فصل: تفسير الآيات (45- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (45- 52):

{أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً} مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، تحدثت عن الضالين، الذين لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وكل ما لهم، هو هوّى مطاع متسلط عليهم، مستبد بهم، لا يملكون معه نظرا عاقلا، أو سمعا واعيا.
وهنا في هذه الآيات، عرض لصورة كريمة، للإنسان الذي يرى فيعتبر، ويسمع فيعقل، ثم ينتفع بما عقل.
والخطاب، وإن كان للنبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- فإنه خطاب عام لكل من يستجيب لهذا النداء العلويّ، ويلقاه بقلب سليم، ونظر مستقيم.
والاستفهام، إنما يراد به الأمر بالنظر في هذه الظاهرة، التي تحدثت عنها الآية الكريمة، ولفتت الأنظار إليها.
ومجيء الأمر، على هذا الأسلوب الاستفهامى، هو إغراء بهذا الأمر.
حيث يطلع من هذا الاستفهام إنكار، واستغراب من عدم النظر إلى الظل، وكيف مدّه اللّه.. ثم يطلع من هذا الإنكار والاستغراب داع يدعو إلى المبادرة بالنظر، وإدراك مافات.. والتقدير هكذا: ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل؟
ماذا صرفك عن هذا؟ فيأيها الإنسان إذا كنت إلى الآن لم تكن قد نظرت فهيّا، فذلك أمر لا ينبغى أن يفوت ذا عقل! وقوله تعالى: {إِلى رَبِّكَ} أي إلى قدرة ربّك، وحكمته ورحمته.. وهذا يعنى النظر إلى اللّه سبحانه وتعالى من خلال آثاره، وما يتجلّى على هذه الآثار، من صفات الكمال والجلال، التي تفرّد بها، الإله الواحد، الفرد الصمد.
وفي إضافة النبيّ الكريم إلى ربّه، تكريم له، وأنس لوحشته، في هذا الوقت العصيب، الذي كان يعيش فيه مع قومه، وقد وصفوه بالجنون والسّفه.
وقوله تعالى: {مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً} أي نشره، وبسطه.
حتى ليكاد يغمر الكائنات.
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} إشارة إلى أنه لولا الشمس، لما عرف الظل، فظهور الشمس، هو الذي يدل على أن هناك ظلّا يطوى، فتحرك الظلّ مع الشمس هو الذي يدل على وجوده، وإن كان موجودا في ذاته.. وهذا يعنى أن التضادّ بين الأشياء، هو الذي يدل على وجودها، ويجعل لهذا الوجود صفات، تحدد شخصيته، وذاتيته.. وهذا يعنى أيضا أن التضادّ أمر لازم في نظام حياتنا البشرية- على الأقل- حتى نميز بين الأشياء ونحدّد سلوكنا إزاءها.. فهناك الخير والشر، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، والنور والظلام، والجميل والقبيح، والحلو والمرّ.. إلى ما لا يحصى من محسوسات ومعنويات.. حتى لا نكاد نجد معنى من المعاني، أو محسوسا من المحسوسات إلّا وفي الجانب الآخر، الوجه المضاد له.. فإن لم نجد هذا الوجه بحثنا عنه، حتى نعثر عليه، واقعا أو متخيّلا.
وفي قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً} إشارة إلى أن هذا الظل هو في يد اللّه، وتحت سلطان مشيئته، وأنه سبحانه لو شاء أن يجعله ساكنا، أي مقيما أبدا على حال واحدة لا ينسخه ضوء- لو شاء سبحانه ذلك، لنفذت مشيئته، ولأظلّنا هذا الظلّ أبدا.. ولكنه سبحانه قضى- بحكمته ورحمته- أن ينسخ الظلّ بالنور، وأن ينسخ النور بالظل، فنلبس في حياتنا هذين الثوبين على التناوب، كل يوم.
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً} إشارة إلى حركة التناسخ بين الظل والنور.. وأن يد القدرة تقبض الظلّ شيئا فشيئا، على حين تبسط النور بقدر ما تقبض من الظل.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [71- 73: القصص].
