فصل: تفسير الآيات (23- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (23- 30):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
كان ذكر نعمة الفلك في الآية السابقة في قوله تعالى: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}.
مناسبة قوية تذكّر بقصة نوح عليه السلام، وبالسفينة، التي جعلها اللّه مركب نجاة له، ولمن آمن معه.. وأن هذه السفينة لم تكن إلا نعمة من نعم اللّه، نجا عليها من آمن به.. وكذلك كل نعمة من نعم اللّه الكثيرة التي في أيدى الناس، هي فلك نجاة، يسلك بها الإنسان طريقه إلى اللّه، ويستدل بها على قدرته وحكمته، فيؤمن به، ويبتغى مرضاته، وبهذا ينجو من سخطه وعذابه، الواقع بالظالمين المكذّبين.
وقد جاء نوح إلى قومه يذكّرهم باللّه، ويدعوهم إلى الإيمان به وحده، ويحضهم على تقواه: {أَفَلا تَتَّقُونَ}.
وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكريمة، ما جاء في قوله تعالى: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ}.
إنها فلسفة مريضة، وسفاهة عمياء.
{ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}.
هكذا رأى القوم- بجهلهم وغبائهم- في هذا الداعي الذي يدعوهم إلى اللّه.. إنه طالب سلطان عليهم واستعلاء فيهم، بهذا الموقف الذي يقفه منهم.. إذ كيف يقودهم فينقادون؟ ويدعوهم فيستجيبون؟ وهو واحد منهم لا فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه هذا السلطان فيهم؟ ومن أين كانت له هذه الكلمة عليهم؟ إنّها لا أكثر من دعوى يدّعيها، وإنه لا أكثر من قول يقوله: أنا رسول اللّه إليكم!! وإذا كان للّه رسل، فلم لم يكونوا من الملائكة، وهم أقرب إلى اللّه، وأكثر اتصالا به؟
وإذن فالقوم كانوا يعرفون اللّه، ويعرفون أن للّه سبحانه وتعالى ملائكة.
نعم، ولكنهم كانوا أشبه بمشركى العرب.. يعرفون اللّه هذه المعرفة المطموسة بتلك التصورات الفاسدة، التي لا ترتفع بجلال اللّه إلى ما يليق به من تنزيه عن الصاحبة، والشريك، والولد.
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}.
وهذا حكمهم على نوح.
إنه رجل مخبول، يهذى بهذا الكلام الذي يقوله لهم، ويحدثهم به عن اللّه.. وإذن، فمن الحكمة- حكمة السفهاء- أن ينتظروا قليلا، حتى يروا ما وراء هذا الجنون.. أهو عارض فيشفى منه صاحبه، أم هو متمكن منه، ولا شفاء له.. وإذن فسيكون لهم معه شأن غير هذا الشأن! قوله تعالى: {قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ}.
وإنه ليس أمام نوح مع هذا العناد الأعمى، إلّا أن يستنصر بربه، وأن يطلب الانتقام له من هؤلاء الذين كذّبوه، وبهتوه، وتوعدوه بالبلاء والنكال.
وقوله {بِما كَذَّبُونِ} أي انصرني بما كذبون به، من سلطانك وبأسك وقوتك.. فالباء للاستعانة، وليست للسببية.
قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
هذا هو جواب اللّه لنوح فيما سأله إياه.. أن يصنع الفلك على حسب ما يتلقّى من توجيه ربه، ووحيه له، وأن يسلك أي يدخل وينظم فيها من كل حيوان نافع له، زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، وأن يأخذ أهله معه، إلا من سبق عليه القول منهم، فلم يكن من المؤمنين باللّه.
وقوله تعالى: {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} هو تثبيت لقلب نوح، وعزاء له في أهله الذين سيخلّفهم وراءه للهلاك غرقا.. فهذا أمر اللّه فيهم، وحكمه عليهم.. وليس لأمر اللّه مردّ، ولا وراء حكمه معقب، وإنه ليس عند المؤمنين باللّه إلا الاستسلام والرضا.
