فصل: تفسير الآيات (30- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (30- 34):

{وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}.
هو أسلوب من أساليب القرآن، في تنويع العرض، وفى إثارة المشاعر، وتحريك العواطف، في مجال الدعوة إلى اللّه، وذلك بعرض الناس على مشاهد القيامة، وما يلقون هناك من حساب وجزاء، ثم العودة بهم إلى حياتهم الدنيا، حيث تواجههم الآيات بماهم متلبسون به من كفر وعناد، فيكون لذلك وقعه في كثير من القلوب القاسية، والعقول المظلمة.. حيث تلين القلوب، وتنقشع الضلالات عن العقول.
وهنا في هذه الآية، تقرع آذان المشركين كلمات اللّه، صارخة بشكوى الرسول الكريم من إعراض قومه عنه، وسخريتهم به، واستهزائهم بكلمات اللّه.. ذلك، وما زالت مشاهد القيامة، التي كانوا بين يديها منذ قليل- ما زالت تلبس كيانهم، وما زال العرق المتصبب من هولها يرشح على وجوههم!.
وانظر في قوله تعالى: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وإلى هذه الكلمات الشاكية الضارعة، وإلى ما تحمل من مشاعر الألم والضيق اللذين يجدهما الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يقفه قومه، من مركب النجاة، التي يدعوهم إليها الرسول، وهم غرقى، يتخبطون في أمواج الضلال، والهلاك..!
إنك لتستشعر لتلك الكلمات حرارة هذا الدعاء الذي يدعو به الرسول ربّه، إلى هداية قومه، وإلى إنقاذهم مما هم فيه.. إنها رحمات يستمطرها الرسول- صلوات اللّه ورحمته وبركاته عليه- من السماء، لتلين هذه القلوب القاسية، ولتبصر هذه العيون العمى!.
وإنك لتجد في كلمة {قَوْمِي} من الحنو الممزوج بالحسرة والألم، ما تجده في قول نوح:
{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}.
إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وفى قوله تعالى: {هذَا الْقُرْآنَ}.
إشارة إلى أن هذا الخير الذي يتجنبه القوم، بل ويرمونه بالفحش من القول، والهجر من الكلام، وهو اليد البرّة الرحيمة، الودود.. فما أبعد ما بين القوم، وبين هذا القرآن! إنه يحسن ويسيئون، ويتودد إليهم ويحزنون؟؟؟؟، ويروّض ويجمحون، ويسمع ولا يسمعون! وفى قوله تعالى: {مَهْجُوراً}.
بيان جامع لموقف المشركين من القرآن.
وهو أنهم اتخذوه، كما يتخذون الأماكن المهجورة، يلقون فيها بالنفايات، والقاذورات.. فإن ما يخرج من ألسنتهم في شأن هذا القرآن، هو من ساقط القول، وسخف الكلام، وهجر الحديث! قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً}.
هذا عزاء كريم، من ربّ كريم، للنبىّ الكريم، عن مصابه في قومه، الذين تفيض نفسه الرحيمة عطفا عليهم، ورحمة بهم.. فهذا حكم اللّه في الضالين المعاندين منهم.. وتلك هي سنة اللّه في الذين خلوا من قبل.. وأنه مما قضى اللّه به في الناس، أن يكون منهم المؤمنون، والكافرون، وأولياء الأنبياء وأعداؤهم.
فلكلّ نبى أعداء من المجرمين، يقفون من دعوته موقف الخلاف، والعداء.
وفى هذا ابتلاء للنبىّ، وللمؤمنين، ليميز اللّه الخبيث من الطيب، كما يقول سبحانه: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [20: الفرقان].
وكما تحمل الآية الكريمة عزاء للنبىّ، تحمل كذلك التهديد والوعيد للمجرمين، الذين يقفون منه، ومن دعوته، هذا الموقف العنادىّ اللئيم.
وكفى أن يكون الوصف الذي لهم، هو أنهم مجرمون، قد حملوا أبشع جريمة تعرفها الحياة في عالم البشر.. وهى قتل أنفسهم بأيديهم..!
