فصل: سورة النمل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة النمل:

نزولها: مكية.. نزلت بعد الشعراء.
عدد آياتها: ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون، وقيل خمس وتسعون.
عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت الآيات التي ختمت بها سورة الشعراء، دفاعا عن القرآن الكريم، من أن يكون من واردات الشعر، كما كانت دفاعا عن النبيّ، أن يكون من زمرة الشعراء.. فمعدن القرآن، غير هذا المعدن الذي يصاغ منه الشعر، ونسيج القرآن، غير نسيج الشعر.. نظما ومعنى.. والنبيّ على طبيعة تخالف كل المخالفة طبيعة الشعراء.. قولا وفعلا.. سلوكا وخلقا!.
وكان بدء سورة النّمل.
حديثا عن هذا القرآن، الذي هو منقطع عن كل سبيل يصله بالشعر، حيث أنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون به، يتعاملون بأحكامه وآدابه، على حين أن الشعر يقوم عموده على غير هذا الطريق الجادّ المستقيم.. كما كان هذا البدء حديثا عن النبيّ، بأنه بمعزل عن الموارد التي يردها الشعراء، ويملئون دلاءهم منها.. إنهم يأخذون ما توحيه إليهم شياطينهم، على حين أن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- يتلقى هذا القرآن وحيا من لدن حكيم عليم.. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}.
فالمناسبة بين بدء سورة النمل، وختام سورة الشعراء، ظاهرة، والالتحام بينهما. قويّ، كما ترى.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 6):

{طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}.
التفسير:
يلفتنا هذا البدء الذي بدئت به هذه السورة إلى ما بدئت به سورة الحجر فقد كان بدء سورة الحجر هكذا: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} على حين جاء بدء النمل كما ترى. {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ}.
فقد اختلفت صورة النظم فيهما، بالمغايرة بين وضع الألفاظ المشتركة بينهما، هنا وهناك.
فالكلمات في الآيتين واحدة، هي آيات، والكتاب، وقرآن، ومبين.
ولكن نظم هذه الكلمات في السورتين قد اختلف، فقدم هنا ما أخر هناك.
وإنه لابد من سرّ وراء هذه المغايرة بين وضع الألفاظ، في الآيتين:
{تلك آيات القرآن وكتاب مبين} النمل.
{تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} الحجر.
أذلك لأن اختلاف الحروف المقطعة التي بدئت بهما السورتان، اقتضى هذه المغايرة في نظم الكلمات المشتركة بينهما..؟
فكان من المناسب للحرفين: الطاء والسين، أن يجيء بعدهما.. {تلك آيات وقرآن وكتاب مبين} كما كان من المناسب للأحرف: ألف، لام، راء، أن يجيء بعدها.. {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}؟
قد يكون هذا، ولكن لا مفهوم له عندنا، مادمنا عاجزين عن فهم الدلالة القاطعة لهذه الحروف المقطعة.!
والذي يبدو لنا وراء هذا السر المختفى، الذي لا سبيل إليه، والذي ندع تأويله للراسخين في العلم- هو أن الآيتين تصوران صورة واحدة- للقران الكريم.
فالقرآن، والكتاب، آيات.. مقروءة، أو مكتوبة.
والقرآن.. هو كتاب مبين.. وقرآن مبين.
وهذا يعنى أن القرآن يجب أن يدوّن، ويكتب في صحف، احتفاء به، وحرصا عليه.
وهذا يعنى أيضا، أن هذا الكتاب الذي تدوّن فيه آيات اللّه، ينبغى أن يقرأ، ويتعبد بقراءته.. وأنه ليس الغرض من كتابته مجرد الكتابة للصيانة والحفظ، وإنما ليكون بموضع أنظار المسلمين في كل وقت.
وهذا يعنى مرة ثالثة.. ألا يقف القارئون لآيات القرآن، أو المرتلون لها، عند حدود القراءة أو الترتيل، بل يجب أن يفقهوا آياته، وأن يتدبروا كلماته، وأن يلتسموا عندها البيان لكل ما خفى عنهم، سواء كانوا قارئين أو مرتلين.
