فصل: تفسير الآيات (75- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (75- 92):

{وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
المتحدّث عنهم هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن موقفهم من الهدى، ومقولاتهم في النبي الذي يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فهؤلاء المشركون، لا يزيدهم الهدى، إلا ضلالا، ولا النور، إلا عمى، ولا الإنعام والإحسان، إلا طغيانا، وكفرا.
فلو أن اللّه سبحانه وتعالى رحمهم، وكشف ما بهم من ضر، فأحال هذا الجدب الذي هم فيه خصبا، وجعل الصحارى التي تشتمل عليهم، جنات، وفجّر فيها أنهارا- لما شكروا للّه، ولما استجابوا لداعى الحق الذي يدعوهم.. بل زادهم ذلك ضلالا وبعدا عن الحق.. وعدوانا على الرسول الذي يدعوهم إلى اللّه.
واللجّ، واللجاج: التخبط على غير هدى.
والعمه: عمى البصيرة، وضلال العقل.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ}.
وهؤلاء المشركون. قد أخذهم اللّه بالبأساء والضّراء، وأنزلهم منازل الخزي في بدر، والأحزاب والحديبية.. ثم الفتح.. ومع هذا، فإن هذا البلاء لم يفتح قلوبهم إلى اللّه، ولم يقدهم بنواصيهم إليه: {فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} أي فما لجأوا إليه، ولا ضرعوا له، ولا طلبوا غوثه ورحمته.
وهذا مثل قوله تعالى في فرعون: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [130: الأعراف] وقد جاء الإخبار عن هذا الذي نزل بالقوم من بلاء، بصيغة الماضي. على حين أنه لم يكن قد وقع بعد، وذلك لتحقق وقوعه مستقبلا، فهو من أنباء الغيب التي جاء القرآن الكريم بكثير منها.
ويجوز أن يكون هذا إخبارا عما كان ينزل بهم من حوائج ومجاعات، قبل البعثة النبوية، ويكون هذا الخبر عنهم، مرادا به الكشف عن جفاء طباعهم، وغلظ مشاعرهم، وأنهم أشبه بالجماد، لا يتأثرون بالخير أو الشر.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.
وهكذا يظل القوم على ما هم فيه من ضلال، وكفر، وعناد، لا يصلح من فسادهم تأديب بالخير أو الشر، ولا يقوّم معوجّهم إحسان أو إساءة.. حتى يموتوا بدائهم هذا، الذي لا شفاء له إلّا عذاب السعير.
والإبلاس: الوجوم، والجمود، وسكون الحركات، وخمود المشاعر.
من الهول وشدة البلاء.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ}.
هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض نعم اللّه على الناس، وموقف كثير منهم من هذه النعم.
وأعظم هذه النعم وأكرمها، السمع والبصر، والفؤاد، وهو القلب.
إذ أن هذه الجوارح هي التي تجعل الإنسان إنسانا، إذا هو انتفع بها، ووجهها الوجهة الصالحة، حين يرد بها موارد الخير، ويلقى بها في محيط الوجود، فتجيء إليه بكل صيد ثمين طيب! وفى هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم الآية: {أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} ما يحدّث عن كثير من الأسرار.
فأولا: قدّم الإنشاء، وهو الخلق العام للإنسان، على إيجاد السمع والبصر، الفؤاد.. إذ أن الوجود الإنسانى مقدم على ظهور هذه الحواس فيه.
وثانيا: قدم السمع على البصر.. لأن حاسة السمع تسبق حاسة الإبصار عند مولد الطفل، كما ثبت ذلك بالملاحظة.
وثالثا: قدم السمع والبصر على الفؤاد، وهو العقل، لأنه لا يكون للإنسان إدراك أو تمييز إلا بعد أن تعمل حواس الإنسان كلها، وتؤدى وظائفها، وتتوثق الصلات بينها وبين خلايا المخ.. ومن هنا يبدأ الإدراك والتمييز ويتخلّق في الإنسان العقل أو الفؤاد، الذي ينمو شيئا فشيئا، حتى ينضج ويكتمل.
وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} هو خطاب للناس عامة، وأن قليلا منهم هم الذين يعرفون نعمة اللّه عليهم ثم يشكرونها.. أما كثرتهم الغالبة فهم في غفلة عن هذه النعم، وفى شرود عن المنعم بها، وعن القيام بواجب الحمد والشكر.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
الذرء: الخلق، والإيجاد والحشر: الجمع، والحشد.
وهذه نعمة أخرى.. الخلق والإيجاد من عدم، ثم الموت، ثم البعث والنشور، والرجعة إلى اللّه سبحانه وتعالى، للحساب وللجزاء.
فالوجود نعمة، لأنه خير من العدم.. والحشر بعد الموت، نعمة أخرى، لأنه حياة جديدة، لا موت بعدها، ووضع لكل نفس في مكانها الذي أعدّ لها، في الجنة أو في النّار.
وإذا كانت النار شقاء على أهلها، وبلاء- نعوذ باللّه منها- فإنها مطهرة للنفوس الدنسة، وصفل لمعدنها الصّدئ، وشفاء لأمراضها الخبيثة! قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} هو دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب إلى بعض الناس من وجود الموت، والشك في عدّه نعمة من بين النعم المذكورة في هذه الآيات.
فالموت دورة من دورات الوجود الإنسانى، ووجه مقابل للحياة، مقابلة الليل للنهار.. فالحياة يقابلها الموت، والنهار يعقبه الليل.. تلك هي سنة اللّه في الحياة الدنيا، كل شيء فيها يقابله ضدّه، كى يثبت وجوده، ويحقق ذاته.
وهذا أمر لا يدرك سرّه، ولا يعرف حقيقته، إلا أصحاب العقول، الذين يستعملون عقولهم.
قوله تعالى: {بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}.
أي أن هؤلاء المشركين لا يستعملون عقولهم، ولا ينظرون في هذه الآيات الكونية التي بين أيديهم.. بل لقد أنكروا الحياة بعد الموت، وقالوا ما قاله آباؤهم من قبل.. قالوا: كيف نعود إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن نصير ترابا وعظاما؟ ولو أنهم نظروا إلى الليل والنهار مثلا، لعرفوا أن النهار ينسخه الليل، ثم يعود النهار فيطلع من جديد ناسخا ظلام الليل.. وهكذا.. ليل ونهار، ونهار وليل! فمن عاش في النهار، وملأ عينيه من ضوئه الوضيء.. ثم عاش في الليل، ولفّه ظلامه الدّامس، لم يكن له- حسب تقديرهم هذا- أن ينتظر نهارا يطلع من أحشاء هذا الظلام الكثيف! لكن الذي يحدث، هو أن نهارا يطلع من كيان هذا الظلام، وكأن ليلا لم يكن! كذلك الحياة، والموت، ثم الحياة بعد الموت.
فهذا الإنسان الذي كان يملأ الدنيا حركة وسعيا، ثم تضمّه الأرض في بطنها، ويدسّه التراب في كيانه.. ليس بالشيء البعيد المستغرب- والشواهد ماثلة- أن يخرج من بين أحشاء هذا التراب إنسانا، كهذا الإنسان الذي كان! قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
هو تأكيد لقولهم الباطل الذي قالوه عن إمكان البعث.. وأن هذا البعث قد وعد به آباؤهم من قبل.. وها هم أولاء ما زالوا ترابا هامدا.. ثم إن هؤلاء يوعدون به.. وسيكونون بعضا من هذا التراب الهامد، مع آبائهم.
فما هذا الوعد عندهم، وحسب تطورهم، إلا من الخرافات والأساطير التي تعيش في الناس من زمن بعيد ولا محصّل لها أبدا.
