فصل: تفسير الآيات (23- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (23- 37):

{قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}.
التفسير:
ولا يلتفت فرعون إلى هذه التّهم التي وجهها إليه موسى، وكأنه يعدّ هذا لغوا من القول، فما كان لموسى أن يحاجّ فرعون، أو يجادله فيما هو من سلطانه! إن فرعون لم يسمع شيئا!! ويسأل فرعون موسى، عن مضمون هذا القول الذي ألقى به إليه، حين واجهه برسالته، فقال: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
فيقول فرعون: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} مجهّلا هذا الربّ، منكّرا ومنكرا له: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ}؟
إنه لا يمكن أن يكون هذا الربّ عاقلا.. وكيف وفرعون هو الربّ القائم على رقاب العباد؟ أليس هو القائل: {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} [38: القصص].
ويجئ جواب موسى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}: أي كنتم ممن يطلبون الحقّ ويستيقنونه! فهذا هو ربّ العالمين.
ويعجب فرعون لهذا الكلام، ويستثير عجب من حوله: {قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟.. فما هذا اللغو؟ وما هذا الهذيان؟
أهناك ربّ غيرى؟.
ولا يكاد القوم يتجهون بعقولهم إلى ما يدعوهم إليه فرعون، حتى يلقاهم موسى بالجواب الذي كان ينبغى أن يلقوا به هذا السؤال الذي ألقاه إليهم فرعون، في عجب ودهش:
{قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
هذا هو الربّ الذي ينكره فرعون، ويعجب من أمره.. أفتنكرونه أنتم كذلك؟ فأين عقولكم حتى تنقادوا إلى هذا الضلال؟.
ويأخذ فرعون الطريق على موسى إلى الملأ.. فيقول لهم:
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}.
إنّه رسول إليهم، لا إلى فرعون.. ثم إنه لمجنون يهذى بهذا القول.. فلا تستمعوا إليه، ولا تأخذوا كلامه إلّا على أنه كلام مجانين!.
ويردّ موسى على فرعون هذا الاتهام بقوله:
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
إنه يدعوهم جميعا، ومعهم فرعون، إلى أن يستمعوا ويعقلوا، وإنهم لو كانوا عقلاء حقّا لعرفوا أن لهذا الوجود ربّا، وأنه ربّ المشرق والمغرب، وما بين المشرق والمغرب، من كائنات.
ويقطع فرعون هذا الجدل، ويجرد سيف بأسه وسلطانه، ليفحم موسى، ويسكته.. فيقول:
{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
هكذا منطق القوة الغاشمة.. إنها لا تحتكم إلى عقل، ولا تخضع لمنطق، إلّا منطق القهر والتسلّط!.
وماذا يصنع موسى، في مواجهة هذا السلطان الغشوم؟ إن لفرعون أن يسجنه، وأن يقتله.. إنه لا يعترض على هذا، ولكن كلمة أخيرة، يريد موسى أن يستمع إليها فرعون، ثم ليفعل ما يشاء.
{قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتنفّذ فيّ هذا الحكم، ولو كان معى شيء مبين، وحجة واضحة على هذه الأقوال التي استمعت إليها، وأنكرتها؟
وهنا يسيل لعاب فرعون إلى هذا السلطان العظيم الذي بين يدى موسى، وهو يخفيه عنه.. فما هو هذا السلطان؟ وكيف يكون مع موسى سلطان وفي يد فرعون كل سلطان؟ أين هو؟ لابد أن يستولى عليه، ويضيفه إلى سلطانه..!!
وفي لهفة، وحزم، وقوة.. يقول فرعون.
{فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ولا يقول موسى كلمة.. بل يضرب ضربته في غير تراخ أو تردد.
{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ}.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
ولا تعرض القصة هنا لما كان من فرعون، وما لبسه من اضطراب وفزع.
فذلك أمر معلوم، في مثل هذه الأحوال.. وليس فرعون بدعا من الناس، فيما يطلع عليهم من عالم المجهول.
ويظهر أثر هذا الفزع الذي استولى على فرعون، في استنجاده بمن حوله، وتعلّقه بهم قبل أن يهوى من هول المفاجأة.. فيشركهم معه في هذه المعركة، بل ويجعل إليهم لا إليه- الرأى فيها، وهو الذي كان يتولى كلّ شيء، ويأمر بما يرى.. أما هنا فإنه صاغر ذليل، يطلب الرأى، وينتظر الأمر، ليفعل ما يؤمر به.
{قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ}.
إنه يستسلم للملأ حوله، ويسلّم بأن الأرض أرضهم، وقد كانوا منذ قليل هم والأرض ملكا خالصا ليده.
وإذا كانت الأرض أرضهم، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم هذه بسحره.. فالأمر إذن أمرهم.. فماذا يرون؟ وبماذا يأمرون؟
{قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}.
هذا هو الرأى الذي ارتآه القوم في موسى.. إنه ساحر.. فليلقوه بسلاح مثل سلاحه.. وليجمعوا له السحرة من كل مكان! وهكذا انتهى هذا المشهد، ليبدأ مشهد آخر، على مسيرة الأحداث المتتابعة للقصة.. كما سنرى في الآيات التالية:

.تفسير الآيات (38- 42):

{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}.
التفسير:
وفي هذا المشهد نرى حركات سريعة متلاحقة، بعضها خفيّ، وبعضها ظاهر.
ويتشكل من خيوط هذه الحركات صور شتى، تظهر على مسرح الأحداث.
فهاهم أولاء السحرة قد جئ بهم من كل مكان، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة:
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
ثم هاهم أولاء دعاة فرعون، ينطلقون بين الناس، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم، وبشهود تلك المعركة.. بين السحرة، وبين الساحر.
وهذا الحشد للناس.. غايته، هو شدّ ظهر هؤلاء السّحرة، وإلقاء الرعب في قلب موسى بهذه الحشود التي تتربص به، وتنتظر الهزيمة له، لتسخر منه أو تفتك به.
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ}!.
ثم ها هم أولاء السحرة، يلتقّون بفرعون قبل المعركة، ليتلقّوا كلمته، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر.. ثم إذ ينتهى هذا العرض، يعرضون على فرعون مطلبا خاصّا بهم، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم جاءوا له بالنصر المبين.
{قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ}.
ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم.. إنه ليس جزاء ماديّا وحسب، بل إنهم سيكونون من خاصة فرعون، ومن المقربين عنده {قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وينتهى هذا المشهد، ليخلى مكانه لمشهد آخر.. تعرضه الآيات الآتية:

.تفسير الآيات (43- 51):

{قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}.
التفسير:
وينتقل المشهد إلى خارج المدينة، حيث احتشد الناس، ليشهدوا هذا اليوم العظيم.
وفي ميدان المعركة، التقى موسى بالسحرة.. ثم ماهى إلا كلمات يتبادلها الطرفان، حتى يلتحم القتال.. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدءوا المعركة، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم.
{قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ}.
ويلقى السحرة كل أسلحتهم..!
{فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ}! إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ، شكلوها على صفات خاصة، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعى والحيّات.. فلما ألقوها، أطلقوا وراءها مشاعر إيمانهم بفرعون، واستمدادهم القوة من قوته.. وهم بهذا الشعور لا بسحرهم- سيغلبون، وينتصرون! ولا يذكر القرآن هنا ماذا كان لهذه الحبال وتلك العصى من أفاعيل، وما كان لها من آثار في مشاعر الناس، وفي موسى نفسه.. وقد ذكر القرآن ذلك في مواضع أخرى.. فقال تعالى في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الآية: 116).
