فصل: تفسير الآيات (60- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (60- 66):

{ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
الإشارة هنا {ذلِكَ} هي إشارة إلى شأن مضى، ثم دخول إلى شأن آخر.
والتقدير: ذلك الذي حدّثت به الآيات السابقة، شأن، وها هو ذا شأن آخر فاستمع إليه أيها النبي.. والعطف، هو عطف شأن على شأن، وموضوع على موضوع.
والآية الكريمة تندّد بالبغي والعدوان، وتجعل للمعتدى عليه سلطانا نصيرا من اللّه، لأنه في تلك الحالة مظلوم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً} [33 الإسراء] ثم إن الآية الكريمة، إذ تجيز للمعتمدى عليه أن يأخذ بحقه من المعتدى، فإنها تشير من طرف خفى إلى العفو، وذلك من وجوه:
أولا: في تسمية القصاص من المعتدى، عقابا، فهو إذا أخذ بحقه، لا فضل له على المعتدى، فقد تساويا بعد ردّ الاعتداء، وقد كان العفو أفضل وأكرم.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [126: النحل].
وثانيا: في قوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} إشارة إلى المعتدى عليه إذ يعفو، يكون في صورة المبغىّ عليه، والمبغىّ عليه موعود بالنصر من اللّه: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}.
وثالثا: في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تذكير بالعفو والمغفرة في موقف القصاص، واستحضار عفو اللّه ومغفرته في تلك الحال، الأمر الذي تنحلّ به عزيمة الانتقام، وتبوخ معه حميّة النقمة والانتقام.
هذا، والعفو هنا، إنما هو من قادر، يملك الانتقام. ومن هنا لا يكون للمعتدى سبيل إلى التمادي في اعتدائه، وفى إذلال من اعتدى عليه.
ثم إن الآية الكريمة تضع أمام المسلمين- وقد أذن لهم في القتال في قوله تعالى في آية سابقة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} تضع أمامهم دستورا يقيمهم على أحسن سبيل، بين العفو والانتقام.. إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا انتقموا.. على حسب الأحوال والأشخاص.. فقد عفا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كثيرين ممن آذوه، وآذوا المسلمين، وحاربوهم، وقتلوا منهم من قتلوا.. ثم كان منه- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا العفو العام عن مشركى قريش يوم الفتح، حين قال لهم قولته الخالدة: اذهبوا فأنتم الطلقاء- على حين- أنه صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أهدر دم بعض الأفراد من هؤلاء المشركين، وطلب قتل أحدهم ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة.. كما قتل النضر بن الحارث صبرا.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
الإشارة هنا {ذلِكَ} إشارة، إلى ما تضمنته الآية السابقة من حكم في مواجهة العدوان من المعتدين.
والباء في {بِأَنَّ} للسببية.
والمعنى: أن مقابلة العدوان بالعدوان، هو لدفع بأس الناس بعضهم عن بعض، الذي لولاه لفسد نظام المجتمع، ولتسلّط الأشرار على الأخيار، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [40: الحج] والآية ردّ على تلك الفلسفة المريضة، التي ترى في مثل هذا الدّفع إكثارا من إراقة الدماء، وإغزاء للناس بالانتقام، الذي يولد كثيرا من مواليد الشر والنقمة ويرون أن المثالية تدعو إلى الأخذ بدعوة السيد المسيح- عليه السلام- في قوله: من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر.
ففى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} ردّ على هذا التفكير السقيم، ودحض لتلك الفلسفة المريضة، وذلك بالإشارة إلى نظام الوجود، وأنه قائم على التدافع بين الخير والشر، والشرّ والخير، تماما كما يدفع الليل النهار، ويدفع النهار الليل.. فلو أنه سكن النهار إلى دفع اللّيل له، ولم يدفعه كما دفعه لما طلع نهار أبدا، ولا ختفى إلى يوم القيامة، ولساد الدنيا ظلام دامس إلى الأبد.
فمن سنّة اللّه في الحياة أن يغرى الأشرار بالأخيار، فتنة وابتلاء، ثم لا يدع الأخيار لأيديهم، بل يدعوهم إلى أن يأخذوا بحقّهم منهم، وأن يدفعوهم عنهم، حتى يسفر وجههم، ويبرز وجودهم.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
فى هذه الآية إشارتان:
الأولى: أن أهل الإيمان هم أهل الحق، وأنهم جند اللّه، وأنصار اللّه.
