فصل: تفسير الآيات (28- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (28- 44):

{اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)}.
التفسير:
ولا ينظر سليمان شاهدا يجيء به الهدهد، ليشهد له بصدق ما يقول، ولا يسمح له بمزيد من الوقت، يعرض فيه مزيدا من علمه، وبيانه، وحكمته، أمام هذه الرعية، التي تفف كلها في ولاء وخشوع بين يديه.. فكيف لهذا المخلوق الضعيف أن يصول ويجول، ويعرض من علمه ما لم يكن لسليمان به علم؟
وأين إذن صولة الملك وصولجانه؟ وأين هيبته وأين سلطانه؟
لقد قطع سليمان على الهدهد السبيل إلى هذا المرتقى الذي ارتقاه.
وبكلمة واحدة آمرة، أنزله من هذا المكان، وأزاله عنه.. وسرعان ما أصبح الهدهد، في هذا الوضع الذي كان له بين أبناء جنسه.. جنديا من جنود سليمان، وخادما من خدمه.. وها هو ذا يتلقى من سليمان أمرا بالذهاب إلى حيث يريد منه أن يذهب.
{اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ}.
وإلى هنا ينتهى دور الهدهد في القصة، ويغرب وجهه الذي كان منذ لحظات، الوجه الذي تعلقت به أنظار مملكة سليمان كلها، فلا يرى له أحد وجها، بعد هذا!! ولا تتعرض القصة لشيء من رحلة الهدهد إلى سبأ، يحمل كتاب سليمان إلى القوم، كما لا تذكر شيئا عن ملكة سبأ، وهي تجد كتاب سليمان بين يديها، وما وقع في روعها من هذا الأمر العجيب، الذي طلع عليها من حيث لا تدرى! كما لم يذكر القرآن ما كان بينها وبين أهل سرها من حديث في هذا الحدث العظيم.. كل ذلك لم تعرض له القصة القرآنية، فتلك أمور مقدر لها أن تقع حتما، على صورة أو أكثر من صورة.. وفي هذا الفراغ يتحرك ذهن القارئ، وتستيقظ مشاعره، حيث يرى لزاما عليه أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة يجدها مناسبة لهذا المكان، وبهذا يتاح للناس- في كل زمان ومكان- أن يتصوروا ويتخيلوا، وأن يشاركوا بهذا التصور والتخيل، في بناء القصة، وألا يظلوا في عزلة عنها، غرباء عن مجريات أحداثها.. وبهذا تتقيد الخواطر بالقصة، وتتفتح لها المشاعر، ويستيقظ لها الوجدان، الأمر الذي تتكشف به مواقع العبرة والعظة منها.
وتنتقل القصة إلى مشهد جديد.
فهذه ملكة سبأ، قد دعت إليها وجوه القوم في مملكتها، ثم ها هي ذى تطلع عليهم بهذا الكتاب الذي ألقى إليها، وتفضى إليهم بما فيه!.
{قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
ولأول مرة نعرف- نحن النظارة- مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد.. إنه رسالة من ملك إلى ملكة.. والهدهد، وهو حامل هذه الرسالة، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها.. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها.. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة.
ومن جهة أخرى.. فإن الملكة كذلك، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها.. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا: {إنى ألقى إلى كتاب كريم} وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها، الحافظة لأمن دولتها، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها- ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها.. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة، جلال فوق جلالها، وروعة فوق روعة سلطانها.
وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم، أدب من أدب الملوك، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا.. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة، وضحة المعنى، بيّنة القصد، لا تحمل وعيدا، ولا تهديدا، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام.
وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم، تدور الرءوس، ويكثر الهمس، واللغط وتتقلب العيون، تتفرس في الوجوه، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!.
ويجيء صوت الملكة حازما محكما، يقطع مسارب الخواطر، ومجريات الأفكار:
{يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}.
إنها لم تدعهم إليها لتلقى إليهم بهذا الخبر لمجرد العلم به، وإنما ليشاركوها الرأى فيه، وليشيروا عليها بما ينبغى أن تواجه به هذا الموقف.