وقال في سورة طه، عما وقع في نفس موسى من هذا السحر: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى} (الآية: 67).
{فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ}.
والإفك: ما كان من واردات الضلال والبهتان.
وهكذا في لمحة خاطفة، يتبدد هذا السراب، وتختفى أشباح هذا الضلال.
وإذا موسى وقد ملك الموقف، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم..!
وإذا هذا الهرج والمرج، وهذا الصخب واللجب، يتحول إلى صمت رهيب، وسكون موحش، لا يقطعه إلا السحرة، وقد استبدت بهم نشوة غامرة، وغشيتهم صحوة مشرقة، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب، ويتحركون في وسط هذا السكون الموحش.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ}! ويعود الهرج والمرج، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان، ثم تخمد الأنفاس فجأة، وتحتبس الكلمات على الألسنة، وتموت المشاعر في الصدور، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة، إذ يذكرون أنهم في حضرة فرعون فتتعلق به الأبصار.. ليطلّ الناس منها على ما يصنع فرعون، أو يقول.
والحساب هنا مع السحرة أولا، الذين خذلوا فرعون، وأذلوا كبرياءه، وأعلنوا فضيحته على الملأ.
{قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}؟
إن خذلانهم على يد موسى، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن، ويحاسب السحرة عليه.. لأنه رأى بعينه، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها.. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة في هذا الموقف، هو خروجهم عن أمره، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!!- {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إنها مؤامرة مدبرة، ومكر مبيت بينكم وبينه.. إنه الساحر الأكبر، الذي علمكم السحر.. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم، شأن التلميذ مع أستاذه.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}!! ولا ينتظر، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه، ويقدّمهم للمحاكمة.. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة، حتى يكون فيها عبرة وعظة.. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون.
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا، وجاء إليه عن حجة قاطعة، وبرهان ساطع، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان، أو تزحزحه من موضعه.
وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف، وغير مبالاة.. إن كل شيء هيّن، ماداموا قد حصلوا على الإيمان، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم.
{قالُوا لا ضَيْرَ}.
أي لا ضيم، ولا خسران علينا، إذا ذهب من بين أيدينا كل شيء، ولو كانت حياتنا، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.
{إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ}.
فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها.. فإن لنا حياة أخرى، أفضل، وأكرم.. إنها حياتنا الآخرة.. والآخرة خير وأبقى..!
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}.
إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف، فيهتدى بنا الضالون الحائرون.. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال.
ثم ينتهى هذا المشهد، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت.. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق، وجرّ وراءه فلّه المهزوم.. ولكن الأحداث تتصل، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح.. كما سنرى في الآيات التالية.

.تفسير الآيات (52- 68):

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}.
التفسير:
لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..!
وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها.
إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..!
فلقد سلّط اللّه على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} (130- 133: الأعراف).
وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل.
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} [134: الأعراف].
ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} [135: الأعراف].
فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول اللّه تعالى على لسانهم إلى موسى: {قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [129: الأعراف].
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}.
وأن هذا الأمر من اللّه سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر اللّه موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.
وفي قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ}.
لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ}.
يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!
وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا: {يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ} [22: المائدة] وقالوا {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} [24: المائدة].
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟
ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟
وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين.
أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ} فهو- واللّه أعلم- ما كان من نقم اللّه التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شيء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه.
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي متجهين جهة الشرق {فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}.
أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
{قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، {ثمّ} أي هناك و{الآخرين} فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.
{وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}.
وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها.
هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم اللّه إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون.
ففى سورة الأعراف يجيء قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ}.
ثم يجيء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} (الآيتان: 137- 138).. وفي سورة الدخان.. يقول اللّه تعالى عن فرعون وملائه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ}.
ثم يجيء بعد هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} الآيات: (25- 31).
فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط اللّه عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات اللّه، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى {الَّتِي بارَكْنا فِيها} إذ قد يقع في بعض الأفهام أن البركة تعنى أرضا مخصوصة، هي الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} [96: آل عمران]. ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام.
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين.
فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟
وإذا لم يصح الحديث بأن: «مصر كنانة اللّه في أرضه، من أرادها بسوء قصمه اللّه».
فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب، كشف عنها قلب مؤمن، ونطق بها لسان صدّيق!! وقد آن لنا بعد هذا، أن نقف وقفة، عند التكرار في القصص القرآنى، وما يقال فيه، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا.
التكرار في القصص القرآنى:
التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث.
وقد وجد أصحاب الأهواء، ومرضى القلوب، من الملحدين وأعداء الإسلام في هذا التكرار مدخلا ملتويا، يدخلون منه على هذا الدين، للطعن في القرآن الكريم، والنيل من بلاغته، وإسقاط القول بإعجازه، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا.. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز وبأنه منزل من السماء، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال، فيقولون: إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا، فتخرج به عن وعيه، وتجيء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال، مردّدة مقطعة، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها، ثم يذكرها فيعود إليها، ثم ينصرف عنها.. وهكذا.
وإن الذين يقولون هذا القول، أو يحكونه عنهم، هم أعاجم أو أشباه أعاجم، لم يذوقوا البلاغة العربية، ولم يتصلوا بأسرارها.. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء، لأن يقولوا هذا القول، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب قريش نفسها، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه، ورمته به.
ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به، في وجه هذا الحق المشرق المبين.
فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم: {وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}.
وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول، فقال تعالى: {فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً}.
وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول، في وجه عداوتها وحربها للنبيّ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد.
وندع الردّ على هذه المفتريات، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره، التي هي وجه من وجوه إعجازه، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين.
ما داعية هذا التكرار:
كانت هذه الظاهرة- ظاهرة تكرار القصص القرآنى- على تلك الصورة الواضحة، مما استرعى أنظار العلماء إليها، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها.
فهذا أبو بكر الباقلّانيّ، يقول في كتابه إعجاز القرآن:
إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدّى معنى واحدا- من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة.
وهو يريد بهذا القول أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول، دون أن تتغيّر معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب، وبهتت المعاني، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم.
رب العالمين.
ثم يقول الباقلاني:
وأعيد كثير من القصص (القرآنى) في مواضع مختلفة، ونبّهوا- أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ، ومكررا.
ويريد الباقلاني بهذا، أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه، إزاء القرآن، هو عرض القصص القرآنى، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر، والبسط والقبض، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة.
فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء! وهذا القول من الباقلانيّ لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار الذي جاء عليه القصص القرآنى، والذي سنعرض له، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى، التي عرضها أصحابها في هذا المقام.
ويقول الزركشي في كتابه: البرهان في علوم القرآن:
ومنه-أي من التكرار- تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى، وغيره من الأنبياء.. قال بعض العلماء: ذكر اللّه موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا!! ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول:
وإنما كرّرها- أي القصة- لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر، وهي أمور:
أحدها: أنه- أي القرآن- إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا.. ألا ترى أنه ذكر الحيّة في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟
ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين.. نتجاوزهما إلى ما بعدهما.