فآياته بينة لمن يقرأ أو يرتل.. إنه قرآن مبين، وكتاب مبين.. فمن لم يجد البيان فيما يقرأ أو يرتل منه فما أعطى القرآن أو الكتاب حقّه.
قوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} هو بيان لما في القرآن من هدى وبشرى، لمن يؤمن بهذا القرآن، ويتدبر آياته، حيث يجد في آياته البينة ما يكشف له معالم الطريق إلى كل ما هو حق، وخير، وإحسان، وحيث يصله القرآن بالملأ الأعلى، ويصل حياته الدنيا، بالحياة الآخرة، وما أعد اللّه من جنات النعيم للمؤمنين، الذين سكن الإيمان قلوبهم، فامتثلوا ما أمرهم اللّه به، واستقاموا على طريقه المستقيم، فأقاموا الصلاة على وجهها، وأدوا الزكاة على ما أمر اللّه أن تؤدّى عليه، واستيقنوا أن هناك حياة آخرة، وأن فيها حسابا وجزاء، وجنة ونارا.. فعملوا لهذا اليوم العظيم بما ينجيهم من هوله، وبدنيهم من رحمة اللّه ورضوانه.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} العمه: الضلال، وعمى البصيرة.
والآية هنا تكشف عن الوجه الآخر، المعتم الضال، من وجهى الإنسانية، للقابل للمؤمنين باللّه واليوم الآخر.. وهو وجه الذين لا يؤمنون بالآخرة.
وأنه إذا كان في القرآن الكريم هدى وبشرى للمؤمنين، فإن هذا القرآن لا يزيد الكافرين الضالين إلا كفرا وضلالا.
وقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد أحلاهم لأنفسهم، وما توسوس لهم به أهواؤهم، فرأوا السيّء حسنا، والقبيح جميلا، والشرّ خيرا، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر].
وقوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يعشون عن طريق الهدى، فلا يقيمون وجوههم عليه، بل يتخبطون في ظلمات الجهل والضلال.
وفي قصر عدم إيمانهم، على الآخرة، ما يشير إلى أن الإيمان بالآخرة لا يكون إلا بعد الإيمان باللّه.. فمن لم يؤمن باللّه، وبقدرته على البعث، فلن يؤمن أبدا يبعث أو حساب وجزاء، أو جنة ونار.
قوله تعالى: {أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}.
هو الجزاء الذي يلقاه المكذّبون بالآخرة، الكافرون باللّه، الذين أعمتهم أهواؤهم وشهواتهم عن أن يفكّروا، ويتدبروا في خلق السموات والأرض، وأن يستمعوا إلى آيات اللّه التي تتلى عليهم.
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}.
هو بيان لمتنزّل القرآن، وأن هذا المتنزّل هو مقام عال لا ينال.. فاللّه سبحانه وتعالى، هو الذي ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.. وهذا القرآن هو منزّل من ربّ العالمين.. وإذن فالقول بأن القرآن شعر، هو باطل الأباطيل، حيث لا وجه للشبّه بينه وبين الشعر، من حيث نظم الكلام، ومحتوى هذا الكلام، وما يحمل من معان.
وفي وصف اللّه سبحانه وتعالى في هذا المقام، بهاتين الصفتين: حكيم، وعليم.. إشارة إلى ما في القرآن من حكمة وعلم.. حكمة، في تقرير الحقائق، وفي وزن التكاليف، ورسم الحدود الشرعية، وضبط ذلك كله بميزان دقيق، يضع الإنسان بموضعه الصحيح، فيعطى منه للجسد حقه، وللروح مطلبه.
وعلم، يحيط بكل شيء، ويمسك بأسباب كل شيء.. فلا يرى الأمر- مهما صغر- إلّا في مواجهة الوجود كلّه، حيث يأخذ مكانه فيه، وبهذا تكون الرؤية موصولة بماضى هذا الأمر، وحاضره، ومستقبله، جميعا..!

.تفسير الآيات (7- 14):

{إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
الظرف {إذ} متعلق بمحذوف يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي مما يلقيه عليك الحكيم العليم، ما كان من أخبار الرسل، وها نحن أولاء نلقى عليك خبرا من أخبار موسى.
{إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً}.
