فصل: تفسير الآيات (51- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (51- 62):

{يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
الخطاب الموجه من اللّه سبحانه وتعالى إلى الرسل.. عليهم الصلاة والسلام- هو خطاب عام يشمل أتباع الرسل جميعا.. وقد خصّ الرسل بالنداء لأنهم القدوة والمثل للأنسانية كلها عامة، ولأقوامهم خاصة.
وقدّم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، لأنه ثمرة الأعمال الصالحة، فلا يتحرّى الأكل من الطيب إلا من أقام نفسه على الأعمال الصالحة وأخذها بها.
ولأن الأكل، وما يتصل به، هو مدار حياة الإنسان، وكل سعيه وعمله يكاد يكون دائرا في مجاله- كان الإلفات إليه ألزم وأولى، لأنه هو الذي يجسّم العمل، ويصوّره، وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته، إن كان صالحا أو غير صالح.
وفى قوله تعالى: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذير من مراقبة اللّه، وعلمه بما يقع من الناس من أعمال، وبما تتصف به هذه الأعمال من صلاح أو فساد.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} هو دعوة إلى الإخاء الإنسانىّ، وإلى إزالة هذه السدود التي تعزل المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض.. فما هذه الأصباغ والألوان التي تصبغ الناس، من معتقدات دينية، لا ينبغى أن تقوم حجازا بين الناس، وخاصة إذا كانوا جميعا يتجهون.
إلى اللّه، ويؤمنون به.. فوجهتهم جميعا هي اللّه، وإن كان لكلّ وجهة هو موليها.. وكذلك ينبغى أن تكون وجهتهم جميعا هي الإنسانية، وإن كان لكلّ إنسان لونه، ووطنه وجنسه.
قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
هو إنكار على الناس هذا التقاطع والتدابر الذي بينهم، وقد كان الأولى بهم، وهم إخوة أبناء ذكر وأنثى، وهم مربوبون لربّ واحد أن يكون أمرهم واحدا.. ولكنهم تنكبوا هذا الطريق، فتنازعوا أمرهم بينهم، وتقطعوه قطعا، وذهب كل فريق منهم بجزء منه، فرحا بما ذهب به، ظانّا أنه أخذ الخير كلّه، على حين أنه أخذ القليل وفاته الكثير.
وفى قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا} بدلا من قوله {فقطعوا} الذي يقتضيه ظاهر النظم إشارة إلى أنهم هم الذين تقطعوا، لا أن الأمر هو الذي تقطع.
وذلك أنهم بهذا الخلاف الذي وقع بينهم، قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، فكان بينهم الصراع والقتال.
والزّبر: القطع، جمع زبرة وهى القطعة من الشيء.. كما في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [96: الكهف] قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}.
الأمر هنا، هو أمر مطلق، لكل ناصح ومرشد، لهؤلاء الضالّين، المختلفين على الحق.
وهذا الأمر هو تهديد لهؤلاء الضالين المختلفين، بأن يتركوا فيما هم فيه من ضلال، وألا يلح عليهم أحد في تنبيههم من غمرتهم، وسكرتهم التي هم فيها.
وذلك إلى أن تقرعهم القارعة، التي تذهب بهذا الخمار الذي لذّلهم النوم في ظله المعتم الكثيف! قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}.
المفعول الثاني للفعل يحسبون محذوف، دلّ عليه المقام.
والتقدير أيحسبون هذا الذي نمدّهم به من مال وبنين، إكراما، وإحسانا منّا إليهم؟ كلا، وإنما {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} لنفتنهم فيما نمدهم به، كما يقول تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [131: طه].
وقوله تعالى: {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يشعرون بهذا الابتلاء، وأنهم يحسبون ذلك خيرا لهم، كما يقول تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [180: آل عمران].
هذا، ويمكن أن يكون قوله تعالى: {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} هو المفعول الثاني للفعل يحسبون.. ويكون المعنى: أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين مسارعة لهم منا بالخيرات؟ كلا.. إنه فتنة لهم.. ولكن لا يشعرون لما استولى عليهم من سكرة بهذا الذي هم فيه من نعيم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ}.
