فصل: تفسير الآيات (210- 220):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (210- 220):

{وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، من أكثر من جهة.
فأولا: أنه جاء في آيات سابقة قوله تعالى: {إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
ثم أعقب هذه الآيات تعقيب على موقف المشركين من هذا الكتاب، المنزل من ربّ العالمين، ومقولاتهم المفتراة عليه.. فكان قوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ} توكيدا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
وثانيا: في قوله تعالى: {ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ} إشارة إلى أن المشركين قد جاءهم ما جاء المنذرين قبلهم، من آيات اللّه.. ليكون لهم منها موعظة وذكرى.. وأن هذا الذي جاء إلى المشركين، هو كتاب اللّه، الذي تلقاه محمد وحيا من ربه.. وأنه ليس مما تنزلت به الشياطين، كما يتنزّل على الكهان والسحرة.
قوله تعالى: {وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}.
أي أنه ما ينبغى للشياطين، أن يأخذوا هذا الموقف، وأن يكونوا سفراء بين اللّه وبين من يتخيرهم من عباده لرسالته.. إن الشياطين يعرفون قدرهم، والحدّ الذي ينبغى أن يقفوا عنده.. ومن جهة أخرى، فإنهم إذا أرادوا أن يخرجوا عن طورهم، ويتجاوزوا حدودهم، فإنهم لن يستطيعوا أن يرتقوا هذا المرتقى، وأن يبلغوا تلك المنزلة.. إنهم معزولون عن أن يسمعوا شيئا مما في الملأ الأعلى.. إذا أن بينهم وبين ملائكة الرحمن حجازا، كما أن بين الناس وبين الشياطين حجابا.. فكلّ يعيش في عالم، دون أن ينفذ إلى العالم والآخر.
قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}.
هو تهديد للمشركين، بهذا الوعيد الموجّه إلى النبيّ في مواجهتهم.
فالنبيّ الذي يعرف المشركون- كما يقول لهم- هذه الصلة التي بينه وبين ربه، يتلقى هذا التهديد، إذا هو دعا مع اللّه إلها آخر، كما يفعل هؤلاء المشركون- فكيف يكون حال غيره ممن ليس لهم عند اللّه هذا المقام الذي له؟
فليس المراد بهذا النهى، وبهذا الوعيد، النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذ كان أبعد الناس من أن يطوف به طائف من الشرك باللّه.. ولكن ذلك للتعريض، بالمشركين، والتلويح لهم بهذا العذاب الراصد لكل من يشرك باللّه، ولو كان من أقرب المقرّبين إلى اللّه..!
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين، الذين انكشف لهم حالهم، وهم في مواجهة هذا العذاب، الذي يتهدّد به اللّه كلّ من يشرك به.
فهذه الدعوة إلى إنذارهم وتخويفهم من عذاب اللّه، تلقاهم وهم يتحسّسون أنفسهم، ليجلوا عنها هذا الشرك، الذي يوقعهم في العذاب الأليم.
ثم إنّ في قوله تعالى: {عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} داعية أخرى تدعوهم إلى الاستجابة للرسول، وفتح عقولهم وقلوبهم لما يدعوهم إليه.. إنهم عشيرته، وهم أقرب الناس إليه من عشيرته، وهو- بحكم هذه الصلة- لا يريد لهم إلا الخير، ولا يرتاد بهم إلا مواقع الرشاد.. وبخاصة في تلك البينة التي يعيش كل فرد فيها من أجل أهله وعشيرته، لأن حياته مرتبطة بها، وإن أي خطر يتهدّدها هو خطر عليه، وعلى كل فرد فيها.
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو أمر بما يقضى به العدل، في التسوية بين عباد اللّه، فيما ينزل عليهم من آيات اللّه، وفيما يفيضه رسول اللّه على الناس من بر ورحمة.
فالرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن بدأ بدعوة أهله إليه، فلأن ذلك الذي يدعوهم إليه هو برّ وضعه اللّه بين يديه، والأهل والأقربون هم أولى الناس بهذا البرّ، بعد نفسه، كما في الحديث الشريف: ابدا بنفسك ثم بمن تعول ثم إنه إذ كان هذا الخير هو مما لا ينفد أبدا بالعطاء، والإنفاق، بل إنه يزيد على الإنفاق، ويحلو طعمه كلّما كثرت الأيدى الممدودة إليه- فقد كان على النبيّ أن يسع بهذا الخير الذي بين يديه الناس جميعا، قريبهم، وبعيدهم.. وأنه إذا بدأ بدعوة أهله إلى هذا الخير، فإن ذلك لا يجعله يقف عند أهله، ولا أن ينتظر حتى يجتمع أهله على هذا الخير، بل إن عليه أن يحتفى بهؤلاء الضيوف الذي سبقوا أهله إلى هذه المائدة التي أعدّها، ودعا الناس إليها.
فمن سبق كان أولى الناس بأن يأخذ مكان الصدارة منها، وأن يكون بموضع لحفاوة والتكريم من ربّ الدعوة، وصاحب المائدة.. سواء أكانوا من الأقربين، أو الأبعدين..! {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}.
قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.
هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه النبي من أهله الذين لا يستجيبون له، ولا يقبلون على دعوته.. إنهم حينئذ لا أهل ولا أقارب، وإن عليه أن يتبرأ مما هم فيه من ضلال، وألا يمد بصره إليهم، بل ينبغى أن يكون نظره قائما على هؤلاء الذين استجابوا له، واتبعوا سبيله!
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أي دع هؤلاء المتأبّين عليك من أهلك وعشيرتك، وما هم فيه من شرك، وتوكل على اللّه وحده، فهو الذي يشد أزرك، ويمدك بأمداد القوة والعزة، فهو {العزيز} الذي من اعتز به عزّ {الرحيم} الذي يلقاك برحمته، ولا يدعك لأيدى الباغين والسفهاء من قومك.
وفي قوله تعالى: {الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ}.
تأكيد لرعاية اللّه سبحانه وتعالى للنبى، وإحاطته بعزته ورحمته.. فاللّه سبحانه وتعالى يراه، ويطلع على كل حال منه، في سر وجهر، وفي نوم ويقظة.. وخصّت الرؤية بحال القيام، لأنها أشرف الأحوال، التي يحبّ النبي أن يراه اللّه عليها، وهو حال قيامه بين يدى ربه للصلاة.
وقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} معطوف على الكاف في {يراك} أي يراك في قيامك، ويرى تقلبك في الساجدين.
وتقلّب النبي في الساجدين، هو لقاء المؤمنين في الصلاة. وترديد نظره فيهم، وملاحظة كل منهم، وإعطاؤه حظّه من عنايته ورعايته.. وخصت حال السجود من أحوال المؤمنين، لأنها الحال التي تقربهم من الرسول، هذا القرب، وتنزلهم منه تلك المنزلة.
هذا ما نحب أن نفهم الآية الكريمة عليه.. أما ما يذهب إليه كثير من المفسرين من أن المراد بتقلّب النبي في الساجدين، هو تنقله من الأصلاب الزّاكية إلى الأرحام الطاهرة، منذ آدم، إلى مولده، صلوات اللّه وسلامه عليه.. فهذا لا يزيد من شرف النبي، إن صحّ، ولا ينقص من قدره، إن لم يصح.. فإن شرفه- صلوات اللّه وسلامه عليه- في ذاته، وفيما اختصه اللّه به من فضله وإحسانه.
وقد تحدث القرآن، عن إبراهيم، خليل الرحمن، وأبى الأنبياء، بما يدمغ أباه بالكفر، وبعداوته للّه.. كما تحدث عن ابن نوح عليه السلام، بأنه من الذين حق عليهم العذاب! وفي هذا ما يقطع بأن الأنساب لا شأن لها فيما يريد اللّه بعباده من خير وإحسان، أو ما يرميهم به من بلاء وهلاك..!
وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تأكيد لرعاية اللّه سبحانه وتعالى، للنبى، وملاحظته له، وأنه في ضمان ربّ عزيز رحيم، سميع عليم.

