فصل: سورة الشعراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الشعراء:

نزولها: مكية، وقيل إن آية {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ} وما بعدها إلى: آخر السورة مدنية.
عدد آياتها: مائتان وسبع وعشرون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وسبع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسمائة وثنتان وأربعون.. حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 9):

{طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}.
التفسير:
المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، واضحة، بحيث يمكن أن تتصل السورتان في سورة واحدة.
فقد كانت سورة الفرقان معرضا لمقولات المشركين الحمقاء الطائشة، في رسول اللّه، وفي القرآن الكريم.. ثم كانت مقولتهم حين دعوا إلى أن يسجدوا للرحمن، فأنكروا الرحمن! وقالوا: {وَمَا الرَّحْمنُ} ثم كان ختام السورة كاشفا عن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة اللّه والتسبيح بحمده.. وأن هؤلاء المشركين لم يستجيبوا للّه، ولم يؤمنوا به، وكذبوا رسوله وإذن فهم في عداد السّقط، الذي لا يؤبه له، ولا يحسب له حساب.
وقد جاء بدء سورة الشعراء، متلاقيا مع هذه المعاني التي ضمّت عليها سورة الفرقان.
فأولا: في قوله تعالى: {طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} هو ردّ على قول المشركين، في سورة الفرقان: {إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.
وثانيا: قوله تعالى {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} هو نتيجة لازمة لما تضمنه قوله تعالى، في ختام سورة الفرقان: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ}.
أي أنه لا وزن ولا حساب لمن لا يؤمن به، ولا يقيم وجهه عليه، إنه شيء تافه، لا يحرص على الإمساك به، ولا يحزن على فقده.. وهؤلاء المشركون وقد رضوا لأنفسهم أن يكونوا على هذا الوصف فإنهم لا يستحقون منك- أيها النبي- هذا الحرص الشديد على هدايتهم، ولا هذا الأسى المضنى على ما هم فيه من ضلال.. فإنك لو نظرت إليهم حسب وضعهم عند اللّه بين المخلوقات، لوجدتهم في منزلة دون منزلة الهوام والحشرات.. فكيف تهلك نفسك أسى على هلاكهم وضياعهم.
وثالثا: في قوله تعالى: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} توكيد لتلك الصفة من صفات اللّه، التي أنكرها المشركون، حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا: {وَمَا الرَّحْمنُ}.
وهكذا، تلتقى السورتان في أكثر من موضع، لقاء تطابق أو تكامل.
قوله تعالى: {طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ}.
هو مثل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} (يوسف).
وقوله تعالى: {المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} (الرعد).
وقوله تعالى: {الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم).
وقوله سبحانه: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} (الحجر).
وقد قلنا، إن هذه الحروف التي بدئت بها تلك السور، هي إشارة إلى مادة القرآن الكريم، وأنها من هذه الحروف، التي تتألف منها الكلمات، والعبارات، التي يحتويها قاموس اللغة العربية، ويتعامل بها اللسان العربي.
وأن هذه المقاطع من الحروف مبتدأ، وما بعدها خبر.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} هو ردّ على المشركين، الذين قالوا في هذا القرآن: {إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} فإن الأمر ليس في حاجة إلى افتراء.. فمادة هذا الكلام هي بين يدى كلّ عربى، وكلماته، وعباراته، تجرى على ألسنتهم.. فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من صياغة الكلمات والعبارات التي هي ملك مشاع للعرب جميعا، فليفعلوا هذا، متفرقين، أو مجتمعين، وليأتوا بمثل هذا النظم القرآنى، وهم أرباب البيان، وفيهم الشعراء والخطباء.. هذه هي آيات الكتاب المبين، في معرض التحدي.
فهل من مبارز؟ وأين الأبطال في هذا الميدان؟.
قوله تعالى: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
البخع: الهلاك غمّا وكمدا.. والأسلوب أسلوب ورجاء، يراد به الإنكار.
والمعنى، لم تهلك نفسك أسى وحسرة، على أهلك وقومك إذ لم يؤمنوا باللّه، ولم يستجيبوا لك؟ إنهم لا يستأهلون هذا، ولا يستحقون من أحد أن يحرص عليهم، فهم ممن لا وزن لهم في ميزان الإنسانية.
وفي التعبير عن هذا الإنكار، بأسلوب الرجاء، ما يكشف للنبى عن موقفه العجيب من قومه، وأنه إذ يرجو لهم النجاة، كأنما يرجو لنفسه- في الوقت ذاته- الهلاك، والتلف! وفي هذا ما فيه من التناقض.. فإن من الظلم للنفس أن يطلب الإنسان لغيره السلامة بعطب نفسه وتلفها.. فارفق بنفسك أيها النبي، ولا عليك أن يضل الضالون، ويهلك الظالمون.. {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}.
قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ}.
أي إن حرصك أيها النبي على هداية قومك الضالين المشركين، لن يخرج بهم عماهم فيه من ضلال وشرك، لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يرد هدايتهم: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [37: النحل] وإن اللّه سبحانه وتعالى، لو أراد أن يهديهم لهداهم قهرا وقسرا، ولأنزل عليهم آية لا يملكون معها قولا، ولا يستطيعون من يديها إفلاتا، تلك الآيات المهلكة التي تقطع على الناس سبيل الخروج من سلطانها، فإذا عاينوا آية من تلك الآيات خضعوا لها، وذلوا لسلطانها، وجاءوا إلى اللّه مؤمنين، كما جاء فرعون إلى اللّه مؤمنا، حين أدركه الغرق.. فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [90: يونس].
وخضوع الأعناق: كناية عن الذلة والخضوع، لما يقع على الإنسان من شدائد وأهوال، حيث تثقل الرأس، ويضعف العنق عن حملها، وحمل ما بها من هموم.
قوله تعالى: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}.
أي أن هؤلاء المشركين، لا يتأثرون إلا بما هو مادىّ، يقع على أجسادهم ويصيبهم في جوارحهم، شأنهم في هذا شأن الحيوان.. أما ما يقع لعقولهم من آيات اللّه وكلماته، فإنهم لا يتأثرون له، ولا يفقهون مواقع العبرة والعظة منه.. وهذه آيات اللّه وكلماته، تجيئهم يوما بعد يوم، وتطلع عليهم حالا بعد حال، فلا يزيدهم ذلك إلا إعراضا عنها، وكفرا بها.. وإذن فإن تطاول الزّمن بهم، وتوارد الآيات عليهم، لا يغيرّ من أمرهم شيئا. وإن حرصك- أيها النبيّ- على هداهم، وجريك وراءهم، ولقاءك إياهم بكل ما ينزل عليك من السماء- إن كل هذا لا يغنى شيئا، ولا يحقق الغاية التي تسعى إليها من أجلهم.. وآية واحدة تفتح القلوب المستعدة للإيمان، المتفتحة للخير.. وعشرات الآيات، ومئاتها، وألوفها لا تغير من حال القلوب المريضة، والنفوس السقيمة، التي تلتقط كل دواء.. {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [96- 97: يونس].
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
أي فقد كذبوا بالآيات السابقة التي تلقوها منك- أيها النبي- فأنكروها وأنكروك.. وإذن فلا ينفعهم ما سينزل عليك من آيات بعد هذا، وإذن فلينتظروا البلاء والعذاب، وسيعلمون علما متيقنا، حقيقة هذا الذي يكذبون به من آيات اللّه، وأنه الحق من ربهم.. ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان.
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} [158: الأنعام].
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
أي أعمى هؤلاء المشركون عن أن ينظروا إلى هذه الأرض الميتة، كيف ينزل اللّه سبحانه وتعالى عليها الماء من السماء، فتحيا، وتهتزّ، وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج وإذا كانت عقولهم قد عميت عن أن ترى ما في آيات اللّه وكلماته من هدى ونور، أفعميت أبصارهم عن أن ترى هذه الظاهرة الحية، التي تطلع عليهم في كل أفق من آفاق الأرض؟ فإذا كانوا قد عموا عن هذا الواقع المحسوس، فإنهم أشد عمى من أن يروا شيئا من آيات اللّه، وكلمات اللّه! قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}.
إن في هذه الظاهرة لآية مبصرة، يرى فيها أصحاب النظر والعقل من الناس، آثار رحمة اللّه، وقدرته، وحكمته.. ولكن أكثر الناس لا يلتفتون إليها، وإن التفتوا لا يروا شيئا، وإن رأوا شيئا أنكروه، وتأوّلوه تأويلا فاسدا. وهذا هو شأن هؤلاء العتاة المتكبرين المشركين.
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
وإن هؤلاء الذين لا يؤمنون باللّه، ولا ينقادون لسلطانه، لن يعجزوا اللّه، ولن يخرجوا من سلطانه.. فهم في قبضته، لأنه هو العزيز، الذي لا يغلب، القوىّ، الذي لا يحتاج إلى ناصر ينصره من خلقه، وهو- مع عزته، وقوته، ونفاذ سلطانه- {رحيم} يعفوا عن المسيئين، ويتوب على الضالين، ويقبل العاصين، إذا هم رجعوا إليه واستقاموا على صراطه المستقيم. إن الطريق أمامهم مفتوح. فمن شاء فليدخل!!