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
هو وعد من اللّه سبحانه وتعالى لنوح بالنجاة من هذا الطوفان المخيف، وأن هذه الرحلة التي سيخوض فيها بسفينته غمرات هذا الطوفان، هي رحلة مأمونة، عاقبتها السلامة والنجاة، وحقّها الحمد والشكران للّه ربّ العالمين.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}.
هو تلقين لنوح بتلك الدعوة المباركة، التي يدعو بها ربّه، وهو في طريق العودة إلى اليابسة، بعد أن تنهى السفينة دورتها على ظهر هذا الطوفان، حتى يهيئ اللّه له مكانا خيرا من هذا المكان الذي شهد فيه عناد قومه، ورأى مصارعهم، وقد اشتمل عليهم الطوفان.
وهذا يعنى أن بعض الأمكنة أفضل من بعض.. بعضها ينبت الشوك والحسك، وبعضها يخرج زروعا ناضرة، وجنات مثمرة.. كذلك بعضها يلد الكرام من الرجال وبعضها يلد الأنكاد المشائيم منهم.. وهذا ما نجده في قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً}.
وليس ينكر أثر البيئة في تكوين شخصية الإنسان، وفى تلوين صبغته الظاهرة والباطنة.. فأهل البادية غير أهل الحضر، وسكان البلاد الحارة غير سكان البلاد المعتدلة.
ولحكمة عالية، وسرّ عظيم، كان اختيار الجزيرة العربية مطلعا لرسالة الإسلام الخالدة، واختيار رسولها من نبت هذه البادية، ومن زهرها الطيب الكريم.. وقد عرضنا لهذا الموضوع في كتابنا: النبيّ محمد صلى اللّه عليه وسلم.
تحت عنوان: مكان الدعوة وزمانها.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}.
الإشارة هنا إلى هذا الحدث، وما كان فيه من هلاك القوم الظالمين، ونجاة الرسول ومن آمن معه.. ففى هذا الحدث آيات، وشواهد على قدرة اللّه، وإحاطة علمه بما يقع من عباده من طاعة أو عصيان.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}.
إن هنا مخففة من إنّ الثقيلة.
والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء والاختيار أمرا لازما يؤخذ به عباده، حتى ينكشف حالهم، ويأخذ كل منهم مكانه في هذا الابتلاء.. فإرسال الرسل إلى الناس، ودعوتهم إلى الإيمان باللّه، وإتيان ما يفرضه عليهم الإيمان من واجبات، هو ابتلاء، يتكشف آخر الأمر عن مؤمنين وكافرين، وناجين وهلكى.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} [31: محمد].

.تفسير الآيات (31- 41):

{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}.
أي وبعد نوح أرسل اللّه سبحانه وتعالى رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فكان الموقف واحدا {كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ}.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا}.
إشارة إلى أن عملية الخلق ليست عملية آلية، كما تبدو من التوالد بين الأحياء، وإنما تتجلّى قدرة اللّه سبحانه وتعالى في خلق كل مخلوق، صغر أم كبر- فميلاد المولود هو خلق، وإنشاء مستقلّ.. تماما كما خلق الإنسان الأول من تراب، فكذلك خلق الإنسان المولود منه.. هو من تراب أيضا.. حيث تتولد النطفة من مادة المأكولات المتولدة من الأرض.. ثم تسير النطفة في مراحل التطور بقدرة الخالق، فتتحرك من طور إلى طور، حتى يولد المولود.
وهذا هو السر في التعبير القرآنى بلفظ {أنشأنا} بدلا من لفظ أقمنا، أو خلقنا.. ونحوهما.
والقرن الآخرون، الذين جاءوا بعد قوم نوح، هم قوم عاد وقوم ثمود.
وقد جمعهما القرآن الكريم في قرن واحد، لأنهم كانوا على شاكلة واحدة، وقد جاء قوم ثمود، خلفا لقوم عاد، في ديارهم ومساكنهم.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
تلك هي دعوة الرسول في القوم، سواء أكان الرسول هودا، المرسل إلى عاد، أم صالحا المرسل إلى ثمود.. إن رسول كل من القومين هو واحد منهم، وإن كلمة كلا الرسولين إلى قومه هى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
دعوة إلى عبادة اللّه، وإفراده بالعبودية وحده.. والاستقامة على ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه.
قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ}
تلك هي بعض مقولات القوم- قوم عاد وقوم ثمود معا- التي استقبلوا بها دعوة رسولهم لهم، إلى الإيمان باللّه.
والملأ: الجماعة من أشراف القوم وساداتهم.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
وفى عطف {أَتْرَفْناهُمْ} على التكذيب والكفر- في هذا إشارة إلى أن نعم اللّه التي نعمهم بها وأترفهم بالتنعم فيها- كانت عندهم عدلا للكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. أي كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وجحدوا بنعمنا التي أترفناهم بها، وكذبوا بالرسول الذي جاءهم، وأبوا أن يؤمنوا لبشر مثلهم، وعدوا هذا خسرانا وبلاء عليهم.
قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}.
هو بعض من مقولات القوم، التي ينكرون بها على النبي دعوته إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر.. فهم يستبعدون- إلى حد الاستحالة- أن يبعثوا بعد أن يموتوا، ويصبحوا ترابا ورفاتا.. كما يقول اللّه تعالى بعد هذا، على لسانهم:
{هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
إنهم بهذا يؤكدون استبعاد البعث بعد الموت، ويؤكدون أنه لا حياة إلا هذه الحياة التي هم فيها، وأنهم إنما يدورون في هذين المدارين، حياة وموت، وموت وحياة.. حيث يموت ناس، ويولد ناس.. وهكذا دواليك.. أما أن يبعث الموتى من قبورهم، ويعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فذلك ما لا تقبله عقولهم ولا يتصوره خيالهم.
إن الإيمان بالبعث فرع عن الإيمان باللّه، وبقدرته، وعلمه، وحكمته.
فإذا لم يكن إيمان باللّه، أو دخل على هذا الإيمان خلل وفساد- لم يكن أمر البعث ممكن التصور.. كما يقول الشاعر الجاهلى:
حياة ثم موت ثم بعث ** حديث خرافة يا أمّ عمرو

قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} هي قوله القومين- عاد وثمود- قالها كل قوم لرسولهم، فرموه بالافتراء والكذب على اللّه.
{قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ} وتلك هي صرخة كل من الرسولين إلى ربه، وفزعته إليه.. وقد كانت تلك هي صرخة نوح وفزعته إلى ربه من قبل: {رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ}.
{قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ}.
وقد استجاب اللّه للرسولين الكريمين، بهذا الوعيد الذي توعّد به القوم الظالمين.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الصيحة: هي الزلزلة، التي رجّت ديار القوم، وأتت على كل شيء وإذا كان عاد قد أهلكوا بريح صرصر عاتية، كما يقول اللّه تعالى: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ}.
وإذا كانت ثمود قد أهلكت بالصيحة. وقد سماها القرآن {الطاغية}.
كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} إذا كان هذا وذاك، فإن الصيحة تجمع الصفة التي هلك عليها عاد وثمود، فأنهم أهلكوا بهذا البلاء الذي صاح فيهم صيحة جمد لها الدم في عروقهم، وتصدعت لها قلوبهم، وتهاوت منها ديارهم.
وفى قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً} إشارة إلى أن ما خلّفه البلاء الواقع بهم، من ذواتهم، وديارهم، وأموالهم- لم يكن إلا ترابا وحطاما أشبه بالغثاء الذي يحمله السيل في اندفاعه، مما يجده في طريقه من مخلفات الأشياء، التي لا يلتفت إليها أحد.

.تفسير الآيات (42- 50):

{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ}.
القرون: الأمم.. والقرن من عمر الزمن مائة عام، ومن عمر الإنسانية، جيل من أجيالهم ويقدّر بثلاث وثلاثين سنة.
والإنشاء: الخلق، والإيجاد من عدم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
{ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها}: أي ما تسبق أمة أجلها.. وحرف الجرّ {من} زائد، و{أمة} فاعل.
