فصل: تفسير الآيات (47- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (47- 52):

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.
من هم هؤلاء الذين يقولون آمنا باللّه وبالرسول؟
إنه لم يجر لهم ذكر في الآيات السابقة.. ولكنهم مذكورون ضمنا في قوله تعالى {لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فهناك أناس، قد دخلوا في الجماعة الإسلامية، وحسبوا في المؤمنين، وأضافوا أنفسهم إلى تلك الجماعة وتزيّوا بزيّها، وأخذوا سمتها.. واطمأنوا إلى ما هم فيه- ولكن اللّه فضحهم، وكشف عن نفاقهم، وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء.
إن الإيمان ولاء، وطاعة، وانقياد.. ثم هو قبل هذا حبّ، وإن تجرّع المحب في سبيله جرع البلاء! وهؤلاء الذين لبسوا الإيمان ظاهرا، إذا وضع إيمانهم على محكّ التجربة، ظهر زيفه، وبان ما فيه من دخل، وفساد.. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [2: العنكبوت].
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا}.
ما أكثر الأقوال، وما أيسرها على الأفواه.. وإن القول الذي لا يصدقه العمل، هو زور وبهتان.. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ}.
أفهذا شأن المؤمنين؟ أو تلك هي سبيل المطيعين؟- ذلك ما لا يكون من أهل الإيمان أبدا.
والتولّى: هو النكوص على الأعقاب، والعودة إلى حيث ما كانوا عليه من ضلال وكفر.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ}.
أي من بعد قولهم هذا القول بألسنتهم، والدخول بهذا القول مدخل المؤمنين، وهو قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا}.
وقوله تعالى: {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} هو حكم على هؤلاء الذين قالوا هذا الذي قالوه بأفواههم، ولم يتصل بعقولهم، وقلوبهم، ولم يؤثر في مشاعرهم ووجداناتهم.. وهم فريقان: فريق دخل في التجربة، فكشفت التجربة عن نفاقه.. وفريق ما زال ينتظر التجربة التي تفضحه وتعرّيه من هذا الثوب الزائف الذي استتر به، وهو لابد أن يتعرى ويفضح في يوم من الأيام:
ثوب الرياء يشفّ عما تحته ** فإذا التحفت به فإنك عار

قوله تعالى: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}.
هو بيان لما في قلوب هؤلاء المنافقين من نفاق.. فهم مؤمنون، إذا كانت ريح الإيمان تدفع سفينتهم إلى الوجهة التي يريدونها.. وهم غير مؤمنين، إذا تعارضت ريح الإيمان مع أهوائهم وشهواتهم.
إنهم لا يرضون حكم اللّه ورسوله فيهم، ولا يقبلون ما قضى به كتاب اللّه في شأن من شئونهم، إذا كان ذلك الحكم مما لا يرضيهم.
وفى الحديث عن هؤلاء المنافقين عموما، ثم الإشارة إلى فريق منهم- في هذا إشارة إلى أنهم كيان واحد، من الضلال، والفساد.. وأنه لا فرق بين من يمتحن منهم، ومن لا يمتحن، وبين من يدعى إلى حكم اللّه ومن لا يدعى.
إنهم جميعا عصابة لصوص، دخلت في حظيرة الإسلام، فإذا ضبط الإسلام بعضهم متلبسا بجرمه، فليس ذلك بالذي يبرئ ساحة هؤلاء الذين لا يزالون بعيدين عن قبضة الإسلام، حيث لم يفتضح نفاقهم بعد! إنهم على طريق الفضيحة.. إن لم يكن اليوم، فغدا، أو بعد غد! وقوله: {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
فى عطف الرسول على لفظ الجلالة {اللَّهِ} سبحانه وتعالى، تشريف لمقام الرسول ورفع لقدره.. وأنه إنما يقضى بما قضى اللّه به، فحكمه من حكم اللّه، وطاعته، طاعة اللّه.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي إن هؤلاء المنافقين، إذا كان حكم الإسلام في أمر من الأمور العارضة لهم، مما يتفق مع مصلحتهم، جاءوا إلى الرسول مذعنين، أي مطيعين، معلنين الولاء للّه، ولرسوله، يطلبون أن يأخذهم بحكم الإسلام، لأنه يجرى مع مصلحتهم، ويلتقى مع حاجتهم.
قوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
الاستفهام هنا هو تقريرى، يكشف عن العلل، التي تموج بها صدور أولئك المنافقين.. فليس داء واحدا هو الذي يخامر المنافق.. وإنما هو يعيش في أكثر من داء، مما في قلبه من مرض.
وهذا المرض الذي في قلبه، من شأنه أن يفسد كلّ معتقد.. فلا يعتقد المنافق في صحة رأى أو فساده إلا بالقدر الذي يجنى منه نفعا عاجلا.. إنه لا ميزان عنده لخلق، أو رأى. أو دين.. إنه يدين بالدين الذي يمشى مع هواه.. ومن هنا، فهو في ارتياب من كل شيء.. يلقاه مترددا متشككا، ويقلّبه، كأنما يراه لأول مرة، ولو كان قد مرّ به ألف مرة.. لأن له في كل مرة حالا معه، ورأيا فيه.
ومن هنا جاءت العلة الثالثة التي تسكن في قلوب المنافقين، وهى تخوفهم من أن يحيف اللّه عليهم ورسوله، إذا هم احتكموا إلى كتاب اللّه.. فكتاب اللّه ميزان واحد.. وهم إنما يجرون أمورهم على موازين لا حصر لها.. وكل حكم لا يتفق مع أهوائهم، هو عندهم جور وحيف.. فهم يضعون أحكام اللّه موضع الاختبار والامتحان، ولا يجيئون إليها مستسلمين راضين بما يقضى به اللّه، سواء أكان لهم أم عليهم.. بل إنهم إن وجدوا في حكم اللّه، ما هو لهم، أخذوا به ورضوا عنه، وإن وجدوه على غير ما يريدون، أعرضوا عنه، وتنكروا له.
وفى قوله تعالى: {بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
إشارة إلى أن هذه الأمراض الخبيثة التي يعيش فيها المنافقون، إنما تنتهى بهم إلى أخسر صفقة، وهى الظلم الذي هم أول ضحاياه.. إنهم ظلموا أنفسهم، وساقوها إلى هذا المرعى الوبيل، الذي لن يطعموا منه إلا الخزي والخسران في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، وحسبهم أنهم كفروا بآيات اللّه.. وللكافرين عذاب مهين.
قوله تعالى: {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
هذه هي الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين، وما في قلوبهم من صدق ويقين.
إنهم إذا دعوا إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم، أجابوا بالسّمع والطاعة، ورضوا بما يقضى به اللّه ورسوله فيهم، سواء أكان ذلك لهم، أم عليهم.. هكذا الإيمان، وهكذا شأن المؤمنين: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً} [36: الأحزاب] إنه السمع والطاعة لما يأمر به اللّه ورسوله، دون تردد أو ارتياب.. إذ لا إيمان مع تردد في أمر من أمر اللّه أو شك في حكم من أحكامه.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ}.
هذا هو جزاء المؤمنين حقا.. الفوز برضوان اللّه، بعد أن أفلحوا حين أخلصوا دينهم للّه، ودانوا بالطاعة للّه ولرسوله، وامتلأت قلوبهم خشية وتقى للّه، فلم ينافقوا في دينهم، ولم يتّجروا بإيمانهم، بل كانوا على حال، سواء مع اللّه ورسوله، في السراء والضرّاء وفى الشدة والرخاء.. إنه الحب للّه، والرضا بحكم اللّه.. والحب الصادق لا يجيء منه أبدا ما يغير موقف المحب ممن أحب.
هكذا الحب بين الناس، فكيف يكون الحب بين الناس ورب الناس؟
يقول الشاعر لمن أحب:
أسيئي بنا أو أحسنى لا ملومة ** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

.تفسير الآيات (53- 57):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.
عادت الآيات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، ولتعرض صورة أخرى من صور نفاقهم مع اللّه، بعد أن عرضت تلك الصورة المخزية الفاضحة منهم، وأنهم لا يقبلون حكم اللّه ورسوله فيهم، ولا يرضون بكتاب اللّه حكما عليهم.
فتراهم هنا في هذه الصورة، لا يستجيبون لدعوة الجهاد إذا حان وقت الجهاد، ودعا داعية.. وقد كانوا من قبل يقسمون الأيمان أغلظ الأيمان وأوكدها، لئن أمرهم الرسول بالخروج إلى القتال ليخرجنّ من غير تردد أو مهل.
