فصل: سورة المؤمنون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة المؤمنون:

نزولها: هي مكية.. إجماعا.
عدد آياتها: مائة وثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة حرف، وحرف.
بسم اللّه الرّحمن

.تفسير الآيات (1- 11):

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)}.
التفسير:
يلتقى بدء هذه السورة مع خاتمة سورة الحج قبلها.. فقد ختمت سورة الحجّ، بهذا الخطاب العام للمؤمنين، الذين اصطفاهم اللّه واجتباهم، وقد تضمن هذا الخطاب دعوة إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاعتصام باللّه.. ثم ختم بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وبدء سورة: المؤمنون بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ...} إلى آخر الآيات- هو استقبال كريم لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا إلى اللّه، واستجابوا لدعوته، وآمنوا به.. فهؤلاء المؤمنون، قد أفلحوا، وفازوا برضوان اللّه.. وكان هذا الخبر من معجّل البشريات لهم في هذه الدنيا.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين، أنهم في صلاتهم خاشعون.. أي يؤدّون صلاتهم في خشوع، وخشية، وولاء.. إنها صلاة تفيض من قلب خاشع لجلال اللّه، راهب لعظمته، فكيان المؤمن كله، ووجدانه جميعه، وهو قائم في محراب الصلاة- مشتمل عليه هذا الجلال، مستولية عليه تلك الرهبة.
ومن أجل هذا كان لتلك الصلاة الخاشعة الضارعة أثرها العظيم، في إيقاظ مشاعر الخير في المصلين، وفى تصفية أنفسهم من وساوس السوء.. فهم لهذا:
{عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي لا يقبلون اللّغو، ولا يتعاملون به.. فإذا نطقوا، نطقوا خيرا أو سكتوا، وإذا سمعوا، سمعوا حسنا أو انصرفوا.. إنهم- وقد صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم- ليعافون موارد اللّغو، من القول التافه، أو الحديث الباطل.
ثم هم {لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} أي يؤدون زكاة أموالهم، ويشاركون الفقراء والمحتاجين فيما رزقهم اللّه من فضله، فلا يضنّون بما في أيديهم، ولا يؤثرون أنفسهم بما معهم.
وفى التعبير عن أدائهم للزكاة، بأنهم فاعلون لها- إشارة إلى أن الزكاة ليست من نافلة الأعمال، التي تصدر عن غير وعى أو شعور من الإنسان، بل إنها شيء عظيم، يحتاج إلى يقظة كاملة ممن يؤديها.. وذلك من وجوه:
فأولا: نظره إلى المجتمع الذي حوله، وإلى الجوانب الضعيفة منه، وإلى ذوى الضرّ والحاجة من أفراده، فيعمل على سدّ هذا الخلل، وتقوية تلك الجوانب ودعمها، بما بين يديه من مال.
وثانيا: نظره إلى هذا المال الذي في يده، وحمل نفسه على السّماح والبذل في كل وجه نافع طيب.. وذلك حتى لا تغلبه نفسه على الضنّ به، والوقوف عند حدّ الزكاة الواجبة.
ومن هنا كانت الزكاة فعلا أي عملا جادّا، يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه العمل الجادّ، من إمعان نظر، وبذل جهد.. وليست مجرد صدقة طارئة، تطرق المتصدق بين الحين والحين، أو تلقاه على رأس كل عام، وإنما هي فعل متصل، يشغل به الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته.. وبذلك يكون على صلة دائمة بالمجتمع الذي يعيش فيه.. يحسّ بإحساسه، ويتحرك معه في الاتجاه الذي يتحرك فيه، ويحمل هموم ذوى الحاجات والهموم من جماعة المسلمين.. وفى الحديث: «من لم يحمل همّ المسلمين فليس منهم».
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنّهم {لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} أي أنهم كما حفظوا ألسنتهم عن اللغو، وكفوا جوارحهم عن الشر والأذى- حفظوا فروجهم من الدّنس، ولزموا بها جانب العفّة والطهارة.
وقوله تعالى: {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} هو استثناء من حفظ الفروج عن الاتصال بالنّساء، والتعفف عنهن.