فى هذه الآيات عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون في الخيرات حقا، ويملئون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب في الدنيا والآخرة.
وهؤلاء هم على صفات تؤهلهم لهذا المقام الكريم:
فهم (أولا) من خشية ربهم، وخوفهم من بأسه- على إشفاق دائم، من أن يعصوه، وأن يفعلوا منكرا.. {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}.
وهم (ثانيا) بآيات ربهم يؤمنون، ويعملون بهذه الآيات، ويهتدون بهديها.. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} ثم هم (ثالثا) قد خلت نفوسهم من كلّ أثر من الشرك باللّه.. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} ثم هم (رابعا) على خشية ومراقبة دائمة للّه.. حتى أنهم وهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات، لا تزايلهم الخشية ولا يبارحهم الخوف من اللّه، ومن أنهم على تقصير في حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} ويستعمل الإيتاء غالبا في فعل الخير مثل قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} وقوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} وقوله سبحانه: {آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا}.
ويستعمل الإتيان في فعل الشر غالبا.. كما في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.
وقد جاءت الآية هنا بلفظ الإيتاء.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ}.
وفى قراءة مشهورة: {والذين يأتون ما أتوا} ويقال لها قراءة النبيّ.
وعلى هذه القراءة يكون المعنى: والذين يفعلون المنكر، وهم على خوف وخشية من ربهم. فإنهم بهذا الخوف وتلك الخشية أهل لأن يكونوا في هذه الأصناف التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى من أصناف المؤمنين.. إذ أن ما في قلوبهم من وجل من لقاء ربّهم وهم على المنكر- سينتهى بهم يوما إلى النزوع عن المنكر، والوقوف عند حدود اللّه.
وقد يبدو في ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا.
فمثلا.. الإيمان بآيات اللّه.. ينبغى أن يسبق الخشية من اللّه، وكذلك عدم الشرك باللّه، وهو سابق للخشية من اللّه، حيث لا تكون الخشية للّه إلا من قلب مؤمن باللّه، وبآيات اللّه.. وإنه لابد لهذا من سر.. فما هو؟
الجواب- واللّه أعلم- أن هذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها في قلب المؤمن باللّه، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من اللّه، وبعضهم يؤمن بآيات اللّه، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من اللّه في قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود اللّه، ويقرّ بوحدانيته إقرارا عقليّا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا يتلقون عن الرّسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات اللّه.. وبعضهم يؤمن باللّه، وبآيات اللّه، وبرسل اللّه.. ثم يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم في صراع مع أنفسهم، وفى خوف من لقاء اللّه أن يكونوا قد قصّروا.
فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم في كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح في حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور اللّه، وإذا هو- شيئا فشيئا- على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} [201: الأعراف] وهذه الأصناف من المؤمنين- على قربها أو بعدها من الإحسان- يشدّها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان باللّه.. وحيث يكون الإيمان باللّه، فإنه يكون الأمل والرجاء في السلامة والنجاة، وحيث يتعرّى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء في سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين.
قوله تعالى: {أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ}.
أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، أو تحقق فيهم بعضها دون بعض- هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا في صحبة الإيمان باللّه، ذلك الإيمان الذي يقيم في كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء.
فالإيمان باللّه، هو المعتصم، ولا معتصم غيره، إذا استمسك به الإنسان فقد ضمن النجاة والفلاح.. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101: آل عمران] وقد روينا من قبل حديثا عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، في شأن ثقيف، حين دعيت إلى الإسلام، فقبلته، ولكنها اشترطت ألا تؤدى الزكاة، ولا تجاهد في سبيل اللّه.
وحين عرض على النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- إسلامهم هذا، قبله منهم، وقال صلوات اللّه وسلامه عليه: {سيتصدقون ويجاهدون في سبيل اللّه إذا أسلموا}.
قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
هو تطمين لقلوب هؤلاء المؤمنين، الذين ملأت الخشية قلوبهم، واستولى الخوف من اللّه عليهم، حتى لقد كاد ذلك يكون وسواسا دائما يعيش معهم.. فجاء قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} ليخفف عن المؤمنين باللّه هذا الشعور الضاغط عليهم، وليريهم من رحمة اللّه ما تقرّ به عيونهم، وتطمئن به قلوبهم، وذلك لأن اللّه سبحانه: {لا يكلف نفسا إلا وسعها} وحسب المؤمن باللّه أن يأتى من الطاعات ما تتسع له نفسه، ويحتمله جهده.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [16: التغابن].
وقوله تعالى: {وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ}.
المراد بالكتاب هنا، هو الكتاب الذي تسجّل فيه الأعمال، لكل عامل في هذه الدنيا، من حسن أو سيئ.. كما يقول سبحانه: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية] وكما يقول جل شأنه: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} [13: الإسراء].
فكل ما يعمله الإنسان، مسطور في هذا الكتاب، ناطق بكل صغيرة وكبيرة.. دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فليكتب الإنسان في كتابه هذا ما يحبّ أن يراه، ويسعد به ولا تكتب في كتابك غير شيء يسرّك في القيامة أن تراه.

.تفسير الآيات (63- 74):

{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)}.
التفسير:
قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ}.
الضمير في قلوبهم، يراد به المشركون من أهل مكة، ومن حولها.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر فيما سبق من آيات، فإنهم- في الواقع- مذكورون في كل آية، إذ كان هذا القرآن كلّه هو كتابهم، وهو رسالة رسول اللّه فيهم.
فقوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا} هو نخسة موجعة لهؤلاء المشركين الذين يستمعون إلى هذه الآيات، وكأنها لا تعنيهم، ولا تتحدّث إليهم.. على حين أنها إنما هي مسوقة لهم، أولا، ثم هي للناس جميعا، بعد هذا.
والإشارة {هذا} مشاربها إلى هذا الحديث الذي تحدثت به الآيات السابقة، عن الذين يؤمنون باللّه، ويخشونه، ويشفقون من لقائه.
فالمشركون قلوبهم {فى غمرة}، أي في شغل، وغفلة وضلال، عن هذا الحديث وما يحمل إليهم من عظات.
وخصت القلوب، لأنها موطن المشاعر في الإنسان، ومستقرّ المعتقدات الصالحة أو الفاسدة.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ} أي أن لهؤلاء المشركين الغافلين عن هذا الحديث، مشغلا بأمور أخرى، في مستوى غير هذا المستوي الرفيع، الذي تحدث به الآيات.. أنهم في شغل بما هم فيه من صلات مع آلهتهم.. والمشغول- كما يقولون- لا يشغل! وفى تسمية هذه الصلات التي بين المشركين وبين معبوداتهم- بالأعمال، إشارة إلى أنها مجرد حركات، ورسوم، لا تتصل بالعقل أو القلب.. إنها حركات وصور مرسومة، توارثها القوم عن آبائهم، فكانت أشبه شيء بالعمل الآلى الذي لا يتصل بعقل الإنسان أو قلبه.
وفى قوله تعالى: {هُمْ لَها عامِلُونَ} تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين، الذين يؤدون هذه الأعمال ويحتشدون لها، ويضيعون أوقاتهم وأعمارهم فيها.. على حين أنّها عبث ولغو، ولعب أشبه بلعب الأطفال! فهم وهذه الأعمال على سواء.. هي أعمال تافهة، يأتيها أناس تافهون! قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ}.
الجأر، والجؤار: الصراخ.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين الغافلين عن آيات اللّه، المشغولين بهذا العبث الذي هم فيه مع معبوداتهم- سيظلون على ما هم فيه من غفلة، حتى إذا جاء وقت الحساب والجزاء، وسيقوا إلى جهنم- فزعوا، وعلا صياحهم، وارتفع صراخهم، من هذا الهول الذي هم فيه.