فهم في مجال القول، أبطال حروب، وفرسان قتال، فإذا جدّ الجدّ، كانوا أجبن الناس، وأحرص الناس على حياة.
وإذا ما خلا الجبان بأرض ** طلب الطعن وحده والنّزالا

والحلف، هو أول سمة من سمات النفاق، وكثرة الحلف وتوكيده، هو الإدام الذي يأتدم به الكلام في أفواه المنافقين، فلا يسوغ لأفواههم كلام، ولا يجدون لقول طعما إلا إذا غمسوه في تلك الأيمان الكاذبة، وأكدوه بهذا الحلف الفاجر، واليمين الغموس.
وقوله تعالى: {لا تُقْسِمُوا}.
هو ردع لهم، وردّ لأيمانهم المؤكدة، ومبادرة بالتكذيب لما وراء هذه الأيمان، وذلك لما هو معروف من أمرهم، وأنهم ليسوا أهل صدق ووفاء، لأن من لا إيمان له، لا أيمان له.
وفى قوله تعالى: {طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}.
استهزاء بهم، وسخرية منهم، وبطاعتهم تلك التي يحلفون عليها، ويقدّمون بين يديها أوكد الأيمان.. إنها طاعة معروفة، طاعة بالقول، وعصيان بالعمل.. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [94: التوبة].
قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
هو دعوة إلى المنافقين، أن يخرجوا من نفاقهم هذا، وأن يستقيموا على طريق الإيمان، ويأخذوا وجهتهم مع المؤمنين، ولن يكون ذلك إلا بأن يطيعوا اللّه والرسول، وأن يمتثلوا ما أمر اللّه به على لسان نبيه الكريم، فإن فعلوا رشدوا، وإن تولوا فإنما على الرسول {ما حمّل} من أمانة، وهى تبليغ رسالة ربه، وقد بلّغها.. وعليهم ما حملوا وهو الاستجابة للرسول، والإيمان به، وبما معه من آيات اللّه.. وقد ألقوا هذه الأمانة من أيديهم، وخلعوها من أعناقهم.
وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أصله تتولوا.
حذفت تاء المضارعة للتخفيف.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} هو مطلوب الأمانة التي حمّلوها، والتي أشار إليها قوله تعالى: {وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ}.
وقوله تعالى: {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} هو مطلوب الأمانة التي حملها النبيّ، والتي أشار إليها، قوله تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ}.
وقد كان مقتضى النظم أن يردّ فيه ختام الآية على مطلعها، مراعى فيه الترتيب الذي جاء عليه المطلع.. بمعنى أن يكون نظم الكلام هكذا:
فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وما عليكم إلا أن تطيعوه.
ولكن هذا كلام، وذاك قرآن.. وشتان بين القرآن، وبين الكلام!.
فقد جاء القرآن على هذا النظم، فحمّل المنافقين الأمانة، ثم دعاهم فورا إلى الوفاء بها، لأنهم هم المطلوبون، المنادى عليهم بالخيانة.. على حين أن الرسول قد أدى أمانته، وليس في حاجة إلى تنبيه أو طلب.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} توكيدا وشرحا لقوله تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ} وليس دعوة جديدة للنّبى أن يبلغ البلاغ المبين، على حين أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} هو أمر مطلوب من المنافقين أداؤه.
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.
الخطاب هنا للمؤمنين جميعا، في مواجهة المنافقين.. وأن هؤلاء المؤمنين موعودون من اللّه- إذا هم صدّقوا إيمانهم بالعمل الصالح- أن يستخلفهم في الأرض، أي يجعلهم خلفاءه عليها، ويجعل إلى أيديهم السلطان المتمكن فيها.
فالإنسان هو خليفة اللّه على هذه الأرض، ولن يكون أهلا لهذه الخلافة إلا إذا صحّت إنسانيته، وسلمت فطرته.
أما إذا انحرف، وفسد، فإنه ينزل عن هذه الخلافة، ويخلى مكانه منها، ليأخذ مكانه بين حيوانات الأرض ودوابّها.
وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إشارة إلى من استخلفهم اللّه من عباده المؤمنين الصالحين، بعد أن أهلك القوم الظالمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} [13- 14: إبراهيم].. وكذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} [105: الأنبياء].