والمعنى.. أنه بعد أن أهلك اللّه قوم عاد، وقوم ثمود، خلق من بعدهم أمما أخرى كثيرة، جاء بعضها إثر بعض.. فكان لكل أمة ميقات لميلادها ومهلكها، تماما كميقات مولد الإنسان ومهلكه.. لا تجيء أمة قبل الوقت المقدر لميلادها، ولا تستأخر عنه.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
تترى: أي تتتابع، ويجيء بعضها وراء بعض.
أي ثم أرسل اللّه سبحانه وتعالى إلى كل أمة رسولا منها.. يلقاها في الوقت المعلوم.. وكما تتابعت الأمم، وجاء بعضها إثر بعض، كذلك تتابعت الرسل وجاء بعضهم وراء بعض.
وكما خلفت كل أمة الأمة التي قبلها، في ديارها وأموالها، خلفتها كذلك في تكذيبها لرسول اللّه المبعوث إليها! ثم حل بها البلاء، وأخذها اللّه ببأسه.. كما أخذ من سبقها من أمم.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} إشارة إلى هلاك هذه الأمم المتتابعة، وزوال آثارها، فلم يبق منها إلا أحاديث يرويها الناس عنها، وعما كان منها، وما نزل بها.
وقوله تعالى: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
هو تهديد لمن لا يؤمن باللّه من الأقوام الحاضرة أو المقبلة، وعبرة بهذه الأمم التي هلكت بعذاب اللّه.
وفى التعبير هنا بقوله تعالى: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
وبقوله تعالى: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} عند التعقيب على هلاك قوم عاد وثمود- في هذا مراعاة لمقتضى الحال هنا وهناك.
فهنا تهديد لقوم يدعون إلى الإيمان، ويقفون موقفا مباعدا له، ولكنهم لم يقعوا بعد تحت عذاب اللّه الراصد للكافرين.. فحسن لهذا أن تعرض عليهم صورة الكافرين، وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا لم يخرجوا منه، كان مصيرهم البلاء والنكال.. وهناك- مع قوم عاد وثمود- قد هلك القوم فعلا، بعد أن قطعوا طريقهم مع الكفر إلى آخره.. فكانوا بهذا كافرين وظالمين غير مظلومين، إذ أخذوا بهذا العذاب البئيس، فكان وصفهم بالظلم أنسب وصف لهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ}.
عطفت قصة موسى على ما قبلها بحرف العطف {ثمّ} الذي يفيد التراخي.
وهذا الفصل بثم، بين هذه القصة وما سبقها من قصص، للإلفات إلى قصة موسى، إذ كانت، بما اشتملت عليه من أحداث، وما صحبها من معجزات- تكاد تكون مثلا فريدا بين قصص الأنبياء التي سبقتها.
والسلطان المبين الذي كان مع موسى- هو ما ضمّت عليه هذه الآيات من إعجاز قاهر غالب، يفحم الخصم، ويقهره.. وبهذا يكون له السلطان القوى المبين عليه.
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا قَوْماً عالِينَ}.
هو حال من الضمير في قوله تعالى: {فَاسْتَكْبَرُوا} أي فاستكبروا مصاحبين استعلاءهم الذي كان يملأ شعورهم بالترفع عن مستوى البشر.
فهذا الاستكبار الذي لقى به فرعون والملأ الذين معه، دعوة موسى وهرون لهم إلى الإيمان باللّه،- هذا الاستكبار، هو أثر من آثار هذا الغرور الذي استبد بعقولهم، فرأوا منه في فرعون إلها، وأنهم حاشية إله!! قوله تعالى: {فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ}؟ وهذا القول، هو من قوم فرعون، ومن الملأ الذين معه.. وليس من فرعون.. إذ أن فرعون ما كان يرى أنه من البشر، وإنما هو إله من نسل آلهة.. ولهذا قال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}! وهذه القولة من قوم فرعون شاهد يشهد بأن الناس جميعا على سواء في إنكارهم على رسل اللّه أن يكونوا بشرا مثلهم.. وأكثر ما يكون هذا عن الحسد الذي ينفس فيه بعض الناس على بعضهم، أن ينالوا شيئا من نعمة، أو جاه، أو سلطان، وأشد ما يكون الحسد، حين يكون بين المتجاورين، والمتقاربين في الدار، أو العمل.. وأنه كلما بعدت الصلات بين إنسان وإنسان، فترت أو ماتت دواعى الحسد له، والعكس صحيح.