صورة كريمة، للحاكم الحكيم.. الذي يتوخى الخير، والأصلح لرعيته.. فلا يبرم أمرا إلا عن رأى ومشورة، يشارك فيها أهل الرأى والمشورة.. {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي حتى تشهدوا معى هذا الأمر، وتروا فيه رأيكم.
{قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ}.
وصورة كريمة نبيلة للمحكومين، الذين يبادلون الحاكم إخلاصا بإخلاص، وحبا، بطاعة وحب معا!.
ومع هذا، فإنها لم تشأ أن تقطع برأى، بعد أن فوض إليها القوم الرأى والأمر.. بل جاءت تعرض عليهم وجهة نظرها.
{قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ}.
وهنا فراغ كبير تتركه القصة ليملأه القوم بهمساتهم وهمهماتهم، ومحاوراتهم.. وإذ لم يرتفع صوت يعارض هذا الرأى الذي تراه الملكة في الملوك، وتعنى بالملوك هنا، الملوك الذين كانوا على دولة سليمان.. مثل طالوت، وداود، وسليمان.. وهذا يعنى أن الملكة كانت على علم بأحوال سليمان ودولته، وما بين يديه من سلطان، على حين لم يكن لسليمان علم بها، وبما عليه سلطانها!!.
نقول إن الملكة إذ لم تر صوتا يرتفع بمعارضة رأيها هذا، صرّحت بما اعتزمت أن ترد به على تلك الرسالة.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.
إنها حركة تريد بها اختبار ما عند سليمان، وتستطلع النية التي ينتوبها معها.
وتنتقل أحداث القصة من سبأ إلى بيت المقدس، في لحظة خاطفة.
وها نحن أولاء نرى الرسول وما معه من هدايا بين يدى سليمان.
{فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ}.
لقد وقع ما كانت تقدره الملكة، وما كانت تحذّر قومها منه: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً}.
وقد رجع مبعوثهم الذي بعثوا به إلى سليمان لينقل إليهم ما تهددهم به: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ}.
ثم تجرى الأحداث لاهثة متلاحقة.
فما كاد رسول الملكة يبرح مجلس سليمان، حتى يسبقه سليمان إلى تنفيذ وعيده الذي توعدهم به.
{قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
انظر كيف تجرى الأحداث منطلقة كأنها ومضات برق خاطف؟
فهذه القوى الهائلة المسخرة لسليمان، تتسابق إلى تلبية ندائه، وتحقيق رغباته.. وأنت ترى هنا عظمة هذا السلطان وروعته، حيث يطلب سليمان الشيء، فتتزاحم بين يديه القوى القادرة على تنفيذه، وتتخاضع وتتخاشع بين يديه، ثم لا يحوجه الأمر- مع هذا- أن يتكلف له كلمة واحدة يقولها، أو إشارة يشير بها.. وإنما هو يأمر، فيجد ما أمر به حاضرا عتيدا بين يديه! {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.
ولم يفعل سليمان شيئا، وإنما وجد العرش الذي طلبه مستقرّا عنده! والعفريت من الجن، هو أقوى جماعة الجن وأشدهم بأسا.
والذي عنده علم من الكتاب. قد يكون أحد رعايا سليمان، من الذين أخلصوا دينهم للّه، فأتاهم اللّه من العلم ما يقدرون به على ما لا يقدر عليه الجن.. وقد يكون سليمان نفسه، وهو الأرجح عندنا، وذلك لأمور منها:
أولا: أن سليمان أراد بقوله {يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
أراد أن يلفت الملأ إلى تلك المعجزة القاهرة التي سيظهرها اللّه على يديه.. فدعا من عنده قوة منهم، أن يتصدى لهذا الامتحان، وأن يأتيه بالعرش.. وكان العفريت من الجن، هو الذي ندب نفسه لامتثال هذا الأمر، فقال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ}.
