فصل: تفسير الآيات (69- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (69- 89):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}.
التفسير:
مناسبة ذكر قصة إبراهيم، بعد قصة موسى، هي أنه في قصة موسى، قد رأى فيها المشركون أسوأ وجه لهم في فرعون، وما ركبه من عناد واستكبار واستبداد.. كما رأوا المصير الذي صار إليه هو ومن اتبعه.
وفي قصة إبراهيم يرى المشركون الجانب الآخر من هذا الوجه السيّء الذي يعيشون به في الناس.. فهم إذا كانوا قد رأوا في قوم فرعون عتوّهم واستكبارهم، فإنهم يرون في قوم إبراهيم جهلهم، وصغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم، وضآلة قدرهم في الناس.. إذ ينقادون لأحجار صمّاء، ويعقّرون جباههم بين يدى ودمى خرساء..!
وفى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ} يعود الضمير في {عليهم} إلى المشركين من أهل مكة.. والنبأ: الخبر عن غائب.
وفي إضافة النبأ إلى إبراهيم، دون إشراك قومه معه، مع أن القصة حديث عنه وعنهم- إشارة إلى أن المنظور إليه هو إبراهيم، وأنه هو الذي يجب أن يكون موضع القدوة والأسوة، للمؤمنين، ولأصحاب الرسالات الطيبة الداعية إلى الخير.. وعلى رأس أصحاب هذه الرسالات النبي محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- حيث يجتمع في قومه، كبر فرعون واستعلاؤه، وصغار قوم إبراهيم، وحماقتهم.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ} إن سؤال إبراهيم، هو من تجاهل العارف، الذي يسأل عن الشيء، وهو يعرف الجواب عنه.. ولكنه يريد بهذا السؤال أن يأخذ الجواب عن هذا الجرم، من فم المجرمين أنفسهم، ليكون ذلك موضعا للمساءلة والمحاسبة على ما نطقت به ألسنتهم.. ولهذا كان تعقيب إبراهيم على هذا الجواب، بأن سألهم قائلا: {قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}؟ وفي قولهم: {نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ} تحدّ وقاح لإبراهيم، وإصرار على عبادة هذه المعبودات التي ينكرها إبراهيم.. فهو الذي يقول عنها إنها أصنام، وهو الذي يقول عنها إنما تماثيل، كما يقول: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} [52: الأنبياء].. ونعم إنهم يعبدون الأصنام والتماثيل.. فما شأن إبراهيم؟ وماذا يريد؟ هكذا يردّون في تحدّ وسفه.
ويضع إبراهيم القوم أمام واقع يفضح ضلالهم، ويكشف صغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم.. إن هذه الأصنام التي يظلّون عاكفين عليها، جاثمين بين يديها- لا تسمع ما يقولون.. وإذن فلا يمكن أن تستجيب لما يدعونها إليه، من جلب خير، أو دفع ضر.. هذا ما تمثّل لهم في هذا الموقف، وهذا ما انكشف لهم من أصنامهم، حتى لكأنّهم يرون هذا منها لأول مرّة! ولا يجد القوم مخرجا من هذا الطريق المسدود، إلّا أن يحيلوا الأمر إلى غيرهم، ويعلقوا الجواب المطلوب على هذه الأسئلة برقاب آبائهم وأجدادهم! {قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ}.
وإذن فنحن نفعل ما كان يفعل آباؤنا من قبل.. وما يفعله آباؤنا هو حجة علينا إن لم نفعله، ثم هو حجة لنا في وجه من ينتقص من فعلنا هذا!.
ويحيّل إليهم بهذا المنطق الصبيانى أنهم أفحموا الخصم، وأسقطوا حجته عليهم! وإذا إبراهيم يواجهم بهذا التحدي لهم، ولما يعبدون هم وآباؤهم.
{قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ}.
العدوّ: يطلق على الواحد والجمع.. والضمير في {إنهم} يعود إلى {ما} في قوله تعالى: {ما كُنْتُمْ} أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام.
فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام.. وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين.. أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله.
وفي قوله تعالى: {إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ} هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات.. ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، اللّه سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم.. وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو اللّه ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!.
وفي قول إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} دون أن يقول: {فإنى عدوّ لهم} حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- في هذا إشارة إلى أمور منها:
أولا: أنه لما كان اللّه سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه.. لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه، وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر.. أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، في من يعبده.. هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير.
وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله.. وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو اللّه سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!.
ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون.. أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده.. فقال:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.
هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ.
ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات اللّه- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده.. فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه.
فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء.. ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى.. وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم اللّه وإحسانه إلى عباده.
وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه.
وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة اللّه وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك.
فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب اللّه له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد اللّه. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.. أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس.
ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم اللّه عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} [74: الفرقان].. ثم يجيء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان اللّه وجنات النعيم.
{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}.
وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن اللّه.. فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ}.
ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
.. أي قلب خالص من الشرك، معافى من الضلال.