الرابعة: إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة- لا يخفى ما فيه من الفصاحة! الخامسة: أن اللّه سبحانه أنزل هذا القرآن، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه، لصحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وآله، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأى نظم جاءوا، وبأى عبارة عبّروا.
والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: إنه- أي القرآن- إذا كرر القصة زاد فيها- هذه الإشارة هي في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى، وأوضح وجه يطلّ علينا منه.
ولم يذكر الزركشيّ ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة، وفى إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها، واكتفى بالقول: بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول، أو الثاني أو الثالث.
وهكذا.
دعوى وبرهانها:
والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى، وفي كل تكرار في القرآن الكريم- هي أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة، كاملة، مجسّمة، أو شبه مجسّمة للحدث، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات، في الواقعة، الواحدة، أو الحدث الواحد، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به.
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية، يؤدّى وظيفة حيوية، في إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لابد أن تعاد العبارة، مرّة ومرّة، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله.
ولنا أن نشبه ذلك- على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به- بالتصوير الفتوغرافى والتصوير السينمائى أو التليفزيونى.
ففى التصوير الفتوغرافى: اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله، تصويرا كاملا.. صامتا.
والصورة هنا، وإن أعطت جميع ملامح المشهد، فإنها تحتاج في قراءتها إلى مهارة وحذق للكشف عن مضمونها، أو بعض مضمونها.. إذ كانت إنما تكشف المقطع السّطحى للحدث، أو الجسم الذي تصوّره.. منقطعا عن الحركة، والتجسيد.
أما الصورة السينمائية، فإنها تتشكل من مئات وآلاف من اللقطات حتى تتجسم الأحداث والشخوص، وتتكشف كل خافية كانت مختفية وراء الصورة الفتوغرافية، فإذا هي تجمع بين الحركة والتجسيد.
إن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآنى، هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلّى فيه روعة الكلمة وجلالها، بحيث لا يرى لها وجه في أية لغة، وفي أية صورة من صور البيان، يقارب هذا الوجه، في جلاله، وروعته، وسطوته.
وهل شهدت الحياة الكلمة تؤدّى ما يؤديه العمل السينمائى اليوم في نقل المشاهد والشّخوص بأبعادها الثلاثة: (طولها، وعرضها، وعمقها)، وبحركاتها، وسكناتها، ونطقها، وصمتها؟ وكم تتكلف السينما لهذا العمل من لقطات؟ مئات وألوفا!! أما النظم القرآنى، فإنه يعرض المشاهد بأبعادها، وأعماقها، وحركاتها، وسكناتها، وبنطقها وصمتها، وبوسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، ثم لا يكون ذلك كله إلا بعدد محدود من اللقطات، لا يكاد يتجاوز أصابع اليد عدّا.
ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجمع هذه اللقطات في معرض واحد، حتى لا تتراكب وتتراكم، بل جعلها موزعة في مواضع متباعدة أو متقاربة في القرآن الكريم، بحيث يمكن أن تستقل كل لقطة منها بذاتها مستغنية عن كل تفصيل، ثم بحيث لو نظر ناظر إليها من خلال اللقطات.
الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا.
حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير في مجراها اللحن.
اعتراضات وتمويهات:
وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشيء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا.
وتتلخص هذه الاعتراضات، في القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له.
ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!.
تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن سيارة صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، في أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة.
وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟.
السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها.
ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها في هذا المكان.
ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار في محيطها.
وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد.
فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وما ذا يلبس كل واحد؟
وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟
إلى أين كانت وجهته؟ وما ذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟.. وهكذا.. وهكذا.
إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى.
وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة.
وهذا يكشف لنا عن أمرين:
أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه.
وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه.
وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، في الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه.
وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذا القصص لم يجيء بالواقع كله، بل أخذ منه بعضا وأعرض عن بعض، ويعنى أيضا أن هناك تفاوتا واختلافا كثيرا أو قليلا بين هذا القصص وبين الواقع.
وهذا يعنى- مرة ثالثة- أن القصص القرآنى مغاير للواقع على نحو ما.
وهذا يعنى- مرّة رابعة- أن هذا القصص قد تصرّف في الأحداث، كما يتصرف القصصيّ في الأحداث الواقعة، حين يؤلف منها قصة من القصص، أو رواية من الروايات.. وهذا يعنى أخيرا أن أنباء القصص القرآنى، ليست هي الواقع- كما وقع، أو بعبارة أخرى أنها ليست الصدق كلّ الصدق!! هذا مدخل من المداخل التي رآها بعض الباحثين آذنة لهم بالقول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص الأدبى- لم يقف عند حدود الأحداث الواقعة، بل تصرف فيها على الوجه الذي يقيم منه قصصا فنيّا!!.
الأمر الذي جعله يغير من وجوه الواقع، ويخرج به على غير مألوف الحياة، حتى تجد النفس إقبالا عليه، لما فيه من جدّة وغرابة، ولما في الجدّة والغرابة من طرافة!! هكذا يذهب هذا التصور المريض، الذي يقع في نفوس أهل الغفلة عن جلال اللّه وقدرته، يذهب بهؤلاء السّفهاء أن يجعلوا اللّه سبحانه وتعالى، مع الأدباء والقصاصين، على كفتى ميزان، حتى ليضطر الخالق- كما يضطر المخلوقون- إلى خلط الحق بالباطل، وتزويق الحقيقة بالخيال، وتمويه الواقع بالكذب والاختلاق، حتى يكون له طعم جديد، غير ما اعتاد الناس تذوقه من طعوم الحياة وواقعها!! وما ذا بقي للّه سبحانه وتعالى إذن من تفاوت بينه وبين خلقه؟
أفتعجز كلمات اللّه عن أن تمسك بالصدق، وتشتمل عليه؟ ثم أيليق بكلمات اللّه أن تتلبّس بالكذب والاختلاق، وتتزوّق بالخيال وتتجمل به، حتى يكون لها وجه مقبول غير مردود؟.
يا للسفاهه والضلال، ويا للحمق والجهالة.. بل يا للجرأة على اللّه، والتطاول على من خلق من التراب لسانا ينطق بهذا البهتان العظيم!!
هذا، ومما يراه أصحاب هذا الرأى الأحمق الجهول مؤيدا لوجهة نظرهم هذه، الضالّة المضلّة- أن القرآن الكريم جاء بلسان عربى مبين، والشخصيات التي وردت في القصص القرآنى، لم يكن لسانها عربيا، كموسى وفرعون مثلا.
وقد نطق القصص القرآنى عن هؤلاء الأشخاص، وأنطقهم بهذا اللسان العربي.. وطبيعى أن ما نطقت به هذه الشخصيات في القرآن، لم يكن هو نفس منطوقها، وإنما هو ترجمة أمينة وصادقة لما نطقت به.
وهذه الترجمة، وهذا النقل- أيّا كان من الدقة والإحكام في نقل المعاني من لسان إلى لسان- هو على أي حال مخالفة للواقع، في الصورة والشكل، وإن لم يكن في المضمون والمحتوى! وأي مخالفة أكبر من أن تتبدل ألسنة الناس، فينطقوا بغير اللغة التي نطقوا بها؟ ففرعون- ولغته المصرية القديمة- ينطق بالعربية الفصحى! وأصحاب الكهف- ولغتهم غبر عربية على وجه قاطع- قد أنطقهم القرآن بلسان عربى مبين.. وهكذا.