وهذا من شأنه أن يحملهم على الجهاد في سبيله، ودفع الباطل، وردع المبطلين، حتى يحقّ اللّه الحقّ ويبطل الباطل، ويكون الدين كله للّه.
والثانية: أن اللّه سبحانه- وهو العلىّ الكبير- لا يغلب، ولا يغلب أولياؤه، وأنه سبحانه، وهو الحق- سينصر المحقّين الذين يقفون في جبهة الحق ويجاهدون في سبيله.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
هو تكملة للصورة التي كشفت عنها الآية السابقة.. بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى، وهو الحق، فإن ما يرسله إلى الناس- هو حق، وهو خير. وإن رسالاته التي يحملها أنبياؤه، ينبغى أن تأخذ مكانها من قلوب المؤمنين، وأن تنزل منها كما ينزل الماء من السماء، فتحيا به الأرض، وتعمر الدنيا.. وإنه كما يعمل العاملون في الانتفاع بهذا الماء وتمهيد الأرض له، وبذر الحب فيها- كذلك ينبغى أن يعمل المؤمنون في حقل الإيمان، على حراسة هذا الإيمان وتعهده، حتى يؤتى ثماره، ويملأ حياة الناس خيرا وأمنا.
وفى قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}.
وفى التعبير عن إنزال الماء بالفعل الماضي، وعن اخضرار الأرض بالفعل الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل- في هذا إشارة إلى القرآن الكريم، الذي نزل، وإلى ثماره التي لا تنقطع أبدا، وأنه سيظل هكذا قائما في الحياة، يروى القلوب، ويحيى موات النفوس، ويفيض الخير والبركة على الإنسانية إلى يوم الدين.. لقد نزل القرآن، وتلقى الذين شهدوا نزوله ما قدّر اللّه لهم من خيره ونوره، وهداه.
وسيظل هكذا نورا قائما في الناس، وخيرا ممدودا لهم، يهتدون به، ويصيبون من خيره، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} إشارة إلى لطف اللّه بعباده، ورحمته بهم، حيث ينزل إليهم من السماء ماء يحيى موات أرضهم، ويحفظ حياة أجسامهم، كما ينزل إليهم من السماء آيات بينات، تحيى موات قلوبهم، وتحفظ صفاء أرواحهم.. وأنه سبحانه {خَبِيرٌ} بما يصلح أمر الناس، ويحفظ وجودهم المادي والروحي جميعا.
قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
هو بيان لفضل اللّه على عباده، وأنه غنى عنهم، له ما في السموات وما في الأرض، فالناس- وهم بعض ما في الأرض- ملك له، وما ينزله عليهم من السماء هو فضل من فضله، لا يريد به سبحانه من الناس إلا أن يحمدوه ويشكروا له: {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [57: الذاريات].
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
الخطاب هنا لكلّ ذى نظر وعقل.. حيث يرى فضل اللّه في هذه الكائنات التي سخرها اللّه للإنسان، وجعلها مستجيبة له، إذا هو تجاوب معها ووجه قواه إلى الإفادة منها، وذلك بالتعرف على الطريق الذي يوصله إليها، ويضع يده على موضع الخير منها.
وقوله تعالى: {الْفُلْكَ} معطوف على {ما} أي وسخر لكم ما في الأرض، وسخر لكم الفلك تجرى في البحر بأمره.
وقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} إيقاظ لمشاعر الإنسان ومدركاته، ليمدّ بصره إلى ما فوق هذه الأرض، بعد أن يثبت قدمه عليها، فينظر في ملكوت السماء.. وعندئذ يرى أن هذا السقف المرفوع فوقه، تمسكه قدرة اللّه، وأنه لولا هذه القدرة لسقط على الأرض، وأهلك كل حىّ فيها.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} إشارة إلى أن هذه السماء المرفوعة المحفوظة بقدرة اللّه، هي خاضعة لإرادة اللّه، وأنه من الممكن أن يأذن اللّه لها بأن تسقط على الأرض!- وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} تطمين للناس بأن السماء لن تقع عليهم، وذلك لرحمته سبحانه وتعالى ورأفته بعباده.
