فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (32- 34):

{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.
الأيامى: جمع أيّم، وهو من لم تكن له زوجة، أو من لم يكن لها زوج.
والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله.. وهو نصح وإرشاد، وترغيب في الزواج، وذلك لما فيه من وقاية، وحصانة، وتعفف.. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر اللّه به في الآيات السابقة، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «يا معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
والباءة: القدرة على التزوج، وامتلاك الصلاحية له.
والوجاء: الخصاء، الذي به تموت الشهوة، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة.
فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج، وأن يرغبوا فيه، وييسّروا أموره، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد، والاعتداء على الفروج، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة، التي تحرمها شريعة هذا الدين.
كما يقول الرسول الكريم: «النكاح سنّتى، فمن رغب عن سنتى فليس منّى..».
وكما يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا رهبانية في الإسلام».
وقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} معطوف على قوله تعالى:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ}.
أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد، وإمائكم، وهن الرقيقات.. أي وكما يرشدكم اللّه سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار، لتحفظوا فروجكم، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم.. فهم بشر مثلكم، فيهم رغبة وشهوة، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة، إن لم يكن في حلال، ففى حرام.
ومن أجل هذا، فإن على من في يده فتى أو فتاة، أن يرعى اللّه فيهما، وألّا يدعهما هملا، يعيشان في الفاحشة كما تعيش البهائم.. فهم جزء من المجتمع الإنسانى، وفى فسادهم فساد للمجتمع، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر.
وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج.. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم.
ولكن يبقى- مع هذا- قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
الضمير في {يَكُونُوا} يعود إلى المذكورين في الآية من {الْأَيامى} ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء.. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج، وراغبين فيه طلبا للتعفف، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية، وما تجيء به من ذرية- إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا، واللّه سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة اللّه، وحفظ الفروج بهذا الزواج.
وهذا وعد كريم من اللّه سبحانه، لابد أن يتحقق، وذلك لأمرين:
أولهما: أنه وعد من اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى لا يخلف وعده!.
وثانيهما: أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى!.
وكيف؟.
والجواب، هو أن الذي يطلب في الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته، هو إنسان جادّ في هذه الحياة، وملء إهابه، إيمان، وتقى، وجدّ، وعزم.. وأنه ليس من اللاهين الفارغين، الذين يقضون حياتهم في اللهو والعبث، وتصيّد الشهوات، والتقاطها من كل وجه.. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع، وقضاء الشهوات، هم أقرب الناس إلى الفقر، وأدناهم إلى الحاجة والعوز، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا.
أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم.. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير، وأن يدنيهم من الغنى، بل ويحققه لهم.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} إشارة إلى سعة فضل اللّه، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله، المبتغين من رزقه، وهو {عَلِيمٌ} بما يصلح أمرهم، ويقربهم من فضله، ويعرّضهم لرزقه.. ومن ذلك تحصنهم بالزواج.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الكتاب: المكاتبة، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ، في مقابل قدر من المال، يؤديه إليه، فيعطيه سيّده بذلك كتابا، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه.
وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من في أيديهم، ممن يرغب منهم في هذا- دعوة إلى تحرير الأرقاء، وفكّ الرقاب.. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم، ورفع قدرهم بالزواج، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان.
وفى قوله تعالى: {فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إرشاد لمالكى الرقاب، إذا هم استجابوا لأمر اللّه، ورغبوا في مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم- أن ينظروا في حالهم قبل أن يكاتبوهم، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق-.. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة في الحياة الجديدة التي يدخل فيها، فيصبح- وهو الحر- عالة على المجتمع، يعيش على السؤال والتكفف، وفى هذا ضياع له، أكثر من ضياعه وهو في قيد الرق!.
ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده، وهو ينظر في هذا إلى مصلحة العبد نفسه- إنما يريد له الخير، باختيار ما هو أصلح له.. وسيد هكذا.. هو سيد يخاف اللّه ويتقيه، في هذا الإنسان الذي ملكه اللّه رقبته، وحفظه في يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه.
وفى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ} دعوة إلى المؤمنين جميعا، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب منهم، حتى يتخلصوا من أسر الرق، وحتى يدخلوا في المجتمع الحرّ، ويكونوا قوة عاملة فيه.
قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
البغاء: من البغي، وهو العدوان على حدود اللّه بإهدار حصانة الفروج.
والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء في أيديهن.
وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء، رغبة في الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس.
والنهى هنا واقع على مالك الرقبة، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا.. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها، وعن رغبة ورضا منها، فلا محلّ للنهى، ويكون هذا البغاء مباحا.. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون في تأويل هذه الآية.
وللمفسرين في هذا تخريجات، وأساتيد يستندون إليها، ومرويات يأتون بها، في أسباب النزول، والأحداث التي لابست نزول الآية.
والحق أننا لم نر في هذه التخريجات وجها، نقبلها عليه، وأن نفهم كلمات اللّه بها، دون أن يكون في الصدر حرج، وفى القلب ضيق ووسواس!.
فمن أراد أن ينظر في هذه المرويات، وتلك التخريجات فهى مبثوثة في كتب التفاسير، يضيق الصّدر بها، ويثقل على النفس نقلها هنا.
وقد هدانا اللّه سبحانه وتعالى، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الحقّ.