وقوله تعالى: {وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً} يهدى من يشاء من عباده.
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} [41: المائدة].
وفى قوله تعالى: {وَنَصِيراً} تثبيت للنبىّ وللمؤمنين، ودعوة لهم إلى الصبر على أذى {الْمُجْرِمِينَ}.
فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى نصر النبيّ ومن معه، وكفى باللّه نصيرا.. {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ} [160: آل عمران].
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا}.
وهذه مقولة أخرى من مقولات المشركين في القرآن، ومن مما حكاتهم الغثّة الباردة حوله.. لقد أخزاهم قولهم فيه: {إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.
وقولهم: {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} لقد أخزاهم هذا القول، ولم يجدوا له بينهم أذنا تسمع، أو إنسانا يصدّق.. فجاءوا إلى ما حول القرآن، لا إلى القرآن نفسه، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا، وبدا لهم أن الصورة التي ينزل عليها القرآن، يمكن أن ينظروا إليها على أنها دليل على العجز، والقصور، وعلى معاودة النظر، ومعاناة البحث، حتى يقع النبيّ على الكلمات المناسبة، والظرف المناسب، ثم يطلع على الناس بها.
هذا، وإلّا لما ذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا، تتنزّل آياته قطرات قطرات، ولا تنزل جملة واحدة؟ إنه لو كان هذا القرآن من عند اللّه لأنزله اللّه جملة واحدة، إذ أن قدرة اللّه لا يكون منها هذا العجز البادي في نزول القرآن قطعا متناثرة!.. هكذا فكروا وهكذا قدّروا.. وإنه لبئس التفكير ولبئس التقدير! وفى قولهم {نُزِّلَ} بدل أنزل، الذي يناسب قولهم: {جُمْلَةً واحِدَةً}.
لأن {نُزِّلَ} يفيد تقطيع الفعل، ووقوع النزول حالا بعد حال- في قولهم هذا تعريض بالتهمة التي يتّهم بها القرآن عندهم، وهو أنه نزّل لا أنزل، فهم يحكون الصورة التي نزل عليها القرآن، ثم ينكرونها بقولهم: {جُمْلَةً واحِدَةً}.
وقد ردّ سبحانه وتعالى عليهم هذا الإنكار، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما، على هذا الأسلوب، بقوله سبحانه:
{كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}.
فقوله تعالى: {كَذلِكَ} إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن.
أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ}.
وذلك التثبيت، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء، وبتلقّى ما ينزل منها، حالا بعد حال، على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنتظم مسيرة الدعوة، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها.. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، وعند كل موقف من مواقفها، كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يتلقى أمداد السماء، ويفتح قلبه وسمعه، لنداء الحق جل وعلا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، والأنس لنفسه، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى.. {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ}.
ولو نزل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه، من أنس دائم، ومدد ممتد، من تلك الثمرات الطيبة، التي ينال غذاءه الروحي منها، كلّما أحسّ جوعا، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!! إنه لو نزل القرآن جملة واحدة، لكان على النبيّ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله، ثم كان عليه- كلما أحسّ جوعا- أن يتخير من هذا الزاد طعامه.. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام، وأن يهيئه.. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما، حسب الحاجة، وعند الظروف الداعية.. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات اللّه المنزلة عليه، فتشتمل عليه، وتنسكب في مشاعره ووجدانه، وتملأ عقله، وتلبس روحه.
وشتان بين طعام محفوظ في علب، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته! قوله تعالى: {وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن، وأنه جاء أرتالا متواكبة، ومواكب يتبع بعضها بعضا، حيث تستطيع العين أن تشهد كل ما في هذه المواكب، وأن تتبيّن شخوصها، وملامحها، وما تحمل معها من متاع، وذلك على خلاف ما لو جاءت هذه الحشود في موكب واحد، يزحم بعضه بعضا، ويختلط بعضه ببعض، فإن أخذت العين جانبا، فاتها كثير من الجوانب، وإن أمسكت بطرف، أفلت منها كثير من الأطراف.
