فصل: تفسير الآيات (35- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (35- 40):

{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هذه الآية تحدث عن سلطان اللّه، وامتلاكه لناصية كل موجود في هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه في هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [50: طه].
فهذا النور الذي يضيء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال اللّه، وعظمته، وقدرته.
فكما أن اللّه سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين.
وقد ضرب اللّه سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ.
وإلا فإن هذا النور في ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات اللّه، وكما لا تدرك ذات اللّه، فكذلك لا تدرك صفاته.
والمثل المضروب لنور اللّه هو المشكاة وهى الكوة أي الطاق المفتوحة في الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن المشكاة هي هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح.
وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار.
وهذا النور، ينبعث من {مصباح} وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة.
وهذا المصباح داخل زجاجة.
وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ.
ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي مغروسة في أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان في هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب.
وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية في حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ في الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل:
الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى في أقصى الشرق، وبين الأمريكى في أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد.
والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم في أقصى الشرق، ومن كان في أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن في الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [17: الرحمن] وجاء في آية أخرى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} [40: المعارج].. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.
ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت في أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.
ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور اللّه.
وقد أكثر المفسرون القول في العائد عليه الضمير في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} أهو اللّه؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى اللّه عليه وسلم؟.
والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور اللّه، وإنه لا حرج من أن يشبه نور اللّه بما يقع لحواسنا من نور، وللّه- مع هذا- المثل الأعلى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه.
وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور اللّه، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم.
وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور اللّه، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا.
وفى الحديث: «إن اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته».
وتقول التوراة! خلق اللّه الإنسان على صورته.. على صورته خلقه.
وأين الإنسان من عظمة اللّه، وجلال اللّه؟ إنه هباءة تسبح في الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه في مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض:
لا تنكروا ضربى له من دونه ** مثلا شرودا في الندى والباس

