فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (27- 29):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)}.
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك، الذي كان المدخل إليه، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون في الركب، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل، فحملها على بعيره، وألحقها بكرب الرسول.
فكان المنافقين، ومن في قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس مريضة، وأهواء متسلطة، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه.. سواء في ذلك أم المؤمنين، أو الصحابىّ الذي كان في خدمتها.
نقول- جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص، يتصل بالبيوت وحرمتها، حتى لا تكون مظنّة لريبة، أو موضعا لتهمة.. ذلك والنفوس- إذ تستقبل هذه الآيات- مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم، وينفى الرّيب، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبيّ، وزوجه، وصديقه الصديق، وصحابته، وصالحو المؤمنين.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فهذا أول مادة في دستور هذا الأدب الربانىّ، في تزاور المسلمين، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا في البيوت.. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس، ويسلم على أهله.
والاستئناس، هو طلب الأنس، وإزالة الوحشة، وذلك باستئذان أهل البيت، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار، فإذا لقيه أحد سلم عليه.. فإن أذن له بالدخول دخل، وإن لم يأذن له رجع.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وفى قوله تعالى: {فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي لا دخول أبدا إلا بعد إذن.. فإن لم يكن أحد في البيت فلا دخول أبدا.. وإن كان في البيت أحد، فلا دخول إلا بعد التسليم، والإذن.
وفى قوله تعالى: {هُوَ أَزْكى لَكُمْ} أي هذا الموقف هو أزكى لكم، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن.
والضمير {هو} يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى {فَارْجِعُوا} أي فالرجوع أزكى لكم، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل، وعدوان على حرمات غيركم، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم، أو قد يكون لأنه في أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه.. أو نحو هذا.
فالبيوت ستر لأهلها، ودخولها بغير إذن ابتداء، هو أشبه باللصوصية، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ، فوق أنه تطفّل وصغار!- وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات اللّه، أو لا يأتمرون بهذا الأمر، الذي أمرهم اللّه به، وأدّبهم بأدبه.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ}.
هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هي البيوت المسكونة، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن.
أما البيوت غير المسكونة، كالأمكنة العامة، مثل النّزل، والمطاعم، ونحوها فلا حرج في دخولها بغير إذن.. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا، بل إنها تستدعى الواردين إليها، وأبوابها مفتوحة لهم دائما.
والمراد بالمتاع في قوله تعالى: {فِيها مَتاعٌ لَكُمْ} هو المنفعة والحاجة، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته في دخول البيوت المسكونة- هو مما يقضى به الظاهر، وليس امتثاله، والدخول بعد الاستئذان، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر، ورعاية الحرمات، وحفظ أسرار البيوت، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها- فإن لهذا كلّه حسابه عند اللّه، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل في علن وسرّ.

.تفسير الآيات (30- 31):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}.
التفسير:
هاتان الآيتان تشرحان تلك الإشارة الخفية التي جاءت في قوله تعالى في الآية السابقة عليهما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ}.
حيث جاءت الآيتان تدعوان إلى غضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وهى أمور تقع غالبا في خفاء وستر.. فجاءت الآيتان تصرحان بالأمر بما هو مطلوب من المؤمن، والمؤمنة، وهو غض البصر، وحفظ الفرج.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ}.
الخطاب موجّه إلى المؤمنين، الذين هم بحكم إيمانهم باللّه، ومراقبتهم له، أهل لأن يمتثلوا أمر اللّه ويستجيبوا له.
وغضّ البصر، هو كسره، وعدم ملء العين من النظر إلى المحرمات من النساء، مخالسة، أو معالنة.. فإن النظر هو رسول الشيطان إلى تحريك الشهوة، والدعوة إلى الفاحشة.
وقدّم الرجال على النساء، لأن النساء، عورة، والنظر إليهن يدعو إلى الفتنة أكثر من نظر النساء إلى الرجال.
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
هذه الآية موجهة إلى النساء، وإلى ما ينبغى أن يأخذن أنفسهن به، من أدب، واحتشام، حتى لا يتعرضن للفتنة، أو يقعن تحت دائرة الشك أو الاتهام.
وأول ما يأخذن به أنفسهن، هو أن {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.
