فصل: تفسير الآيات (21- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (21- 26):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
هذه الآية وما بعدها إلى الآية (26)- هي مما يتصل بحديث الإفك، ويدور حوله، ليطفئ النار المشتعلة منه، ويذهب بدخانها الذي انعقد في سماء المجتمع الإسلامى كلّه.
والآية هنا تنهى المؤمنين عن أن يتبعوا خطوات الشيطان، وأن يستجيبوا له فيما يدعوهم إليه، فإن دعوته لا تكون إلا إلى شر وبلاء.. {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
وإن مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، ويزينه للناس، هو إطلاق الألسنة بالسوء والفحشاء، تنهش في أعراض المؤمنين، وتشيع الفاحشة فيهم.
فمن أراد أن يكون في المؤمنين حقا، فليمسك لسانه عن لغو الحديث، وليصمّ أذنيه عن سماع كلمات السوء والفحش في المؤمنين، فإنه إن لم يفعل، واستمع إلى كلمات السوء والفحش، ثم أطلق لسانه بها كان في ركب الشيطان، يجرى وراءه، ويتبع خطواته، مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا في شباكه.
وقوله تعالى: {لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً}.
ما زكى: أي ما طهر، وما خلص من الرجس، والإثم، وصار طيبا زكىّ النفس بعد أن تطهر، وأزال ما علق به من ريح خبيثة بما اقترف من إثم.
فالزكاة تجيء بعد الطهر وغسل القذر.
وهذا يعنى أن الناس جميعا هم أبناء الخطيئة، وأنهم جميعا- بما ركّب فيهم من طبيعة حيوانية- معرّضون للزلل، وللوقوع في الخطايا والآثام.
كما يقول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون».
ولكن اللّه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته بعباده، قد جعل لهم مطهّرا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم، وهم على طريق الحياة.. وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات.. فالصلاة مثلا، هي مطهرة لما بين الفريضتين.
كما في الحديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» وقد شبهها الرسول الكريم بنهر جار، يغتسل فيه المصلى خمس مرات في اليوم، فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه، قال «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو اللّه بهن الخطايا».
والزكاة، مطهرة... شأنها في هذا شأن الصلاة، كما يقول اللّه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها (103: التوبة).
وهكذا الصوم، والحج،.. وكل طاعة، وكل قرية، هي مما يتطهر به الإنسان ويتزكى من ذنوبه وآثامه.
هذا إلى {التوبة} التي هي الباب الواسع الذي يدخل منه الآثمون جميعا إلى رحمة اللّه ومغفرته، فمن صحت توبته، صار نقيا طاهرا، كيوم ولدته أمه.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [222: البقرة].
وهذا كله مما يفتح للمؤمن الطريق إلى أن يكون في الطاهرين الزاكين، الذي يدخلون مع الداخلين في قوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ}.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هو بيان للراغبين في الطّهر والتزكّى، وذلك بالانخلاع عما هم فيه من منكرات، والرجوع إلى اللّه، والتقرب إليه، بالعبادات والطاعات.. واللّه سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ} لما تنطق به أفواههم، وما تتحدث به خواطرهم {عَلِيمٌ} بما في قلوبهم من إخلاص في العمل، وصدق في التوبة.
قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{وَلا يَأْتَلِ}: أي ولا يمتنع، أو يقصّر.
هذه الآية الكريمة، نزلت في أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه- وكان قد حلف ألّا ينفق على مسطح بعد أن خاض مع من خاضوا في حديث الإفك. وكان مسطح قريبا لأبى بكر، وقد هاجر فيمن هاجر إلى المدينة، وكان فقيرا، يعينه أبو بكر، وينفقعليه من ماله، وقد انزلق مسطح إلى هذا المنحدر، وكان رأسا من رءوس الخائضين في هذه الفتنة.
وفى هذه الدعوة السماوية لأبى بكر، تكريم عظيم له، وإعلاء لمنزلته عند اللّه.. إذ دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى التي هي أحسن، وهو أن يلقى السيئة بالحسنة، ويدفع الشر بالخير.. وهذه المنزلة عالية لا ينالها، إلا من أراد اللّه لهم الكرامة والإحسان.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [35: فصلت].
ومن وجهة أخرى، فإن اللّه سبحانه وتعالى أرى أبا بكر المثل الأعلى في ذاته سبحانه وتعالى، إذ وصف ذاته سبحانه هنا بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أي فكن ربانيا أيها الصديق، وكن غفورا رحيما، أيها الإنسان المبارك، لأنك عبد لربّ غفور رحيم.. ومن شأن العبد الصالح أن ينظر إلى سيده، ويتّبع سبيله.
وليس هذا فحسب، بل إنه تعالى نادى عبده، ودعاه إلى رحاب المغفرة بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}؟ ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر اللّه له؟. ولهذا كان جواب أبى بكر على هذا النداء الكريم، وتلك الدعوة المباركة: بلى واللّه يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا.