وفى اختصاص المترفين من المشركين بالذكر، عرض لأبرز مثل فيهم، وهم المنعمون من المشركين، أصحاب المال، والجاه.. فهؤلاء إذا أخذوا، وفعل بهم هذا البلاء، ولم يغن عنهم ما لهم ولم يشفع لهم جاههم- كان غيرهم ممن لا مال له ولا جاه، أشدّ خوفا من لقاء هذا العذاب، الذي ينتظره، وقد سبقه إليه من كانوا على الشرك مثله، ولم يشفع لهم مال أو سلطان.. فكيف بمن لا مال له ولا سلطان؟
قوله تعالى: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ}.
هذا هو الردّ على هذا الصراخ، الذي يتعاوى به المترفون من المشركين، وهم في العذاب المهين.. {لا تَجْأَرُوا} فإنه لا فائدة ترجى من وراء هذا الصّراخ.. إنه لا يسمع أحد لكم، ولا يخفّ أحد لنجدتكم.. {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ}.
فليس لأحد قدرة على أن يدفع عنكم هذا العذاب الذي حكم اللّه به عليكم.
قوله تعالى: {قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ}.
أي لا تلوموا إلا أنفسكم، فقد كانت النجاة من هذا البلاء بين أيديكم، لو أنكم استمعتم إلى آياتي وآمنتم بها. ولكنكم كنتم إذا وقع إلى آذانكم شيء منها نفرتم كما ينفر الحيوان الوحشىّ حين يرى وجه إنسان.. فرجعتم على أعقابكم، في حركة منكوسة، وعيونكم إلى مصدر هذا الصوت الذي يسمعكم ما سمعتم من آيات اللّه، تنظرون إليه في حذر وخوف، كما ينظر العدو إلى عدوه..!
بل وأكثر من هذا.. فإنكم كنتم تتخذون مما تسمعون من آيات اللّه، مادة للسّمر في أنديتكم، ومجالا للسخرية والاستهزاء بها فيما بينكم.. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ}.
والضمير في {به} يعود إلى ما يتلى عليهم من آيات اللّه، وما يسمعون من كلماته.. وقد عدّى الفعل {استكبر} بحرف الجرّ الباء، لتضمنه معنى الاستهزاء.
أي أنكم لاستكباركم تلقون ما تسمعون من آيات اللّه، باستهزاء وسخرية.
فهى سخرية المستكبر، واستهزاء المتعالي.
والسامر مجتمع القوم للسمر.
ونصب {سامِراً} على أنه مفعول له.. أي لأجل السامر تهجرون مجلس الاستماع إلى القرآن.. {سامِراً تَهْجُرُونَ}.
لأن السامر يحمل معنى السّمر، وسمر القوم هو عبث ولهو، فكأن المعنى: لهوا ولعبا تهجرون الاستماع إلى كلام اللّه.. والجملة حال أخرى- من فاعل {تَنْكِصُونَ}.
ويجوز أن يكون {تَهْجُرُونَ} من الهجر، وهو الفحش في القول.. ويكون {سامِراً} منصوبا على الحال من الضمير المستكن في {مُسْتَكْبِرِينَ} ويكون السامر بمعنى الاجتماع.
وجملة {تهجرون} حال من الضمير في السامر بمعنى الاجتماع.
بمعنى أنكم كنتم تنكصون على أعقابكم عند الاستماع إلى آيات اللّه، وقد اشتملت عليكم أكثر من حال.. إذ تنكصون.. مستهزئين، سامرين، متفحشين.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}.
لقد ترك القوم المشركون يصرخون ويتعاوون في جهنم، بعد أن أجيب على صراخهم وجؤارهم بهذا التقريع العنيف.. {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ}.
ثم كان لمن يرون هذا المشهد الذي تنخلع له القلوب، وما يعانى المشركون فيه من بلاء ونكال- كان لهم تساؤلات عن هؤلاء المعذبين، وعن جنايتهم التي جنوها في حق اللّه، وفى حق الرسول المرسل إليهم من عند اللّه.
وكان من تساؤلات السائلين، ما ذكره القرآن الكريم هنا:
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}.
أن ألأنهم لم يحسنوا الاستماع، والنظر، والتدبر فيما جاءهم به الرسول- لم يعرفوا وجه الحق، ولم يروا الطريق إلى اللّه على ضوء هذا النور الذي بين يدى الرسول- ومن أجل هذا ظلوا في ضلالهم وشركهم، فكانت جهنم مأواهم. والعذاب جزاؤهم.. أهذا لهذا؟ قد يكون!- {أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}.
أي ألأنهم لم يدّبروا القول فضلّوا؟ أم لأن هذا الذي جاءهم به رسول اللّه، هو شيء غريب لم يكن لآبائهم شيء منه؟.. فهم لهذا ينكرونه، وينكرون ما معه، لأنهم مأسورون في قيد ما ورثوا عن آبائهم من عادات وتقاليد..؟
أهذا لهذا؟ قد يكون!.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
أي أهذا، أم أن الرسول الذي جاءهم غير معروف عندهم بنسبه، وباسمه، وبصفته- فهم لهذا ينكرونه، وينكرون مقامه فيهم، ويرمونه بما لم يعرفوا منه من سحر أو شعر أو جنون؟.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أهذا الذي حجزهم عن اتباع الرسول.. أم هو هذا الرأى الذي رأوه فيه، وأنه مجنون، يخاطب عقلاء، وما كان للعقلاء أن يستجيبوا لدعوة مجنون؟
قد يكون!
وفى هذه التساؤلات، نجد الثلاثة الأولى منها اتهاما لهم.. فالتساؤل الأول، يرميهم بنقص في التفكير، وضعف في الإدراك، وقصور عن فهم آيات اللّه، وتدبرها.
والثاني، يتهمهم بأنهم أسرى التقليد الأعمى، وأنهم لا يخرجون من هذا الأسر ولو ماتوا فيه اختناقا بهذا الهواء الفاسد الذي يتنفسون فيه، دون أن يفتحوا نافذة تملأ عيونهم نورا، وصدورهم هواء نقيا، منعشا! إن من تهم الرسول عندهم أنه جاءهم بما لم يعرفه آباؤهم الأولون، حيث لم يأتهم من قبل رسول من عند اللّه، كما أتى الأمم الأخرى.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [46: القصص].
ويقول سبحانه: {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ} [6: يس].
والقوم في هذا الموقف مهددون بالفناء، إذ قيدوا أنفسهم بهذا القيد الثقيل ووقفوا حيث يقف آباؤهم منذ زمن بعيد.. فهم، والأمر كذلك، يأخذون من الحياة موقفا واحدا لا يتحولون عنه.. والحياة متحركة متحولة.. ومن شأن كل حىّ أن يأخذ مكانه في دورة الفلك، وأن يعيش الليل ليلا والنهار نهارا، والصيف صيفا، والشتاء شتاء.. وإلا هلك.
فكيف ينكر القوم على الحياة أن تأتيهم بجديد لم يأت آباءهم الأولين؟
إن الحياة ولود لكل جديد في كل زمان ومكان.. وأنه إذا كان للإنسان أن يتوقف أمام كل جديد، فإن من السفاهة والحمق أن يرفضه ابتداء بحكم أنه جديد، دون أن يعرضه على عقله، وينظر فيما يمكن أن يكون فيه من خير ونفع.
والتساؤل الثالث، ينكر على القوم هذه التهم التي يرمون بها الرّسول، فيكذبون على أنفسهم، ويزيفون الحقّ، ويلبسونه ثوب الباطل، حتى يخدعوا به عقولهم، ويريدوها على قبوله والتسليم به.
فهم يقولون في الرسول.. إنه مجنون.. وإنه شاعر.. وإنه ساحر.. وإنه كذاب مفتر- يقولون هذا، وهم على معرفة كاملة بالرسول، من مولده، ومن قبل مولده، إلى أن جاءهم برسالة ربه.. فما عرفوا فيه شيئا مما يتهمونه به زورا وبهتانا.. بل لقد عرفوه العاقل الرشيد، والصادق الأمين، والطاهر العفّ.. وأنه كان في صباه يتحلّى بأحسن ما يتحلّى به الرجال، من حكمة ورويّة، ورشاد.. وأنه ما كذب قط، ولا قال هجرا قط، ولا نطق بشعر أبدا، ولا طاف بصنم أبدا.