.تفسير الآيات (221- 227):

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ}.
هو توكيد للنفى الوارد في قوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ}.
فهذا النفي كان ردا على التهم التي يرمى بها المشركون النبي صلّى اللّه عليه وآله من مخالطة الشياطين له، وتآخيهم معه، وأن معه رئيّا منهم يلقى إليه بهذه المقولات التي يحدثهم بها.. فقد كان من تصورات الجاهليين، أن الشياطين والجن يخالطون بعض الناس، ويعيشون معهم، وأن الشعراء خاصة هم أقرب الناس إلى هذا العالم الخفي، وأكثرهم اتصالا به، وأن مع كل شاعر فحل، شيطانا، ينظم له الشعر.. وفي تاريخ الأدب العربي كثير من الشعر الذي ينسب إلى الجن، إذ لم يعلم له قائل.. ومن هذا ما يروى من الشعر في حديث الهجرة وما كان من نزول الرسول- صلى اللّه عليه وآله- وصاحبه أبى بكر، بأمّ معبد.. ومما يروى من هذا الشعر، قولهم:
جزى اللّه ربّ الناس خير جزائه ** رفيقين حلّا خيمتى أم معبد

هما نزلا بالبرّ ثم ترحلا ** فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ** ومقعدها للمؤمنين بمرصد