فليس هذا على إطلاقه، وإنما لفروجهم ما أحلّ من أزواج، ومما ملكت اليمين من جوار.. فهذا لا لوم عليهم فيه.. تماما كالإمساك عن اللغو من الكلام، مع إباحة الحديث الطيب من القول.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ما يشعر برفع الحظر عن أمر كان محظورا، وبدفع اللوم عن أمر كان إتيانه موضع لوم.. فكيف هذا؟ واللّه سبحانه وتعالى جعل الصلة بين الرجل والمرأة من النعم التي أنعم اللّه بها على عباده، فقال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}؟ (21: الروم) والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن الإنسان في صورته الحيوانية، مباح له إباحة مطلقة، أن يتصل بالمرأة أيا كانت، شأنه في هذا شأن الحيوان في اتصال الذكر بالأنثى.. بلا قيد ولا حد.
ولكن الإنسان، الذي يندسّ في كيانه هذا الحيوان، قد أراد اللّه سبحانه له، أن يعلو بإنسانيته، ويرتفع إلى مستوى كريم، يكون فيه أقرب إلى العالم العلوي منه إلى العالم الأرضى.. وذلك لا يكون إلا بأن يخرج من مسلاخ الحيوان، أو يقتل هذا الحيوان المندسّ في كيانه.. وذلك من مظاهره ألا تكون صلته بالأنثى شبيهة بصلة الحيوان، المطلقة من كل قيد..!
ولكن الإنسان مهما يكن، لا يمكن أن ينسلخ من الجانب الحيواني الذي فيه، وهو على هذا التركيب الجسدى، الذي تتحرك فيه شهوة داعية إلى اتصال الرجل بالمرأة.
فكان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن وقف بالإنسان موقفا وسطا، يأخذ فيه وضعا ملائما للإنسان والحيوان معا.. فقيد الإنسان بهذا القيد الذي ألزمه حدود إنسانيته، ثم نفّس عنه بعض الشيء، فجعل لهذا الجسد في الإنسان حظّه من المرأة في حدود مرسومة لا يتعداها، وهو أن يتخذ له امرأة، أو أكثر إلى أربعة، ممن أحلّ اللّه له.. أو ما يشاء من النساء، ممن ملكتهن يده! الأصل إذن، الحرمة المطلقة في اتصال الرجل بالمرأة عموما.. ثم الإباحة في هذا النطاق الضيق المحدود..! أو قل: الأصل هو الإباحة المطلقة من كل قيد، ثم هذا القيد الوارد على هذا الإطلاق.. وذلك حسب أي النظرتين بنظر بها إلى الإنسان.. فإن نظر إليه على أنه إنسان يسمو بإنسانيته عن الانتساب إلى عالم الحيوان- كان على مستوى التقدير الأول، وإن نظر إليه على أنه حيوان، يريد أن يتحسس طريقه إلى الإنسان- كان على مستوى التقدير الثاني.
وانظر: إنه لو ترك للإنسان الحبل على الغارب، لكان له أن يتصل بأية امرأة يريدها ويشتهيها.. وهذا من شأنه أن يجعل جميع النساء مباحات له.
يتصل بهنّ، بوسيلة أو بأخرى.
وهذا القدر المحدود المباح له من النساء، هو استثناء من هذا الحظر العام، وهو بالقياس إلى الحظر العام، لا يكاد يعدّ شيئا، يحسب حسابه. حتى لكأن الحظر العام قائم.
فقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تذكير بهذه النعمة، التي أتاحت للإنسان أن يتصل بالمرأة في هذه الحدود، وهى وإن وجدها ضيقة، لا تشبع جوعه الحيواني، فإن عليه أن يذكر أنه إنسان، وأنه كان من مطلب الجانب الروحي منه، ألا يكون هناك هذا المنفذ الذي ينفذ منه إلى المرأة.. ومع ذلك فإنه غير ملوم في الاتصال بالمرأة في هذه الحدود، وإن جار هذا على الجانب الروحي منه، وهذا كله يعنى القصد في هذا الأمر، والاعتدال فيه، وألا يكون الإنسان على سواء مع الحيوان! وفى قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} تحذير من مجاوزة هذه الحدود، والانطلاق إلى ماوراءها، فإن ذلك هو دخول في عالم الحيوان باربعة أرجل، وهو عدوان على إنسانية الإنسان، واعتداء على حدود اللّه! قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} هو من صفات هؤلاء المؤمنين الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بالفلاح.. فمن صفات هؤلاء المؤمنين- مع ما وصفوا به من قبل- أنهم يرعون الأمانات، ويحفظون العهود.. ومنالأمانات، والعهود، هذه التكاليف التي كلّف بها الإنسان، وهذه الأوامر التي أمر بها.. ورعاية هذه التكاليف، وتلك الأوامر، هو القيام عليها، والتزام حدودها.. والخروج عليها، هو عدوان عليها، وعلى اللّه سبحانه! قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ} هو من صفات المؤمنين المفلحين أيضا.. وهو محافظتهم على الصلوات، وأداؤها في أوقاتها، بعد أن وصفوا من قبل بأنّهم في صلاتهم خاشعون.
وقدمت الخشية في الصلاة، على المحافظة عليها.. لأن الخشية هي المطلوب الأول من الصلاة، وأن صلاة بغير خشوع وخشية، لا محصّل لها، ولا ثمرة منها.
قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
هو بيان للجزاء الحسن، الذي يجزى اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين وصفوا بهذه الصفات، وهو ما يكشف عن فلاحتهم، وفوزهم، وإنه لا فلاح أعظم من هذا الفلاح! ولا فوز أكرم من هذا الفوز..!
وأي فلاح أعظم، وأي فوز أكرم، من أن تكون الجنة ميراثا خالدا أبدا، يعيش فيه أولئك المؤمنون المفلحون!

.تفسير الآيات (12- 22):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة من متفتح السورة إلى هذه الآية، قد كانت عرضا، مسعدا للمؤمنين المفلحين، الذين آمنوا باللّه، واستقاموا على طريقه المستقيم.. وفى مقابل هذا العرض كانت تتراءى صورة الضالين والغاوين، الذين كفروا به، وحادوا عن سواء السبيل.. وإلى هذه الصورة كانت تتطلع كثير من النفوس إلى هيئتها التي تكون عليها، لو أنها أطلّت بوجهها، وكشفت عن حال أصحابها، كما كشفت الصورة السابقة عن المؤمنين، وعن حالهم الطيبة المسعدة.. فالمؤمنون باللّه ينظرون إلى من خلّفوهم وراءهم على طريق الكفر والضلال، ليروا ما صنع اللّه بهم.. وغير المؤمنين، ينظرون إلى مكانتهم بعد أن رأوا المؤمنين، وقد ورثوا جنات النعيم.
ولكن كان من رحمة اللّه بهؤلاء الضالين الغاوين، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية.
وبدلا من أن يكشف اللّه لهم عن حالهم السيئة، وينزلهم منازل الهون والبلاء- دعاهم إليه، ومنحهم فرصة أخرى، يراجعون فيها أنفسهم، ويتدبرون حالهم، ويرجعون إلى اللّه من قريب، ليكونوا في المؤمنين المفلحين، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته.. يجدونها- لو عقلوا- في أقرب شيء إليهم.. في أنفسهم، وفى عجائب قدرة اللّه، وبالغ حكمته.
إذ أخرج من التراب هذا الإنسان، السميع البصير، العاقل، الناطق، الذي عمر هذه الأرض، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها.
ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه، وإلى أصل نشأته، وتطوره في الحياة، وتنقله في الخلق- في هذه النظرة، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة، هي التي أوجدته، وأخرجته على هذه الصورة، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه.. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة للّه فيه؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء؟ ثم كيف يعطى يديه، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها، أو لحيوان يربيه، أو لإنسان هو مخلوق مثله؟ ذلك ضلال مبين.
وانحدار سريع إلى عالم التراب، مع الهوام والحشرات! قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}.
السلالة: الأصل، وكأنها السلسلة التي يمتد عليها أصل الشيء، ويصل بين مبدئه وغايته، وهذا يشير إلى أن الإنسان قد مرّ في أطوار كثيرة بين عالم التراب، وسار مسيرة طويلة في سلسلة متصلة الحلقات.. من التراب إلى الطين، ثم من الطين إلى الحمأ المسنون، ثم من الحمأ المسنون إلى الصلصال، كما يقول تعالى على لسان إبليس- لعنه اللّه-: {قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [33: الحجر].. ثم من هذا الصلصال إلى عالم النبات.. من الطحالب.. إلى النخلة، ثم من عالم النبات إلى الحيوان، من الجرثومة.. إلى الإنسان..!