فاللّه قد ضرب الأقلّ لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس

فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.
وقد عرضنا لهذه القضية في كتابنا قضية الألوهية بين الفلسفة والدين في الجزء الأول منه.
والصورة التي يصورها التشبيه هى: كوة أو مشكاة بلورية فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف في زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى.
ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون.
فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه اللّه سبحانه: {نُورٌ عَلى نُورٍ}.
نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور.
وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن.
أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادئ، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ في ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.
وقد قلنا إن المراد بنور اللّه هنا، هو هداية اللّه سبحانه وتعالى لكل ذرّة في هذا الوجود، وإقامتها في مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل في نور، فلا تضلّ طريقها أبدا.
ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هي نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج.
فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم في مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور اللّه ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور اللّه، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.
فنور اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه اللّه عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} (40: النور) وقوله سبحانه: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} [15: المائدة] وعلى هذا يكون المراد بنور اللّه، هو ما أودع في الموجودات من سنن، وما ركّب في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور اللّه، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [16: المائدة] ولهذا جاءت هذه الآية:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تالية قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وذلك بعد أن كشفت آيات اللّه بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين.
ولابد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية اللّه سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم في الوجود- بالنور.. إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه في هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة في حجرة، ونور آلاف منها في نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة في الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.
ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيز في مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان.
واللّه سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان.
فإذا كان اللّه نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا في الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا في مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة درية، داخل مشكاة، هي أشبه بالوجود الذي يستضيء بنور اللّه.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هي داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها.
وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا في تلك المشكاة البلورية، المعلقة في الفضاء يضيئها مصباح في زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار!.. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث في كيانه، هو القنديل المعلق في بيت من بيوت اللّه، ينبعث منه النور في ظلمات ليل بهيم.
ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور.
نور اللّه، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وفى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن نور اللّه الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة في كل موجود.. ومع هذا فإن اللّه سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير:
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}.
فالوجود كله، وإن كان نورا من نور اللّه، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضيء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو اللّه إليه من شاء من خلقه، ليكونوا في ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم اللّه به: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ}.
أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور اللّه سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن نور اللّه، هو من علم اللّه الكاشف لكلّ شيء.. فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا.
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} متعلّق الجار والمجرور {فِي بُيُوتٍ} هو فعل محذوف، تقديره: إذا أردتم التماس هذا النور.. نور اللّه.. فالنمسوه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
وهذا الذي نقول به، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة، على تقدير:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}.
وهذا بعيد من حيث النظم، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور اللّه هو نور اللّه، سواء في المساجد، أو في غيرها.
والذي ذهبنا إليه، هو المناسب للمقام.. إذ كان قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}.
مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور، وأن تكون فيمن شاء اللّه هدايتهم إليه.. ومن بواعث هذا الشوق تجيء تساؤلات عن هذا النور، وكيف السبيل إليه، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة، وهى بين يدى قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ففى هذه البيوت التي أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يلتمس نور اللّه، حيث يتجلى اللّه سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت، ويذكرون اللّه فيها.
وفى تنكير البيوت، تعظيم لمقامها، ورفع لشأنها، وتضخيم لقدرها، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا.. فهى أيّا كانت، أعلى البيوت مقاما، وأرفعها عمادا، وكل بيوت غيرها، ظلّ لها، ومرفق من مرافقها.
وإذن اللّه برفع هذه البيوت، هو أمره بإقامتها.. فحيث أقيمت، فهى مرفوعة على كل بنيان، وإن علا بناء، وعظم جسما.
وقوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} معطوف على قوله تعالى: {تُرْفَعَ} أي أذن اللّه أن ترفع، وأذن أن يذكر فيها اسمه.. وهو بيان للغاية من رفعها، وإقامتها، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم اللّه.. فهى بيوت عبادة، وذكر للّه.
وذكر اسم اللّه، هو ذكر اللّه.. واسم اللّه، هو صفته، وليس للّه سبحانه اسم واحد، أو صفة واحدة، وإنما له أسماء وصفات كثيرة، هي الكمال المطلق، كما يقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} [180: الأعراف] ودعاء اللّه بأسمائه، هو ذكر وتمجيد له.
وفى ذكراللّه، ذكر لجلاله، وعظمته، وقيومته، واستحضار لما له سبحانه وتعالى في خلقه، من تقدير وتدبير، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [28: الرعد] وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع، عند تفسير هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ}.
هو بيان شارح لهذه المساجد، ولمن يغشونها من عباد اللّه.. فهذه البيوت لا تهشّ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها، ويجد الأنس والمسرّة في رحابها، ويستشعر الغربة والوحشة في البعد عنها، فهو لهذا غاد ورائح إليها، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر اللّه فيها، ابتغاء رضوانه، وخوفا من لقائه في يوم {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا، وتزيغ فيه الأبصار، كربا وجزعا.
والغدوّ: أول النهار، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.. وأفرد الغدوّ: لأن فيه صلاة واحدة، هي صلاة الصبح.. وجمع الأصيل.. لأنه زمن ممتد، فيه صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين.. (المغرب والعشاء).
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت اللّه.. أي أنهم يفعلون هذا، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال، ليكون ذلك سببا في أن يرضى اللّه عنهم، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} [16: الأحقاف].. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى- سيزيدهم من فضله، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه.
فهذا رزق من رزقه {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} لأن خزائنه ملأى أبدا، لا تنقص بالعطاء.. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي.
ولكن- مع هذه الخزائن الملأى من رزق اللّه، ومن فضله، وإحسانه- فإنه سبحانه، قيوم حكيم، يضع رحمته حيث يشاء، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء، بحساب وتقدير، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره، وفى هذا يقول سبحانه:
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ}.
ويقول جلّ شأنه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [21: الحجر].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
فى الآية السابقة، ذكر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته، يذكرونه ويسبحون بحمده، وقد وعدهم اللّه على ذلك، قبول أحسن ما عملوا، ومضاعفة هذا الإحسان.
وفى هذه الآية عرض للكافرين، وأعمالهم التي يعملونها في دنياهم.
إنها أعمال مهلكة لأهلها، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب.. لأنها أغوتهم وأضلتهم، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة، وأنها غرس في مغارس الخير والإحسان.. وهى في حقيقتها أشبه بالسراب، يلمع في قيعة-جمع قاع- وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها.
وفى قوله تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً} إشارة إلى خداع النفس، بعد خداع البصر بهذا السراب، فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء، تغطّى على عقله، فيخال السراب ماء، مثله كالخائف المذعور، في سواد الليل ووحشته، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه والفتك به.
وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن، ويسعى حثيثا لاهثا إليه، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه: {حَتَّى إِذا جاءَهُ} ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}! فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه، وتتقطّع أنفاسه، وتغلى مراجل غيظه وظمئه.
وليس هذا وحسب، بل إنه سيجد هناك من يمسك به، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر، وضلال.. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}! فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو أشبه بالميتة، لا يؤكل لحمها، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما! قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
هو مثل آخر، تشبه به أعمال الكافرين، بعد أن شبهت بالسراب.
والفرق بين المثلين، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون في أعمالهم وهم في الحياة الدنيا، حيث يرونها في صورة حسنة معجبة.. وهى في حقيقتها سراب يخدعهم، ويدفع بهم في طريق الغواية والضلال، حتى تخمد أنفاسهم، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر، وما وراء القبر من حساب، وعقاب.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} (8: فاطر) وهنا في هذا المثل، تطلع عليهم أعمالهم هذه في الدار الآخرة، حيث يلتمسونها، فيجدون أنهم غارقون في ظلام مطبق، لا يرى فيه أحدهم يده، إذا أخرجها من كمّه، وعرضها لعينيه.. فكيف يرى هذه الأعمال، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات، في كيان هذه الظلمات.. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد، وإن استطاع! {أَوْ كَظُلُماتٍ} كظلمات لا ظلمة واحدة، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} أي متلاطم الموج، حيث يتعالى الموج، ويركب بعضه بعضا، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ {يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} أي يغطى هذا البحر موج، وفوق الموج، موج، وفوق الموج، سحاب، هو موج فوق موج.. وهو {ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ}.
وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه، ويلبسه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} أي من لم يجعل اللّه في قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور اللّه، الذي يملأ السموات والأرض!