والترتيل:- كما يقول الراغب في مفرداته هو اتساق الشيء وانتظامه على استقامة واحدة.. يقال رجل رتل الأسنان (أي منتظمها) والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة.
ومن هنا كان ترتيل القرآن وهو قراءته، قراءة مستأنية، في أنغام متساوقة، يأخذ بعضها بحجز بعض، فيتألف منها نغم علويّ، هو أشبه بتسابيح الملائكة، يجده المرتّل لآيات اللّه في أذنه، وفي قلبه، وفي كل خالجة منه.
قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} هو بيان لحكمة أخرى من حكم نزول القرآن منجما، وهو أن هذا النزول على تلك الصورة، يرصد الأحداث الواقعة على طريق الدعوة الإسلامية من مبدئها إلى ختامها.
ثم يطلع على كل حدث، بما هو مناسب له.. فيحقّ حقّا، ويبطل باطلا، ويزيل شبهة، ويحيى سنة، ويميت بدعة.. وهكذا.
ونكتفى هنا بأن نضرب لهذا مثلا واحدا.
فقد كان من مقولات المشركين. في إنكارهم للبعث، قولهم: كيف تبعث هذه العظام النّخرة، وتلبسها الحياة مرة أخرى؟. وذلك ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
فجاء قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [79- 81: يس].
فكان ذلك ردّا على هذا المثل الذي ضربوه، وإبطالا له، وإطفاء لنار الفتنة المنطلقة منه، قبل أن يعظم لهيبها، ويشتدّ ضرامها.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا}.
{الَّذِينَ} بدل من الضمير في قوله تعالى في الآية السابقة: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} فهؤلاء الذين يضربون الأمثال للنبيّ الكريم، يجادلونه بها، ويشوّشون على دعوته، ويثيرون الشكوك والريب عند صغار الأحلام ومرضى القلوب- هؤلاء الذين يجيئون تلك الأمثال، هم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، وهم شر الناس مكانا في هذه الحياة الدنيا، وأضلهم سبيلا، إذ عزلوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الغواية والضلال.. وحشرهم على وجوههم، هو تنكيل بهم، وامتهان لهم، حيث يعاملون معاملة الحيوانات الميتة؟؟؟ من أرجلها، ويلقى بها في مكان بعيد.. وفي هذا يقول اللّه تعالى في هؤلاء الظالمين: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [48: القمر].

.تفسير الآيات (35- 44):

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً}.
مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما قبلها من آيات، هي أن الآيات السابقة كانت تحدّث عن موقف المشركين من النبيّ الكريم، وخلافهم عليه، ومقولاتهم المنكرة فيه، وفي الكتاب الذي نزل عليه- فجاءت هذه الآية وما بعدها، تحدّث عن الظالمين من الأمم السابقة، وموقفهم من رسلهم، وكيف أخذهم اللّه سبحانه بعذابه، وأوفع بهم بلاءه.
وفرعون والملأ الذين معه، هم الظّلم ممثلا في أبشع صورة. وهم الأئمة في الضلال، والعناد، والكفر.. ولهذا نجد القرآن الكريم، يعرض فرعون، وعناده، وضلاله، وما انتهى إليه أمره، من الهلاك غرقا- يعرضه في مواجهة المشركين من قريش، وفي المواقف التي يكشف فيها القرآن عن عنادهم وضلالهم، حيث يلقاهم بهذا العرض الكاشف لفرعون، وموقفه من آيات اللّه وما أخذه اللّه من نكال، وما ينتظرهم، هم، من بلاء وعذاب، قد رأوه فيمن كذبوا بآيات اللّه وعصوا رسله..!