ومع هذا كله، فإن كثيرا من عباده يجحدون نعمة اللّه، ويكفرون به، ويعبدون غيره.. من أحجار، وحيوان، وإنسان! وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ}.
فى هذه الآية تذكير للناس بتلك النعمة الكبرى، نعمة الحياة.. فقد كان الناس عدما، أو ترابا في هذا التراب.. ثم إذا هم هذا الخلق السوىّ العاقل، المدبّر، الصانع! ثم إذا هم تراب مرة أخرى.. ثم إذا هم يلبسون حياة لا موت بعدها، وبهذه الحياة تتم النعمة، نعمة الحياة.. ذلك أنه لو كانت الحياة الدنيا هي كل حياة الإنسان لكانت نعمة ناقصة، بل إنها تكون نقمة لما فيها من معاناة، وأعباء، وشدائد، يلتقى بها الإنسان في مسيرة الحياة الدنيا، من المولد إلى الممات.
إن الحياة الدنيا هي إعداد للحياة الأخرى، إنها زرع، والأخرى حصاد لثمر هذا الزرع، ومن هنا كان لابد من الحياة الآخرة، حتى تكون الحياة نعمة تستوجب الحمد والشكران للّه.
ولهذا جاء قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} تعقيبا على تلك النعمة، وتنديدا بالإنسان وكفره وجحوده لها، إذ لم يؤد مطلوب اللّه منه في هذه الحياة الدنيا، الموصولة بالحياة الآخرة.

.تفسير الآيات (67- 72):

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ}.
المنسك: الشريعة، والجمع مناسك، وهى مراسم الشريعة، وأحكامها، وحدودها.
والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى، جعل لكل أمة من الأمم، شريعتها التي تلائم ظروفها وأحوالها، وذلك رحمة من اللّه سبحانه، بعباده، إذ لو أخذهم اللّه جميعا بشريعة واحدة منذ بدء الخليقة، لكان في ذلك إعنات لهم، وتضييق عليهم، إذ يصبحون بهذه الشريعة في حال من الجمود، لا يتحركون معه إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء.. والحياة الإنسانية تتحرك دائما، متقلبة الأحوال.. وهى في حركتها وتقلبها تتجه إلى الأمام دائما.. فكان من حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، أن جعل شرعة فيهم مناسبا لظروفهم وأحوالهم، يلقاهم أمّة أمّة، وجماعة جماعة، فيعطى كل أمة وكل جماعة، ما يصلح لها، ويسدّد خطوها على طريق الحياة.
وفى قوله تعالى: {هُمْ ناسِكُوهُ} إشارة إلى أن كل أمة ترتبط بشريعتها التي شرعت لها، وتجرى محاسبتها عليها.. كما يقول سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} [48: المائدة].
وقوله تعالى: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي أن الشريعة التي بين يديك أيها النبيّ هي شريعتك التي اختارها اللّه بعلمه وحكمته، لأمتك، لتكون خاتمة رسالات السماء.. فلا ينازعنك فيها أصحاب الشرائع الأخرى من أهل الكتاب، ولا يدخلون على شريعتك بما معهم من شرائع.
وفى قوله تعالى: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} إشارة إلى أن هذه الشريعة التي بين يدى محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- هي {الْأَمْرِ} أي الشرع كلّه، وأنه لا أمر ولا شرع بعد هذا.. وهذا هو السرّ في تعريف {الْأَمْرِ}.
وفى توكيد الفعل {يُنازِعُنَّكَ} الذي هو نهى لأهل الكتاب، في حضور النبيّ ومخاطبته، أمران:
أولهما: تيئيس أهل الكتاب من أن يكون لهم شأن في هذا الأمر، وأنهم إذا أرادوا أن يكون لهم شأن فيه، فليسلموا له، وليأخذوا بما جاء به، وليجعلوا ما بين أيديهم من شرع تبعا لهذا الأمر أو الشرع.
وثانيهما: عزل النبيّ الكريم عن جدل أهل الكتاب، وعن الاستماع إلى مقولاتهم، والنظر إلى ما عندهم.. إذ أن عنده الأمر كله.. ومن كان عنده الأصل، فلا ينظر إلى الفرع.