وأكثر من هذا.. الحيوانات والجمادات، ينطقها القرآن بهذا البيان المبين.. إذ يقول سبحانه فيما أنطق به السماء والأرض: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} [11: فصلت].
ويقول سبحانه فيما أنطق به النملة: {قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [18: النمل].
فهذه المفارقات وأشباهها، قد جعل منها بعض الدارسين المجددين أو المجدفين منفذا ينفذون به إلى القول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص التأريخي- لا يكون قصصا إلا إذا لوّنه القاصّ بألوان من خارج الواقع، وجعل لنفسه سلطانا على الأحداث، فيغيّر ويبدّل، كما تقتضى الحال، ويستدعى المقام، حتى تكون القصة مقبولة مستساغة، بما فيها من فنّ وإبداع!!
دعاوى متهافتة:
والحق أن هذه الاعتراضات كلها مما حكات باطلة، وتلبيسات فاسدة، لا تقوم على أساس من الحجة الواضحة، والمنطق السليم.
فالقول بأن القصص القرآنى لم يحمل في أطوائه الأحداث التي جاء بها، متلبسة بكلّ ما صحبها من صور وأشكال، ساكنة ومتحركة، في مجال الزمان والمكان على السواء- هذا القول- على تسليمنا به، لا تقوم منه حجة أبدا على أن القصص القرآنى قد بعد- مع هذا- عن الواقع في كثير أو قليل.
بل إنه احتوى الواقع كلّه، واشتمل عليه، وأخذ لبّه، والصميم منه.
ذلك أن الحياة كلها، بأزمنتها وأمكنتها، وأشخاصها وأحداثها، حاضرة عتيدة كلها، بين يدى الحكيم العليم، واقعة في علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وهذا القصص الذي جاء به القرآن، لم يكن تأريخا للحياة كلها، وأحداثها وإنما هو عرض لبعض المواقف، وكشف عن بعض الأحداث، التي من شأنها أن تحدث في النفس أثرا، وتقيم في الضمير وازعا، وتفتح على العقل والقلب مواقع ماثلة للعبرة والفطنة.
فالقصص القرآنى. لا يمسك بالأحداث الواقعة في الحياة كلها، وإنما يمسك من الأحداث والوقائع، بما يراه مجلّيّا عن عبرة، كاشفا عن عظة، لتنتفع بها الدعوة الإسلامية، في مقام الدعوة إلى اللّه، والتعرّف عليه.
وليس يعنيه- في هذا المقام- أن يكون الحدث مدوّيّا صارخا، أو مزلزلا عاتيا، بقدر ما تعنيه الدلالة التي يدلّ عليها، والعظة التي تتكشف للناس منه.
ولا شك أن هذه الأحداث والوقائع التي يقتطعها القرآن الكريم من شريط الحياة، هي الصدق الخالص، والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يقتطعها القرآن.. زمانا، ومكانا، وأشخاصا، وملابسات.. ثم ينفخ فيها نفخة الحياة، فنبعث من مرقدها، وقد تساقط منها ما جفّ من أوراقها، وما ذبل من أغصانها، وإذا هي ثمر دانى القطوف، نأخذه العين وتشتهيه النفس.
وإذن، فليس تخليص القصص القرآنى من الزوائد والحواشي التي لا تغنى شيئا في تصوير الحدث، وعرضه في معرض الاعتبار والعظة- ليس هذا التخليص إلا عملية غربلة وتصفية، غايتها تنقية الحدث من الشوائب، وتخليصه من الغثاء والزّبد، ليصفو مورده، ويسوغ مذاقه للواردين- وليس ذلك عن عجز أو غفلة، عن جميع الملابسات التي انصلت بالحدث من جميع جهاته، والتقت به من قريب أو بعيد.
وهذا التصرف الذي كان من صنيع القرآن الكريم، في عرض الأحداث وفي أخذ بعضها، والإعراض عن بعض- هذا التصرف لا يصح أن يكون مسوغا لقائل أن يقول: إن القرآن- وقد أباح التصرف على أي وجه من الوجوه- قد أدخل في القصص القرآنى ما ليس من صميم الواقع، وأنه غير وبدّل في معالمه.
فهذه مغالطة سفيهة- كما قلنا- لأن ما جاء به القصص القرآنى، هو الصميم من الواقع، واللباب من الحدث، وإن يكن قد ترك ما ترك من حواش وأطراف، وزوائد، وقشور! وأما القول بأن القرآن قد تحدث بلسانه العربي، عن ألسنة غير عربية، أو نطق بلسانه العربي عن دلالة الحال، كما في تحديثه عن الجماد والحيوان، فهذا لا يمكن أن يجيء منه الادعاء بأن القرآن قد تقوّل على من نطق عنه.. وإنما هذا الذي نطق به القرآن، مترجما به عما نطق الناطقون، أو نطقت به دلالة الحال- إنما هو المضمون الحق، والمحتوى الصادق الأمين، لما تلبّست به الخواطر، وجمجمت به الصدور، قبل أن تنطق به ألسنة المقال، أو تهمهم به ألسنة الحال.
فإذا جاءت كلمات اللّه ناطقة بما نطقت به ألسنة الحال أو المقال، كانت تلك الكلمات هي الصورة الكاملة- روحا وشكلا، ومضمونا ومحتوى- لما نطق به الناطقون، ولما أراد أن ينطق به الناطقون، وأعجزهم العجز عن النطق به! ثم ماذا يمكن أن يكون غير هذا في مثل هذه الأحوال، إذا أريد نقلها وعرضها للحياة؟
أكان من التدبير الحكيم هنا أن يجيء القرآن الكريم بالأشخاص والأحداث، فيبعثها من مرقدها، ويحركها على مسرح الحياة من جديد، لتنطق بما كانت قد نطقت به، أو لتشير إلى ما كانت قد أشارت إليه؟
إن قدرة اللّه- سبحانه وتعالى- لا يعجزها شيء.
ولكن أتحمل الحياة هذا، لو أنه حدث؟ وهل يلقاه الناس فلا يفتنون به، ولا يخرجون عن عقولهم، في تخبط مجنون؟ ثم لو استمع العرب إلى هذه المقولات التي نطق بها أصحابها، كما نطقوها بألسنتهم، أو خواطرهم- أكانوا يفهمون شيئا، أو ينتفعون مما استمعوا بشيء؟
إن القصص القرآنى- لكى يكون قصصا نافعا مثمرا- قد جاء على سنّة الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولو أنهم التفتوا إليه لما كان منهم إلا الاضطراب والبلبلة.!
فالناس، يتداولون الأنباء، ويروون الأخبار، ويتناقلونها، على تعدد الأشخاص، واختلاف الألسنة.. ثم لا يكون شيء من ذلك التعدد وهذا الاختلاف، حائلا بينهم وبين أن يفيدوا منها، وينتفعوا بها، ويخلصوا إلى مضامينها.
وغاية ما يمكن أن ينظر إليه في هذه الأحوال، هو الصدق في الرواية، والأمانة في النقل، والدقة في التصوير والتعبير.
وإنه إذا كان هناك ملتمس تلتمس فيه هذه الغاية، على أتم تمامها، وأكمل كمالها، فلن يكون ذلك، إلّا في القرآن، وفيما نطق به القرآن، وإلا في كلمات اللّه، وما نطقت به كلمات اللّه.. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}.