فهذا موسى رسول اللّه، قد آتاه اللّه كتابا من عنده، وشد أزره بأخيه هرون، حتى يلقى فرعون ويبلغه رسالة ربّه.. ولكن فرعون أبى واستكبر، وكذّب بآيات اللّه التي طلع بها موسى عليه، وهي آيات مادية محسوسة، كتلك الآيات التي يقترحها المشركون على النبيّ، ويجعلونها شرطا لازما لتصديقهم به.. وما موقف القوم إزاء هذه الآيات بأحسن من موقف فرعون.. إنهم لن يؤمنوا بها، وسيكون لهم فيها مقال، كما كان لفرعون فيها مقال! وكذلك شأن الظالمين جميعا مع آيات اللّه.. إنهم على موقف سواء إزاءها، هو الاتهام والتكذيب! وفي كلمات معدودات، تعرض قصة موسى مع فرعون، هذا العرض الذي يمسك بالصميم منها: {اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً} وفي هذا ما يسأل عنه:
كيف يوصف فرعون وقومه بأنهم كذبوا بآيات اللّه، ولم يكن موسى قد التقى بهم، وعرض عليهم آيات اللّه.. واللّه سبحانه يقول: {اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؟
والجواب، هو أن فرعون لم يؤمن بآيات اللّه المبثوثة في هذا الوجود، وهي آيات تتمثل له في كل شيء.. في نفسه، وفي عالم الجماد والنبات والحيوان.
وفي ظواهر الطبيعة، وفي الكواكب والنجوم.. وفي كل ما يقع عليه النظر، من قريب وبعيد.
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد

فإغفاله لهذه الآيات، وعدم استنطاقها بما تحدّث به من جلال الخالق وعظمته، هو تكذيب بها.. ولو نظر نظرا باحثا عن الحقيقة، لآمن واهتدى.
ومن جهة أخرى.. فإن الآية حديث إلى هؤلاء المشركين، وعرض لما انتهى إليه أمر فرعون، وأنه قد كذّب بالآيات التي عرضها عليه موسى، فكان أن قال له: {أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [57- 58: طه].
لما ذا لم يذكر القرآن فرعون وملأه، واقتصر على الإشارة إليهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} ألا يمكن أن ينصرف هذا الوصف إلى غير فرعون وملائه، كبني إسرائيل مثلا؟
والجواب، من وجوه:
أولا: أن بني إسرائيل، لم يدمّروا تدميرا، حين آذوا موسى، ومكروا به، وعبدوا العجل من ورائه، بل كان عقابهم أن صبّ اللّه عليهم اللعنة، ومسخهم مسخا، وهم أحياء.
وثانيا: أن هذا الوصف، وهو التكذيب بآيات اللّه التي جاء بها موسى، إنما كانت من فرعون وملائه، وقد تحدّث عنها القرآن في غير موضع، تفصيلا، وإجمالا.. ومن هنا كان هذا الوصف علما على فرعون وملائه، لا يشاركهم أحد فيه، في هذا الموقف.
وثالثا: أنه ليست العبرة هنا في ذوات الأشخاص، وإنما العبرة بالصفة التي يكونون عليها مع آيات اللّه.. فحيث كان التكذيب بها، كان التدمير، وكان الهلاك.. يستوى في هذا فرعون وغير فرعون.. فما دمّر اللّه فرعون لأنه فرعون، وإنما لأنه كذّب بآيات اللّه.. وهؤلاء الذين يكذبون بآيات اللّه من المشركين، هم فراعين، يلقون ما لقى فرعون! وفي هذا العرض الموجز للقصة كلها: {اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً} تهديد بهذا البلاء المطلّ على رءوس المشركين، وأنه منهم كلمح البصر أو هو أقرب.. إنه التكذيب، فالهلاك والتدمير.
قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً}.
الواو في قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} للعطف، وَ{قَوْمَ نُوحٍ} معطوف على قوله تعالى: {فَدَمَّرْناهُمْ} أي وكذلك دمّرنا قوم نوح لمّا كذّبوا الرسل.