فالمؤمن باللّه، المستقيم على طريق الحق والهدى، هو أقوى الناس قوة، وأقدرهم على جنى أطيب الثمرات مما على هذه الأرض.. وبهذا يكون له السلطان المتمكن فيها.
قوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ} أي أن المؤمنين الذين عرفوا حقيقة الإيمان، وأدوا ما يقتضيه الإيمان منهم، من عمل صالح- هم أهل لأن يجمعوا إلى أيديهم الدنيا، والدين جميعا، فتكون لهم العزة، ويكون لدينهم الغلب والتمكين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
فالمؤمنون الذين لهم العزة هنا، إنما يستمدون عزتهم من عزة الرسول، الذي يستمد عزته من ربه.
فهم بهذا موصولون باللّه، باتباعهم رسول اللّه، وما أنزل إليه من ربه.
وهيهات أن يكون لإنسان ذليل ضعيف، دين، أو أن يقوم دين لدولة في مجتمع مريض هزيل!
والدّين الذي ارتضاه اللّه للمؤمنين، هو الإسلام، كما يقول سبحانه وتعالى في آخر آيات القرآن نزولا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [3: المائدة].
فالإسلام، هو الدين الذي قامت في ظلّه الشرائع السماوية، كما يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}.
هو الدين الذي خلص كلّه للأمة الإسلامية.
كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.
وكما يقول سبحانه: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [193: البقرة].
وفى قوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} إشارة إلى ما يكسبه الإيمان الحق أهله، من عزّة ومنعة وقوة، وأنهم بهذا الإيمان قد أمنوا أن يزيحهم الكافرون والمشركون والمنافقون عن دينهم، وأن يفتنوهم فيه.. ومن ثمّ فإنهم يعبدون اللّه بقلوب خلصت من المداهنة والنفاق، والشرك.. فلا يلتفتون إلى غير اللّه، ولا يعطون ولاءهم لسلطان غير سلطان اللّه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.
أي من حدّثته نفسه بالإقلاع عن الإسلام، والعودة إلى الكفر، بعد أن لبس ثوب العزّة، وأمن الفتنة في دينه من جور الجائرين، وظلم الظالمين- فهو من الفاسقين.. أي الخارجين طوعا عن دينهم، وليس لهم ثمّة عذر.. فهم كافر وفاسق معا.
وهذه الآية، تواجه المنافقين.. كما قلنا- بما يسوءهم ويكبتهم، وذلك بهذا الوعد الكريم من اللّه بإعزاز المؤمنين، والتمكين لهم، واستخلافهم في الأرض.. وأن المنافقين إذ كانوا ينظرون إلى حال المؤمنين يومئذ، وإلى ما يعجبهم من كثرة المشركين وغلبتهم، فإن الدولة وشيكة، أن تكون للمؤمنين.
فليبادروا إلى هذا المغنم، وليأخذوا مكانهم بين المؤمنين منذ اليوم، وإلا فلن يكون لهم مكان بعد أن يفوتهم الركب، وهم بمنقطع الطريق.
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وهذا بيان للأعمال المطلوبة من المؤمنين، حتى يكونوا على الوصف الذي وصفهم اللّه سبحانه وتعالى به، ووعدهم عليه الاستخلاف، والتمكين.
وهو أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه، ويندبهم له، من الجهاد في سبيل اللّه.
قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هو خطاب للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- مشار به إلى المؤمنين، الذين استمعوا إلى وعد اللّه سبحانه وتعالى لهم، بالاستخلاف في الأرض، والتمكين لدينهم.. وأنهم إذا نظروا فوجدوا ما هم عليه من قلّة وضعف، وما عليه الكافرون والمشركون من كثرة وقوة- إذا نظروا فوجدوا هذا، فلا يهولنّهم الأمر، ولا يدخل على ثقتهم بوعد اللّه وهن أو شك.. فهؤلاء الكافرون وإن بلغوا ما بلغوا من كثرة وقوة، فإنهم لا شيء أما قدرة اللّه سبحانه وتعالى.
فلن يعجزوه، ولن يفلتوا من المصير الذي هم صائرون إليه، من ذلّة وخزى في الدنيا، وعذاب أليم في الآخرة.
فليمض المؤمنون على إيمانهم، وليستقيموا على ما أمرهم اللّه.. فإن هم صدقوا اللّه، صدق وعده لهم، إذ يلقاهم على تلك الصفة التي وعدوا عليها.