إن القصص القرآنى، وإن يكن سماويّ المطلع، فهو بشريّ الصورة، إنسانيّ المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة.. يقرؤه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرءون أطواء نفوسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم.. ومن هنا، فهم يحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض يصوبها الغيث، فيقع منها مواقع مختلفة، بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب، وخصب وجديب!
وأحسب أننا بعدنا بهذا الاستطراد عن موضوعنا: التكرار في القصص القرآنى، ولكنه كان استطرادا لابد منه، ونحن ننظر من هذا القصص، في معارض شتّى من البيان.. بين الإيجاز والتفصيل، في القصة الواحدة، والحدث الواحد، بل والإشارة الواحدة.. إذ كانت معرفة الأصول التي قام عليها القصص القرآنى أمرا لازما لمن يتصدّى لدراسة هذا القصص، وضبط موارده ومصادره، على ميزان الحق الذي نزل به القرآن الكريم.. ثم كانت تلك المعرفة لازمة أيضا لدفع تلك المفتريات التي يفتريها السفهاء والجهلاء من الأعداء والأصدقاء، على القرآن الكريم، وما يقولونه في القصص القرآنى بالذات، وما وقع فيه من تكرار، وما اشتمل عليه- كما يتخرصون- من أساطير.
وقد فرغنا من الردّ على هذا القول الضالّ الآثم، الذمي يقوله القائلون عن مادة القصص القرآنى، وما اشتملت عليه من أساطير.. ورأينا في هذا الردّ- على إيجازه- ما يخرس تلك الألسنة التي نطقت الزور، وجاءت بهذا البهتان العظيم.
أما ما يتخرّص به المتخرصون في شأن التكرار في القصص القرآنى، فقد عرصنا في أول هذا البحث ما يتعلق به أولئك الذين يطعنون في بلاغة القرآن، من مدّعيات ومفتريات، لم تثبت لأول لمحة من النظر، حتى بان عوارها، وانكشف زيغها عن المنطق السليم، الذي يتعامل به في قضايا العلم ومقررات الفنّ وبقي بعد هذا أن نعرض نموذجا من التكرار القصصى في القرآن، لننظر وينظر معنا الذين يأخذون على بلاغة القرآن هذا التكرار- كيف كان هذا التكرار إعجازا من إعجاز النظم القرآنى، إلى جانت إعجاز النظم في ذاته، قبل التكرار، وبعد التكرار.
ولا نتخير هذا النموذج من بين القصص القرآنى، بل فأخذ قصة موسى التي عشنا معها في هذه السورة سورة الشعراء إذ كانت قصة موسى أكثر قصص القرآن تكرارا، فقد ذكرت- كما قيل- في مئة وعشرين موضعا من القرآن الكريم.
ولا نعرض قصة موسى كلها- بل نأخذ منها هذا المقطع، الذي واجه فيه موسى فرعون وسحرته، إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر.. إذ كان هذا المقطع هو أول ما واجهنا من حديث عن موسى وموقفه من فرعون، وسحرة فرعون.
وهذا المقطع الذي نقف عنده من قصة موسى مع فرعون، قد جاء في عدة معارض في القران الكريم.
وها نحن أولاء نعرضها حسب ترتيب نزولها، كما وقع لنا، وكما هو الرأى الراجح في القول بترتيب هذا النزول.
أولا:
في سورة طه بعد أن يدخل موسى وهرون على فرعون، ليبلغاه رسالة ربهما إليه.. يبدأ الموقف هكذا:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى}: (الآيات: 48- 71).
ثانيا:
سورة الشعراء [الآيات: 16- 15] في هذا الموقف، ينتقل المشهد الذي كان عليه موسى بين يدى ربه، إلى فرعون، دون فاصل ما.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه، يسمعان من فرعون، ولا يذكر الموقف أنهما قالا له شيئا.
{فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}.
ثالثا:
سورة الأعراف [الآيات: 103- 126]:
وجاء الموقف في سورة الأعراف هكذا:
{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ}.
رابعا:
سورة الإسراء [الآيتان: 101- 102] ويعرض الموقف في سورة الإسراء عرضا موجزا.. هكذا: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً}.
خامسا:
سورة يونس [الآيات: 75- 82] ويجيء الموقف في سورة يونس، بين الإجمال والتفصيل، هكذا:
{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
سادسا:
سورة النازعات [الآيات 17- 25] وفي سورة النازعات يجيء الموقف في عرض قصير، سريع هكذا:
{اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى}.
سابعا: سورة الذاريات:
وفي الذّاريات، تعرض القصة كلها في لمحة خاطفة.. هكذا:
{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [38- 39].
هذه معارض سبعة، قد عرض فيها هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، عرضا مبسوطا اتسع لأهم الأحداث التي جرت فيه، والتقط أدقّ الخلجات النفسية التي تحركت في صدور الناس الذين كان لهم مكان في هذا الحدث.. مباشرا أو غير مباشر.
فهذه المعارض السبعة إذا ضمّ بعضها إلى بعض، قامت منها صورة واحدة، هي صورة مكبرة، لكل واحدة من هذه الصور على حدة.
فإنك إذ تنظر في الصورة التي تجمع هذه الصور كلها، ثم تنظر في أيّ من الصور الصغيرة، تجد الملامح هي الملامح، والصورة هي الصورة، وإن حملت الصورة الكبيرة ألوانا أكثر، وشغلت مساحة أوسع.
ومن صنيع الإعجاز القرآنى في هذا، أنه مع تفرّق هذه الصور، وبعد ما بينها من مسافات، في عرض القرآن الكريم لها- أنه يمكن أن تضمّ هذه الصور بعضها إلى بعض، على أي ترتيب تقع فيه، وعلى أي وضع تأخذه كل واحدة منها بين أخواتها، ثم يقرؤها القارئ أو يرتلها المرتل وكأنها صورة واحدة، دون أن يشعر أنه يعيد ما قرأ، أو يكرّر ما رتل! وهذه هي الصور السبع كما عرضناها من قبل، دون التفات إلى ترتيب خاص لها- وإن لك أن تقرأها قراءة أو ترتلها ترتيلا، ثم انظر فيما تجد لما تقرأ، من هذا التلاحم والتوافق الذي بينها، وستجد- كلما أعدت القراءة أو الترتيل- أكثر من هذا الذي حدثتك عنه من توافق وتلاحم بين هذه المعارض.
على أننى أودّ أن أصنع صنيعا آخر مع هذه الآيات جميعا، حتى يتضح لنا- بصورة أكثر وضوحا- خلوّ القصص القرآنى من التكرار، بالمعنى الذي فهم عليه، والذي كان في نظر الأغبياء والأدعياء تهمة يرمى بها القرآن في أعزّ ما يعتز به من فصاحة وبيان.
وننظر في الواقعة ذاتها، فنجد أنها تشتمل على عناصر أربعة:
1- موسى ومعه أخوه هرون، وما عرضا على فرعون من مقولات وآيات.
2- فرعون، والملأ الذين معه من قومه وسحرته، وما استقبلوا به موسى من مقولات وتحدّيات.
3- ما كان من موسى والسحرة، وما انتهى إليه أمرهم، من عجز، وتسليم، وإيمان.
4- ما كان من فرعون حين خذله سحرته، وخرجوا عن طاعته وأمره.