والتدمير الذي وقع على فرعون، وعلى قوم نوح، هو الإغراق.. ومن هنا كان عطف الحدثين وجمعهما في سياق واحد.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {أَغْرَقْناهُمْ} هو جواب عن سؤال: كيف كان تدمير هؤلاء وهؤلاء؟ فكان الجواب: {أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً}.
فالإغراق والعبرة الماثلة للناس من هذا الإغراق، هو حكم واقع على الفريقين معا.. وكذلك التعقيب على هذا الحكم: {وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً} هو تعقيب على مهلك السّابقين واللّاحقين.. ثم هو تهديد ووعيد للحاضرين، والآتين!
قوله تعالى: {وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي وكذلك دمّرنا عادا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونا بين ذلك كثيرا.
والقرون: جمع قرن، والمراد الجيل من الناس.
وقد اختلف في أصحاب الرسّ.. فقيل إنهم أهل قرية باليمامة يقال لها الرسّ، وقيل هم بقية عاد وثمود، وقيل هم وأصحاب الأيكة قومان، أرسل إليهما شعيب.
وفي مفردات الراغب: الرّس: الأثر القليل الموجود في الشيء.
يقال سمعت رسّا من خبر أي قليلا منه.
وفي القرآن الكريم لم يرد ذكر لهذه الجماعة إلا في هذه الآية، وفي آية أخرى في سورة ق هي قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}.
ويلاحظ أن {أَصْحابَ الرَّسِّ} قدّموا على ثمود في سورة ق على حين جاء عكس هذا في سورة الفرقان، فجاء ذكرهم بعد ذكر ثمود.
ويمكن أن يتخذ من هذا قرينة على أن أصحاب الرسّ وثمود متجاوران زمانا، أو مكانا، أو زمانا ومكانا معا.
كما يلاحظ أنه لم يذكر في الموضعين الرسول الذي أرسل إلى أصحاب الرسّ.
والخلاف الذي وقع في {أَصْحابَ الرَّسِّ} وقع في {الرَّسِّ} نفسه.
ما هو؟ وأبن هو؟ وهل هو مكان، كما في قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [176: الشعراء]؟ أم هو اسم حيوان، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ}؟ أم هو سمة من سمات القوم الغالبة فيهم، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [80: الحجر]؟
وليس في التعرف على {أَصْحابَ الرَّسِّ} وفي الكشف عن موطنهم، وزمنهم، ورسلهم، ما يزيد في حجم أو أثر العبرة والعظة من مهلكهم.
فما هم إلا جماعة من تلك الجماعات التي شردت عن الحقّ، وتأبّت على الهدى، ووقفت من آيات اللّه، ومن رسل اللّه، موقف اللجاج والعناد.. وفي ذكرهم مع عاد، وثمود، ما يصبغهم بهذا الصّبغ الذي اصطبغ به هؤلاء وهؤلاء، من الضلال، والعناد.. فهم، ومن سبقهم، أو لحق بهم من الأقوام الضالين- على سواء في الكفر والضلال.
وفي قوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً} إضافة للكثير من الأقوام الضالين، الذين احتواهم الزّمن بين قوم نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. فهناك كثيرون من الرسل، قد بعثهم اللّه سبحانه وتعالى إلى أقوام عديدين، في تلك الحقبة، بين نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. وأن هؤلاء الأقوام لم يختلف موقفهم مع رسلهم، عن موقف عاد وثمود وأصحاب الرسّ، من رسلهم.
وعلى هذا، فإنه إذا كشف الزمن عن وجه أصحاب الرس- فليكونوا كعاد وثمود، وإذا لم يكشف الزمن عن وجوههم فليكونوا في هؤلاء الأقوام الذين احتواهم الزمن، بين نوح وبين عاد وثمود..! وهذا هو بعض السرّ في وضع {أَصْحابَ الرَّسِّ} في هذا الوضع من الآية.. فهم بين معلومين علما قاطعا، وبين مجهولين جهلا تاما.. وكذلك كان وضعهم في آية ق:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}.