ومن هذا أيضا، ذلك الشعر الذي قيل إن الجن رثت به أبا بكر.
ومثله هذا الشعر الذي ينسب إلى الجن في رثاء عمر.. وغير ذلك كثير، يمكن أن يجتمع منه ديوان كامل.
فقوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ} هو عزل للقرآن الكريم، عن أن يكون من تلك المصادر التي يتلقى منها الشعراء شعرهم، كما يزعم العرب.. ثم إن قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} هو عزل للرسول الكريم، عن أن يكون على شاكلة هؤلاء الشعراء الذين يأخذون شعرهم عن الشياطين، كما يزعمون.
فالقرآن الكريم، في علوه الذي لا ينال، أبعد من أن يدخل في وهم الشياطين أن يتطلعوا إليه، وأن يطوفوا بحرمه.. ثم على فرض أنهم أرادوا ذلك- تطاولا وسفها- فإنهم لن يبلغوا من هذا مأربا.
وقد تحدى القرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [88: الإسراء] فما لهم لا يتصلون بالجن، ويأخذون عنهم مثل ما أخذ النبي؟
وشأن الرسول في هذا شأن القرآن، فهو في مقام عال، وفي حراسة من طهره، وسموه، من أن تلمّ به الأرواح الخبيثة، أو تتعامل معه.. لبعد ما بينها وبينه، وللاختلاف الشديد الذي بين طبيعتها وطبيعته.
إن الشياطين، إنما تتنزل، وتتعامل مع أقرب الناس شبها بها، وأكثرهم تجاوبا معها، في الاتجاه إلى غايات الشر، ومواقع الضلال.. {تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.
فهذا هو متنزل الشياطين ومهبط وحيهم.. أن يتنزّلوا على أهل الإفك والإثم، وعلى من يتعامل بالإفك والإثم، الذي هو كل بضاعتهم.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ} [121: الأنعام] والأفّاك: كثير الإفك، وهو افتراء الأحاديث واختلاقها ونسجها من خيوط الباطل والبهتان.
والأثيم: كثير الإثم، وهو المقرف للآثام والمنكرات، دون تحرّج أو تأثّم.
وإذن، فالقرآن- في ذاته- بمعزل عن الشياطين، لا يدنون منه، ولا يطوفون بحرمه.
والنبيّ- في ذاته- على طبيعة من الصفاء والنّقاء والطهر، لا يقترب منها الشيطان، الذي هو طبيعة خبيثة قذرة، لا تميل إلا إلى الخبث والقذر.
شأن الذباب الذي يتهافت على الأقذار، ويتجنب كل نظيف طاهر! وإذن، فإن ما يتحدث به الرسول لن يكون من تلقيات الشياطين أبدا، سواء أكان ما يتحدث به منسوبا إلى السماء، أو منسوبا إليه.
قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ}.
الضمير في {يلقون} يعود إلى الشياطين.. والمراد بإلقائهم السّمع، أنهم يتجهون بأسماعهم إلى الملأ الأعلى، ليسترقوا السّمع، ويتحسّسوا ما يكون من أنباء عن العالم الأرضى هناك.. حتى إذا وقع لهم شيء من ذلك ألقوا به إلى أوليائهم من الإنس، ليضلّوهم، ويجعلوا منهم صنائع لهم.
وقد كان الشياطين يفعلون ذلك قبل نزول القرآن، فيقع لهم شيء من بعض أخبار السماء، فيحدّثون به أولياءهم، حديثا مختلطا، يجمع بين الصدق والكذب، والحق، والباطل، وفي هذا يقول اللّه تعالى على لسان الجنّ، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} [9: الجن].
وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} جملة حالية من الضمير في {يلقون} أي أن أكثر هؤلاء الشياطين الذين يتسمعون إلى أخبار السماء، كاذبون فيما يلقون إلى أوليائهم من الناس من أخبار، فالمستمع إليهم، والمتلقى عنهم ضالّ، ومضلّ لغيره، إذ يقع في يقينه أن ما سمعه هو الصدق كلّه، فيأخذ به جميعه، فتسوء العاقبة، وينكشف الحال عما يجلب الحسرة والندم.
والسؤال هنا: إذا كان أكثر الذين يتسمعون إلى أخبار السماء كاذبين، فهل هناك قلّة منهم لا تتصف بهذه الصفة؟
والجواب: نعم، فإنّ من الجن، مؤمنين صادقى الإيمان، يتحرّون الصّدق، ويلزمون أنفسهم به، شأنهم في هذا شأن المؤمنين الصادقين من الناس.
قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ}.