ومن هنا صحت العبرة القائلة: لا كرامة لنبى في وطنه وذلك للنظرة الحاسدة له من قومه.
وقوله تعالى: {وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} هو من بعض تعلّات القوم على موسى وهرون، ومن الحجج التي أقاموها في دفع دعوته لهم إلى متابعته.. إذ كيف يتابعون بشرا مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يتابعون بشرا هو دونهم منزلة؟ أليس موسى وهرون من قوم هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}.
وتلك هي عاقبة من يدعى إلى الهدى فيأبى، ويلقى إليه بحبل النجاة فيأنف أن يمسك به من يد لا يراها كفئا له حسبا ونسبا، ويؤثر أن يموت غرقا على أن تكتب له النجاة، ويأخذ الحياة من تلك اليد المحقّرة عنده!.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
هو إشارة إلى قصة أخرى.. هي قصة موسى مع قومه بنى إسرائيل، بعد أن انتهت قصته مع فرعون وقومه.
ولم يجر ذكر هنا لبنى إسرائيل، وإنما جيء بضمير الغيبة عنهم بدلا منهم، إشعارا لما كان عليه القوم من عناد، وخلاف، ومكر بآيات اللّه، حتى لكأنهم- وهم يسمعون آيات اللّه، ويرون المعجزات التي يطلع بها عليهم موسى- غائبون غير حاضرين، لما في قلوبهم من قسوة، وما في طبائعهم من التواء.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}.
أي آتينا موسى الكتاب، وجعلنا ابن مريم وأمّه آية.. لبنى إسرائيل لعلهم يهتدون، وذلك أن عيسى عليه السلام هو رسول إلى بنى إسرائيل، وآية من آيات اللّه فيهم.. وتلك الآيات القاهرة المتتابعة، هي مظاهرة لحجة اللّه على هؤلاء القوم، حتى إذا لم يستجيبوا لها، كان العذاب الواقع بهم أضعافا مضاعفة، لما يحلّ بغيرهم من عباد اللّه.
وفى الإشارة إلى عيسى عليه السلام بقوله تعالى: {ابْنَ مَرْيَمَ} إشارة إلى النسب الصحيح له.. وهو أنه ابن أمّه مريم.. وليس ابن إله كما يدّعى النّصارى، ولا ابن زنا كما يفترى اليهود.. {إنه ابن مريم}! وقد اختلف في الربوة- وهى المكان المرتفع من الأرض- التي آوى اللّه سبحانه وتعالى، إليها ابن مريم وأمّه.. والراجح عندنا أنها مصر.. التي جاء إليها المسيح طفلا محمولا على صدر أمه، مع زوجها يوسف النّجار.. وذلك حين أوحى اللّه إلى مريم أن تهرب بوليدها إلى مصر، خوفا عليه من الحاكم الرومانى، الذي طلبه ليقتله، حين سمع بمولده.. كما يحدّث بذلك إنجيل متّى.
وتسمية مصر {رَبْوَةٍ} لأنها بالنسبة لأرض فلسطين أشبه بالربوة المشرفة على الوادي، وذلك لأنه كلّا من مصر وفلسطين في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.. وأن الأرض في هذا النصف تأخذ في الانحدار من الجنوب إلى الشمال، أي من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ولهذا تجرى الأنهار من الجنوب إلى الشمال في هذا النصف من الكرة.. ولما كانت مصر تقع إلى الجنوب من أرض فلسطين، فإنها- لهذا- أعلى مكانا منها، بحيث لو نظر الناظر إليهما من أفق أعلى لرأى مصر مشرفة على فلسطين كأنها ربوة عالية.
والقرار: المكان الذي يستقرّ فيه، حيث تتوفر أسباب الحياة والاستقرار والمعين: الماء الذي يفيض من العيون.. وهذا الوصف جدير أن يكون لمصر.