فقد أخذوا وضعا وسطا بين معلومين قد ذهبت آثارهم، وبين معلومين قد بقيت من آثارهم بقية، هي أطلال دائرة، يمرّ عليها المشركون! قوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً}.
أي وكلّ قوم من هؤلاء الأقوام الذين أهلكهم اللّه، ودمدم عليهم- قد ضرب اللّه لهم الأمثال، وأراهم العبر فيمن سبقهم من الهالكين، حيث ذكّرهم بهم، وبما كان منهم من ضلال وعناد، وما أثمر لهم هذا الضلال وذلك العناد من ثمر نكد.. هو التتبير أي الهلاك والعذاب.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً}.
أتوا: أي مرّوا، ووقفوا على هذه القرية.. والضمير، يعود إلى المشركين من أهل مكة.. والقرية التي أمطرت مطر السوء: هي قرية لوط.
فقد أهلكها اللّه سبحانه، بما صبّ عليها من حجارة من سجيل، كما يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [82: هود].
والمعنى: أن هؤلاء المشركين، قد مرّوا على هذه القرية، قرية لوط، وهم في تجارتهم إلى الشام، ورأوا من آثار هذه القرية ما يحدّث عن مصارع أهلها.
وفي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها} استفهام يراد به التقريع والتوبيخ.
فهم كانوا يرون هذه الآثار، وما تنطق به، ولكنهم كانوا ينظرون بأبصار ترى ولا تعقل، فلم يك ينفعهم هذا النظر شيئا.. كما يقول سبحانه وتعالى:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} [105: يوسف].
وفي قوله تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} إضراب عن الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها} والمعنى، أنهم كانوا يرون هذه القرية بأعينهم، ولكنهم كانوا لا يرجون نشورا، ولا يتوقعون حياة بعد الموت.. وتلك هي علّتهم في حجب الرؤية النافذة إلى مواقع العبرة في قلوبهم، من تلك القرية.. إنهم ينظرون إليها ويرون مصارع أهلها، ولم يرد على خاطرهم، ما وراء هذا البلاء الذي نزل بهؤلاء القوم؟، إذ كانوا لا يرون أن وراء هذا شيئا آخر.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بالبعث، وبالحياة الآخرة، لتمثل لهم العذاب الذي ينتظر هؤلاء الذين ضمّهم الثرى، وأصبحوا ترابا.. وإذن لها لهم الأمر، واستولى عليهم الفزع، ولطلبوا لأنفسهم النجاة من أن يصيروا إلى هذا المصير، الذي ينتهى إليه كل متكبر جبار، لا يؤمن باللّه، ولا باليوم الآخر.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها}.
إنه لقاء مع المشركين، بعد أن وقفوا على مصارع القوم الظالمين، وما سيلقونه من عذاب أليم، يوم البعث والجزاء.
وفي هذا اللقاء يستمع المشركون إلى مقولاتهم المنكرة، التي يقولونها في رسولهم، الذي جاء ليستنقذهم من مصير كهذا المصير، الذي رأوه في أصحاب القرية، الذين أعنتوا رسولهم، وسفهوا عليه، كما يعنت هؤلاء المشركون رسولهم ويسفهون عليه.
وفي قوله تعالى: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً}.
إعلان بالجرم الذي أجرمه المشركون في حقّ الرسول.. وأنهم اتخذوه هزوا وسخرية.. وأن من هزئهم وسخريتهم به، هو الإشارة إليه تلك الإشارة المنكرة له، المستخفّة به، المستصغرة لشأنه: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}؟.
و{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} جملة منفية، و{إن} حرف يفيد النفي، أي ما يتخذونك إلا هزوا.
وفي التعبير عن هزء المشركين بالنبي بقوله تعالى: {يَتَّخِذُونَكَ} إشارة إلى أنهم يجعلون النبي غرضا لسهام السخرية، كلما لاح لهم، وبدا لأعينهم.