والصورتان، وإن كانتا تدلان على مدلول واحد، إلا أن الصورة الأولى- على صغرها- فيها حركة، وفيها تفصيل، أريد بهما الالتفات إلى تلك العملية، التي تجريها يد القدرة في تناسخ الليل والنهار، أو الظلام، والنور، على حين أن الصورة ثانية كانت غايتها الكشف عن الحكمة في هذا التناسخ، وبهذا تتآلف الصورتان، وتتكون منهما صورة واحدة وإن كانت كل صورة منهما قائمة على التمام والكمال، لا ينقصها شيء من الألوان أو الظلال.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} هو بيان لتلك الحكمة العالية في هذا التدبير الحكيم، من قبض الظل، وبسطه فيحدث من هذا القبض والبسط، الليل، والنهار.
وفي قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً} إشارة إلى ما في الليل من ظلمة، تلبس الكائنات، وتسترها، وكأنه بهذا يضم الكائنات الحية تحت جناحه، لتأخذ حظها من الراحة، والهدوء، بعد سعيها، وتعبها خلال النهار.. فهى تحت هذا الجناح لا تملك إلا أن تستسلم للدعة والسكون، حتى يتجدد نشاطها، ويتجمع ما ذهب من قوتها، لتستقبل صبحها الجديد بالعمل الجادّ والسعى المتصل.. فهذا نظام تفرضه الطبيعة، ومن مصلحة الكائن الحيّ أن يأخذ به ويلتزمه.
وفي قوله تعالى: {وَالنَّوْمَ سُباتاً} إشارة إلى أن النوم ظاهرة غير ظاهرة الراحة والسكون.. فقد يستريح الإنسان ويسكن، ولكن وجوده كلّه حركة عن طريق العقل، الذي لا يكفّ عن العمل والتفكير، إلا بالنوم المستغرق، الذي يسكن فيه العقل، كما تسكن الجوارح. فالسبات، هو السكون التام.
الذي يمثل صورة مصغرة للموت.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} أي تنتشر فيه الكائنات الحية، وتبعث من مرقدها، كما يبعث الموتى من القبور.
وفي هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة، للنوم، واليقظة، إشارة إلى صورة أخرى ينبغى أن يستحضرها أولئك الذين ينكرون البعث.. فما النوم إلا الموت، وما اليقظة إلا البعث!
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً}.
هو امتداد لهذا العرض، الذي تحدّث فيه الآيات عن قدرة اللّه.. وعن إحسانه إلى عباده، ورحمته بهم.. وأنّ من سوابغ إحسانه، سبحانه، ومن فواضل رحمته، أنه يرسل الرياح فيجد الناس فيها بشريات الغيث، الذي يوشك أن ينزل، فيحيى الأرض بعد موتها.
وفي قوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} إشارة أن إلى الريح، وإن كان يدفع السحاب، فإنه هو الذي ينشئ السحاب، وأنه لولا الريح، ما نشأ السحاب.
فإذا هبت الريح، أثارت وجه البحار، وحدث البحار الذي يتصاعد في السماء، ويكوّن السحاب.. ثم يدفعه الريح إلى حيث يشاء اللّه سبحانه وتعالى.
وفي التعبير عن المطر بالرحمة، إشارة إلى أنه رحمة خالصة، إذ لولا هذا الماء الذي ينزل من السماء، ما كان للحياة أثر على هذه الأرض.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً} هو بيان لرحمة اللّه، التي تقدّمتها الرِّياحَ معلنة البشرى بمسيرتها إلى الناس.
وفي وصف ماء المطر بأنه ماء طهور، إشارة إلى أنه ماء خالص، لم يختلط به شيء مما على الأرض، ولم تعلق به شائبة من شوائبها.. فهو ماء نقيّ صاف، طهور.