وما توعدهم به من عذاب ونكال، وما كان منهم من استخفاف بهذا الوعيد وعدم التفات إليه.
والذي سنصنعه هنا، هو أن نجمع لكل عنصر من هذه العناصر ما كان له من ذكر في هذه السور الست التي عرض فيها القرآن هذه المواقف.
فأولا: موسى وهرون في مواجهة فرعون.
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (48) (من سورة طه) {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} (16- 17) (من سورة الشعراء) {يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} (105 من سورة الأعراف).
{هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} (18- 19) (من سورة النازعات) واقرأ هذه المقولات الأربع، واحدة بعد أخرى، اقرأها على أي ترتيب شئت.. فهل تجد فيها تكرارا؟ وهل يمكن أن تستغنى عن واحدة منها، ثم لا يفوتك شيء مما يتطلبه الموقف، وما حملت تلك الصورة من رؤية جديدة له، ومن مشاعر وخلجات تلبست به؟
والذي أود الإشارة إليه، هو أن هذه المقولات الأربع ليست قولا واحدا جاء به القرآن الكريم في معارض مختلفة من القول، وإنما هي أقوال أربعة فعلا، كل قول منها مستقل بنفسه، قائم بذاته، وإن كان مكملا لغيره.
شارحا له، أو مؤكدا.
1- فهذا موسى ومعه أخوه هرون، يدخلان على فرعون، ويتحدثان إليه بصوت واحد معا.. إذ كان ذلك هو شعور موسى من لقاء فرعون، قبل أن يلقاه، فقد طلب إلى اللّه أن يشدّ أزره بأخيه هرون، فهو أفصح منه لسانا.
ويدخل موسى وهرون على فرعون.. فينظر إليهما نظرة من يقول: ماذا تريدان؟.
فيقولان معا وبصوت واحد: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(48 سورة طه) 2- ثم ها هما وقد أخذت تزايلهما رهبة الموقف ودهشة اللقاء فيلقيان فرعون لقاء مباشرا، ويلقيان إليه بهذا الأمر العظيم، فيقولان معا:
{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} [16- 17 سورة الشعراء].
ونستشعر من هذا أن موسى لا يزال يجد الرهبة والخوف من فرعون، وأنه لم تزايله رهبة الموقف بعد، ولا يزال في حاجة إلى هرون يسنده، ويشدّ أزره، ويثبت جنانه.
3- ثم ها هو ذا موسى بعد أن تمرّس بالموقف، وارتاد الطريق، واختبر المواجهة، واحتمل الصدمات الأولى لها- ها هو ذا يلقى فرعون وحده، ويسمعه بلسانه مضمون رسالته، في قوة وصراحة، وتحدّ: {يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} [104- 105] (الإسراء) فيا للاعجاز الذي تذلّ لجلاله جباه الجبابرة، وتخضع له أعناق المكابرين، وتعنو له وجوه السفهاء المتطاولين.
{يا فرعون}! هكذا يقولها موسى في وجه فرعون.. يناديه باسمه، متحدّيا، وينتزعه من سلطانه وجبروته انتزاعا.. في غير تلطف أو رفق، أو مبالاة.
إنّها فعلة من يقدم على أمر محفوف بالمخاطر، بعد خوف، وتردد، حتى إذا لم يجد من المواجهة بدا ألقى بنفسه إليه، مخاطرا، يتوقع ما يطلع عليه وراء فعلته تلك من أهوال.
وما كان لموسى أن يقول هذه القولة: {يا فرعون} ولا أن يقول بعدها:
{إنى} بهذا الضمير المحقّق لشخصيته، المؤكد لذاته: {إنّى} لا أحد غيرى {رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
ولحرف الجر {من} هنا ماله من الإشعار بهذا الاعتزاز بتلك الشخصية، والرسالة التي تحملها، والجهة التي جاءت منها.. ففيها ما ليس في قوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} من الشّحنة القوية، المليئة بالاعتزاز بهذا السلطان، الذي يستند إليه، وهو سلطان رب العالمين.
ما كان لموسى أن يقول هذا، ثم يمضى فيقول:
{حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}.
وهذا اعتزاز بعد اعتزاز لشخصه الذي يحمل رسالة السماء.
ما كان لموسى أن يقول هذا، لولا أن دخل على فرعون هذا المدخل الذي اختبر به الأرض التي تحت قدميه.
ومن هذا الأفق العالي، يتنزل أمر موسى هادرا مدويّا في وجه فرعون:
{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
ولك أن تضع هذا الأمر الصّادع، إلى جانب هذا الرجاء الذي أسمعاه- موسى وهرون- لفرعون من قبل، في قولهما: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} وسيتضح لك بعد ما بين الأمرين.
ويستشعر موسى أنّه وقع بين فكى الأسد وبراثنه.. وأن فرعون لن يدعه ينجو من العقاب الأليم، على هذه الجرأة التي اقتحم بها هذا الحمى الذي لا يقتحم.
4- وهنا لا يجد موسى بدّا من أن يصحح موقفه، وأن يلقى فرعون مترفقا متلطفا، كما أمره اللّه سبحانه بقوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى}.
وهنا يلقاه موسى بهذا الأسلوب اللّين الرقيق، لعله يكسر بهذا حدّة الموقف، الذي وصل إلى هذا الحدّ من الخطر.. فيقول له: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى}؟ [سورة النازعات: 17- 18] وإلى هنا لم نجد حديثا عن فرعون.. ولكنا نقرأ في وجهه، ومن حركاته أكثر من حديث.
ثانيا: فرعون وقومه وسحرته:
وماذا يكون من فرعون بعد أن سمع ما سمع مما لم يعهد سماعه من أحد من قبل؟
ننظر فنرى:
أن فرعون- في هذا الموقف- يواجه موسى وتحدياته، فيلقاه دهشا عجبا، لهذا التطاول عليه، والخروج على المألوف في حضرته.
ثم هو- قبل هذا كله، وبعد هذا كله- هو فرعون! يبسط سلطانه على أهل المجلس.. يلقى نظرة هنا، ونظرة هنا، ويرمى بكلمة هنا وكلمة هنا.. إنه المحور الذي تدور به ومن حوله الأحداث.
وطبيعيّ ألا يأخذ الحديث اتجاها واحدا، في هذا الموقف، لتعدّد الأطراف المشتركة فيه.. فرعون، وموسى، وحاشية فرعون، وشهود هذه المساجلة من الملأ.
ونودّ أن نشير هنا إلى أن هذه الصور التي عرضها القرآن لهذا الموقف، ليست للقاء واحد بين موسى وفرعون.. وإنما هي لقطات مركزة مجمّعة لأكثر من لقاء.. إذ أنه من غير الطبيعي أن ينحسم الأمر بين موسى وفرعون في لقاء واحد.. ولكن المقدّر في هذه الحالة أن يتكرر لقاء موسى وفرعون، ويتكرر الأخذ والعطاء بينهما، إلى أن بيئس كل منهما من الوصول إلى وفاق مع خصمه، فلا يكون بعد هذا إلا التحدّى والصراع.
ومع هذا فإن اقتدار القرآن وإعجازه، في تصوير مشاهد هذا الموقف في أزمنة مختلفة، وأحوال مختلفة أيضا، قد جعل منها مشهدا واحدا، يمسك بتلك المشاعر التي كان يعيش بها أصحابها في هذا الموقف، دون أن يحدث الانفصال الزمانيّ أو المكانيّ فيها خلخلة، أو ازدواجا.