آنس النار أحسّها، ووجد من إحساسه بها أنسا، وهو في وحشة مطبقة من صمت الصحراء، وظلام الليل.. فلما رأى النار استشعر الأنيس عندها، وأحسّ الأنس من جهتها، إذ لا توقد نار إلا وعندها من أوقدها، ليستدفئ بها، أو يهيئ لنفسه طعاما عليها.
وفي قول موسى لأهله: {سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ما يشير إلى أنّ موسى لم يكن على بيّنه من أمر هذه النار، وهل سيجد عندها أحدا أم لا.. فقد تكون بقية نار أشعلها قوم أول الليل ثم ارتحلوا عنها.. ولهذا فهو يتردد فيما سيجيئ به إلى أهله منها.. فهو إن لم يجد عندها أحدا، فلا أقلّ من أن يجيء بجذوة.. أي قطعة من النار.. لعلهم يصطلون بها، أي يستدفئون.
وقد جاء ذكر هذا الحدث في غير هذا الموضع هكذا:
{إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [10: طه].
وجاء في موضع ثالث هكذا:
{آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [29: القصص].
والصور الثلاث التي صور بها هذا الحدث، هي صورة واحدة، وإن استقلّت كل صورة بملامحها ومشخّصاتها.
فعناصر هذا الحديث هى:
موسى، والنار، وأهله، وما قال لأهله، وما عوّل على النتاسه من النار.
أما موسى.. فإنه قد رأى نارا.. وقد ذكرت هذه الرؤية في هذين الموضعين حكاية عن موسى ولم تذكر في الموضع الثالث، اكتفاء بالإشارة إليها في الموضعين المذكورين.
فجاء في سورة طه: {إِذْ رَأى ناراً}.
وجاء في سورة القصص: {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً}.
وهاتان الصورتان تمثلان الواقع أدق تمثيل، وأكمله.. فأول ما كان من موسى أنه رأى نارا.. مجرد رؤية.. ثم دخل عليه من هذه الرؤية أنس واطمئنان.
ثم كان بيان المكان الذي رأى فيه النار، وهو {جانب الطور} مما تتم به الصورة، التي سيكون لها شأن في نسيج الحدث كله.
وكان من تدبير موسى إذ رأى النار، أن ينطلق إليها وحده، وأن يدع أهله حيث هم، لأنه لا يدرى من يكون عند النار، وهل هم ركب مسافر، أم قطّاع طريق؟.. إن من الحكمة أن يذهب وحده، ويتحسس الأمر، من غير أن يقحم أهله، ويدفع بهم إلى هذا المصير المجهول.. فينطلق وحده، بعد أن يعلن أهله بهذا.
ويصور القرآن الكريم، هذه الجزئية، من هذا المشهد في ثلاثة مواضع.
فى سورة النمل هكذا: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً}.
وفي سورة طه: {إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً}.
وفي سورة القصص: {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً} وهذه المقولات الثلاث هي من مقولات موسى، وليست من قبيل التكرار لقولة واحدة.. فهذا ما لا يكون في القرآن الكريم.
فهو إذ يرى النار، في هذا المكان القفر، المظلم الموحش- تعروه حال من النشوة، وتأخذه الفرحة.. فيلقى إلى أهله بهذا الخبر المسعد.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا.
إنها فرحة من جاءه الخير على يأس.. أشبه بالطالب يدخل الامتحان، ويخرج منه، وهو على يأس من النجاح، ثم إذا به يرى نفسه في الناجحين، فينطلق بلا شعور، يحدث كلّ من يلقاه: نجحت! أنا نجحت.. أنا نجحت!! كأنه يريد أن يمسك بهذا النجاح أن يفلت منه، بعد أن ظفر به على يأس! وفي قوله لأهله: {امكثوا} {امكثوا} هو تأكيد لهم بأن يظلوا مكانهم، وألا يتحولوا عنه، بحال.. يقول هذا، وهو منطلق إلى حيث رأى النار.
وفي تحرك موسى نحو هذه النار.. يلقى إلى أهله، الذين أمرهم بالانتظار، بما يريد من انطلاقه هذا.. إنه منطلق، وإنه لعائد إليهم.