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
هذا سؤال، لا يجيب عليه الإجابة الصحيحة إلا من عقل وعلم.
لمن هذه الأرض ومن فيها، من عوالم ومخلوقات؟
جواب واحد عند أهل الدراية والعلم.. إنها للّه.
وقد ألزمهم اللّه سبحانه وتعالى حجّة أهل العلم.. فإن لم يكونوا عالمين، كان عليهم أن يأخذوا بقول العالمين.. وإلا فإى الناس هم؟ إنهم ليسوا علماء، وليسوا بالمنتفعين بعلم العلماء.. والأعمى إذا لم يسلم يده للمبصر.
تخبط، وضلّ وهلك.. وإذن فهم في الهالكين، إذا لم ينزلوا على هذا الحكم الملزم، ولم يأخذوا به.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وسؤال آخر.. يحتاج إلى نظر أوسع، وعلم أكثر! من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم؟.
إنهم لمحجوجون بقول أهل الدراية والمعرفة.. إنها جميعا للّه.. هكذا يقرر أهل الدراية والعلم.
فليقولوا هذا.. وإنهم إن لم يقولوه اختيارا قالوه اضطرارا.
وإنهم إذا سلموا بهذا- ولابد من التسليم به- فلم لا يتقون اللّه؟ ولم لا يخشون بأسه، وهو المالك المتصرف في هذا الوجود كله.. لا شريك له؟
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وسؤال ثالث.. لابد أن يسلم به من سلم بالسؤالين السابقين.. وإن كان أشمل منهما، وأوسع مدى.
{مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}؟ أي من بيده ملك كل شيء وتصرفه فيه..؟ {وَهُوَ يُجِيرُ} أي يحمى، ويحفظ {وَلا يُجارُ عَلَيْهِ}: ولا سلطان لأحد يدفع بأسه، ويكشف ضرّه.. من هذا، ولمن هذا؟
جواب واحد.. هو اللّه ربّ العالمين.. وهو للّه ربّ العالمين.
ونتيجة واحدة: الاستسلام للّه، والولاء للّه.
{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تذهلون عن هذا، وتستسلمون لغير اللّه، وتعطون ولاءكم لما تشركون به من دونه؟ أسحركم ساحر فأخذ على عقولكم، وأضلّكم عن اللّه، وأعماكم عن الحق؟ وهذا الخطاب جار على ما هو في أوهام القوم من أن هناك قوى تسحر الناس، وتفسد عقولهم، كما كانوا يقولون عن النبيّ، إنه ساحر! قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
هو تعقيب عام، على هذه الأسئلة، وأجوبتها.
إن اللّه سبحانه وتعالى قد أعطاهم الجواب الحقّ عليها، ولكنهم يجيبون عليها كذبا وبهتانا.. وإنهم إذ ينطقهم الحقّ بتلك الأجوبة، ويقهرهم سلطانه قهرا عليها، فإنهم لا يأخذون بما نطقت به ألسنتهم، ولا ينزلونه منزلة الاعتقاد من قلوبهم.
قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
هذا هو ملاك الأمر كلّه، ومدار القضية، وأصل البحث، وهذا ما كان ينبغى أن يقرّ به أولئك المشركون، بعد أن ألقيت إليهم تلك الأسئلة، محملة بالأجوبة الصحيحة عليها.
إنه لا شريك للّه.. من صاحبة أو ولد، وإنه لا إله معه.. وأنه لو كان معه إله آخر لشاركه هذا الملك، ونازعه هذا السلطان، واستبدّ بالتصريف فيما يملك منه.. ولكان لكلّ منهما أن يفعل ما يشاء.. وهذا من شأنه أن يذهب بنظام الوجود، ويفسد الوضع القائم عليه، حيث لا تلتقى إرادتهما، ولا تتفق مشيئتهما.