وفي قوله تعالى: {أَنْزَلْنا} بدلا من قوله {أنزل} الذي يجرى مع السياق لقوله تعالى: {أَرْسَلَ الرِّياحَ} إلفات إلى جلال اللّه، وإلى عظمته، وقدرته، وإلى ما بين يديه من رحمة، يجود بها على عباده، ويدعوهم إلى تناولها من يدى رحمته.. فهذا الحضور للوجود كله، بين يدى رحمة اللّه، هو دعوة جامعة إلى صلاة شكر، وحمد، وثناء.. للّه رب العالمين.
قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً}.
هو بيان للحكمة من سوق هذه الرحمة إلى الناس.. إنها حياة لكل ميت، وبعث لكل هامد.
ففى قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} إشارة إلى أن الماء هو أصل الحياة، ومبعثها، كما يقول سبحانه: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
وفي قوله سبحانه: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً} إشارة إلى أن الماء، هو الذي يمسك الحياة على الأحياء، بعد أن قامت به الحياة ذاتها.. فهو الذي يقيم الحياة بقدرة اللّه، وهو الذي يمسكها، برحمة اللّه!.
وفي تقديم الأنعام على الناس- إشارة إلى أن رحمة اللّه، تسرى في الكائنات كلها، وأنها ليست، للناس وحدهم، كما يقع ذلك عند بعض ذوى العقول القاصرة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [6: هود].
وليس هذا فحسب، فإنه مع تقديم الأنعام على الناس، استعمل القرآن لفظ {ما} الذي هو لغير العقلاء، بدلا من {من} الذي للعقلاء، فقال تعالى: {مِمَّا خَلَقْنا} بدلا {ممن خلقنا} وذلك لتوكيد المعنى المقصود هنا،.
وهو أن الأنعام لها عند اللّه سبحانه وتعالى وزنها وتقديرها، وأنها إذ كانت أقل حيلة من الإنسان، فقد كفل اللّه سبحانه لها حاجتها، وقدم مطلوبها على مطلوب الإنسان، شأن الأب، يرعى صغاره، وينظر في حاجة الصغير قبل الكبير.
إذ كان الصغير لا حيلة له، على حين أن الكبير يستطيع أن يدبر أمره، ويرعى شئونه.. ومع هذا فإن الأب لا يحرم الكبير- وإن بلغ مبلغ الرجال، أو الشيوخ- عطفه، وحنانه، ورحمته! وهذه النظرة إلى الآية الكريمة، جديرة بأن تفتح الأعين على حقيقة ينبغى أن يعيها المجتمع الإنسانى، وأن يجعلها أساسا من أسس النظام الذي يقوم عليه المجتمع، وتلك الحقيقة، هي أن ضعاف المجتمع، الذين لا حول لهم ولا حيلة في جلب خير، أو دفع ضر، هم أولى الناس بالرعاية وبتوفير أسباب الحياة لهم، حتى يأخذوا مكانهم في المجتمع، فينتظم خطوهم، ويجتمع شملهم مع شمله في أسرة واحدة، متكافلة، متساندة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}.
الضمير في {صَرَّفْناهُ} يراد به القرآن الكريم، وهو إن لم يجر له ذكر صريح في الآيات السابقة، فإنه مذكور في كل كلمة، وفي كل آية.. فهذه الآيات السابقة، هي بعض القرآن الكريم في مجموعه، وهي القرآن الكريم كله في مضمونه.
وتصريف القرآن، هو تنويع معارضه، وعرض حقائقه ومقرراته في صور متعددة، بين الإيجاز والبسط، والإجمال والتفصيل، والتصريح والتلميح، إلى غير ذلك من أساليب البيان، التي ملك القرآن زمانها، واستولى على غايتها.
وقوله تعالى: {لِيَذَّكَّرُوا} بيان للحكمة من هذا التصريف، وهو أن يجد المستمع لكلمات اللّه، والناظر في هذه المعارض المتعددة، ما يكشف له وجه الحقيقة، ويطلعه على جوانبها كلها، وفي ذلك ما يفتح له الطريق إلى التعرف على اللّه والإيمان به.