{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} النمل، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} طه، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} القصص إن هذه المقولات جميعها، هي مما ألقى به موسى إلى أهله.. مما كان يجرى في خاطره، وهو يتجه نحو هذه النار.
وإذا أخذنا هذه المقولات بترتيبها هذا- الذي لم يقم على حساب عندنا، إذ لا سبيل إلى تحقيق هذا الترتيب- نقول إذا أخذناها بهذا الترتيب، وجدنا أن موسى كان أول أمره عند رؤية النار، في حال من الدّهش، والنشوة، لم يتبين معها الموقف على وجهه، فوقع في نفسه ما كان في شوق إليه، وهو العثور على من يؤنسه في هذا المكان الموحش، فلما رأى النار أمسك بهذا الأمل الذي طلع عليه منها، ورآه شيئا محققا، فقال لأهله على سبيل القطع.
{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
ثم ماهى إلا لحظة حتى يطرقه الشعور المضادّ لهذا الأمل المحبوب أن يفلت من يده، فقال لأهله:
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}.
على سبيل الرجاء، لا القطع.. ثم هو لا يجيئهم بشهاب قبس، بل سيجيئهم بقبس!! لقد تضاءل هذا الشهاب الساطع من الأمل، فصار مجرد قبس.. ثم يعاوده الأمل مرة أخرى، ولكن بصورة تجمع بين الرجاء والقطع بهذا الرجاء: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}! هذا، وإن لك أن تغير من أوضاع هذه المقولات الثلاث، فتقدم وتؤخر، وإذا هي في كل حال، تصوير دقيق لمشاعر الإنسان، في مثل هذا الموقف، الذي يحوطه القلق والاضطراب، وتغمره الوحشة، ويحتويه الظلام.
وهذا التصوير الدقيق لأحوال النفس، ومسارب الخاطر، لا يمكن أن يكون في صورة كلامية، إلا في كلمات القرآن، ولا يمكن أن يحتمله نظم غير نظم القرآن! ثم إنه- في القرآن- لا يكون على صورة مقبولة مع هذا التكرار، إلا إذا جاء موزعا، كما هو واقع في هذه المعارض الثلاثة، وإلا تراكمت ألوان الصورة وتدافعت، وغطى بعضها وجه بعض!
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
أي وحين اقترب موسى من النار، سمع نداء، لا يعرف مصدره، ولهذا جاء الفعل مبنيا للمجهول:
{نودى} والنداء الذي سمعه هو أن هذه النار نار مباركة، قد بورك فيها، ويورك فيمن حولها من عوالم، جامدة، أو حية، وهذا يعنى أن موسى، قد مسّته هذه البركة، إذ كان فيمن حول النار.
وقد جاء في سورة طه: {نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} وجاء في سورة القصص: {نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [30] وواضح أن هذه النداءات الأربع قد تلقاها موسى في هذا الموقف.
فأولا: نودى هذا النداء المجهول، ومن غير أن يذكر اسمه.. وإنما سمع نشيدا علويّا، يحدث عن هذه النار بأنها نار قد بورك فيها وفيمن حولها.
{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها}.
وثانيا: أتبع هذا النداء بنداء آخر أكثر وضوحا وتحديدا: {يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم أتبع ذلك بناء ثالث.. {يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
ولا شك أن هذه النداءات تثير كثيرا من الاضطراب والفزع، في هذا الجوّ الرهيب.. فكان النداء الرابع والأخير: {يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} فهذا النداء، يدعى به موسى إلى ربه، ويضاف إليه، ثم يؤمر بما ينبغى أن يكون من أدب، في لقاء ربه، والاستماع إلى خطابه!.
وواضح أن هذه النداءات المتكررة، مصحوبة بذكر اللّه.. {يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} {يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} {يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
واضح أن هذه النداءات المتكررة في سرعة وانطلاق.. على أي ترتيب تكون عليه.. إنما اقتضاها هذا الموقف الذي اهتزّ له موسى من أقطاره، فكان صوت الحق سبحانه وتعالى في هذه النداءات المتكررة، سكنا لقلب موسى، وإمساكا لنفسه التي تكاد تذهب شعاعا. وفي كل نداء كان يذكر موسى باسمه، وفي هذا تطمين له، وأنه إنما ينادى ممن يعرفه، ويعرف أحواله.. وإذن، فلا خوف عليه.