وقد عرضنا لقضية خلق الإنسان في الجزء الأول من هذا التفسير.
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.
هو إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي أخرجته القدرة الإلهية من بين هذا التراب بشرا سويّا، ما هو إلا هذه النطفة التي اختصرت وجوده كله، واشتملت على كل ما في كيانه من قوى عاقلة، ناطقة، مبصرة، سميعة، مريدة، فما النطفة إلا الإنسان مضمرا في كيانها، وما الإنسان إلا النطفة سابحا في محيطها متحركا في فلكها.
والقرار المكين، المودعة فيه النطفة، هو الحبل المنوىّ، الذي يمتد بين فقار الظهر، وأضلاع الصدر، كما يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} [5- 7: الطارق].
وقد يكون القرار المكين، هو الرحم الذي تستقرّ فيه النطفة.
وبين خلق الإنسان من طين، وبين جعله نطفة في قرار مكين، مقابلة، بين نشأة الإنسان الأول من الطين، وبين عملية التوالد، التي هي وظيفة عضوية من وظائف هذا الإنسان.
فالنشأة الأولى، من التراب.. وفى هذا التراب كانت تكمن جرثومة الإنسان الأول كما تكمن النطفة في هذا القرار المكين من الإنسان.
ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ الخلق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ}.
أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة في مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. في عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل: {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً}.
والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى: {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} [8- 11 النبأ].
قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}.
تقصّ هذه الآية قصة خلق الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى في قرار مكين.. هو الرّحم.
وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين:
فأولا: جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. {خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}.
وثانيا: جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ جعل.
{ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.
وهنا في هذه الآية- وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز- هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل.
وهذه الأطوار، هي في الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما في كيانها..!
وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب الجعل لا الخلق لأن النطفة ذاتها مجعولة وكل ما تعطيه هو من المجعول أيضا.
ولكن النظم القرآنى، خالف هذا، وجاء بالتعبير عن الجعل بلفظ الخلق.
فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}.
والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}.
وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً}.
فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟
السرّ في هذا- واللّه أعلم- أن كلّ عملية من هذه العمليات، هي خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته الخالق وأبى على خلقه أن يشاركوه في هذه الصفة.
ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها- وإن اجتمعت- أن تنتقل بالإنسان في هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس- ولو اجتمعت- لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا.
إنها جميعها- كما قرر القرآن- عمليات خلق، استأثر بها الخالق.
وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي في كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء- مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء- بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان.
نقول هذا، لا لنحجر على العلم، ولا لنقف في طريق العلماء، الذين يحاولون الوصول إلى خلق الكائن الحىّ.. بل نحن ندعو العلم، ونهيب بالعلماء أن يجروا في هذا الميدان إلى غايته، وأن يتحدّوا هذه المعجزة المتحدية.. فتلك هي دعوة القرآن للكشف عن إعجازه، والدعوة إلى الإيمان بأنه تنزيل من ربّ العالمين.
وقد عرضنا لهذه القضية في مبحث خاص، تحت عنوان: الخالق وما خلق في تفسير الجزء السابع عشر، من القرآن الكريم.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} إشارة إلى نفخة الروح في الإنسان، بعد أن يتخلّق، ويتم تصويره على الصورة الإنسانية.. فهو قبل هذه النفخة كتلة من اللحم والعظم.. حتى إذا نفخ فيه الخالق من روحه، أصبح كائنا حيّا، ودخل في عالم الإنسان!- وقوله تعالى: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} هو تمجيد للّه، وتسبيح بجلاله وعظمته، يقولها الحق سبحانه وتعالى ممجدا ذاته، ويقولها الوجود كلّه، تسبيحا، وصلاة، وحمدا للخالق المبدع المصوّر.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ}.