.تفسير الآيات (10- 22):

{وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)}.
التفسير:
هذه الآيات، والآيات التي بعدها، تعرض قصة موسى وفرعون، وقد وردت هذه القصة في معارض متعددة من القرآن الكريم، تختلف بسطا وإيجازا، ولا تختلف محتوى ومضمونا.
وهذا الاختلاف في العرض، هو من تصريف القول، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، وأشار إلى الغاية منه.
فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [51: القصص] وقوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [113: طه] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [50: الفرقان].
وقد كان هذا التكرار في القصص القرآنى، موطنا من المواطن التي دخل منها المستشرقون، وأشباه المستشرقين، من أعداء الإسلام، للطعن في القرآن، وأن هذا التكرار، هو اختلال في النظم، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ، كما يقولون، كذبا وبهتانا.
وسنعرض لموضوع التكرار القصصى في القرآن، بعد أن ننتهى من عرض هذه القصة.
ومناسبة هذه القصة لما قبلها، هي أن الآيات السابقة عرضت لموقف المشركين من النبيّ، وخلافهم عليه مع حرصه على هدايتهم واستنقاذهم.. فكان أشبه الناس بخلافهم، وعنادهم، وعتوهم- فرعون، الذي جاءه موسى بآيات مادية محسوسة- كتلك الآيات التي كان يقترحها المشركون على النبيّ- فما زاده ذلك إلا لجاجا وعنادا.. فناسب ذلك أن يذكر هذا الحديث عن فرعون، في معرض الحديث عنهم، ليروا على مرآة الزمن وجههم واضحا، في أعتى العتاة، وأظلم الظالمين.. وليروا مصيرهم في هذا المصير الذي صار إليه صاحبهم، وأقرب الناس إليهم.. فرعون، وهامان، وقارون.
وتبدأ القصة هنا، بالمرحلة الثانية من حياة موسى، بعد أن بلغ أشدّه، وتلقى الرسالة من ربه.. فلم يجيء فيهاهنا ذكر، لميلاده، وإلقاء أمه إياه في اليمّ، خوفا من فرعون، ثم التقاط آل فرعون له، واتخاذ فرعون له ولدا.
ثم قتله المصري، وفراره إلى مدين، ثم زواجه من ابنة شعيب- عليه السلام- ثم عودته إلى مصر.. ثم تلقيه رسالة السماء وهو في طريق العودة- كل هذا لم تعرض له القصّة هنا، لأنه عرض في مواضع أخرى من القرآن الكريم.
وتبدأ أحداث القصة هنا، بهذا الأمر يتلقاه موسى من ربّه: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}.
فهذا هو الوصف الذي لهم في المجتمع الإنسانى.. ثم جاء التعقيب على هذا الأمر بقوله تعالى: {أَلا يَتَّقُونَ} كاشفا عن بغيهم وظلمهم، وأنهم لا يتقون.. وقد أطلق فعل التقوى، فلم يقيّد بمفعول، للدلالة على أن قلوبهم قد خلت من كل أثر للتقوى، في أي قول أو عمل، مع اللّه، أو مع الناس.. فهم على بغى وعدوان في كل أمر، وفي كل حال.
ويتلقى موسى أمر ربّه، وإذا صورة فرعون تطلع عليه، بوجه ظالم غشوم فتعتريه رهبة، واضطراب، من هذا اللقاء، الذي سيكون بينه وبين فرعون، فيضرع إلى ربه قائلا: {رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}.
إن هناك أكثر من جهة يطلع منها الخوف على موسى من فرعون.
ففرعون ظالم جبار، لا يدنو منه أحد إلا افترسه، كما يفترس الأسد فريسته.
إنه لا يسأل عما يفعل، وما هي إلا كلمة، أو إشارة تصدر منه، حتى يمضى زبانيته أمره.. وفوق هذا، فإن موسى مطلوب لفرعون في دم القتيل المصري الذي قتله.. إن الأبرياء لا تشفع لهم براءتهم أمام ظلم فرعون وبغيه، فكيف بأرباب التهم الذين يقعون ليده؟ وموسى مطلوب منه أن يمتثل أمر ربّه، وأنه لممتثل لهذا الأمر، صادع به، ولكنه يسأل اللّه العون والمدد.. وذلك بأن يبعث معه أخاه هرون، وأن يجعله شريكا له في هذا الأمر، حتى يشتدّ به أزره، ويثبت به جنانه، إذا أخذه هول الموقف ورهبته.
ويتلقى موسى أمداد السماء، ويستمع إلى قول الحق جلّ وعلا: {كلّا} أي لن يقتلوك، {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ولن ينالوا منك شيئا، فاللّه معك، يسمع ويرى {فَأْتِيا فِرْعَوْنَ}.
أنت وهارون، الذي جعلناه رسولا معك إلى فرعون: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي إننا- وإن كنا اثنين- فنحن شخص واحد، يحمل إليك رسالة اللّه إليك.. {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ}.
فهذه هي رسالتنا التي أمرنا اللّه بتبليغها إياك، وهي أن تدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضى بهم إلى حيث يشاء اللّه، بعيدا عن محيط ملكك وسلطانك! وتنتقل الأحداث في سرعة يطوى فيها الزمن.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه مع فرعون، وإذا بهذه الرسالة قد أعلنت إلى فرعون.. ولا يظهر على مسرح الأحداث شيء من هذا، وإذا المشهد يعرض فرعون، وقد جابه موسى بهذه المجابهة التي تمسّ أضعف جانب منه، ضاربا صفحا عن هرون، متجاهلا الرسالة التي أفضيا إليه بمضمونها.. فيلقى إلى موسى بهذه القذائف: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ}؟
فمن أنت حتى تجئ إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ؟ ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ فكيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟
ثم كيف تحدّثك نفسك بالجرأة علينا، وبالنجاة من عقوبتنا، وقد فعلت ما فعلت بارتكاب هذه الجريمة، والاعتداء على أحد رعايانا؟ أليس هذا كفرا بنعمتنا، وإحساننا؟ أليس هذا عدوانا على سلطاننا واستخفافا بناموسه؟.
ويضطرب موسى أمام هذه المفاجأة، وفي مواجهة هذا الاتهام.
ولكنه يذكر قول اللّه له.. {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}.
فيسكن جأشه، ويطمئن قلبه.. ويرمى فرعون، بأشدّ مما رماه به.
{فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} إنه يعتذر من قتل المصري بأن ذلك كان عن جهل منه، وضلال.
لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يكن قد خرج به عن هذا الضلال الذي يعيش فيه فرعون، ومن يضمه سلطانه.. فهذه الفعلة هي أثر من آثار تلك الحياة التي يحياها المجتمع الفرعوني، حيث لا حرمة فيه للدماء.. وهكذا يلقى موسى بهذه التهمة في وجه فرعون، لأنه هو الذي أرخص دماء الناس، وأغرى بعضهم ببعض، وأن موسى قد مسّه شيء من هذا الذي رمى به فرعون المجتمع كله!! وأنه- أي موسى- حين فرّ من وجه فرعون، طالبا النجاة لنفسه منه، وخرج من هذا الظلام المطبق- رأى النور، وأبصر الهدى.. وهناك، في أفق بعيد عن آفاق فرعون، تلقى الكرامة والإحسان من ربّه، وتزوّد بزاد طيب كريم، غير هذا الزّاد الذي تناوله من يد فرعون.. فوهب اللّه له {حكما} أي جعل له سلطانا على بني إسرائيل، يقودهم، ويسوس أمرهم، وجعله من المرسلين، إلى هداية الناس.
وهذه غمزة أخرى، يغمز بها موسى فرعون، وأنه إنما تلقى الخير من السماء حين فارق هذا الجوّ المظلم الفاسد، ولو بقي فيه لما أصاب خيرا أبدا، ولما كان له هذا السلطان.
وبهذا السلطان الذي وضعه اللّه في يد موسى على بني إسرائيل، أقبل على فرعون، يحاسبه على هذا الجرم الشنيع الذي أجرمه في حقّ هذه الجماعة، التي أصبح ليد موسى أمرها.. لقد استعبدهم فرعون وأذلهم، وأن موسى إذا كان قد قتل واحدا من رعايا فرعون، فإن فرعون قد قتل معالم الإنسانية، في هذه الجماعة، وأحالها إلى قطيع من الحيوان، الذليل المهين!! إن موسى قتل نفسا خطأ من غير قصد.. أما فرعون فقد قتل نفوسا لا حصر لها، عن عمد وإصرار!!.
فإذا كان هناك من يحاسب ويدان، فهو فرعون.. وليس موسى!.
وهكذا يتحول الموقف، ويصبح الطالب مطلوبا، والمدّعى متّهما..!
وسنرى بقية المشهد في الآيات التالية.