الأمر إذن جدّ ليس بالهزل، وما يسمعه موسى هو حقيقة، وليس وهما، ولا حلما.. وإذن فعلى موسى أن يستيقظ، وأن يصحو صحوة مشرقة لاستقبال هذا العطاء العظيم.
قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}.
الجانّ: فرخ الحيات، وهو أخفها حركة، وأسرعها انطلاقا على الأرض.
وقد جاء في سورة طه: {فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى}.
وهذا يعنى، أن العصا صارت حيّة في ضخامتها، وجانّا في سرعتها، وخفّتها، ولهذا وصفت بأنها {تسعى} فالحيات حين تكبر وتضخم: لا تكاد تتحرك من مكانها، فضلا عن أن تسعى.
وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي انطلق مسرعا، فأعطاها ظهره، وأطلق ساقيه للريح.. فرارا من هذا الهول الذي طلع عليه من تلك العصا التي كانت خشبة جامدة في يده منذ لحظات.. وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يُعَقِّبْ}.
إشارة إلى أنه لم يتراجع إلى الوراء قليلا، على عقبه، حتى ينكشف له الأمر، ويتبين إن كان سيقبل أم يدبر.. بل إنه اتخذ هذا القرار دون شعور، إذ لم يكن له أمام هذا الهول وقت يفكر فيه.. ثم هل هناك ما يحتاج إلى تفكير؟ إنه رأى واحد، وهو الفرار من الهول العظيم! وقوله تعالى: {يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هو صوت الحقّ، الذي تبع موسى في منطلقه هذا، وأمسك به على طريق الفرار، وأنزل على قلبه الطمأنينة والسكينة.
إنه ليس وحده مع هذا الثعبان العظيم.. وهذا هو صوت الحق يملأ هذه الوحشة أنسا، ويحيل هذا الفزع والهلع طمأنينة وأمنا.. {يا مُوسى لا تَخَفْ}.
وإنّ كلمة {موسى} لتفعل فعلها في هذا الموقف، إذ أن المنادى يعرف موسى. وإذن فلا يخاف منه، لأنه في حضرة من يعرفه، ومن كان من شأن هذه المعرفة لا يجيء منها ما يسوء.. إن الإنسان في مثل هذا العالم الموحش ليتلمس أي وجه كان له به معرفة، من قريب أو بعيد. من إنسان، أو حيوان أو جماد.. إن أي شيء من هذا، يبعث الأنس، ويذهب بكثير من وحشة الغربة..!
ويفيء موسى، إلى شيء من الطمأنينة، ويذهب عنه كثير مما استولى عليه من الخوف.. {يا مُوسى لا تَخَفْ}.
ثم لا تكاد نوازع الخوف تعود إلى موسى مرة أخرى. بعد أن سكت هذا النداء المؤنس، حتى يجئ النداء مرة أخرى يملأ الوجود كله من حوله: {إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}.
وهنا يعلم موسى أنه قد اختير لرسالة سماوية من رب العالمين، وأنه سيدخل مدخل الرسل، منذ ذلك الوقت.
والمرسلون لا ينالهم من اللّه ما يخيفهم، ولا يطلع عليهم في حضرته إلا ما يؤنسهم، ويملأ كيانهم رضا وأمنا.
ثم لا يكاد موسى، يسعد بهذه البشرى، التي يجد بها نفسه في حضرة اللّه سبحانه وتعالى، حتى يعود فيسمع من قبل الحق جل وعلا: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
.!! وهنا تدور في رأسه الظنون، وتتحرك في صدره الوساوس المتسائلة: ما هذا الاستثناء الذي يزعجه عن هذا المكان الذي اطمأن فيه إلى جوار ربه، وإلى ما وجد من أنس وروح في ظلال فضله وإحسانه؟ أهو من الظالمين، الذين لا يستحقّون أن ينزلوا هذا المنزل؟
أهو مطالب بأن يبدّل حسنا بعد ما كان منه سوء، حتى ينال عفو اللّه ومغفرته؟
إن الاستثناء لا شك واقع على المرسلين.. فهل من المرسلين من يظلم؟
وهل كان موسى- وهو من المرسلين- ممن ظلم؟
نذكر هنا حادثة موسى، مع المصري الذي قتله..!