ثم إن في وصف مسطح بقوله تعالى: {أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إثارة لأكثر من عاطفة تعطف أبا بكر على الإنسان الذي آذاه في شرفه.. فهناك عاطفة القرابة، ثم عاطفة الحاجة والمسكنة، ثم عاطفة الهجرة في سبيل اللّه.. وكل واحدة منها تدعو إلى الرحمة والمغفرة، فكيف إذا اجتمعن جميعا في هذا الإنسان الذي أوقعه سوء حظه فيما وقع فيه؟ إن هناك لأكثر من داعية تدعو إلى إقالته من عثرته، والتجاوز عن مساءته.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
هو وعيد لأولئك الذين لم يمسكوا ألسنتهم بعد عن الخوض في هذا الحديث، والذين لا زال في أنفسهم بقية من شك في براءة أم المؤمنين وطهرها.
فهى- كما وصفها اللّه سبحانه، وتعالى- المحصنة، أي الطاهرة المبرأة من السوء، وهى الغافلة عن هذا المنكر، فلم يطف بها، ولم يقع في خطرة من خطرات نفسها، وهى المؤمنة، الكاملة الإيمان، المتحصّنة بإيمانها الوثيق، الذاكرة لجلال ربها وخشيته.. وفى كل صفة من هذه الصفات عاصم يعصم المتصف بها من الزلل، والوقوع في هذا المنكر.. وكيف وقد اجتمعن جميعا، في أمّ المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، والحبيبة بنت الحبيب إلى رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه؟
وقوله تعالى: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} هو الجزاء الذي يلقاه كل من يخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويرميهم بالفاحشة، كذبا، وبهتانا.. فالحكم عام، قائم أبدا الدهر، وإن كان مساقا في معرض الحديث الآثم، الذي رميت به أم المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. وأنه إذا كان أناس ممن خاضوا في هذا الحديث قد تابوا، وأنابوا إلى اللّه، واستغفروا لذنبهم، فقبلهم اللّه، وغفر لهم- فإن هناك أناسا آخرين، قد هلكوا بهذا الحديث، إذ أمسكوا به في أنفسهم.. فهؤلاء: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}.
الظرف هنا {يَوْمَ} متعلق بقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}، أي لهم عذاب عظيم، في الآخرة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
فهؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، وماتوا به، وأبوا أن يشهدوا على أنفسهم في الدنيا، وبأنهم كانوا كاذبين مفترين- هؤلاء، ستنطق ألسنتهم في الآخرة بما أبت أن تنطق به في الدنيا، وتقوم شاهدة عليهم بأنهم كانوا كاذبين مفترين، وإنهم ليؤخذون بإقرارهم هذا، وبما شهدت به عليهم ألسنتهم، التي خرست في الدنيا عن قول الحق، وانطلقت تهذى وتعوى بالزور والبهتان.
ثم إلى جانب شهادة ألسنتهم عليهم في الآخرة بما نطقوا به في الدنيا من زور وبهتان- تقوم أيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم بما عملوا من منكر.. فاليدان، والرجلان شهود أربعة، تشهد على هذا الادعاء الذي يدعيه اللسان على صاحبه.. وكأن هذا اللسان متهم عند صاحبه، لأنه لم ينطق أبدا إلا بالزور والبهتان.. فإذا جاء صاحبه ليردّ شهادته عليه، قام من كيانه شهود أربعة، كلها تصدق هذا اللسان، الذي لم يصدق أبدا إلا في هذا الموقف! وهذا هو بعض السر في تقديم اللسان على الأيدى والأرجل فكأنه هو المدّعى، وكأن شهوده على دعواه.
اليدان والرجلان! ثم إنما قامت الشهادة عليهم، أخذوا بذنبهم، جزاء وفاقا.
قوله تعالى: {الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
تعرض الآية الكريمة هنا دليلا من واقع الحياة، يشهد لما نطقت به الآيات من براءة أم المؤمنين، مما رمتها به الألسنة الآثمة من زور وبهتان.
فالسيدة عائشة، نبتة طيبة، نبتت في بيت طيب، لم يعرف عنه في الجاهلية شيء مما كان يأتيه الجاهليون، من استعلان بالفجور ومباهاة به.. بل كان هذا البيت، أشبه بنسمة رقيقة، بين هذه العواصف التي تدوّم وتصخب في بيوت الجاهلين، من سفك دماء، واعتداء على الحرمات، حتى إذا جاء الإسلام كانت أول يد تصافحه، وأول قلب يتفتح له، هي يد أبى بكر الصديق، وهو قلب أبى بكر الصديق.. وما ذاك إلا لأن طبيعته كانت مسلمة، أو أقرب إلى الإسلام، من قبل أن يجيء الإسلام، حتى إذا كان أول صوت يؤذّن بدعوة الإسلام، كان أبو بكر أول المستجيبين له، والمتجهين إليه، حتى لكأنه كان على توقّع له، وتطلع إليه..!! فمن ظهر هذا الرجل الكريم النبيل جاءت عائشة، وفى بيت هذا الرجل الطاهر العفّ نشأت عائشة.