فذلك هو دأبهم معه. وفي هذا تشنيع عليهم، وتهويل لجرمهم.
وقوله تعالى: {إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها}.
{إِنْ} أداة تفيد التوكيد، وهي المخففة من إنّ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وتقديره: إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا.
وهذه الجملة هي بقية مقول القول: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}.
أي قائلين أهذا الذي بعث اللّه رسولا؟ إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها..!!
وإنهم ليحمدون لأنفسهم هذا الوقوف في وجه النبيّ، وهذا الثبات على ما هم عليه مع آلهتهم، وأنه لولا هذا، لجرفهم هذا التيار الجديد، ولأفسد النبيّ ما بينهم وبين آلهتهم، كما أفسد كثيرا ممن ليس لهم مثل ما عندهم من قوة وإرادة! هكذا ظنهم بأنفسهم، وبما أمسكوا به من ضلال!
وفي قولهم: {لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا} ما يكشف عن مدى ما ركب القوم من سفه وضلال، إذ يرون أن ما هم فيه من ولاء لهذه الأصنام، هو الهدى، وأن ما يدعوهم إليه النبيّ من الانخلاع عنها، هو الضلال!! ألا ساء ما يحكمون.
وفي قوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} هو ردّ على مقولة المشركين: {لَيُضِلُّنا}.
فإن الضلال هو ما هم فيه.. وسوف يعلمون ذلك، حين ينكشف الغطاء، ويساقون إلى جهنم.. حيث لا ينفع العلم، ولا ينصلح ما فسد.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}.
هو استفهام يراد به الإغراء برؤية هذا الأمر العجيب المنكر، الذي يتلبس به ذلك الإنسان الضال، الذي اتخذ إلهه هواه، وجعله معبودا، يعطيه ولاءه، ويسلم إليه إرادته.
والخطاب للنبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإلفات له إلى هؤلاء الضالين من قومه، الذين لعبت بهم الأهواء فلم تكن لهم أعين يبصرون بها، إلى هذا الوجود، وما فيه من آيات تحدث عن أن لهذا العالم خالقا خلقه، ومدبرا حكيما أقامه على هذا النظام المحكم الدقيق، ولم يكن لهم آذان يسمعون بها ما يتلى عليهم من آيات اللّه، فصمّوا عنها، واستمعوا إلى ما تحدثهم به أهواؤهم،- فكان منهم هذا السخف، وهذا الضلال الذي هم فيه..!
وفي قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} إزاحة لهذا العبء الثقيل من الهمّ الذي كان يجده النبيّ، وهو ينظر إلى سفاهة قومه، وضلالهم، ويعانى من ذلك ما يعانى من آلام.. إنه ليس وكيلا عليهم، يحمل عنهم ما حملوا من أوزار.. إنهم مسئولون عن أنفسهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك.. فتخفف من هذه المشاعر الثقيلة الضاغطة عليك، ودعهم وما حملوا:
{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها} [164: الأنعام].. {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} [8: فاطر].
قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}.
هو بيان لهذا الهوى الذي استولى على القوم، واستبدّ بعقولهم، وأن أكثرهم لا يسمعون، ولا يعقلون.. فما هم إلا كالأنعام، فيما يسمعون أو يعقلون.
إن أجهزة السمع عندهم لا تنقل إليهم إلا أصواتا، وإن عقولهم لا تعقل إلا خواطر مبهمة غائمة.. فهم- والحال كذلك- دون الأنعام قدرا، وأنزل منها منزلة في عالم الأحياء.. إذ كانت الأنعام مستقيمة على فطرتها التي فطرها اللّه عليها.. أما هؤلاء، فقد أفسدوا فطرتهم، واتخذوا أهواءهم قائدا يقودهم إلى كل مهلكة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!. وفي هذا تخفيف عن النبيّ في مصابه في قومه، هؤلاء الضالين. إنهم شيء تافه، وأجسام تعرّت من آدميّتها، فليس في فقدهم ما تخف به موازين الإنسانية أبدا.