قوله تعالى: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} أي وإذا كان ذلك هو موقفك من أهل الكتاب، فلا تلتفت إليهم، ولا تنظر إلى ما يجادلونك به من شريعتهم، وادع إلى ربك بما معك من شريعة.. فإنك لعلى هدّى من ربك.. هدى مستقيم.
وفى وصف الهدى بالاستقامة، إشارة إلى ما في أيدى أهل الكتاب من شريعة غير مستقيمة، بما أدخلوا عليها من زيف وضلال.
قوله تعالى: {وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ}.
هو تأكيد للأمر الذي أمر به النبيّ بالدعوة إلى ربه.. بالكتاب المستقيم الذي معه، دون التفات إلى ما في أيدى أهل الكتاب، ودون استماع لما يلقون إليه من مسائل يريدون بها إثارة الجدل وبعث الشكوك عند المنافقين ومن في قلوبهم مرض.
فهذه الآية الكريمة، تدعو النبيّ إلى أن يمضى في طريقه، وأن يدع أهل الكتاب وما يجادلون فيه، وحسبه أن يلقاهم بقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} أي ليس لى أن أحاسبكم على افترائكم الكذب على اللّه، فإن اللّه سبحانه هو أعلم بما أنتم عليه- ظاهرا وباطنا- وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابكم وجزاءكم.
قوله تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
إمّا أن يكون من كلام النبيّ الذي أمره اللّه سبحانه وتعالى أن يقوله للمجادلين من أهل الكتاب، أي قل لهم: (اللّه أعلم بما تعملون) وقل لهم (اللّه يحكم بينكم إلخ) وعلى هذا يكون الخطاب موجها إليهم، وأن اللّه سبحانه سيحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من مقولات، فكانوا فرقا وشيعا، أو فيما اختلفوا فيه مع النبيّ، فكانوا حربا عليه، وعداوة له.
وإمّا أن يكون ذلك استئنافا، وليس من مقول القول.. وعلى هذا يكون الخطاب عاما موجها إلى الناس جميعا.. بمعنى أن اللّه سبحانه سيفصل بين الناس فيما وقع بينهم من خلاف، سوء أكان خلافا واقعا بين أهل الشريعة الواحدة، أو بينهم وبين غيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى.. ويكون هذا تعقيبا على قولة تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ}.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هو إلفات إلى سعة علم اللّه سبحانه وما يقع في محيط هذا العلم من أعمال الناس- ظاهرة وباطنة- وهو بهذا العلم يكشف مستورهم، ويحاسبهم ويقضى بينهم.
فهو سبحانه، يعلم ما في السماء والأرض.. لأن كل ما فيهما صنعته، والصانع لا يخفى عليه شيء مما صنع {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك]- وقوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ} أي أن هذا العلم الذي يحيط بأسرار الوجود كله، هو مودع في كتاب عند اللّه.. فكل ما كان أو يكون في هذا الوجود كله- في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- مودع في هذا الكتاب.. كما يقول سبحانه: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [75: النمل] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي هو أول ما خلق اللّه بعد القلم.
قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هو دفع لما يقع في بعض العقول القاصرة التي لا تعرف قدر اللّه- من شعور باستعظام هذه المعلومات التي تحصى كل شيء، وتقدّر كل شيء، لكل مخلوق، صغر أو كبر، وأخذ هذا القول على سبيل المبالغة أو التجوز.. فكان قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} تأكيدا لعلم اللّه، وسعة هذا العلم وشموله، وأن هذا الوجود كله لا يعدّ شيئا إلى علم اللّه، الذي أحاط بكل هذا الوجود ولا يحيط الوجود كله بشيء من علمه إلا بما يشاء.
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الضمير في {يَعْبُدُونَ} يراد به المشركون، الذين يعبدون آلهة دون اللّه.. ولم يكن للمشركين ذكر هنا حتى يعود هذا الضمير إليهم.. فالحديث عنهم بضمير الغيبة، إبعاد لهم، وإنكار لوجودهم في مجتمع العقلاء، الذين هم أهل للخطاب.
وقوله تعالى: {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} المراد بالسلطان هنا الكتاب السماوىّ، الذي يدعو إلى عبادة المستحق للعبادة، وهو اللّه سبحانه وتعالى.