هذا هو الأمر العام، الذي يطلب منهن امتثاله، فلا تملأ المرأة عينها من رجل غير محرم لها، وأن تحفظ فرجها.. فهذا وذاك أمانة هي مؤتمنة عليها، وليس من سلطان عليها، إلا دينها وضميرها، وعفّتها.. وقد اقترن الأمر بغض الأبصار بحرف من الذي يفيد التبعيض، لأنه لا يمكن أن يغضّ البصر، ويقفل قفلا تامّا، ولهذا لم تجئ من التي للتبعيض مع حفظ الفروج، لأن الحفظ هنا لا أبعاض له.. ثم هناك أمور.. هي ذرائع إلى الفتنة والإغراء بها، من جانب الرجال.. فعلى المرأة أن تسدّ هذه الذرائع وتغلق هذه النوافذ، التي تطلّ بها الفتنة منها على الرجال، فتكون بذلك داعية فتنة وإغراء بالفتنة سواء قصدت إلى هذا أم لم تقصده.
وهذه الذّرائع هي ما جاء مفصلا في الآية على هذا الترتيب:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها}.
أي لا يكشفن من أنفسهن إلّا ما لا سبيل إلى ستره وإخفائه، كالعينين، والكفّين، والقدمين.
فالمرأة كلّها {زينة} في عين الرجل.. حتى صوتها.. ولكن الشريعة الإسلامية نافية للحرج.. وأمر المرأة بإخفاء كيانها كلّه، مما لا تحتمله النفوس، ولا تقبله الحياة.. ومن هنا كان الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} أي إلّا ما لابد من ظهوره، حتى تعيش المرأة في الحياة، وتشارك فيها، فتنظر بعينيها وتعمل بيديها، وتسعى بقدميها.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ}.
الضرب: وضع الشيء على الشيء في إحكام.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة نحرها.
والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب، بين النحر، والعنق.
والمعنى: أنه يجب عليهن ستر العنق والنحر بالخمر، وضربها على العنق، وإرسالها إلى النحور.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ}.
فهؤلاء الأصناف من الرجال، هم محارم للمرأة، أو أشبه بالمحارم لها.
وليس عليها من جناح في أن تتحفف كثيرا أو قليلا من هذا الحظر المضروب عليها.
فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أي أزواجهن.. فليس على المرأة حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج.
{أَوْ آبائِهِنَّ}.
وليس عليها من حرج كذلك في أن تبدى زينتها كلها أو بعضها في حضور أبيها.
{أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ} وهم آباء الأزواج، أي وكذلك الشأن مع أبى الزوج.. فهو مثل أبيها.
{أَوْ أَبْنائِهِنَّ}.
وليس على المرأة من حرج في حضور أبنائها، أن يظهر منها شيء مما أمرت بستره من زينتها.
أو {أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي أبناء الأزواج من غيرهن.. فهن مثل أبنائهن.
{أَوْ إِخْوانِهِنَّ}.
وليس على المرأة حرج في أن يظهر منها شيء من زينتها في حضور إخوتها.
{أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ} وكذلك أبناء الإخوة، هم كالإخوة.
{أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ} وأبناء الأخوات كأبناء الإخوة.
{أَوْ نِسائِهِنَّ} أي زوجات هؤلاء الرجال المذكورين، حيث لا يكون في مخالطتهن فتنة، ولا في كشف الزينة أمامهن ما يفضح جمال المرأة، وذلك لأن زوجة أىّ من هؤلاء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال، إذ كانت المرأة هنا بالنسبة لأية زوجة من أولئك الزوجات بعضا منها، وأهلا من أهلها، فلا تغرى الرجال بها، ولا تكشف لهم عن مفاتنها.
وكذلك الشأن في نساء زوجها، اللائي تمسكهن الغيرة عن وصف أي حسن تراه إحداهن في الأخرى.
{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} وهم الرقيق، المملوك لهن من الرجال.
فملك اليمين، وإن لم يكن من محارم المرأة، هو أشبه بالمحرم، لأنها تملكه، كما تملك المتاع، الأمر الذي لا يصح معه أن يكون زوجا لها، له القوامة عليها، كما يقول اللّه تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} (34: النساء) فاعتبار ملك اليمين، أهلا لأن ينظر إلى مالكته نظرة اشتهاء، فيه إيذان بفتح باب فتنة وفساد، حيث يخلى المرأة من شعور الترفّع عن أن تكون مستفرشة لخادمها وملك يمينها، على حين أن هذا يجرّئ المملوك على التطاول إلى سيدته، والطمع فيها.