هو تأكيد لبعد النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه، عن أن يكون على أية صلة قريبة أو بعيدة من الشياطين، وما يتنزلون به على أوليائهم- إنهم لا يتنزلون إلا على كل أفّاك أثيم.. وقد عرفت قريش في محمد ما لم تعرفه في إنسان قط، من صدق الحديث، واستقامة السلوك، وطهارة النفس، حتى لقد كانت تلقّبه قبل البعثة بالصادق الأمين.
وإذا كانت قريش، وكان الجاهليون عموما، يزعمون أن الشعراء، يتلقون أشعارهم مما يوحيه إليهم شياطينهم، فإن محمدا ليس شاعرا، لا بالقوة ولا بالفعل.
فمحمد لم يقل شعرا في حياته أبدا.. لا قبل البعثة ولا بعدها.
ومحمد ليس من طبيعته أن يكون شاعرا، كما عرفت قريش من حياته معها، ومعاشرتها له، واطلاعها على كل شأن من شئونه.. إذ كان في بيئة عارية، لا يختفى فيها شيء عن أبصار الناس وسمعهم.
فمحمد أبعد الناس عن أن يكون شاعرا، بطبعه، أو بلسانه.. وهذا الكلام الذي يحدّث الناس به، ليس من واردات الشعر، سواء أكانت نسبته إلى السماء. أم إلى محمد نفسه.
فالقول، الذي تقوله قريش على محمد بأنه شاعر، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [30: الطور] وكما يقول جلّ شأنه: {بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [5: الأنبياء]- هذا القول الذي تقوله قريش- ساقط، يكذّبه الواقع الذي تعرفه قريش، وتستيقنه من أمر محمد.
وفي هذا يقول الحق جلّ وعلا: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [69: يس] وفي قول تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ}.
إلفات لقريش، إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا وآمنوا به، وأنهم جميعا كانوا على حال من الاستقامة والقصد، بحيث لا تميل بهم أنفسهم إلى جانب الشعراء، ولا تهفو طباعهم إلى أن يكونوا في موكبهم، ومن بطانتهم، أو شيعتهم.. وفي هذا دليل مادى آخر، على أن محمدا ليس بشاعر، وأن ما يحدّث به ليس من قبيل الشعر، وإلا لكان أتباعه من الشعراء.. لسانا، وطبيعة.. فالشعراء إنما ينضوى إليهم من كان على شاكلتهم، من أهل الغواية، والبطالة.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ}.
هو بيان للصفة الغالبة على الشعراء، وأنهم لا يلتزمون الواقع، ولا يتحرّون الصدق، وذلك لما في طبيعة الشاعر من توفّز الشعور، وجموح الخيال، وتقلّب العاطفة.
فيخرج به ذلك كله عن أن يرى الأمور على حقيقتها، بل يلونها بخياله، ويصفيها بمشاعره، ويتعامل معها كما تقع في وجدانه.. ومن هنا جاء القول المشهور: أعذب الشعر أكذبه.
كاشفا عن الصفة الغالبة على الشعر، وهو الخيال لذى يلوّن الحقيقة، ويضع عليها من الأصباغ ما يغير وجهها، فيبدو القبيح جميلا، والجميل قبيحا، كما تفعل الأصباغ والألوان التي تلوّن بها وجوه الممثلين، والثياب التي يلبسونها، والشّعر المستعار لرءوسهم، ولحياهم- كما يفعل ذلك كله في إخفاء شخصية الممثل، وإظهاره في الصورة التي يقتضيها الدور الذي يقوم به على مسرح التمثيل.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ}.
هو بيان لحال من تلك الأحوال التي تلبس الشعراء التي أشارت التي إليها الآية السابقة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ}.
إذا أن من مقتضى هيامهم في كل واد، أنهم لا يستقرون على حال، ولا يثبتون على رأى، ولا يتقيدون بأى قيد.
ومن القيود التي يتقيد بها الناس- غير الشعراء- قيد الكلمة، وإخراجها من حيّز الكلام إلى عالم الواقع.. أما أن يرسل المرء الكلام هكذا، من غير أن يكون هذا الكلام صادرا عن إحساس به، وتصور له في صورة عمل يعمله الإنسان، وسلوك يعيش به في الناس، فهو من غير الشعراء، كذب ونفاق، ثم هو من الشعراء خيال، هو من مستلزمات هذا الضرب من الكلام، الذي لا يطلب منه الناس الحقيقة عارية، وإنما يروقهم أن يروها في هذا الجوّ الشاعريّ الحالم!! يروى أن عبد الملك بن مروان سمع الفرزدق الشاعر، وهو ينشد بين يديه هذه الأبيات، من قصيدة له:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس ** وواحدة تميل إلى شمام