فقد قتل موسى، المصري خطأ، حين وجده يعتدى على إسرائيلى.
كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ} [15- القصص] وقد استشعر موسى الندم على هذه الفعلة.. فقال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}.
ثم طلب المغفرة من ربه لهذا الذنب الذي ارتكبه.. {قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [16: القصص].
فهذا الاستثناء يذكّر موسى بهذه الحادثة التي كانت منه، كما يذكّره بأن اللّه قد غفر له..!
وأكثر من هذا، فإن موسى سيدعى من ربه في هذا الموقف إلى لقاء فرعون، وما زالت نفسه تفيض بمشاعر الخوف التي وقع فيها من قتل المصري، وأنه مطلوب من فرعون ليقتله، بهذا المصري، وهو من أجل هذا قد فر من وجه فرعون، كما يقول اللّه تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ} [18: القصص] أي يترقب القصاص منه.. ثم جاء من ينصح له بأن يخرج من المدينة، ويطلب النجاة لنفسه بالفرار منها.. {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ} [21: القصص].
فهذا هو شعور موسى، وهذا ما يطلع عليه من مخاوف، إذا هو دعى إلى لقاء فرعون.. وقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى، أن يصفّى هذه المشاعر من نفسه، قبل أن يحمّله رسالته إلى فرعون.. فقد ظلم موسى نفسه فعلا بهذا الذي كان منه من قتل المصري.. ولكنه ندم، ورجع إلى اللّه تائبا مستغفرا، وقد غفر اللّه له..! وإذن فلا خوف عليه، لأنه من المرسلين، والمرسلون في رعاية اللّه وحراسته.
إن موسى سيدخل في تجربة قاسية مع فرعون، إذ يحمل إليه دعوة من اللّه، بأن يؤمن باللّه، وبأن يطلق بني إسرائيل من يده، ويرسلهم مع موسى، إلى حيث يخرج بهم من سلطان فرعون! وإن الخوف من فرعون ليكاد يكون كائنا يعيش مع موسى.. حتى إنه، مع هذا الأنس الذي وجده في حضرة به، ومع هذا الوعد بأنه من المرسلين الذين يحرسهم اللّه، ويدفع عنهم ما يخيفهم- مع هذا كله، فإنه ما يكاد يتلقى أمر ربه: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} [24: طه] حتى تطل عليه وجوه الخوف من كل جهة، فيقول {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [33: القصص].
وإذن فقد كانت هذه المواجهة لموسى بفعلته، وبمغفرة اللّه له، وبذهاب كل أثر لهذه الحادثة- كانت هذه المواجهة من تدبير الحكيم العليم، لانتزاع هذا الخوف، الذي غاصت جذوره في أعماق موسى وخالطت وجوده.
قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
وتجربة أخرى، يجريها موسى، بعد تجربة العصا، وهي يده، التي كانت تمسك بهذه العصا.. إن يده هذه نفسها، يمكن أن تكون شيئا آخر، كما كان ذلك شأن العصا.
العصا يلقيها على الأرض.. فإذا هي جانّ، وإذا هي ثعبان مبين، وإذا هي حية تسعى.
ويده.. ماذا يفعل بها؟
إنه يدخلها في جيبه، أي يدسها في صدره، تحت ثوبه، إذ يدخلها من جيبه- أي الفتحة التي يلبس منها الثوب- ثم يخرجها، فإذا هي بيضاء بياضا ناصعا، مشرقا، {من غير سوء} أي ليس هذا البياض عن داء كداء البرص مثلا، وإنما هو بياض يشّع نورا، ويتلألأ صفاء.. كما تتلألأ اللائي.
وقدّمت تجربة العصا، على تجربة اليد، لأن العصا- مهما كان التحول الذي يحدث لها- لا تثير في نفس موسى من رعب ما تثيره يده، وقد تغيرت صفتها على هذه الصورة التي تحولت إليها.
إنه مع العصا، قد استطاع أن يجد لمخاوفه مهربا.. فولى مدبرا، يبتعد عن موطن الخطر الذي تمثله منها.. أما مع يده، فكيف السبيل إلى مهرب منها؟ ولكنها إذ جاءت بعد تجربة العصا، وبعد أن ذهبت مخاوفه، فإن أمرها يكون هينا محتملا! وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آياتٍ}.
أي أن هذه الآية، آية اليد، واحدة من تسع آيات، أو في اطار من تسع آيات، هي جميعا أشبه بآية واحدة.. في إعجازها، وتحديها لقوى البشر جميعا.. وهذا هو السر في حرف الجر {فى} الذي يفيد الظرفية.
وقوله تعالى: {إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}.
الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: هذه اليد آية، تدخل في تسع آيات تحملها إلى فرعون وقومه.
وقد كانت الدعوة هنا موجهة إلى فرعون وقومه: {فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} على حين جاء الأمر في بعض القصص بلقاء فرعون وملائه:
{فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} (32: القصص) أما في سورة طه، فقد كانت الدعوة إلى فرعون وحده:
{اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى}.
والسرّ في هذا واللّه أعلم، أن موسى، حين لقى فرعون لأول مرة، لقيه في حاشيته ثم مع سحر له، وما حشد من جموع ليوم المعركة، بين موسى، والسحرة.. ولم يظهر موسى من الآيات التي بين يديه، إلا العصا، ويده.
ولهذا كان الذين شهدوا هاتين الآيتين، هم أعداد قليلة.. هم فرعون وحاشيته، وخاصة أتباعه، فناسب أن يكون فرعون وحده، أو فرعون والملأ حوله هم الذين يذكرون في مواجهة هاتين المعجزتين.
أما الآيات التسع، وفيها العصا واليد، فقد شهدها القوم جميعا، ووقع أثرها، على الشعب كله، وشمل ملك فرعون جميعه، فناسب أن يذكر القوم، مع فرعون، لأن هذه الآيات التسع موجهة إلى فرعون وقومه جميعا.
والآيات التسع، هي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والعقم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} [133:
الأعراف] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [130: الأعراف].. فالسنون هي سنو الجدب، التي تغيض فيها مياه النيل، وتجف مياه الآبار والعيون.. ونقص الثمرات، هو العقم، الذي أصاب الزروع، والحيوان، والإنسان.. وكان هذا وذاك آية من آيات اللّه..! وقد شملت هذه الآيات فرعون وقومه جميعا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} إشارة إلى كان عليه القوم من ضلال، وفسق، أي خروج عن جادة الطريق، إذ كانوا جميعا متابعين لفرعون، وعلى إيمان بألوهيته.. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} (79: طه).
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
وصف الآيات بأنها مبصرة، إشارة إلى ما فيها من هدى مشرق واضح، وأنها تكاد تكون عيونا شاخصة تبصر، وتقود العمى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
.. الجحد، والجحود: الإنكار، القائم على المكابرة، والتحدّى للحق والواقع.
والاستيقاز: التثبت من الشيء، ورؤيته رؤية كاشفة محققة.
فالقوم، قد أنكروا هذه الآيات، وتنكروا لها، ورموها بالسحر والخديعة، مع أنهم في قرارة أنفسهم على غير هذا الذي تنطق بهم ألسنتهم في شأنها.. إنهم يرونها أبعد ما تكون عن السحر، وأنها مما لا تطوله يد بشر.
ولكن لما عندهم من جرأة على العدوان، واستكبار على الخضوع للحق، والولاء له.. أنكروا هذا الذي يجدونه في دخيلة أنفسهم لهذه الآيات.
وقوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
الأمر هنا هو إلفات للنبى، ولكل من عنده استعداد للنظر السليم في وجه الحق وتقبله.
فالذى ينظر، بعين مبصرة، إلى ما حل بهؤلاء القوم، يرى العبرة فيما أخذهم اللّه به، وأن مصرعهم كان حتما مقضيا به، على كل من يذهب مذهبهم، ويأخذ طريقهم، الذي لا يصلح عليه أمر من يسير عليه، لأنه طريق فاسد، لا يرى عليه إلا المفسدون.