ومع هذا- أيضا- فإننا سنعرض هذه المشاهد، على أنها صورة واحدة، في موقف واحد، وسنرى أنها تقبل مثل هذا العرض، وتتلاقى فيه وجوهها، دون أن تتصادم، أو تتدافع! ولقد رأينا في المشهد السابق، أن فرعون، قد أخذ بالمباغتة، التي طلع بها موسى وهرون عليه، وأنه حين أسمعاه هذا القول، الذي قالاه له في قوّة وجرأة- وجم، ولم ينطق.
ثم صحا من هذا الذهول، وتنبه لحقيقة الموقف، فاتّجه إلى موسى بهذه الأسئلة الهازئة الساخرة:
{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} (الشعراء) (18- 19).
وقد قدّر فرعون أن هذه الكلمات ستصيب موسى في الصميم منه، وأنها ستخفض رأسه في حضرته.. إذ أنه سيذكر من هذه الكلمات، طفولته وضياعه ووقوعه ليد فرعون.. ثم إنه ستطلع عليه من هذا الكلام صورة مخيفة لفعلته التي فعلها، وهي قتل المصري، وأن فرعون إذا لم يأخذه بجرأته عليه، أخذه بهذا المصريّ الذي قتله.
ولا يقف موسى عند ما ذكره له فرعون، من تربيته له، وضمه إليه، بل يجعل همّه كلّه دفع هذا الخطر الذي يتهدّده من حادثة القتل.. فيقول مجيبا فرعون:!
{فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} (الشعراء).
وهنا يلقاه فرعون سائلا: {فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى}.
وانظر إلى كيد فرعون في هذا السؤال الماكر.. إنه يطلب الجواب من موسى، وهو يعلم ما في لسانه من حبسة، وذلك أمام الجمع.
ويجيب موسى.. وقد أطلق اللّه سبحانه حبسة لسانه: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} (20) [طه] ويعاجله فرعون بسؤال آخر: {فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى}.
.. (21) [طه] ويردّ موسى هذا الردّ المفحم: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى}.
[طه] وانظر كيف عدل موسى عن الجواب على سؤال فرعون، والدخول معه في هذا المجال، الذي يكثر فيه اللجاج، ولا يستطيع أحد الخصمين- في موقف العناد والجدل- أن ينال موقفا حاسما.
{فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى}؟ إنه طوفان يغرق فيه من يتصدى للجواب عليه، إلا إذا كان مع من يطلب الهدى، ويسأل ليعلم، لا ليفحم.
وانظر كيف خلص موسى من هذا الموقف الذي كان يدفعه فرعون إليه دفعا- إلى هذا العرض المحسوس الذي لا ينكر، لقدرة اللّه، وما لهذه القدرة من آثار تملأ وجوه الحياة! ويضيق فرعون بهذا التدبير الذي أفلت به موسى من المصيدة.. فيجيء إلى موسى من طريق آخر.. فيسأله: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ}؟ (23) [الشعراء].
ويكون جواب موسى حاضرا:
{رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء] ويتلفت فرعون حوله عجبا، ودهشا، مستنكرا.. يقول لأهل مجلسه {أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟... [الشعراء] وإلى هذه الجبهة الجديدة التي فتحها فرعون يتجه موسى قائلا: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
... [الشعراء] وتثير هذه الجرأة حنق فرعون.. إذ كيف يجرؤ موسى على تخطى فرعون ومخاطبة غيره في حضرته.. أهناك من يكون له وجود مع وجود فرعون؟
ثم إن فرعون يخشى- من جهة أخرى- أن يكون لقول موسى أثر في الملأ الذين حوله.. فيقول لهم:
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}!... [الشعراء] ويردّ موسى قول فرعون هذا، ويؤكد لمستمعيه ما قال من قبل، فيقول:
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء] وفي قولة موسى هذه تحريض لهؤلاء الأتباع من قوم فرعون، أن يستقلّوا بوجودهم، وأن يحتفظوا بعقولهم، وأن يفكروا لأنفسهم، وألا يدعوا أحدا يفكّر لهم، ولو كان فرعون.. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}!
ويجنّ جنون فرعون لما يريد موسى أن يبلغه من القوم- قوم فرعون- من إغرائهم على الخروج عن طاعته، والخلاف عليه، فيلقاه بهذا الوعيد.
{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء] ويلقى موسى هذا الوعيد بقوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}... [الشعراء] ويجيبه فرعون: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.... [الشعراء] ويتوقف موسى قليلا يستجمع قواه، ويهيئ نفسه لهذا الامتحان الذي يلقى فيه بكل ما معه من أسلحة، وهو على حذر وإشفاق من أن تخونه عصاه، أو لا تستجيب له يده.
ويرى فرعون هذه الحال من موسى، ويخيّل إليه أن موسى لا يملك شيئا بين يديه، فيجدها فرصة للطعنة القاضية، يطعن بها موسى.. فيقول له: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [106] [الأعراف] وعندها يكون موسى قد استجمع نفسه، واستردّ عزمه الذي ذهب به الموقف.. ولا يتكلم موسى.. بل يدع للآيات التي معه أن تتكلم عنه، وتنطق ببيان أفصح من كل بيان.
{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [107- 108 الأعراف] (32- 33 الشعراء) هكذا يجيء المشهد في كلّ من سورتي الأعراف والشعراء، على نسق واحد في النظم، لم يقع فيه أي خلاف بحرف أو كلمة، أو تقديم أو تأخير.
وهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والبحث.. حيث لا يلتزم القرآن الاحتفاظ بصورة النظم إلا عن قصد، ولغاية مرادة، لا تتحقق إلا بهذا الالتزام، بحيث لو اختلفت صورة النظم قليلا أو كثيرا، لفات الغرض، ولم تتحقق الغاية.
فإن من مألوف النظم القرآنى، أن ينوّع الأساليب، ويغاير بينها، إذا لم يكن في هذا التنويع، وتلك المغايرة، ما يجور على المعنى، أو ينتقص شيئا منه.
أي شيء.. وإلا فإن القرآن يكرر اللفظ ويعيده كما هو ولو عشرات المرات، كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} من سورة الرحمن التي تكررت فيها هذه الآية بنظمها هذا، إحدى وثلاثين مرة.
والسؤال هنا:
ما سرّ التزام القرآن لهذا النظم، الذي جاء على هذه الصورة، في كل من سورتى الأعراف والشعراء؟
والجواب- واللّه أعلم- أن المشهد الذي وقع من كل من العصا واليد، ظلّ على حالة واحدة ثابتة، لم يطرأ عليها تغيير من أول ما وقعت إلى أن رفعت.
فالعصا.. ألقى بها موسى من يده.. فإذا هي في الحال ثعبان مبين، مرة واحدة.
لم تتحول من حال إلى حال، ولم تتغيّر من صورة إلى صورة. كأن تبدأ صغيرة- كما هو المتوقع عادة في كل عمل إنسانى- ثم تظهر آثار التفاعل فيها، فتكبر شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها.