فبتن بجانبيّ مصرّعات ** وبتّ أفض أغلاق الختام

فقال عبد الملك، يا فرزدق، قد أوجبت عليك حدّ الزنا، ولابدّ من رجمك، فقال وبم أوجبت عليّ الحدّ يا أمير المؤمنين؟ قال بكتاب اللّه.. قال فإن كتاب اللّه يدرأ عنى الحدّ! قال وكيف؟ قال فإن اللّه سبحانه وتعالى يقول في الشعراء: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} وأنا هنا شاعر، وقد قلت ما لم أفعله! هكذا يرى الشاعر نفسه، وكهذا ينبغى أن يراه الناس!
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} هو استثناء من الحكم العام الذي أوقعته الآيات الثلاث السابقة، على الشعراء.. ووصفتهم بتلك الصفة الغالبة عليهم، وهي أنهم غواة يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون في كل واد من أودية الخيال، والضلال، وأنهم يقولون ولا يلتزمون بما يقولون.
فهذه هي الصفات الغالبة على أكثر الشعراء، ولكن من الشعراء من غلبت طبيعتهم شياطين الشعر، وقهرت النوازع التي تحركها فيهم هذه الشياطين، فكان لهم من خلقهم، عاصم يعصمهم من الانزلاق في مهاترات الشعراء، ولهوهم ومجونهم، قولا، وفعلا.. وليس هنا عاصم يعصم الإنسان من المزالق والعثرات، مثل الإيمان باللّه، والتمسك بآداب الدين وأحكامه.. حيث يجد الإنسان من دينه وازعا يزعه عن الشر، ويمسك لسانه عن الفحش والهجر.
فالذين آمنوا باللّه، وذكروا اللّه كثيرا، أي استحضروا دائما جلاله وعظمته.. هم- وإن كانوا شعراء- مستثنون من تلك الأوصاف التي وصف بها عامة الشعراء، لأنهم ليسوا غواة ولا دعاة إلى غواية. ولأنهم لا يقولون إلا ما يفعلون.. فلا كذب. ولا نفاق.. حيث لا يجتمع الإيمان وذكر اللّه كثيرا، مع شيء من هذا الضلال.
وفي قوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا}.
إشارة إلى ما يكون من الشعراء المسلمين، إذا حاربهم المشركون بالشعر، وسلقوهم منه بألسنة حداد.. فماذا يكون عليه موقف الشعراء المسلمين هنا؟ أيسكتون على هؤلاء الذين يرمونهم بهذه الطعنات المسمومة القاتلة من شعر الهجاء، الذي يشيع على ألسنة الناس، ويصبح حديث المحافل، وسمر السمار، وحداء الحداة، ونشيد الرعاة والصبيان؟ وكيف وفي أيديهم السلاح الذي يفلّ هذه الأسلحة، ويخرس تلك الأفواه التي تنفث هذه السموم؟ ومن أجل هذا فقد أذن اللّه سبحانه للشعراء المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم هذا الشرّ بالشرّ، وأن يضربوا الشعر بالشعر.. انتصارا من ظلم، وردعا للظالمين.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [148: النساء] ويقول سبحانه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [41:
الشورى].
وفي قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
تهديد لهؤلاء الشعراء من المشركين، الذين يعتدون بشعرهم الآثم على الناس، ويمزّقون الحرمات، ويهتكون الأعراض.. ثم هو من جهة أخرى- تحذير لشعراء المسلمين من أن يعتدوا ويظلموا، وأن يجاوزوا الحدّ الذي يأخذون فيه بحقّهم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [190: البقرة] وقد فهم كثير من الناس- ومن المسلمين- نظرة الإسلام إلى الشعر، وإلى الفنون عامة، فهما خاطئا، إذ أخذوا بظاهر النصّ القرآنى، ولم ينفذوا إلى شيء من وراء هذا الظاهر، الأمر الذي يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة عند هذه القضية، قضية الشعر، وموقف الإسلام منه.
(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه).
الشعر طبيعة في الإنسان، وهو فن من الفنون الإنسانية الجميلة، وليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات، لم يكن الشعر أداة من أدوات التعبير الجارية على لسانها.. والأمة العربية، بخاصة- كان الشعر إدام حياتها في هذه الحياة القاسية المجدبة، التي كانت تعيش فيها قبل الإسلام..- كما سنعرض لذلك بعد قليل- وإذا كان الشعر على تلك الصفة في حياة الناس، وفي حياة العرب بخاصة، فإن الإسلام بسماحته وإنسانيته، لا يمكن أن يقيم حظرا على هذا المتنفّس، الذي تنطلق منه مشاعر الناس، وتغرد على أوتار ألسنتهم بلا بله..!