وكان هذا آخر ما في جهد الملأ من إنس وجن وطير أن تفعله.. وهنا واجه سليمان هذه القوة التي أذهلت الجمع بما مكن اللّه له من قوة، وما آتاه من علم، فقال مخاطبا صاحب القوة الخارقة: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.
، فهذا الخطاب للعفريت، هو خطاب للجماعة كلها في شخصه، إذ كان هو ممثل أقوى قوة بين يديها.
وثانيا: أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في آية سابقة أنه آتى داود وسليمان علما، فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً} فبهذا العلم فعل سليمان ما فعل، وبهذا العلم اتصل سليمان بالعوالم الأخرى، فعرف لغة الطير، وسمع همس النملة، واطلع على ما يجرى في محيطها.
وثالثا: قوله تعالى على لسان سليمان: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، هو إقرار بفضل اللّه عليه، أن آتاه هذا العلم، الذي صنع به هذه المعجزة! أما الكتاب، فهو كتاب اللّه، وهو ما في اللوح المحفوظ من خزائن علمه.. فمن هذا العلم يتلقى أهل العلم علمهم: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
وفي هذه الحادثة يتجلى فضل العلم، وما يبلغ به أهله من مقامات عالية، تتخاضع بين يديها كل قوة، يذل لها كل سلطان. إذا كان هذا العلم من موارد الحق، وجرى في قلوب سليمة ونفوس طيبة.! وإن الإنسان بهذا العلم يقهر أعتى قوة خفية، هي الجن.
والذين يستكثرون على العلم أن ينقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام في غمضة عين، والذين يقفون من هذا الخبر القرآنى موقف التوقف، أو التشكك أو الاتهام، حسبهم أن ينظروا في آيات العلم الحديث، وما حقق من معجزات في عالم المادة، حيث ينقل صور الأشياء من سطح القمر إلى الأرض في لحظة خاطفة على لوح التليفزيون.
فإذا كان هذا هو سلطان العلم المادي على المادة، فهل ينكر أن يكون سلطان العلم الروحي على المادة أضعاف ما للعلم المادي عليها؟ إن العلم المادي ما هو إلا إشارة خافتة من إشارات العلم الروحي، وليس إلا ومضة خاطفة من سناه المتألق! أما كيف يتم هذا، فإن تصوره ممكن- في ضوء العلم المادي-! فالمادة كما نعرف- وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، هي نور، تجسد من اجتماع الذرات، وتركيبها على وجه خاص، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه من اليسير على العلم الروحي أنه ينفخ في أية صورة من صور المادة، فتتحول إلى ضوء، ثم يستقبل هذا الضوء في أي مكان يريده، فينفخ فيه مرة أخرى فإذا هو على صورته الأولى.
ومن يدرى! فلعل العلم المادي يبلغ يوما، شيئا من هذا الذي في مجال العلم الروحي!.
ونعود إلى القصة:
وها هي ذى ملكة سبأ بين يدى سليمان.. وقد دبر لها سليمان امتحانا، يختبر به عقلها وذكاءها.
{قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}.
لقد أجرى سليمان بعض التغيير في عرشها، دون أن يمس الصميم منه.
وحين ترى الملكة هذا العرش، ويسألها سليمان: {أَهكَذا عَرْشُكِ}؟
لم تشأ أن تقطع برأى، فهو أشبه شيء بعرشها فعلا.. ولكن كيف انتقل عرشها، وقد خلفته وراءها في مسيرتها إلى سليمان؟. ثم هي من جهة أخرى تعلم ما مع سليمان من قوى تفعل الأعاجيب، وتأنى بالمذهلات.. ألم تأتها رسالته على يد جند من جنوده، هو الهدهد؟. فكان جوابها هذا الجواب الحكيم، الذي توسط الأمر، فلم تنف ولم تثبت، بل قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}! وقد أعجب سليمان بهذا الرد الذكي الحصيف، وعدّه من آيات العلم، وثمرة من ثمراته.. فذكر بذلك، العلم الذي آتاه اللّه فقال، فيما بينه وبين نفسه.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}! ولم يقف بسليمان العجب من ذكاء الملكة، وعقلها عند هذا الحد.. بل إنه رأى أن هذا العقل الكبير، وما وعى من علم، كان جديرا به أن يهدى صاحبته إلى الإيمان باللّه، وأن يقيم وجهها للدين القيم.. فكيف لم تؤمن باللّه؟
وكيف تسجد للشمس من دون اللّه؟ أهذا ما يقضى به هذا العقل الكبير ويقبله؟ ويطمئن إليه؟ لابد أن في الأمر شيئا! وينظر سليمان، فيرى الآفة التي تسلطت على هذا العقل، فاغتالت منطقه، وأفسدت عليه وجوه الرأى، حتى ضلت صاحبته هذا الضلال، وركبت هذا السفه.
إن موروثات الآباء والأجداد، من الضلال، هي التي غلبت على هذا العقل وما فيه من ذكاء، وما اجتمع له من علم..!
{وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ}.
أي حجبها عن الإيمان باللّه، ما نشأت على عبادته من دون اللّه، لأنها ولدت في قوم كافرين، فورثت الكفر عنهم، ونشأت عليه منذ طفولتها، فخالط عقلها، وسكن في مشاعرها!.
وتلك هي الآفة التي تسلطت على عقول كثير من ذى العقول، فأفسدتها، وأضلتها عن سواء السبيل.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى طلب التحرر من موروثات الآباء والأجداد، وأن يعيد بناء عقله- متى بلغ الرشد- على البحث والنظر، فما رآه صالحا، قبله، وما وجده فاسدا، دفعه وتخلى عنه.
وحين وجد سليمان نفسه أمام هذا العقل الذكي، لم يشأ أن يدخلها في دين اللّه بسلطانه عليها، وامتلاكه لأمرها، بل رأى أن يقودها إلى الإيمان بعقلها، لتتعرف إلى اللّه سبحانه وتعالى بنفسها، فيكون هذا أقوم لدينها، وأثبت لإيمانها.
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
والصرح هو البناء العالي المزخرف، وسمى بذلك لأنه صريح خالص من الشوائب والعيوب.. والممرد: الأملس، ومنه الأمرد، وهو الذي لم ينبت شعر عارضيه.
إن هذا الصرح الذي دعاها سليمان إلى دخوله، والذي حسبته- لصفائه ونقاء جوهره- لجة ماء رقراق- هذا الصرح لا يمكن أن يقوم بيد بشرية، ولا يمكن أن يكون من صنع بشر.. إنه من قوة فوق قوة الإنسان، ومن تدبير فوق تدبيره.. وإذن فهى أمام معجزة قاهرة.. لا يستطيع العقل السليم إلا أن يسلم بها.
وإذن فلابد من التسليم.. وقد سلّمت.
وإذن فلابد من أن تؤمن بمن آمن به سليمان، وأن تعبده.. وقد آمنت! فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
وانظر كيف كانت ثقتها بسليمان، بعد أن أراها من آيات اللّه التي بين يديه، ما جعلها تطمئن إليه، وتصدق دعوته بأنه نبى.. ولهذا فإنها تبادر إلى الإيمان باللّه من قبل أن يدعوها إليه، لأنها قد عرفت أن سليمان على الحق، ومع الحق.
ولهذا قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
! إنها مع سليمان، لأن سليمان مع الحق! وهكذا تنتهى أحداث القصة بهذه النتيجة، التي يحصلها العقل من مجريات هذه الأحداث.
وإذا كان مساق القصة إلى قريش، وإلى العرب، ثم إلى الناس جميعا- فإنها بهذا الأسلوب الذي يجيء بالموعظة في رقائق من المعاني، تخطر في براعة، وخفة، وتتحرك في وداعة ولطف، حيث تصيد الخواطر، وتملك المشاعر، وتأسر القلوب، دون أن تثير حربا، أو تريق دما- إنها- أي القصة- بهذا الأسلوب، هي رسالة قائمة بنفسها، لتدخل إلى مواقع الإفناع من العقول السليمة، فتسكن إليها، وتجد برد الطمأنينة والسلام في ظلها.