إن الجسد الإنسانى، لا يقوم عليه إلا سلطان واحد، هو القلب، ولو أنه كان هناك قلبان في جسد واحد، لا ختل نظام الجسد، وانحلت روابطه، ولما تنفّس هذا الجسد نفسا واحدا.
والكون.. هو جسد كبير.. يحكمه نظام، ويقوم عليه سلطان.
وهيهات أن يحكم بنظامين، أو ينتظم أمره بسلطانين! {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
وتنزهت ذاته عن أن يكون كما يصفه الضالون، بنسبة الولد، أو الشريك إليه، فتعالى، سبحانه، عما يشرك به المشركون: من آلهة وأشباه آلهة.

.تفسير الآيات (93- 111):

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
هو التفات إلى النبيّ الكريم، بعد هذا العرض المبسوط لوجوه المشركين، وما يدور في أفكارهم من سخافات، وما تنطق به ألسنتهم من سفاهات، وما تنعقد عليه قلوبهم من شرك وضلال.
وفى هذا الالتفات يدعو اللّه سبحانه نبيّه، أن يطلب إلى ربه ألا يكون بمشهد من هؤلاء المشركين حين يحلّ بهم بأس اللّه، ويقع عليهم عذابه.
وفى هذا إشارة إلى شدّة هذا البلاء وقسوته، وأنه مما لا تحتمل النفس رؤيته بالعين، فكيف حال المبتلى به، الذي يتجرع كئوس عذابه؟
ثم إن هذا- من جهة أخرى- تهديد للمشركين بالعذاب الأليم، والبلاء العظيم، الذي يدعو اللّه أولياءه إلى أن يتضرعوا إليه، طالبين الفرار منه، قبل أن يقع، حتى لا يشهدوه بأعينهم.
ولا شك أن هذا دعاء مجاب مقدّما من قبل أن يدعو به النبي، لأن اللّه سبحانه هو الذي أمره بهذا الدعاء، وهو سبحانه الذي بيده إجابته.. وهذا يكشف لنا عن الارتباط بين الأسباب والمسببات.. وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب لكل أمر يريده.. وقد دل اللّه عباده على الأسباب، وأمرهم بالأخذ بها، وأن يدعوا المسببات للّه وحده، واللّه يفعل ما يريد.
وأصل النظم هكذا: {ربّ إن ترينى ما يوعدون فلا تجعلنى في القوم الظالمين}.
وقد جاء النظم القرآنى على ما ترى من فخامة ودوىّ ينبعثان من الحرف {ما} باتصاله بأن الشرطية.. {إما}، وفى هذا تهويل للعذاب الذي يتهدد المشركين، ويحوم حولهم.. ثم ما ترى في تصدير جواب الشرط بهذا النداء للاسم الكريم {رب} الذي يضرع إليه لكشف الضرّ، ودفع البلاء، لأنه بلاء عظيم لا يدفعه إلا اللّه، وليس للناس جميعا سبيل إلى دفعه.
قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ}.
هو تطمين للنبىّ بأن اللّه قد أعدّ للقوم الهزيمة والخزي على يديه، وأن ذلك موقوت بوقته، وأنه حاضر في علم اللّه، ولو شاء سبحانه أن يطلع النبي لرأى بعينه مسيرة هذا الصراع، بينه وبين قومه، خطوة خطوة.. حتى يجيء نصر اللّه والفتح، ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا.
قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ}.
وإذا كانت خاتمة النبي هي النصر على هؤلاء المتطاولين عليه، المعاندين له، فإن ذلك يهوّن كثيرا من الأذى الذي يلقاه منهم، حيث يكون بصره متعلقا بيوم النصر الموعود، غير ملتفت إلى ما يصادفه على يومه من مشقّة وعناء.
ومن هنا، كانت دعوة النبي إلى لقاء إساءات قومه بالإحسان دعوة تلتقى مع مشاعره، التي استروحت أنسام الرضاء في ظل هذا الموعد الكريم بالنصر المبين لدعوته، وطلوع شمسها على كل أفق.. فإن كل صعب يهون، وكل بلاء محتمل، إذا كانت العاقبة نجاحا، ونصرا محققا.