وهذه حقيقة واقعة، يعلمها الناس ويقعون في دائرة تجربتها.. فهى- والحال كذلك- في غير حاجة إلى أن يخبر عنها، ثم إذا كان لابد من الإخبار بها، فهى في غير حاجة إلى توكيد.
ولكن جاء القرآن مخبرا عنها، ومؤكدا لها.. وذلك لأن الناس- وإن كانوا على علم واقع بهذه الحقيقة- ذاهلون عن الموت، غافلون عنه، حتى لكأنهم لن يموتوا أبدا.. فلقد غرّتهم الدنيا، وألهاهم متاعها، وشغلهم غرورها، فكانت هذه النخسة من القرآن الكريم، إيقاظا لهؤلاء النيام، الذين هم في غمرة ساهون، والذين هم في خوضهم يلعبون.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ}.
إن الموت ليس هو نهاية الإنسان، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده، وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر.. فيه حساب وجزاء.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ}.
الطرائق: جمع طريقة- وهى الطبقات.. بعضها فوق بعض.. والسبع الطرائق: السموات السبع.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً} [15: نوح].
فالسّموات، ليست كما تبدو في مرأى العين، سقفا جامدا، وإنما هي طبقات من الأثير، بعضها فوق بعض، كما أن الأرض طبقات من المادة الكثيفة.. بعضها فوق بعض كذلك.. طبقة قشرية من تراب.. ثمّ تحتها طبقات من أحجار، ومعادن.. وغيرها، مما لم يبلغه علم الإنسان.
وفى قوله تعالى: {وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، إذ يخلق ما يخلق، فإنه- سبحانه- يقوم على أمر هذا الخلق وتدبيره، ويمسك نظامه، ويحفظ وجوده.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}.
فهو وحده- سبحانه- الذي يخلق، وهو وحده- جل شأنه- الذي يدبّر أمر ما خلق.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ}.
هو بيان لقوله تعالى: {وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ}.
وذلك أن اللّه- سبحانه- الذي خلق الإنسان، لم يدعه وشأنه، بل تولّى أمره، ودبّر شئونه، فأنزل هذا الماء الذي هو ملاك حياة كل حىّ، من نبات وحيوان.
وأن هذا الماء لم ينزل إلا بحساب، وتقدير، فكان على قدر ما يصلح به الناس، وتصلح به حياتهم.. وأنه لو كان أقلّ مما هو، لهلك الناس، وفسدت حياتهم، ولو كان أكثر مما هو، لهلك الناس، وذهب العمران.
وفى قوله تعالى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى أمور.
أولها: استقرار الماء في الأرض، ولزومه إياها، وجعلها سكنا له، يألفها، وتألفه، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر أبدا، حتى لكأنهما كائنان من عالم الأحياء، يتزاوجان تزاوج الذكر والأنثى.
وثانيهما: أن إسكان الماء في الأرض، إنما هو لرسالة يؤدّيها في الحياة، شأنه في هذا شأن الإنسان، الذي أسكنه اللّه هذه الأرض، وجعله خليفة فيها.
وهذا هو بعض السرّ في التعبير عن استقرار الماء في الأرض، بالسكن فيها.
وثالثهما: أن تعدية الفعل {فَأَسْكَنَّاهُ} بحرف الجرّ {فى} الذي يفيد الظرفية- هذه التعدية تعنى جريان الماء في الأرض، ونفوذه إلى أعماق بعيدة فيها، وأنه بهذا يأخذ وضعا متمكنا منها، بحيث لا يعرض له من العوارض، ما يجليه عنها، أو يقطع صلته بها.
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} إلفات إلى تلك النعمة العظيمة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس إلا في أحوال نادرة، حيث ينقطع الماء عنهم.. فهذه النعمة التي يجدها الإنسان بين يديه من غير أن يبذل لها جهدا، هي أثمن وأغلى شيء في هذه الحياة، وأن الإنسان ليقدّم كلّ ما يملك في هذه الدنيا في مقابل شربة من الماء، تمسك عليه حياته، إذا حرم الماء في حال من الأحوال.