وهؤلاء المشركون يعبدون آلهة تنكر الكتب السماوية عبادتها- فهم إذ يعبدونها فإنما يعبدون ما لا دليل في أيديهم على استحقاقه العبادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} (8: الحج)- وقوله تعالى: {وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} هو اتهام للمشركين بأنهم إنما يعبدون ما يعبدون من دون اللّه، عن هوى وضلال، وعن جهل وغباء.
فلا دليل في أيديهم من كتاب، ولا حجة معهم من علم أخذوه عن نظر ودرس في صحف هذا الوجود.. فقد يهتدى الإنسان إلى اللّه بعقله ونظره.. فإن لم يكن له عقل ونظر، فهذا كتاب اللّه، فيه الهدى لكل من ضل، والعلم لكل من جهل.. وهؤلاء المشركون، لم يكن لهم عقول ينظرون بها، أو قلوب يعقلون بها، فلما جاءهم الكتاب، ليبصّرهم من عمى، وليعلمهم من جهل، ردّوه بأيديهم، وأصمّوا آذانهم دونه.
وقوله تعالى: {وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين ظلموا الحق، فلم يطلبوه من كتاب اللّه، وظلموا أنفسهم، فلم يستعملوا حواسّهم وملكاتهم في النظر لما فيه هدايتهم، فركبوا مراكب الضلال، والهلاك.. وليس لهم من يستنقذهم من هذا الضلال، ويدفع عنهم يد الهلاك، وقد وقعوا في شباكها.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
تعرض هذه الآية صورة من عناد المشركين، وتأبّيهم على الحق، وشرودهم عن الهدى.. وذلك أنهم إذا تليت عليهم آيات اللّه، وقعت كلماتها في قلوبهم موقع النكر، فاشمأزوا منها، وضاقوا بها، وظهر على وجوههم ما اعتمل في صدورهم من حنق وغيظ، وكادت أيديهم تتحرك بالتطاول والأذى، ينالون به من يتلو عليهم آيات اللّه، ويسمعهم إياها.
هذا هو حال أهل الضلال، مع كل دعوة راشدة، وفى وجه كلّ كلمة طيبة.. إنهم يزورّون بالخير، ويضيقون ذرعا بالهدى- شأن المدمن على منكر من المنكرات.. يؤذيه الحديث الذي يكشف له عن وجه هذا المنكر، وعن سوء مغبته، وما يجرّ عليه من فساد لعقله، وجسده، وماله.
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ}.
الإشارة هنا {ذلِكُمُ} إلى المنكر الذي يبدو على وجوه الكافرين، لما يقع في نفوسهم من ضيق وأذى مما يسمعون من كلمات اللّه.. فهذا الضيق الذي يجدونه في صدورهم، هو شرّ وأذى يقع في أنفسهم.. ولكنه شرّ قليل وأذى محتمل بالإضافة إلى ما يلقون يوم القيامة من عذاب أليم.. فلو أنّهم راضوا أنفسهم على الاستماع إلى كلمات اللّه، وصبروا قليلا على هذا الدواء المرّ الذي تجده نفوسهم المريضة منه- لوجدوا برد العافية من هذا الضلال الذي هم فيه، ولآمنوا باللّه، ولنجوا من عذاب السعير، ولدفعوا بهذا الشرّ الذي يجدونه في صدورهم شرّا مستطيرا، وبلاء عظيما.. وهو العذاب الأليم في الآخرة.
وفى تسمية ما يجده المشركون من ضيق في صدورهم عند الاستماع إلى كلمات اللّه- في تسميته شرا، إنما هو بالإضافة إليهم، وحسب نظرتهم إليه.
إنهم يجدون ما تعرضه عليهم آيات اللّه من دواء لدائهم، وهو الشرّ الذي يصرفهم عن الحياة والعيش مع هذا الداء المتمكن منهم.
وقوله تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هو جواب على هذا السؤال الذي سئلوه من قبل في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ} ثم جاءهم الجواب على هذا السؤال، سواء طلبوا ذلك أو لم يطلبوا:
{النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي هذا الشر الذي أخبركم به، هو النار، التي وعدها اللّه الذين كفروا وأعدّها لهم.. وأنتم أيها الكافرون لا مصير لكم غير هذا المصير، وإنه لبئس المصير.