وفى قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ} تهديد للمشركين، الذين يسيئون ويحسن إليهم، ثم لا يردّهم هذا الإحسان عن غيّهم وضلالهم.
فليفعلوا ما يحلو لهم، واللّه سبحانه عالم بما يفعلون، ومحاسبهم عليه.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}.
همزات الشياطين: وساوسها، ونخسلتها التي تنخس بها في صدور الناس.
وكما أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيه الكريم، أن يدعو ربه، بأن يقيه شر الناس، ويباعد بينه وبين القوم الظالمين- أمره سبحانه أن يستعيذ به من وساوس الشياطين، وما يزينون به للناس من منكرات، وأن يباعد بينه وبينهم، فلا يلمّون به، ولا يحضرونه في أي حال من أحواله، خاليا، أو مع الناس.
وهذه الاستعاذة من الشيطان، هي إلفات للمسلمين إلى هذا العدو المتربص بهم، والذي هو شر خالص، لا يجيء منه إلا الشر لكل من يأنس إليه، ويطمئن له.. وإنه إذا كان النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه.. وهو في حراسة من ربه، وفى قوة من خلقه، ودينه- إذا كان النبي يطلب الغوث والعياذ باللّه من هذا العدو الراصد، فأولى بالناس- وهم على ما فيهم من ضعف- أن يستكثروا من طلب الغوث والعياذ باللّه من الشيطان الرجيم، وأن يكونوا على ذكر دائم بأنهم مع عدو متربص بهم، ينتظر غفلتهم، لينفذ إلى ما يريد فيهم، من إغراء وإضلال.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
{حَتَّى} غاية لمحذوف دل عليه السياق، والتقدير، ولكن كثيرا من الناس، لا يأخذون حذرهم من الشيطان، ولا يستعيذون باللّه منه، فيفسد عليهم دينهم، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام، ثم يظلون هكذا في غفلتهم {حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} وانكشف عن عينيه الغطاء، ورأى ما قدم من منكرات {قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} إلى دنياى، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} ولأصلح من أمرى ما فسد، وأقيم من دينى ما اعوجّ.. ولكن هيهات.. لقد فات وقت الزرع، وهذا أوان الحصاد.. {كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} أي إنها مجرد كلام يقال، لا وزن له، ولا ثمرة منه.. {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي أن هناك سدا قائما، فاصلا بين الأموات، وعالم الأحياء.. فلا سبيل لمن أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى، وذلك {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
حيث يزول البرزخ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر، ويصبحون جميعا في عالم الحق.
قوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ}.
أي فإذا صار الناس إلى هذا اليوم، يوم النفخ في الصور، للبعث، جاءوا وقد شغل كل منهم بشأنه وتقطعت بينهم الأنساب، فلا يجتمع قريب إلى قريب، ولا يلتفت صاحب إلى صاحبه.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [34- 37: عبس].. فلا يسأل أحد أحدا عن حاله ومآله. وحسبه ما هو فيه من شغل بنفسه {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [8- 10: المعارج].
قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ}.
وفى هذا اليوم توضع الموازين لحساب الناس، ويرى كل ميزانه وما يوزن فيه.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
حيث لا تثقل الموازين، إلا بالأعمال الصالحة.
فتلك الأعمال الصالحة، هي التي يقام لها وزن، ويكون لها في الميزان ثقل.
أما الأعمال السيئة فلا وزن لها، لأن هذا الميزان ميزان حق وعدل، لا يوضع فيه إلا ما كان حقا وعدلا وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً} [105: الكهف] وقوله سبحانه، عن أعمال الكافرين والضالين: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [23: الفرقان] وفى قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ} عرض لحال من أحوال أهل النار، وما يلقون فيها من بلاء، حيث تداعبهم النار بلهيبها، وتصفع وجوههم بلظاها، وحيث يغشاهم من ذلك همّ وكرب، وتعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة.