فالفهم الذي نستريح إليه في الآية الكريمة.. هو أن قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هو دعوة إلى مالكى رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن في الزواج. ليتحصّن به، وليحفظن فروجهن.. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج، شاهد مبين على صلاحهن، وسلامة إيمانهن، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة، التي يعيش فيها الإماء، مستباحات الأعراض.. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق في عالم الخطيئة.. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها، وتخاف اللّه في عرضها.
فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن في الإحصان بالزواج- الإمساك بهن عن الزواج، هو في الحقيقة- إكراه لهن على البغاء.. إذ لا سبيل إليهن- وهن رقيقات- إلا البغاء، رغبن في هذا، أو لم يرغبن.. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن.
ويكون تحرير معنى الآية هكذا:
{وَلا تُكْرِهُوا} أيها المؤمنون {فَتَياتِكُمْ} أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج- لا تكرهوهن {عَلَى الْبِغاءِ} وتحملوهن عليه حملا، بمنعهن من التزوج.
وفى قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا} إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه في التحصن بالزواج.
وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها، بزوجها، وبالحمل، والرضاعة، وغيرها، الأمر الذي يخفّ به ميزانها في خدمة سيدها، وينزل به قدرها عند بيعها.
وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه.. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه.
ثم تجيء خاتمة الآية هكذا: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقد اضطرب المفسرون في توجيه هذه الخاتمة، وضاقت بهم السبل في تخريجها، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء، ثم يجيء من ذلك عفو اللّه ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء..!
ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط، خرج بعض المفسرين إلى القول، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!! وهذا مردود من أكثر من وجه:
فالأمة في تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها، ترجى له المغفرة والرحمة.
ففى الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
ثم هي من جهة أخرى، ملك في يد سيدها، لا تملك من أمر نفسها شيئا، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء! وعلى هذا، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة، هي في مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء.. فإن هو رجع إلى اللّه، وأمسكهن عن طريق الفساد، وحصنهن بالزواج، نالته مغفرة اللّه، وسعة رحمته.
ومن جهة أخرى.. فإننا نرى في هذه الآية، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم، إذا هم رغبوا في هذا.
فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد.. لأنهم في الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة في التحرر بالمكاتبة، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول.
ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها.
ورغبة الإماء هنا، هي إرادة التحصن بالزواج، كما يقول سبحانه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد في المكاتبة كما يقول سبحانه:
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد، في شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة.. في الحقوق، والواجبات.. للمرأة والرجل على السواء.
ومن جهة ثالثة، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت، كما يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [25: النساء].
ففى هذه الآية أمور.
أولا: أن الحرّة محصنة، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج.
ثانيا: في زواج الأمة تكريم لها، ورفع لخسّتها، ونقلها من مرتبة الحيوان المملوك، إلى درجة المرأة الحرة.. حيث ينشئ لها الزواج حقوقا، ويفرض عليها واجبات، وقد كانت قبل الزواج مطلقة، لا حقوق لها، ولا واجبات عليها.
ثالثا: أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت، وثبتت عليها الجريمة، أقيم عليها الحدّ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب، فتجلد خمسين جلدة.
رابعا: أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه، فليس لها والحال كذلك، أن تزوج نفسها إذا رغبت في الزواج، وأرادت التحصن به.. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال.. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه في وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة.
هذا، هو ما رأينا واللّه سبحانه وتعالى أعلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
هذه الآية هي ختام لآيات الأحكام، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} إلى قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}.
وهى في هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة، في قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات، تلى هذا الإعلان، وتجيء بعده.
وقد نزلت هذه الآيات البينات، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام، جاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ}.
ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة في أول آية منها، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات، هي الآيات البينات، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة.. فليتحققوا من هذا الوصف، وليطلبوه منها، وليكون لهم منه عبرة وموعظة.
وفى وصف الآيات في أول السورة بأنها {آياتٍ بَيِّناتٍ} ووصفها هنا بأنها {آياتٍ مُبَيِّناتٍ} ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات في ذاتها.. سواء نظر إليها الناظرون، أو لم ينظروا.. ثم هي مبينات، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى.
وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات.. لأنها في أول الأمر لم تكن بين يدى الناس، ولم ينظروا فيها بعد.. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها، دون نظر إلى اتصال الناس بها.. فلما نزلت، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال.
وقوله تعالى: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} معطوف على قوله تعالى: {آياتٍ مُبَيِّناتٍ} أي وأنزلنا إليكم في هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم.
وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع في الأزمنة الخالية- هذا المثل هو حديث الإفك، الذي رميت به السيدة عائشة- رضى اللّه عنها- ومثله في الذين خلوا من قبل، هو ما وقع لمريم- عليها السلام لما لقيها به أهلها من اتهام، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله.. وقد برأ اللّه مريم في آيات بينات من كتابه الكريم، كما قال سبحانه وتعالى في اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً} [156: النساء]- فقد وصف اللّه سبحانه وتعالى قولهم في مريم بأنه بهتان عظيم، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة، بأنه بهتان عظيم، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ}.
وكفى السيدة عائشة- رضى اللّه عنها- قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم، عفة وطهارة، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به في قوله تعالى: {يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} [42: آل عمران].