واليد.. أخرجها موسى من جيبه، فإذا هي كوكب دريّ متألّق.. مرة واحدة.. هكذا!! وهكذا شأن آيات اللّه ومعجزاته، التي يضعها بين يدى رسله.. تولد كاملة، وتظلّ محتفظة بهذا الكمال، دون أن يدخل عليها أي تغيير، حتى تزايل الموقف، في الزمن المقدور لها أن تزايله.
فثبات المعجزتين- العصا واليد- على هذا الوجه الذي ثبتتا عليه، اقتضى أن يكون النظم المصوّر لهما، والضابط لوقوعهما، ثابتا لا يتغيرّ، قليلا أو كثيرا.
وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن، كما أنه وجه آخر من وجوه صدقه، في نقل الأحداث وضبطها.
وتكرار النظم لهذه الصورة وعرضها في معرضين على هيئة واحدة، هو الذي يكشف عن هذا المعنى الذي نلحظه في هذا الإعجاز الذي حملته المعجزتين، وبانتا به عن كل ما هو في مستطاع البشر أن يبلغه في مجالهما.
وإذ يرى فرعون والملأ حوله هذا الذي كان من عصا موسى ويده، تدور به الأرض، وتعتريه رعشة الخوف، ممزوجة بالغضب والحنق والنقمة، ثم لا يجد بدا من أن يقول قولا يمسك به وجوده، ووجود الملأ من حوله، وإلا استولى موسى على هذا الموقف، وأصبح السيد المتصرف فيه.
{قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ}؟ (34- 35 الشعراء) وتعمل هذه القولة عملها في قوم فرعون، ويصحو القوم من هذا الذهول الذي استولى عليهم، ولكنها صحوة أشبه بصحوة المخمور، يطلع عليه ما يزعجه، فيمسك بأى شيء، ويلقى بنفسه إلى أي شيء! والقوم لا يجدون شيئا يمسكون به إلا كلمة فرعون تلك، التي ألقى بها إليهم، إنه.. يسألهم فيجيبون بما سألهم.. إذ لا يملكون- في تلك الحال المستولية عليهم- عقلا يفكر، أو رأيا يسعف.
وقال الملأ من قوم فرعون: {إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ} (109- 110: الأعراف) نفس الكلمات التي نطق بها فرعون.. يلتقطها القوم، ويجعلونها جوابا على ما سأل.
وهكذا يكشف القرآن الكريم عن المعجزة وأثرها في القوم، واستيلائها على وجودهم كلّه، بما لم ينكشف حتى لمن شهد الواقعة عيانا، أو وقع تحت تأثيرها مباشرة.
ويمسك فرعون مرة أخرى بخيوط واهية من الموقف الذي كاد يفلت منه، وقد شاع في قومه هذا الشعور بأن موسى ساحر عليم، فيجسّد لهم هذه المشاعر في تلك الكلمات المتحدّية المهدّدة.. يواجه بها موسى! قال: {أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً} [57- 58] طه ويفزع القوم لما يسمعون من فرعون، وأن موسى يريد أن يخرجهم وفرعون معهم- من أرضهم، بقوة هذا السحر الذي بين يديه، ويتمثل لهم من هذا أنهم في وجه خطر داهم.. إن هم لم يعاجلوه بالعزم والحسم، عاجلهم بالبلاء والتشريد من ديارهم، والخروج عما هم فيه من دولة وسلطان في ظلّ من دولة فرعون وسلطانه.. إن الأمر جدّ ليس بالهزل، وإن فرعون يرى أنها معركة، وها هو ذا يحدد زمانها ومكانها.
وهنا يصحو القوم صحوة أشبه بصحوة المحتضر.. وإذا هم صوت واحد يهدّد ويتوعد، وإذا القرآن الكريم يمسك بالصميم من هذا الصوت، ويجمع ما تفرق منه على كل لسان، وإذا هو ما حكاه اللّه عنهم في قوله تعالى: {قالوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ} (يونس) ونلاحظ أن القوم قد أفاقوا شيئا من هذه الضربة، التي فاجأهم بها موسى، فكان لهم قول، لم يأخذوه من لسان فرعون.
وانظر في هذا الإعجاز الذي تتقطع دونه الأعناق.
لقد وزع القرآن هذا المشهد في أربع سور.. فجعل قولة فرعون عن موسى وسحره، في سورة الشعراء.
ثم أعاد هذه القولة نفسها على لسان الملأ من قومه في سورة الأعراف.
ثم جعل مواجهة فرعون لموسى مهددا متوعدا في سورة طه.
ثم جعل ما ردّده القوم من تهديد فرعون ووعيده، في سورة يونس.
وذلك حتى لا تتراكم الصّور وتتراكب، وحتى لا يقع التكرار على أية صورة.. لفظية، أو معنوية.
ثم انظر مرة أخرى، في هذه المقولة: {فَما ذا تَأْمُرُونَ}؟.
لقد جاءت على لسان فرعون يسأل بها الملأ حوله في سورة الشعراء، كما جاءت على لسان الملأ يسألون بها فرعون في سورة الأعراف.
إنها الكلمة التي كانت تدور على كل لسان في هذا الموقف.. لا يملك أحد غيرها.. يقولها لنفسه، ويقولها لكل من يلقاه: ما العمل؟
ثم يجيء الجواب ممسكا بالاتجاه الغالب الذي يكاد يستقرّ عليه الرأى، وتجتمع عليه الأكثرية:
{قالوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [36- 37: الشعراء]
{قالوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [111- 112 الأعراف] وقال فرعون: {ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ} [79 يونس] وإذا كان الرأى قد غلب في إرجاء موسى وأخيه حتى يعدّ فرعون العدّة للقائه، فإن الرأى يكاد يتوازن بين دعوة كل ساحر له أيّ إلمام وعلم بالسّحر، وبين دعوة كل من مهر في السحر.. فقال فريق بدعوة كل ساحر، وقال فريق آخر بدعوة كل سحّار.
ثم يجيء أمر فرعون وحكمه قاضيا بدعوة كلّ ساحر، أي كل قادر على حمل السلاح في هذه المعركة الفاصلة: {ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ}! هذان مشهدان من المشاهد الأربعة التي ضمّ عليها هذا المقطع الذي قتطعناه من قصة موسى، وهو لقاؤه مع فرعون، ودعوته إلى اللّه، وإلى أن يرفع يده عن بني إسرائيل، ويرسلهم معه إلى حيث يخرج بهم إلى وجه آخر من الأرض غير أرض مصر.
وقد رأينا في هذين المشهدين، كيف تجتمع الصور فيهما، وكيف تتفرق، وهي في اجتماعها وافتراقها على سواء، في عرض المشهد، وفي دقة تصويره، والإمساك بكل خاطرة وقعت فيه.
ولا أريد أن أمضى معك في عرض المشهدين الآخرين، حتى لا يطول بنا الوقوف هنا، ونبعد عن الغاية التي نحن على طريقها، مع تفسير كتاب اللّه.
فاصنع أنت صنيعك مع هذين المشهدين، على نحو ما رأيت في صنيعنا بالمشهدين السابقين، أو على أي نحو تراه أنت.. وستجد بين يديك ألوانا مشرقة من الإعجاز القرآنى، تطالع وجوهها، في كل وجه تلقاها عليه.
فإن أنت آثرت ألا تكلف نفسك هذا الجهد، ورأيت أن تقطف الثمر من قريب، فإنك ستجد ذلك بين يديك في كتابنا: القصص القرآنى.
واللّه يقول الحق، وهو يهدى السبيل.