أما قولهم عن الرسول: {بِهِ جِنَّةٌ} فهو أشنع تهمة يتهم بها القوم في تفكيرهم، وتقديرهم.
وقد يكون سائغا منهم أنهم لم يتدبروا القول، فكثير من الناس لا يتدبرون القول، ولا يحسنون الفهم..!
وقد يكون مقبولا أيضا أن يحمدوا على ما هم عليه من عادات موروثة.
فإن كثيرا من الناس يعيشون في عادات وتقاليد، كما تعيش الحيوانات الرّخوة في أصدافها وقواقعها..!
وقد يمكن أن يساغ- ولو بمرارة ووقاحة- إنكار الحقائق الثابتة، والتعامي عن الواقع المحسوس..!
فكثير من الناس يكابرون في الحق، ويمارون في الواقع، ولا تعلو وجوههم صفرة الخجل، ولا تندى جباههم بقطرة حياء! أما الذي لا تتسع له المكابرة، ولا يحتمله التبجّح، فهو الكذب الصّراح، الذي لا يدارى بتمويه أو خداع، بل يعرض هكذا سافرا بكل مشخصاته، ثم يقال عنه: هذا هو الحقّ! فذلك إن وجد مساغا عند أهله، فإنه لا يجد له موجها من القبول عند أحد، ممن يمكن أن يخدع ويضلّل.
فإذا قال سفهاء قريش في النبيّ إنه شاعر.. فأين هو الوجه الذي يقبل به هذا القول عند من يريدون قبوله منه؟ وقد يكون لهذا الكذب مدخل إلى بعض العقول لو أنهم اصطنعوا شعرا ثم نسبوه إلى النبيّ. فيكون أمرا محتملا للنظر والجدل.. وقد يأخذ به البعض من غير بحث أو نظر..! ولكنهم لم يفعلوا ولم ينتحلوا للنبىّ شعرا، بل قالوا عنه إنه شاعر، دون أن يأتوا على هذا القول بشاهد من مفترياتهم وأكاذيبهم.. وهذا معجزة من معجزات الرسول الكريم.
وإذا قال سفهاء قريش في النبيّ إنه مجنون.. أو به جنّة.. فقد كان عليهم لكى يغطّوا وجه هذا الكذب بشيء من التمويه- أن يقيموا شهودا من الزور يشهدون بأنهم رأوا من النبيّ كذا، وكذا، من هذيان المجانين.
ولكنهم لم يفعلوا.
نعم، إنهم لم يفعلوا هذا، أو ذاك، وما كان في استطاعتهم أن يفعلوا.
إذ كان أمر النبيّ فيما اتهموه به، أبعد من أن يدخل عليه زيف، أو تعلق به شائبة من تمويه.
وهذا من معجزات الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، والتي هي بعض ما عصمه اللّه سبحانه وتعالى به من الناس، كما يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وإنها لعصمة تحفظ- فيما تحفظ- ذاته ومشخصاته، وصفاته، من أن يعلق بسمائها الصافية المشرقة شيء من هذا الغبار الذي تثيره أفواه النافحين في الجبال الراسيات.
قوله تعالى: {بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} هو الردّ السماوىّ، على كل ما اتهم به المشركون النبيّ في شخصه، وفى الكتاب الذي معه.
فالرسول صادق أمين، والذي جاء به هو الحقّ من ربّ العالمين.
وإنهم ليعرفون أنه الحقّ من ربّ العالمين.. وإنهم ليعرفون أنه الحقّ، ولكن أكثرهم كارهون لهذا الحقّ، ومن ثمّ كان منهم هذا العمى عنه، وهذا الإنكار له، وهذا الرمي الأحمق الطائش، الذي لا يصيب إلا الرماة في مقاتلهم! قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}.
أي هؤلاء المشركون، إذ يكرهون الحق، ويكرهون التعامل به، فإنهم يتعاملون بما تمليه عليهم أهواؤهم من سفاهات وضلالات.