والذي كان من الإسلام هنا، في هذا الوصف الذي وصف به الشعراء، هو تخليص هذا الفن الجميل، مما دخل عليه من تلك الألوان الصارخة من الفحش، والهذر واللغو، حتى تصفو موارده، ويكون للكلمة الصادقة فيه، وزنها وقدرها، في تربية النفوس، وتقويم الأخلاق، إذ كان للثوب الذي تلبسه الكلمة في القالب الشعرى، تأثير عظيم في كشف مضمونها، وتجسيد محتواها، حتى لتكاد تتمثل كائنا حيا، يعيش في وجدان السامع، ويتحرك في كيانه.
ومن هنا كان موقف الإسلام من الشعر، قائما على تقديره له، ووزن خطره وأثره في النفوس، وسلطانه على العقول والقلوب.. فإذا لم يقم على هذا الفن حارس من خلق أو دين، كان قوة من قوى الشر المدمرة، التي تأنى على كل صالحة في المجتمع، الذي تتحرك فيه شياطين هذا الفن! وهناك كلمة مضلّلة، وبما أغرت كثيرا من الشعراء- أعنى صغار الرجال من الشعراء- أن يأخذوا بها، وأن يتلقوا الدرس الأول عنها، تلك الكلمة، هي قولهم: {أعذب الشعر أكذبه} يعنون بهذا أن أجمل الشعر وأرقه، ما اصطاد بشباك الخيال، الغرائب والعجائب، وموّه الحق والواقع، بألوان وأصباغ، تغير صورته، وتطمس معالمه، فيرى على غير ما هو.. ومن هنا كان التعامل بالصور التي يرسمها مثل هذا الشعر، مزلقة إلى الضلال، والانحراف عن قصد السبيل! والحق، أن الكذب هو الكذب.. أيا كان الزي الذي يتزيا به.. في الفنون والعلوم على السواء.
وفي المأثور: ما كان الصدق في شيء إلّا زانه، وما كان الكذب في شيء إلا شانه.
فكيف يزدان قول أو عمل، يكون الزور لحمته والباطل سداه؟
وإذن فأحق ما ينبغى أن يقال في الشعر- من حيث هو فن رفيع من الفنون الجميلة- أن يقال: أعذب الشعر أصدقه.
فبقدر ما يحمل الشعر من الصدق، بقدر ما تكون عذوبته وحلاوته، وبقدر ما يكون بهاؤه وجلاله.
إن الحق- في ذاته- مستغن عن الزيف والبهرج، وفي غير حاجة إلى هذا الطلاء المموه، من الزور والبهتان.
إن الفنون الرخيصة المبتذلة، هي التي يتستر ضعفها وهزالها، وراء هذا الطلاء الزائف، من الزور والبهتان.
أما الفنون الرفيعة العالية، فهى لا تكون على هذا الوصف من العلوّ والرفعة، إلا إذا كانت حقا خالصا، وصدقا مصفّى وفي الأعمال الفنية المصوغة من الكلمة، أو الحجر، أو الوتر، أو اللون- شاهد لهذا.. فما لبس ثوب الحقيقة منها، فهو الخالد الذي يعيش في الإنسانية، ويطلّ عليها من عليائه، كما يطل شعاع الشمس في يوم قارس البرد، لافح الزمهرير، فينعش النفوس، ويثير المشاعر، ويحرك الهمم، ويشد العزائم.. وعلى عكس هذا، ما تزيا بالكذب والخداع من الفنون، فإنما هو سراب خادع، يلوح في العين ببريقه، فيحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
فصدق الشاعر مع نفسه، وإلزامها طريق الحق- أيا كان وقعه عليه، وأثره فيه- يجعله يصدق مع الناس، ومع الأشياء.. فإذا قال شعرا جاء شعره ممسكا بالصميم من الحق، كاشفا عن أسرار هذا الوجود، في عوالمه الحية والجامدة، على السواء.. فيحدّث عن دخائل النفس الإنسانية، كما يحدث عن أحلام هذا الحجر الملقى في عرض الطريق! والصدق لا ينزل إلا حيث النفوس العظيمة، التي، تتسع له، وتحتمل تبعاته، وتقدر على الوفاء به، على المنشط والمكره.. أمّا صغار النفوس فإنها تضيق بكلمة الصدق، وتضعف عن أن تحتملها.. إن طريقها لا تستقيم أبدا مع الطريق المستقيم.. تماما كالجبان يتحرك نحو ساحة القتال، ولقاء الأبطال.. إنه يتقدم ويتأخر، ويستقيم ويلتوى.. وهيهات أن يكون الثعلب والأسد على سواء.
فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه.. حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه.. ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا.
فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء.. فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟ أكل فصيح قال شعرا متيّم؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة في بنات حواء.. فيقول:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ** مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ}.
بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده.. فيقول:
ومن هوى الصّدق في قولى وعادته ** رغبت عن شعر في الرأس مكذوب