وفى التخفف من زينة المرأة أمام مملوكها، إشعار له ولها، أن الأمر بينهما قائم على غير ما يقوم عليه الحال بينها وبين غير المحارم من الرجال.. وبهذا يموت، أو يصل إلى قريب من الموت، هذا الإحساس الذي يكون بين المرأة والرجل الأجنبى عنها.
فالمملوك- وإن كان رجلا، فيه ما في الرجال من رغبة واشتهاء- هو بالنسبة إلى مالكته كأحد محارمها، الذين يخالطونها، ويعايشونها.. كالأب، والابن، والأخ.. وتخففها من زينتها في وجوده يشعره ويشعرها بهذا المعنى، وهو أنه لا ينبغى أن يمدّ بصره إليها، كما أنه لا يليق بها أن تشتهيه.
وقد ذهب كثير من المفسّرين، والفقهاء إلى أن المراد بما ملكت أيمانهن الإماء، دون العبيد.. ولكن الذي نراه، هو أن المقصود به العبيد.. وقد روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى إلى فاطمة- رضى اللّه عنها- بعبد لها، فأرادت أن تستتر منه بالحجاب، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأس.. إنما هو أبوك وغلامك»!! {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ}.
والإربة: من الأرب، وهو الرغبة والاشتهاء.
والمراد بالتابعين، هم الذين يخدمون المرأة، ويكونون في حاجتها بأجر، وهم ليسوا في ملك يمينها.. فهؤلاء التابعون، وقد انقطعت شهوتهم للمرأة، لمرض، أو شيخوخة، أو غير هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للمرأة- هؤلاء التابعون، لا حرج على المرأة من أن تتخفف من زينتها في حضورهم، لأنهم لا ينظرون إلى ما بدا منها نظرة رغبة واشتهاء.. ومن ثمّ لا يكون النظر إليها مدخلا إلى الفتنة، إذ لا إربة لهم في المرأة.
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ}.
والطّفل: الولد، مادام ناعما، ويطلق على المفرد، والجمع، ويجمع على أطفال، ويقال للمرأة الناعمة طفلة.
وحكم الصغار- وإن كانوا غير محارم للمرأة- كحكم التابعين غير أولى الإربة من الرجال.. لأنهم في تلك الحال بعيدون عن التفكير في المرأة، وعن النظر إليها في رغبة وشهوة.
وفى وصفهم بقوله تعالى: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} إشارة إلى أنهم وهم في سنّ الطفولة، لا يستطيعون التمييز بين ما هو عورة، وما ليس بعورة من المرأة.
فهؤلاء اثنا عشر صنفا من الرجال، ليس على المرأة حرج في أن تبدى بعض زينتها في وجودهن.
هذا، ويلاحظ في هذا النظم، الذي جاءت عليه هذه الآية في ذكر هؤلاء الأشخاص، أنه يأخذ ترتيبا تنازليا في تضييق دائرة التخفف من الزينة، شيئا فشيئا.. بحيث تكون هذه الدائرة على سعتها كلها مع الزوج، ثم تبدأ تضيق شيئا فشيئا مع من بعده، حتى تبلغ حدها الأدنى مع {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ}.
ونظرة في هذا الترتيب، تدلّ على حكمة الحكيم، وتقدير العزيز العليم، لما في النفس البشرية من نوازع وعواطف، تتحرك حسب ما يقوم بينها وبين العالم الخارجي من روابط وصلات.
وقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يأتين بأرجلهن حركة تنمّ عما يخفين من زينتهن.. وذلك بما يكون من ضروب متصنعة في المشي، تهتز معها الأرداف، وتتمايل الخصور، وتتماوج الصدور.
وفى قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} هو دعوة للمؤمنين، والمؤمنات، إلى التوبة إلى اللّه، والرجوع إليه من قريب حيث أن الإنسان في هذه المواقف معرض للزلل والعثار.. من خطرات نفسه، أو نظرات عينه، أو فحش لسانه، إلى غير هذا ممالا يكاد يسلم منه أحد.. وليس لهذا من دواء إلا التوبة إلى اللّه من كل زلّة أو عثرة.. فإن هذه التوبة هي التي تصحح للمؤمن إيمانه، وتبقى على ما في قلبه من جلال وخشية للّه رب العالمين.. وفى هذا الفوز والفلاح.