والحقّ، هو مركز الدائرة الذي يدور عليه هذا الوجود، وهو النظام الممسك بكل ذرة من ذراته.
وإن الحقّ هو هذه السنن الكونية التي قام عليها نظام كل موجود.
إنه الأسباب والمسببات.. وإن أي خروج على الأسباب يفضى إلى فساد المسببات واضطرابها.
وإن ما يمسك به العلم والعلماء من أسرار الكون، هو الحقّ الذي إن أخطأهم كله أو بعضه، أفلت من أيديهم هذا السرّ، الذي يفتحون به مغالق الحياة، ويذللون به ما تأبّى عليهم منها.
فالحق، هو هذا المحيط العام الذي تصب فيه روافد الحقائق التي يقوم عليها نظام الوجود، والموجودات جميعا.
وفى قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}.
إشارة إلى أن أىّ اختلال يدخل على الحق، في أي موقع من مواقعه، وفى أي ذرة من ذرات الوجود كله، من شأنه أن يفسد نظام هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما في أرضه وسمائه.
ذلك أن الحق- كما قلنا- كيان واحد.. إنه أسباب ومسببات يأخذ بعضها برقاب بعض.. من الذرة إلى النجوم والكواكب.. فكل سبب يقوم على سبب، ويقوم عليه سبب، وهكذا في سلسلة متصلة الحلقات، وقطع أي حلقة، هو قطع لهذا الشريان، الذي يغذى كيان الحق، ويحكم نسجه.
فلو أنه دخل على الحق، بعض ما في نفوس هؤلاء المشركين من هوى وضلال، ثم صار هذا الهوى قوة عاملة في الوجود، لأدخل الخلل على نظام الوجود كله، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن!! قوله تعالى:- {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}.
أي أن الحق لم يتبع أهواء هؤلاء المشركين، ولم يجئهم الرسول بما تشتهى أنفسهم، بل جاءهم بالحق، الذي فيه ذكرهم.. أي رفع قدرهم، وعلوّ إنسانيتهم، لو أنهم اتبعوه، واستقاموا عليه.
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} تسفيه لهم، وتحميق لعقولهم، إذ ليس أبعد في السفاهة، ولا أوغل في الحمق، ممن يدعى إلى ما فيه خيره، وعزّه، ورفعته، ثم يأباه، ويؤثر الإسفاف والتدلّى إلى منازل الهوان والضياع!.
قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
الخرج: الأجر، وهو في الأصل ما يخرج من الأرض من ثمرات، ومنه الخراج.
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبما ركبهم من سفه وجهل.. إن الخير الذي يبذل لهم، وثوب المجد الذي ينسج ليتحلّوا به- إنما يقدم لهم من غير ثمن، ومع هذا فهم يرفضونه، ويأبون إلا أن يمشوا في الناس عراة مهازيل! قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو تأكيد لهذا الخير الذي يحمل إلى هؤلاء المشركين، على يد الرسول الكريم.. إنهم إنما يدعون بهذا الكتاب الذي يحمله الرسول إليهم- إلى صراط مستقيم، إذا هم ساروا عليه أمنوا الزّلل والعثار، وانتهوا به إلى غايات العزة، والسيادة، والفلاح.. في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ} هو تهديد للمشركين، بأنهم إذا هم لم يسيروا على هذا الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن أمامهم إلا طرق الضلال، يركبونها إلى حيث تهوى بهم في قرار الجحيم.
والصراط هنا، هو الصراط الأخروى، الذي يصل بالمؤمنين إلى الجنة، حيث يجتازونه في يسر، على حين يتساقط من جانبيه المشركون والكافرون والضالون، الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يعلمون حسابا لهذا اليوم.. أو هو الصراط المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وهو صراط اللّه المستقيم على الهدى، والقائم على الحق! والناكب: هو المتنكب، الذي يعدل عن الطريق المستقيم، إلى المتاهات المضلّة، التي لا يرجى للسائر عليها نجاة.