والكالح: العابس المكفهرّ، لما يعتمل في كيانه من غموم وهموم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ}.
هو رد على جؤار المعذبين في جهنم، وما يصطرخون به من ويل وثبور.
إنه لا مصير لكم إلا هذا.. فقد جاءكم رسولنا بآيات اللّه، وتلاها عليكم، ودعاكم إلى الهدى والإيمان.. فأبيتم وكذبتم. فهذا جزاؤكم، فذوقوا عذاب الخزي بما كنتم بآيات اللّه تكذبون.
قوله تعالى: {قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ}.
وماذا ينفع الندم، والإقرار بالذنب في دار الحساب والجزاء؟ {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [57: الروم].
قوله تعالى: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ}.
وفى ذلة واستخزاء، وفى لهفة وجنون، يقولون ربنا أخرجنا من هذا البلاء، وردّنا إلى الدنيا مرة أخرى، فنؤمن بك ونتبع الرسل.. فإن عدنا إلى ما كنا فيه من كفر وضلال، كنا ظالمين، فنستحق ما نلقى من عذاب وهوان! وكأنهم لم يكونوا ظالمين، وكأن عذرهم الذي اعتذروا به حين قالوا: {رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ} كأن عذرهم هذا قد قبل منهم! لقد منّتهم أنفسهم تلك الأمانىّ الكاذبة.. وإنهم لأهل شر وسوء، لا يرجى لدائهم دواء: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [28:
الأنعام] ولهذا جاء الردّ القاطع الزاجر: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ}.
أي انزجروا فيها، وأقيموا حيث أنتم، ولا تكلموا اللّه.. فإنه سبحانه لا يقبل منكم قولا، ولا يجيب لكم سؤلا.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ}.
هو تعليل لما أخذهم اللّه به، من كبت وزجر، ولما رماهم به من عذاب اليم.
إنهم لم يؤمنوا باللّه، ولم يستجيبوا لرسول اللّه، بل كذّبوه، وبهتوه، وآذوه.. ولم يقفوا عند هذا، بل إنهم تسلطوا على المؤمنين باللّه، واتخذوهم سخريّا، وجعلوا منهم مادة للضحك والعبث.. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ} [29، 30 المطففين].
وفى قوله تعالى: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} إشارة إلى أن اشتغال هؤلاء المشركين الضالين بالسخرية من المؤمنين، والضحك منهم، قد ألهاهم عن ذكر اللّه، وصرفهم عن النظر في آياته، والاستماع إلى كلماته.. إنهم شغلوا بغيرهم عن أنفسهم، وعن العمل لما فيه خيرهم ورشادهم.. وهذا شأن كل من يشغل بأمور الناس، ويجعلها همّه.. إنه ينسى نفسه، ويحرمها ما كان يمكن أن يسوقه إليها من سعيه وجهده.
وفى نسبة نسيانهم لذكر اللّه، إلى المؤمنين، مع أن المؤمنين لم يكن منهم دعوة لهم إلى نسيان ذكر اللّه، بل إنهم كانوا يدعونهم إلى اللّه، ويذكّرونهم به- في هذا مضاعفة لحسرة الكافرين، وزيادة في إيلامهم، إن كان ما هم فيه يحتاج إلى زيادة. وذلك حين ينظرون إلى المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم، فيجدون أنهم هم الذين شغلوهم عن ذكر اللّه، وعن الإيمان به، وأنهم هم الذين أوردوهم هذا المورد الوبيل.. ثم يجدونهم- مع هذا- في نعيم ورضوان من اللّه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ}.
لقد صبروا على استهزائكم بهم، وسخريتكم منهم، ولم يتحوّلوا عن الصراط المستقيم الذي استقاموا عليه، فكان هذا هو جزاؤهم عند اللّه.