.تفسير الآيات (90- 104):

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)}.
التفسير:
هذه الآيات، هي تعقيب على هذه المشاهد، التي شهد فيها المشركون من قريش، موقف أهل الضلال، كقوم فرعون وقوم إبراهيم، وما يعبدون من دون اللّه.. وتأبّيهم على الهدى، وخلافهم لمن يدعونهم إلى اللّه.. وفي هذا التعقيب، تنكشف عواقب الأمور، للمحسنين والمسيئين جميعا، فينزل كلّ منزلته، وينال كل جزاء ما عمل.
فأما المؤمنون المتقون، فتزلف لهم الجنّة، أي تدنو منهم، وتفتح أبوابها لهم فيدخلونها، وينعمون بما أعد اللّه سبحانه وتعالى لهم فيها من نعيم مقيم.
وكأن هذه الجنّة التي أزلفت ودنت للمتقين، كأنما هي جواب على سؤال إبراهيم، واستجابة لدعوته في قوله: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}.
وكأن الجواب: هذه هي الجنة قد أزلفت لك وللمتقين، فتبوأ منها حيث تشاء.
وأما أهل الشقاء، والضلال، فها هي ذى الجحيم تبرز لهم، أي تطلع عليهم، ويحيط بهم سرادقها.. ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون اللّه؟ أين هم؟ وما حيلتهم لكم في هذا البلاء الذي تساقون إليه؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ}؟ وهل يمدّون إليكم يدا تخرجكم مما أنتم فيه؟ {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} هم لأنفسهم، إذا وقعوا فيما أنتم فيه من مهالك؟ لقد تقطع بينكم، وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون! وإذن فإلى مصيركم المشئوم: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} [7- 8: الطور].
{فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}.
والكبكبة: أصلها الكبّ، وهو إلقاء الشيء على وجهه، والكبكبة:
تدهور الشيء وسقوطه في هوّة، حيث يكبّ مرة ومرة ومرات.
ثم إذ تجتمع هذه الأخلاط من الضلال بعضها إلى بعض، تتصارع وتتناهش كما تتناهش الحيات، يسوقها سائق عنيف إلى جحر واحد! وفي هذا الجحر الضيق الخائق، يكثر اللدغ والنّهش، ويعلو الصّراخ والعويل! {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [25: العنكبوت].

.تفسير الآيات (105- 122):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}.
التفسير:
وعلى نهج القرآن الكريم، في تنويع المعارض، والانتقال بالناس من مشاهد الحياة الدنيا، إلى مشاهد القيامة، ثم العودة بهم إلى حيث هم في حياتهم الدنيا، وما هم فيه من غفلة، حيث تعرض عليهم الآيات والنذر، ليكون لهم فيها عبرة ومزدجر- على هذا النهج، جاءت قصة نوح وما بعدها من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ليرى فيها هؤلاء المشركون من أهل مكة، بعد أن عادوا لتوهّم من مشاهد القيامة، وما يلقى فيها أهل الضلال من عذاب ونكال.. لعلّ في هذا ما يفتح لهم طريقا إلى الهدى والإيمان.
وفي قصة نوح صورة واضحة، تجرى فيها الأحداث على نحو مماثل تماما لما يجرى بين النبيّ وقومه.. يدعوهم إلى اللّه- وهو أخوهم- فلا تعطفهم عليه عاطفة النسب والقرابة، ولا ينكشف لأبصارهم شعاع من هذا النور المشرق الذي بين يديه، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم، من عبيد وإماء، وصغار، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له.. {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}؟ وهذا ضلال في التفكير، وسفاهة في الرأى.. فإن أول المستجيبين لأنبياء اللّه ورسله، كانوا دائما من عامة الناس، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد.. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد.. إن أكثر الناس حربا عليها، ووقوفا في وجهها، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية.. على حين يكون أقرب الناس إليها، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه، وهكذا كان موقف نوح مع قومه.
ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه، قائلا: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}.
وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم في هذا الموقف، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم.. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى اللّه، وإما أن يرجموه.. ولا ثالث غير هذين.
{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
أي فاحكم بينى وبينهم، فإن اللّه هو الحكم العدل، الذي يقضى بهلاك الظالمين، ونجاة المؤمنين.. ولهذا طلب نوح النجاة له، ولمن معه من المؤمنين، من هذا البلاء الذي يحمله حكم اللّه في القوم الكافرين.. وقد نجّى اللّه نوحا ومن معه، وأغرق الكافرين الضالين.
وإن في ذلك لآية، فيها العبرة والموعظة، لهؤلاء المشركين من أهل مكة، ولكن أكثرهم لا يؤمنون بهذه الآيات، ولا يقفون عندها، ليطالعوا وجه العبرة فيها.