وقوله تعالى: {فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} هو عرض لموقف هؤلاء للمعاندين الضالين، إزاء آيات اللّه، وأن هذا البيان المبين الذي يخاطبهم به القرآن الكريم، لم يزدهم إلا نفورا من الدعوة التي يدعوهم إليها، وإلا إمعانا في الضلال والسفه.. وذلك هو الشأن الغالب على الناس، وقليل هم أولئك الذين يرون النور، ويهتدون به.
قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً}.
أي أنه سبحانه وتعالى الذي صرف القرآن، وعرض حقائقه هذا العرض الكاشف المضيء، الذي ليس بعد نوره نور، ولا وراء هداه هدى- اللّه سبحانه الذي نزل هذا القرآن المبين، لو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، يحمل إلى أهلها ما حمل محمد إلى الناس جميعا، من هذا النور.. ولكن ذلك لم يكن من مشيئة اللّه، ولا مما اقتضته حكمته.. فإن نذيرا واحدا يحمل آيات اللّه وكلماته فيه بلاغ مبين، لكل ذى نظر وعقل، لأن مع كل إنسان نذيرا في كيانه، هو ما أودعه اللّه سبحانه وتعالى فيه من عقل، يميز به بين الخير والشر، وبين الهدى والضلال، والحق والباطل: فمن كان معه هذا النذير فإن أية إشارة من إشارات الحق تكفى لإيقاظه إن كان نائما، ولتنبيهه إن كان غافلا، ولهدايته إن كان ضالا.. أما من فقد هذا النذير، فإنه لن تنفعه النّذر أبدا، ولو جاءه رسول خاص به من عند اللّه.
فالقرآن الكريم- مثلا- ليس نذيرا واحدا، وإنما في كل آية منه نذير، ولكل نذير ذاتيته، وشخصيته، حتى لكأن كل آية رسول ينشر بين الناس رسالته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}.
فهذا التصريف والتنويع في معارض القول، ووجوه النذر، هو بمثابة أعداد كثيرة من الرسل، تجيء إلى الناس من كل جهة، وتلقاهم على كل طريق، ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يستجيبوا لتلك الآيات التي يلقاهم من كل آية منها رسول كريم ونذير مبين.
وإذن، فإن كثرة الرسل، في الناس، واختصاص كل رسول بقرية من القرى، أو جماعة من الجماعات لا يغنى كثيرا في مجال الهداية إلى الإيمان باللّه، وإقامة الناس على طريق الحق، والخير.
ولو كان ذلك مغنيا في هذا المقام لكان في القرآن الكريم، وفي النذر المديدة التي تحملها آياته وكلماته، ما يزع هؤلاء الضالين الغاوين عن ضلالهم وغوايتهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [95- 96: يونس] ويقول سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [101: يونس].
قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً}.
هو التفات كريم إلى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وتوجيه له إلى الوجهة التي ينبغى أن يأخذها من موقف هؤلاء الكافرين المشركين من قومه وهو ألا يلتفت إلى عنادهم، وألا يلقى بالا إلى لغوهم وسفههم، وما يتقوّلونه عليه، وعلى القرآن الذي بين يديه، وأن يتصدّى لهم، ويقف في وجههم بهذا الحق الذي معه، وأن يجاهدهم به، ويرميهم بنذره، كما يقول اللّه تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [79: النمل] وكما يقول جلّ شأنه {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [94: الحجر].
وقد امتثل النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أمر ربّه، فوقف من المشركين، وقفة الجبل الراسخ الأشمّ في وجه الرياح الهوج، والأعاصير العاتيات.. وقال قولته الخالدة، لعمّه أبى طالب، حين جاء يعرض عليه مهادنة قريش، وله عندها ما يشاء من جاه، ومال، وسلطان، فقال: «واللّه يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يمنى، والقمر في شمالى، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه».
وفي قوله تعالى: {وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً} إشارة إلى ما كان ينتظر النبي من أعباء ثقال، في مواجهة قومه، وفي الصبر على المكاره التي يرمونه بها، في قسوة، وحنق، وجنون.