ثم كان أن انتقلت السيدة عائشة، وهى لا تزال في إهاب الطفولة- انتقلت من هذا البيت الطاهر الكريم، إلى البيت الأكرم بيت النبوة.. فكان في هذا البيت القدس مرباها في طفولتها، وصباها، وشبابها. فشهدت فيه منذ صباها الباكر أنوار السماء تنزل على النبي، فيغمرها هذا النور البهىّ، ويملأ قلبها ووجدانها، علما، وحكمة، وطهرا.. فكانت بهذا، المرأة التي أخذت بحظ النساء جميعا من هذا الخير المنزل من السماء.. وكأنها الشاهد القائم على أن المرأة شريكة للرجل حتى في مقام النبوة، التي إن اختص بها الرجال فكان منهم الأنبياء، فإن النساء لم يحرمن حظهن منها، فكان منهن حواريو الأنبياء!! فامرأة هذا شأنها، وذلك هو منبتها، ومرباها، يكون من البعيد بعد المستحيل، أن تزلّ وأن تسقط، وأن تأتى من المنكر ما تأباه الحرّة، على شرفها وخلقها، ومروءتها..!
ومن جهة أخرى.. فإن اللّه الذي اصطفى النبي لحمل رسالة السماء، وصفّى جوهره من كل شائبة، حتى لقد كان نورا أقرب إلى هذا النور الذي ينزل عليه وحيا من ربه- إن الذي اصطفى محمدا لهذا، قد اصطفى له- فيما اصطفى- أزواجه، وأصحابه، ومواليه، ومن كان على صلة قريبة مدانية له.
وقد كانت السيدة عائشة، أقرب المقربين إلى رسول اللّه، وأشدّهم صلة به، وأكثرهم اطلاعا على سره وعلانيته. فهى- والأمر كذلك- أصفى من اصطفى اللّه سبحانه وتعالى من النساء- إن لم يكن من الرجال- لصحبة نبيه، ومرافقته رفقة ملازمة، في أخطر دور من أدوار رسالته، وأكثرها ازدحاما والتحاما بالأحداث!.
فإذا جاء قوله تعالى: {وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ} كان مفهوم هذا واضحا أتمّ وضوح وأبينه، في التقاء السيدة عائشة بالنبيّ، وصحبتها له، وجعلها زوجا يسكن إليها، ويسعد بصحبتها.. إنها طيبة أطيب الطيبات، لا تكون إلا لطيّب بفضلها طيبا، وإن صاحبها لطيب، أطيب الطيبين، لا يتصل به، ولا يدخل في حياته إلا طيبة، أشكل الطيبات به، وأقربهن طيبا إلى طيبه!.
فإذا كان في الحياة طيب، وعفة، وطهر، فهنا الطيب، والعفة والطهر، وإذا كان في النساء امرأة لا تزلّ، وأنثى لا تأثم، فهى هذه المرأة، وهى تلك الأنثى!!.
هذا هو منطق الواقع، فيما تنطق به الحياة، في مختلف البيئات، وفى كل الأزمان.. الطيّب لا يقبل إلا طيبا، من قول أو عمل، أو زوج أو صديق.
والخبيث لا يقبل إلا الخبيث، من قول أو عمل، أو زوج، أو صاحب،.. وهذا ما يشير إليه الحديث: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف.
وفى الآية أمور.
فأولا: قدّم {الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ} على {الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ}.
وذلك لأن الخطاب موجه أولا إلى أولئك الذين خبثوا نفسا، ودينا، فأطلقوا ألسنتهم في الطيبات والطيبين من المؤمنين، وأنهم لو لم يكونوا على تلك الصفة لظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا، ولكانوا يقولون إذ سمعوا اللغط بهذا الحديث: {ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ} كما وصّى اللّه المؤمنين بذلك، ودعاهم إليه.
وثانيا: قدّمت المرأة على الرجل هنا في الحالين: الخبث والطّيب.. وذلك لأن المرأة هي التي يطلب لها كفؤها من الرجال، فلا يصح أن تتزوج بمن هو أنزل منها شرفا وقدرا.
والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى، والعفة، والطهر.
فالخبيثة، كفؤها من هو أخبث منها خبثا.
والطيبة، كفؤها من هو أطيب منها طيبا.
وثالثا: الإشارة في قوله تعالى: {أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ}.
تشير إلى من مسهم شيء من هذا الحديث الآثم، وهم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- وعائشة- رضى اللّه عنها، وأبواها، وصفوان بن المعطل.. فهؤلاء قد برأهم اللّه من كل دنس، وعافاهم من كل سوء، ودمغ بهذا القول الزائف الآثم أهله.. على حين أجزل الثواب العظيم، والرزق الكريم لمن مسهم هذا القول بضرّ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.