روى أن أحد الزهاد دخل على الرشيد، فعتب عليه الرشيد أنه لم يطلب منه شيئا.. فقال الزاهد: وماذا في يدك حتى أطلب منك؟
فقال الرشيد: هذه خزائن مالى، وهذه الأمصار.. فاطلب من المال ما تشاء، واختر أي مصر أقيمك واليا عليه! فقال الزاهد: وكم يساوى ما في خزائنك من مال؟ وكم يقدّر لأمصارك وولاياتك من ثمن؟
فقال الرشيد: إنه كثير كثير.. كما ترى.
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. بكم تشترى شربة الماء إذا اشتدّ بك العطش. وأنت في متاهة، ولا ماء معك؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه، ولو كان معى مثله لبذلته.
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. وبكم من ملكك تدفع عن نفسك شربة الماء إذا احتبست في داخلك، ولم تخرج من مخرجها؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه.. ولو كان معى ضعفه لخرجت منه!! فقال الزاهد: هذا ملكك يا أمير المؤمنين.. كما رأيت.. فماذا أطلب مما ملكت؟
فلو أن الناس ذكروا أدنى نعم اللّه عندهم، لوجد أشدّهم فقرا أنه في غنى عريض، وملك كبير، ولبات مع القليل الذي في يده، على رضا وحمد للّه ربّ العالمين.
قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ}.
هو بيان لبعض وجوه النفع التي ينتفع بها الإنسان من هذا الماء، الذي أنزله اللّه سبحانه وتعالى من السماء، وأسكنه في الأرض، وأبقاه ولم يذهب به.
فمن هذا الماء- فضلا عن حياة الإنسان به، وإرواء ظمئه- ينبت النبات والشجر، ويخرج الحب والفاكهة.
وفى اختصاص الجنّات بالذكر، لأنها الصورة الكاملة التي تجمع مختلف الزروع، من الفاكهة وحبّ الحصيد.
وفى اختصاص النخيل والأعناب من بين أشجار الفاكهة، لأنها أعلى درجات النبات صعودا إلى الكمال في عالم النبات.. فهاتان الشجرتان على قمة العالم النباتي، حيث تلامسان عالم الحيوان.. وقد تحدثنا عن النخلة في بحثنا عن خلق آدم، في الجزء الأول من هذا التفسير، وأشرنا إلى معنى الحديث الشريف: «أكرموا عماتكم النّخل.. فإنهن خلقن من طينة آدم».
قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}.
المراد بالشجرة هنا شجرة الزيتون.. وقد جاءت منكرة للتنويه بها، وبأنها في تنكيرها أعرف من كل معرّف.. وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى بارك عليها، فقال تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [35: النور].
وهى منصوبة بالعطف على {جَنَّاتٍ}.
على تقدير وأخرجنا لكم به جنات من نخيل وأعناب وشجرة.
وفى وصفها بأنها {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ} مع أنها تخرج من مواطن كثيرة من الأرض- إشارة إلى أنها ولدت أول ما ولدت في هذا الموطن المبارك، طور سيناء.. فذلك هو مسقط رأسها الأول، وذلك هو الرّحم الطاهر الذي خرجت منه.. فكل أشجار الزيتون ممسوسة بنفحة من هذه الأمّ التي ولدتها تلك الشجرة التي تفتق عنها رحم هذا المكان الطاهر المبارك.
وقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تنبت وفى كيانها الدهن، وهو الزيت الذي يخرج منها، ويعصر من ثمارها.
وقوله تعالى: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}.
معطوف على الدهن، والصبغ الإدام، الذي يصبغ اللقمة من الطعام حين تغمس في الزيت، فتصطبغ به، وتتلوّن بلونه، وتصبح مشتهاة للآكلين.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ}.
هو إلفات إلى هذه الأنعام المسخرة للإنسان، وما فيها من منافع كثيرة له.
وأعجب ما في هذه الأنعام، هذا اللبن الذي يخرج من بطونها، من بين فرث ودم.. فلا يأخذ من لون الدم، أو ريح الفرث شيئا، على حين أنه يجرى بينهما، ويأخذ مسلكه الدقيق معهما.. ففى ذلك شاهد من شواهد قدرة اللّه وإحكام تدبيره وتفرّده سبحانه بالخلق والتدبير.
قوله تعالى: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}.
أي أن من هذه الأنعام ما يتخذ للركوب ولحمل الأثقال، كما تتخذ الفلك مراكب للانتقال وحمل الأثقال.