وقل مثل هذا، في {أبى العلاء المعرّى} الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها.
نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام، ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام.
هذا وكثير غيره مما يقال، في موقف الإسلام من الشعر والشعراء.
وهو- في رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!.
فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات اللّه، متحدية، قاهرة.
والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها.
فكيف يجيء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟
إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟.
وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة.. ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة.. فلا تقوم له بعد ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث.. من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان.. وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!.
أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب.
ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان اللّه عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!.
فعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم.
بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضى اللّه عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، في بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.
روى أنه- رضى اللّه- قرأ.. وهو على المنبر- قول اللّه تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} [47: النحل] فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له.. فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص.
ثم أنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السّفن

فقال عمر: أيها الناس.. تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم.
وأمر ابن العباس رضي اللّه عنه في موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان اللّه عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.
ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.
وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان اللّه عليهم- يرون الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} [69: يس]. ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع.. وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات اللّه وكلماته.
ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة.. ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه لغلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضى اللّه عنها- أنها كانت تقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كثيرا ما يقول لى: أبياتك! أي أنشدى أبياتك المعهودة تقول السيدة عائشة.. فأقول:
ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه ** يوما فتدركه العواقب قد نما

يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من ** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام.. فلا غرابة في أن يهش الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لسماعه، والإصغاء إليه.
وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ومعه أبو بكر رضى اللّه عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت:
يا أيها الرجل المحول رحله ** هلّا نزلت بآل عبد الدار؟

فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه- يا أبا بكر.. أهكذا قال الشاعر؟ قال لا، يا رسول اللّه، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ** هلّا نزلت بآل عبد مناف

فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها».
وأكثر من هذا، فقد كان صلوات اللّه وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أهدر دمه.. فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ** متيّم إثرها لم يفد مكبول

والتي يقول فيها:
نبئت أن رسول اللّه أوعدنى ** والعذر عند رسول اللّه مقبول

هشّ النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها.. وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان- صلوات اللّه وسلامه عليه- يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك»!! فكيف يكون روح القدس وهو جبريل عليه السلام مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟
ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء.. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا}.
إن لكل مقام مقالا.. وإذا كان هذا المقام- في حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب!