذه الأمنية، هو ما يوسوس به للسفهاء، والحمقى، والجهلاء من القوم، ليقفوا في وجه الدعوة التي يدعون إليها، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم.. فالشيطان لا يظهر عيانا، ولا يلقى الرسول أو النبيّ مواجهة، وإنما يلقاهما في أتباعه وأوليائه، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان، وأمسك بهم من مقاودهم، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء اللّه، ورسل اللّه، وأولياء اللّه.
ولكن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبيّ، وما يلقى به الشيطان فيها؟
الشيطان كما أخبرنا اللّه- سبحانه وتعالى- عنه، ليس له سلطان على الذين آمنوا، كما يقول سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [99: النحل] فكيف بالرسل والأنبياء، الذين عصمهم اللّه، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه، وتوفيقه، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته، ويحمى وجوده من أن يكون مطيعة ذلولا له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} [76: النساء] إن هؤلاء الضالين الآثمين، الذين يقفون في وجه الحق، هم صنائع الشيطان، وهم كيده الذي يكيد به لأولياء اللّه، وأنبياء اللّه، ورسل اللّه.. وهذا الكيد الذي هو من أولياء الشيطان.. هو كيد ضعيف، وسراب خادع، لا يقف للحقّ، ولا يحتمل صدمته!.
وعلى هذا، فإن ما يلقى به الشيطان في أمنية الرسول أو النبيّ، من ضلالات وأباطيل، وما يستنبت به في منابت الحق من شوك وحسك- هو سحب صيف، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس، وإذا شعاعها يملأ الآفاق، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام، وإذا حرارتها تتمشّى في أوصال الكائنات.. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [17: الرعد] وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان في أمنيّة الرسول أو النبي.. هباء، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه، وهم صفوة المجتمع، والثمرات الطيبة فيه، على حين يستولى الشيطان على أتباعه، ويسوقهم إلى حظيرته، حيث هم حصب جهنم وحطبها! واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول، وبين الشيطان وأولياء الشيطان.. لقد أحكم اللّه سبحانه وتعالى آياته، فنسخ أي أبطل.. ما ألقى الشيطان، ثم أحكم سبحانه آياته، وثبّت قواعدها.
ولا يعترض على هذا القول، بأن الرسول أو النبيّ كانت أمنيّته هي هداية قومه، أو معظم قومه، ولكن الذين خلص بهم من هذا المعترك، هم قليل من كثير.. فكيف يقال مع هذا إن أمنيته تحققت، وإن اللّه سبحانه وتعالى قد أحكم آياته- على هذا المفهوم الذي فهمت عليه الآية- ونسخ ما ألقى الشيطان؟.
والجواب على هذا، قريب من قريب.. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد..! كما ترى.
إن أمنية الرسول أو النبيّ. كانت في أول الأمر هي هداية قومه، فردا، فردا.. وهو في سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده، ولا يضنّ بشيء من راحته.. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء، من فحش القول، وشنيع العمل.. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم، وأن لا ثمرة تحصّل منهم، مهما بذل من جهد، أو ضوعف من عمل- إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبيّ، وحجب ضوءها.. وعندئذ يتولى اللّه سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرّاء، فيضربهم ضربة قاضية، فإذا هم في الهالكين.. وهكذا ينسخ اللّه كل ما ألقى الشيطان ويبطله، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبيّ أو الرسول من هذا البلاء.. إن الرسول أو النبيّ في تلك الحال- وإن كان وحده- هو آية اللّه، أو آيات اللّه التي أحكمت، فثبتت، وبقيت.
أما ما ألقى الشيطان، فقد نسخ وبطل، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وأحسب- بعد هذا، بل وقبل هذا- أن الآية الكريمة، واضحة الدلالة بيّنة القصد، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير، وهمسات الإسرائيليات، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار، فيتلقاها عنهم المفسرون، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!! فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها، وتحدّث بمفهومها، ولكن الخيال الأسطورى، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة.. كما سنعرضها عليك بعد قليل.
وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول، وعن النبيّ، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبىّ بإعادة حرف النفي، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبىّ ذاتيته.. فكأنّ نظم الآية يقول: {وما أرسلنا من قبلك من رسول وما أرسلنا من قبلك من نبىّ}.
وهذا يعنى أن الرسول غير النبيّ.
والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء، أن كلّا من الرسول والنبىّ يوحى إليهما من اللّه ولكن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من اللّه، ويدعو إليها الناس.. بخلاف النبيّ الذي لا شريعة معه، وإنما هو على شريعة رسول سبقه، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول.. فكل رسول نبىّ.. وليس كل نبىّ رسولا.
وعلى أىّ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية.. أما النبيّ فلا كتاب ولا صحف معه.
وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبيّ عن الرسول، له دلالة كبيرة في المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة، وهو أن قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ}.
لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة، المنزلة وحيا من السماء.
وذلك لأن النبيّ- مجرد النبيّ- لا يدخل في هذا الحكم، إذ لا كتاب معه، ولا صحف، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!!
وإذن، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما، هو أن معنى النسخ في هذه الآية، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات اللّه المتلوة، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق، الذي فسره عليه المفسرون.
وهذه الحقيقة، هي في الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة، والذي جاءت منه قصة- أو خرافة- الغرانقة العلا التي ستعرف نبأها عما قليل.
وقبل أن نعرض لهذه الخرافة، ننظر في الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها، منذ أخذنا في هذا الحديث.. فهذه الآيات مكملة لها، ومعقبة عليها.
يقول اللّه تعالى بعد هذه الآية:
{لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ}.
وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول أو النبيّ- هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش.
بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء- هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب، وهم الذين في قلوبهم مرض، وعلى المشركين من العرب، وهم القاسية قلوبهم، إذ كانوا بعملهم هذا- من أهل كتاب ومشركين- دعوة إلى الضلال، تواجه دعوة الهدى التي يدعو بها الرسول والنبىّ.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [20:
الفرقان] ويقول سبحانه على لسان المؤمنين: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [5: الممتحنة].
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان في طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبيّ- هم متلبسون بظلم عظيم، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء، في إنكار البديهيات، وفى عدم التسليم بها والانقياد لها:
ثم يجيء بعد هذا قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبيّ، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان في وجه هذا الحق- في هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل، فتزداد معرفتهم بالحق، ويقوى تعلقهم به، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون في وجهه، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق، ويضاعف من جلاله وروائه.. كالشمس، يحجبها السحاب، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء.. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده.. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا، والحلو يكون بعد مذاق المرّ أحلى مذاقا وألذّ طعما.. والعافية بعد السّقم، تكون أهنأ وأطيب منها في جسد لم تصادفه علة، أو يلحّ عليه مرض.. وفى المثل: بضدها تتميز الأشياء.
ثم يجيء بعد هذا قوله تعالى: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}.
الضمير في {منه} يعود إلى القرآن الكريم، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم.
أما القاسية قلوبهم- وهم مشركو العرب- فستلين قلوبهم آخر الأمر، وسيؤمنون باللّه، وينقادون للحق.
وأما الذين في قلوبهم مرض- وهم أهل الكتاب- وخاصة اليهود، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القرآن، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه.. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب اللّه في هذا اليوم العظيم.
وفى وصف هذا اليوم بأنه عقيم، إشارة إلى أنه لا يوم بعده، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس، ويصلح المفسد منهم ما أفسد.. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده، كما تلد أيام الدنيا، أياما بعدها.
ثم يجيء قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}:
أي في هذا اليوم، يكون الملك للّه وحده، لا يملك أحد لنفسه أو لأحد شيئا.
وفى هذا الموقف يفصل اللّه بين عباده، ويقضى بالحقّ بينهم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، ينعمون برضوان اللّه، ويخلدون في رحمته.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات اللّه، وجادلوا بالباطل فيها، فأولئك لهم عذاب مهين، يذلّهم ويخزيهم.
وفى تخصيص الملك للّه في هذا اليوم، مع أن الملك للّه أبدا، في هذا اليوم وفى كل يوم، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه، وكل ذى قوة من قوته، وكل ذى مال من ماله، فلا تصريف لأحد، في الظاهر أو الباطن، كما للناس تصريف- في الظاهر- فيما خوّلهم اللّه من سلطان، وأموال.. في هذه الدنيا ثم يجيء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
هو إشارة إلى إحكام اللّه لآياته، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها.
فهؤلاء الذين هاجروا في سبيل اللّه، فرارا بدينهم، ثم قتلوا استشهادا في سبيل اللّه، أو ماتوا ميتة طبيعية- هم من الذين أحكم اللّه آياته فيهم، فنجاهم من الافتتان في دينهم، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء في أموالهم وأنفسهم، أجرا عظيما، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه، وهو الحق الذي معهم، والإيمان الذي عمر قلوبهم، ثم النّصر على عدوّهم، والتمكين لهم في الأرض.
ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم في الآخرة.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ومن عطائه الجزيل الجليل، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون في جنات الخلد، لهم فيها ما تشتهى أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون.. نزلا من غفور رحيم.. وهذا هو المدخل الذي يدخلهم اللّه فيه، ويملأ قلوبهم به غبطة ورضا.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بمن هم أحق برضاه ومغفرته وإحسانه من عباده.
{حَلِيمٌ} لا يعجل مقوبته، بل يمهل الظالمين، حتّى يكون لهم نظر في أمرهم، ورجعة إلى ربّهم.. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [26: الزمر].
هذه الآية الكريمة: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وما سبقها أو تلاها من آيات- هي التي نسحت جولها قصة الغرانقة التي آن أن نحدثك عنها وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره، بين النبيّ، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن في قلوبهم مرض.. وهى في صورتها تلك ليس فيها شيء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء اللّه ورسله، مع أقوامهم.
فمن أين إذن جاءت خرافة الغرانيق العلى؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن.
كان موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن، من القضايا البارزة، التي شغل بها علماء التفسير، والفقه.. وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص في الجزء الأول من هذا التفسير.. وكان من رأينا- ومازلنا عليه- أن لا نسخ في القرآن.
وقد نظر المفسّرون في قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ}.
نظر المفسرون في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ} فرأوا هذا الخبر بالنسخ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه اللّه، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة، وبتحقق بها ما أخبر به اللّه سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان.. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان، ثم نسخه اللّه..!
هناك إذن أمران، كان على المفسّرين الكشف عنهما في هذا الموقف:
ما هي أمنية النبي؟
ثم ماذا ألقى الشيطان في أمنية النبيّ؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه اللّه؟
وقد كان! فألقى المفسّرون بشباكهم في هذا البحر المتلاطم، الذي يفيض من يدى القصاص، ورواة الأخبار.. فجاءت بأكثر من صيد.
فمن ذلك ما روى أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قرأ مرة سورة النجم والمشركون يستمعون إليه، وحين بلغ إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} أتبع ذلك بقوله: «تلك الغرانيق العلا» وفى رواية:
«إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» وفى رواية ثالثة: «والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى».
وفى رواية رابعة «إن شفاعتهن لترتجى» من غير ذكر الغرانقة العلا.
فهذه أربع روايات في هذه الواقعة، وكلّها ذات أسانيد متصلة.
فالرواية الأولى تقول: إن النبي قرأ الآيات هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى»! والرواية الثانية تقول: إن قراءة النبي كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا»! وفى الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى».
والرواية الرابعة كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، إن شفاعتهن لترتجى».
أما القرآن الكريم، فيقول: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ».
ومدلول هذه الروايات، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قد ذكر في تلاوته لسورة النجم، آلهة قريش بخير، وجعل لها عند اللّه مكانا عليّا، حتى إنها لتشفع عنده، لمن يلتمس الشفاعة عندها، ويستحقها منها.
وتقول الرواية: إن النبيّ حين بلغ آخر السورة، سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون، عند ما سمعوه، وقد أثنى على آلهتهم!!
وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخرى، وكأنها تريد أن تفسر هذه الواقعة، وتجد لها وجها تقبل عليه.
فتقول بعض الروايات: إن الشيطان ألقى على لسان النبيّ هذا القول، الذي قاله في حق الآلهة- اللات والعزى ومناة- وأنه صلى اللّه عليه وسلم، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم، فتمنى في تلك الحال أن لو نزل عليه شيء من القرآن يقارب بينه وبين قومه، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم، ولهذا فإنه- عليه الصلاة والسلام- حين تلا سورة النجم، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات، التي ترفع من شأنها، وتجعل لها مكان الشفاعة عند اللّه.. ثم تستطرد الرواية فتقول: إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبيّ، فلما عرض عليه النبيّ السورة بما أدخله الشيطان عليها، قال له جبريل: «ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبيّ لذلك، فنزل قوله تعالى- تسلية له-: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ} ثم قوله تعالى: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً} [73- 75: الإسراء].
ونقول: إن هذه الروايات، وتلك النقول، كانت موضع إنكار، واستنكار عند بعض المفسّرين، وأصحاب السير.. إذ كانت- في صورتها تلك- عدوانا صارخا على مقام النبوّة، ونسخا صريحا لعصمة النبيّ.!
وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة، وفضح مستورها وعقد لذلك فصلا في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى نرى من الخير أن نعرض جانبا منه.
يقول القاضي عياض:
إن لنا في الكلام على شكل هذا الحديث- يقصد حديث الغرانقة- مأخذين.
أحدهما: توهين أصله.. أي في سنده ومتنه.
والثاني على تسليمه.. أي على فرض التسليم بصحته.
المأخذ الأول: (ا) توهين أصل الحديث:
يقول القاضي عياض:
أما المأخذ الأول، وهو توهين أصل الحديث، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله، المفسّرون، والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف، كلّ صحيح وسقيم.. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال:
لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته- يقصد هذا الحديث- واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته.
فقائل يقول إنه في الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم في الصلاة).. وآخر يقول: قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة.. وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها.
وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبيّ لما عرضها على جبريل قال له: ما هكذا أقرأتك.. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قرأها، فلما بلغ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ذلك، قال: «واللّه ما هكذا نزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم، ولم يرفعها إلى صاحب (أي صحابىّ). وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
(ب) توهين معنى الحديث:
ثم يقول القاضي عياض: هذا توهينه- أي الحديث- من جهة النقل.
وأما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى اللّه عليه وسلم، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهة غير اللّه، وهو كفر، أو من أن يتسوّر- أي يعلو- عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبيّ أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام.
وذلك كله ممتنع في حقه صلى اللّه عليه وسلم.. أو أن يقول ذلك في نفسه من قبل نفسه.. عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله.. وقد قررنا بالبراهين والإجماع، عصمته صلى اللّه عليه وسلم، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا.. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على اللّه، لا عمدا ولا سهوا، ما لم ينزل عليه.. وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} [44- 46: الحاقة].
ثم يقول القاضي عياض، في عرض وجوه الرأى في توهين معنى الحديث:
ووجه ثان:
وهو استحالة هذه القصة، نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى، لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمّل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في بيان البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
ووجه ثالث:
أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى اللّه عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة.
ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا، مكابرة- في قصة الإسراء، حتى كان في ذلك لبعض الضعفاء ردّة.. ولا كذلك ما روى في هذه القصة- قصة الغرانقة- ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!!.. فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدلّ- ذلك- على بطلانها واجتثاث أصلها.. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع:
ذكره الرواة لهذه القضية، أن فيها نزلت الآية: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} [73- 74: الإسراء]- وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن اللّه تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبّته اللّه- لكاد يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه، أن اللّه تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم- أي الرواة- يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء، بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى اللّه عليه وسلم: افتريت على اللّه وقلت ما لم يقل، وهذا ضدّ مفهوم الآية، وهى تضعف الحديث، لو صحّ، ولا صحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [113: النساء].
وقد روى عن ابن عباس: كل ما في القرآن كاد فهو لا يكون قال اللّه تعالى: {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} ولم يذهب- به- بصر أحد.
{أَكادُ أُخْفِيها} ولم يفعل! قال القشيري القاضي: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كاد ليفعل.
المأخذ الثاني: التسليم بصحة الحديث:
ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية، من جانبها الآخر، وهو فرض التسليم بصحة الحديث، فيقول: وأما المأخذ الثاني، فهو مبنى على تسليم الحديث، لو صحّ، وقد أعاذنا اللّه من صحته، ولكن على كل حال، فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغثّ والسمين.. فمنها:
أولا: ما روى عن قتادة ومقاتل: أن النبيّ- صلى اللّه عليه وسلم، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم.
وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبيّ مثله، في حالة من أحواله، ولا يخلقه اللّه على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه، في نوم ولا يقظة، لعصمته في هذا الباب، من جميع العمد والسهو.
ثانيا: وفى قول: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه.. وفى رواية ابن شهاب عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: وسها- أي النبي- فلما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان.
ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله: كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، لا سهوا ولا قصدا، ولا يتقوله الشيطان على لسانه.
ثالثا: وقيل: لعلّ النبي صلى اللّه عليه وسلم قاله- أي هذا القول- أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، كقول إبراهيم- عليه السلام: {هذا رَبِّي} على أحد التأويلات وأن النبيّ إذ قال ذلك قاله بعد السّكت، وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته...
يقول القاضي عياض: وهذا ممكن، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، أي ليس من القرآن.
اه.
تلك هي القصة، أو الأكذوبه، كما جاءت في كتب السير، وعلى ألسنة القصاص، ونقلها المفسّرون، وتداولها اللاحق منهم عن السابق، وذلك أسلوب من أساليب دفعها، وتكذيبها.
والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شيء يصلح أن يعيش في الحياة، وأن يكتب له بقاء في عالم الأحياء.
ونسأل: ما مضمون هذا الخبر في قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}.
أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ في حياته، وإنما هي أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.
فكيف لا يلقى الشيطان في أمنية النبيّ إلا في هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى في كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.
وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت في عثمان رضى اللّه عنه.
تمنّى كتاب اللّه أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر وهو- لو عقلوا- حجة عليهم.. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبيّ قرآنا، دخل عليه الشيطان، وألقى فيما يقرأ بما يريد، حتى يفسد مادة القرآن، ويغيّر وجهها، ويطفئ نورها.
والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء في قراءة النبيّ، على نحو ما رووه في هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبيّ سها فوقع هذا الخاطر في قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات اللّه وسلامه عليه- كان في حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو في حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم!.
وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع في نفسه أية شبهة من الشبه تحوم في سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم في هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟
فإن كان محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير.
فكل ما ينسب إليه من أخطاء، وما يرمى به من تهم، ممكن الوقوع، ويمكن التسليم به، إذ هو- والحال كذلك- إنسان، مجرد إنسان، يجوز عليه ما يجوز على الناس، من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر! أما إن كان محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- نبيا ورسولا، فإن الذي يعتقد في نبوته، ويؤمن برسالته، ثم يلحق به ما يقع في حياة الناس من أخطاء، وعثرات، وتخبطات، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة، فإن الرسول مبلّغ عن ربه، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان، فيما يتصل برسالة ربّه، وما تحمل من شريعة وعقيدة، إذ أن أي انحراف أو تحريف في هذا، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة، مليئة بالعثرات والحفر، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط، وهذه المتناقضات، التي تلتقى بالناس، وهم سائرون فيه.
ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.
وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبيّ- ويقولها هكذا النبيّ- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ في نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند اللّه شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟
نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات اللّه، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟
وماذا ترك للضالين، والمنافقين، وأعداء الأنبياء؟
قد يكون سائغا أن تنفى عن محمد صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال في معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها.
أما ومحمد نبىّ، فإنه في عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما، قال: «قلت يا رسول اللّه: أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: نعم» قلت: في الرضا والغضب؟ قال: «نعم فإنى لا أقول في ذلك كلّه إلّا حقّا».
والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا في قوله تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}.
فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن اللّه إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند اللّه، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول اللّه تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}؟
إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، في غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا.
ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان في كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان لنقله، ثم نصب العلل التي تخرج به عن مفهومه.. فهو حديث خرافة، لا ينبغى النظر إليه، أو الوقوف عنده.
وبعد، فإن مفهوم الآية الكريمة: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ} نقول إن مفهوم الآية الكريمة على هذا الوجه الذي قامت في ظله قصة الغرانقة العلا هو اتهام لرسل اللّه وأنبيائه جميعا، بأنهم تحت سلطان الشيطان، وأنه راصد لهم، آخذ على ألسنتهم، فلا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية من آيات اللّه، حتى يخرجها الشيطان على الوجه الذي يراه، ويلوى لسان الرسول والنبي إلى ما يريد.
فسبحانك.. سبحانك. هذا بهتان عظيم، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا!