فصل: تفسير الآيات (79- 85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (79- 85):

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}.
هو تثبيت لقلب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وتوثيق للصلة التي بينه وبين الكتاب المنزل عليه، وأن ما يلقى به اليهود إلى المشركين من تلبيسات، يحاجّون بها النبيّ، ويدخلون بها الشك في قلوب الضعفاء- لا ينبغى أن يلتفت إليه النبيّ، ولا أن يعطيه شيئا من التوقير والاحترام- على اعتبار أن ذلك من واردات الكتاب السماويّ الذي في أيدى اليهود.. فهذا الكتاب قد عبث به اليهود، وغيّروا معالمه، وقد جاء القرآن الكريم بالحق المبين، الذي يكشف مفتريات القوم، ويفضح أكاذيبهم: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
وإذن فليمض النبيّ في طريقه، متوكّلا على ربّه، غير ملتفت إلى تلك المقولات التي في أيدى اليهود، أو على ألسنة المشركين الذين أخذوها عنهم.
فهو على هدى وبصيرة من ربّه، وعلى صراط مستقيم بهذا الكتاب الذي بين يديه.. وليس عليه من أمر هؤلاء المعاندين المخالفين شيء.
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}.
هو تحريض للنبيّ على المضيّ في طريقه، غير ملتفت إلى أهل آراء والخلاف.. وغير آسف على ما يوردهم به هذا المراء والخلاف من موارد الهلاك والبلاء.. فإنهم موتى، إذا نودوا لا يسمعون، وإنهم صمّ، لا تقع الكلمات على آذانهم إلا كما تقع على الحجر الأصمّ.
وفي تشبيه القوم بالأموات، وفي وصفهم بعد ذلك بالصمم- إشارة إلى أنهم درجات في الإعراض عن آيات اللّه. فمنهم من لا يستمع إلى آيات اللّه أبدا، ولا يدنو من صوت يرتل كلمات اللّه، خوفا على نفسه أن يقع تحت تأثيرها، فهو يهرب منها، ويقيم على نفسه حجابا بينه وبينها.. وهذا هو والميت سواء بالنسبة لما يتلو الرسول من قرآن.. ومنهم من يسمع القرآن، لا ليتدبّر آياته، ولا ليعرض ما يسمع على عقله، وإنما ليقع على كلمة، يدبرها على غير وجهها، ويتخذ منها مادة للهزء والسخرية.. فهو بهذا أصمّ، وإن كان ذا أذنين يسمعان! وقوله تعالى: {إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} هو شرط لإفادة الحكم بعدم سماعهم، وهو- في معناه- قيد وارد على هذا الحكم، أشبه بالحال.. أي أنهم لا يسمعون ما يلقى إليهم وهم يولّون مدبرين.
والسؤال هنا: كيف يكون عدم سماعهم مقيدا بهذا القيد، وهم صمّ، والأصمّ لا يسمع مطلقا، سواء أقبل أو أدبر؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن الأصم وإن كان لا يسمع بأذنيه، فإنه إذا أقبل على محدثه، ربما فهم عنه بالإشارة، وربما قرأ على حركة شفتيه بعض الكلمات، فوقع له من هذا وذاك شيء من الإدراك والفهم.. وهؤلاء القوم قد ولوا على أدبارهم، وأعطوا ظهورهم لما يتلى عليهم، فلم يسمعوا شيئا، وهذا في آذانهم من وقر، ولم يروا شيئا وقد أعطوا ظهورهم لما يلقى إليهم! قوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}.
فقوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} هو استكمال للوصف الذي عليه هؤلاء المشركون وأمثالهم.. فهم أموات، وإن كانوا في الأحياء، وهم صم وإن كانوا في السامعين، وهم عمى وإن كانوا في المبصرين.
{فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [46: الحج] وفي تعديه اسم الفاعل: {بهادى} بحرف الجرّ {عن} بدلا من حرف الحجر {من} الذي يتعدى به الفعل، فيقال هداه من ضلاله- في هذا إشارة إلى أن هدى القوم لا يكون بأضواء الحق، وأنوار المعرفة، فهذه معنويات تهتدى بها العقول السليمة، وتستضيء بها البصائر المبصرة.. أما هؤلاء القوم، فقد غابت عقولهم، فانطمست بصائرهم، وأصبحوا في عداد الحيوان، الذي يقاد من مقوده، حتى يستقيم إلى الطريق.
ومن هنا ضمّن اسم الفاعل هاد معنى حاجز أو مبعد الأمر الذي يكون بمعالجة حية، وبقهر مادى.. وهذا ما ليس من رسالة الرسول. الذي تقوم دعوته على الحكمة، والموعظة الحسنة، كما يقول له الحق جل وعلا: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [125: النحل] وفي قوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تحديد لهمة الرسول، وبيان لمنهج دعوته، وهو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وأن يسمع الذين إذا سمعوا ودعوا واستجابوا و{إن} هنا نافية بمعنى ما.
أي ما يبلغ تبليغك إلا أسماع أهل السلامة والعافية في عقولهم وقلوبهم- فهؤلاء إذا سمعوا وجدوا لما يسمعون جوابا حاضرا، في أنفسهم.. وهو التسليم، والإسلام.
وقوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا} أي لا يسمع هذه الآيات إلا من كان عنده استعداد لتقبل الحق، والاهتداء بالهدى إذا التقى به.
وقوله تعالى: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} جملة من مبتدأ وخبر، والفاء للسببية، أي أنهم يسمعون كلام اللّه، ويملئون به عقولهم وقلوبهم، لأنهم مسلمون بالفطرة، وبما عندهم من استعداد للإيمان.. أما من فسدت فطرته، فإنه لن يسمع، وإن سمع لا يعقل! قوله تعالى: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ}.
الدابة التي تكلم الناس.. ما هي؟
اضطرب المفسرون في تفسير هذه الآية، وأكثروا من المقولات في هذه الدابة، وفي أوصافها العجيبة، وفي كيفية نطقها، وفيما نطقت به.. وهل يكون ذلك في الدنيا أم في الآخرة.. فهم يقولون إنها من أشراط الساعة، ويذكرون لذلك أحاديث تنسب إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله.. ويقولون إنه يخرج في كل بلدة دابة، مما هو مبثوث من نوعها في الأرض.. وفي أوصافها.. يقولون: إنها وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات، ومختلف الدواب! ويروى عن أبى هريرة أن فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب.
ويروى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا، يراها من بالشرق، كما يراها من بالغرب!.
وعشرات من الأخبار، والأحاديث، غير هذا، بحيث يجتمع منها متحف، يضم أروع وأعجب ما وقع عليه الخيال.
وهذه المقولات في كثرتها، وتناقضها، توقع الحيرة والبلبال، فما يدرى المرء ماذا يأخذ منها، وماذا يدع؟ ولو أنه اقتصر منها على مقولة واحدة، مهما كانت غرابتها، وإغراقها في الخيال- لكان ذلك- على ما فيه- أقرب إلى السلامة من التخبط بين هذه المقولات التي يلطم بعضها وجه بعض.
ولو أننا نظرنا إلى الآية الكريمة، نظرا مقاربا، دون شدها إلى أودية الغرائب والعجائب، لرأينا أنها لا تحمل شيئا تستخرج منه هذه المقولات، ولا تحتمل شيئا يساق إليها مما قيل.
فالآية الكريمة ترسم مع الآيات التي قبلها، صورة واضحة الألوان والظلال لأولئك المشركين، الضالين، الذين ماتت مشاعرهم، وعميت أبصارهم وصمّت آذانهم.. فلا يعقلون، ولا يبصرون، ولا يسمعون شيئا مما يتلى عليهم من آيات اللّه.. فهكذا صورتهم الآيتان في قوله تعالى لنبيه الكريم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [52- 53: الروم] وهنا في هذه الآية تكتمل الصورة، حين تصل حياتهم الجارية في ريح الأمن والسلامة، بحياتهم التي يطرقهم فيها طارق الموت.. وفي هذه الحالة ينكشف لهم كل شيء.. وإذا عقولهم عاقلة، وآذانهم سامعة، وعيونهم مبصرة.. كما يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق] ففى هذا الوقت ينكشف الغطاء عن الحق الذي ضلوا عنه، وإذا دواب الأرض تنطق، وإذا هم يفقهون حديثها، ويفهمون نطقها، وكانوا في دنياهم قد عجزوا عن أن يفقهوا أو يفهموا ما تحدثهم به آيات اللّه بلسان عربى مبين.
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [53: فصلت].
ففى هذا العرض يرى المشركون أنهم في وضع مقلوب، حيث لا يفهمون حديث الناس، حتى لكأنهم لا يعيشون بين الناس، وأنهم- وهم كما يزعمون أصحاب عقول- لا يعرفون الحق الذي تعرفه دواب الأرض التي تعيش معهم.. فهذه الدواب، تعرف ما للّه سبحانه وتعالى من جلال وعظمة، وهي تدين للّه سبحانه بالولاء، وتسبح بحمده، كما يقول جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [18: الحج].
فهذه الدواب، سيفجؤهم أمرها، عند ما تطلع عليهم بهذا الحديث الذي تحدثهم به في العالم الآخر، والذي هو منطق كل موجود بأن اللّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.
فقوله تعالى: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} إشارة إلى نزول الموت بهم.
فوقوع الشيء: مجيئه. من جهة عالية، حيث لا يملك أحد رده، كقوله تعالى: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ}.
والمراد بالقول هنا، هو حكم اللّه، وأمره فيهم، كما يقول سبحانه:
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [7: يس] وك قوله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ} [31: الصافات].
وقوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ} أي توحى إليهم، بما يفهمون منه هذه الحقيقة التي ضلوا عنها، وهم أحياء، والتي كانت مستقرة في كيان كل كائن، حاضرة في حياة كل موجود.. إلا هؤلاء الضالين المكذبين! وقد جاء في قراءة: {تُكَلِّمُهُمْ}.
وهو من الكلم، والجرح.. أي أن ما يفهمونه يومئذ من الدابة فيه كلم وأذى لهم، بما ينكشف لهم من سوء حالهم، وأنهم دون هذه الدواب العجماء فهما، وأقصر منها إدراكا.
وليس المراد بالدابة، دابة واحدة، وإنما المراد جنسها، وهي كل ما يدب على الأرض من حيوان.. من حشرات، وأنعام، وطيور.. وغيرها.
وقوله تعالى: {أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} هو تعليل لقوله تعالى: {أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} أي تكلمهم الداية لأنهم كانوا لا يوقنون بآيات اللّه، ولا يؤمنون بها.. والمراد بالناس هناهم هؤلاء المشركون والضالون، وكل من كفر باللّه وأعرض عن آياته.
هذا هو المفهوم الذي نستريح إليه من معنى الآية الكريمة، وهو مفهوم كما ترى يعطى دلالة تعين على تأكيد المعنى الذي قصدت إليه الآيات التي سبقتها، والآيات التي لحقتها، كما سنرى.. ومما يستأنس به لهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو أن هذه الآية قد جاءت في تلك السورة سورة النمل التي كان من آياتها، حديث النملة، وحديث الهدهد، مع سليمان عليه السلام، فقد وقف هذان الحيوانان الضعيفان وهما دابتان من دواب الأرض- وقفا من سليمان هذا الموقف، الذي صغر فيه لعينى سليمان ملكه وما حشد له فيه من الجن والإنس والطير، أمام هذين المخلوقين الضعيفين، وما أودع فيهما الخالق العظيم.. من علم، وحكمة، وبصيرة! وقد نطق الهدهد، بوحدانية اللّه، وأنكر على الناس كفرهم وضلالهم، وسجودهم للشمس والقمر، شأنهم في هذا شأن هؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون اللّه أصناما، فقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} (25: النمل).
وهذا يشير من بعيد إلى أنه إذا كان سليمان قد تلقى علما وحكمة، إلى ما آتاه اللّه من علم وحكمة، من هذين المخلوقين الضعيفين- فإن معنى هذا أن هناك علما كثيرا مستقى من موارد الحق الذي لا يشوبه شيء من الباطل، تعلمه دواب الأرض، ولا يعلمه كثير من الناس، وأنه من الممكن أن يتلقى الإنسان من هذه الدواب علما، بدلالة الإشارة أو العبارة، كما وقع ذلك لسليمان، وكما يقع ذلك للناس، يوم يكشف الغطاء، وترفع الحجب التي بين الناس وبين عالم الحق.. فينطق كل شيء، شاهدا بأن اللّه هو الحقّ! قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
الفوج: الجماعة المتحركة في سرعة.
يوزعون: أي يساقون، ومن ورائهم وازع يزعهم، ويدفع بهم دفعا إلى موقف المساءلة والحساب.
وينقل المشركون هنا في هذه الآية من حال الموت، وما يرون فيه من الحق الذي كانوا عنه معرضين، حين يتحدث إليهم الوجود كله، حتى دواب الأرض، تنطق بألوهية الإله الواحد القهار- ينقلون إلى المحشر، حيث يبعثون من قبورهم، ويساقون سوقا عنيفا إلى موقف الحساب والجزاء.
حتى إذا جاءوا، سألهم الحق جل وعلا: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؟.. إنهم يسألون ممن كانوا ينكرونه، أو يشركون به، ويكذبون بآياته، ويمكرون برسله.. وهذا السؤال من اللّه سبحانه- هو مواجهة لهم بالحق الذي أنكروه، وعموا عنه.. وفي هذا بلاء عظيم لهم، حيث يسقط في أيديهم، ولا يجدون قولا يقولونه للذى اعتدوا عليه، وقد جاء بهم ليأخذ بحقه منهم! وفي الاستفهام: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً} تقريع لهم، وتقطيع لأكبادهم أسى وحسرة على ما كان منهم.
وفي قوله تعالى: {وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً} إشارة إلى أنهم لم ينظروا في آيات اللّه، ولم يعرضوها على عقولهم، بل واجهوها بالبهت والتكذيب، ورموها بالسخرية والاستهزاء، من قبل أن ينظروا فيها.
وقوله تعالى: {أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ماذا كان عملكم في هذه الدنيا، إذا كنتم لم تستعملوا عقولكم، ولم تؤمنوا بي وبرسلى؟
أللإنسان عمل آخر غير هذا؟ أم أنكم لستم من عالم الإنسان؟
واختصاص المكذبين بآيات اللّه، بالحشر، وإن كان الحشر للناس جميعا، هو عرض لهذا القطيع الضال من الإنسانية، في كل أمة من الأمم، حيث تبدو منهم العبرة لكل معتبر! {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا} قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ}.
لقد وجم القوم، وتبلدت مشاعرهم، وطارت عقولهم، وانعقدت ألسنتهم، في هذا الموقف الرهيب، الذي وقفوا فيه موقف الحساب بين يدى رب العالمين، فلم ينطقوا بكلمة.. {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا} أي وجب عليهم العقاب، وحق عليهم العذاب، بما كان منهم من ظلم وعدوان على اللّه، وعلى آيات اللّه، وعلى رسل اللّه.

.تفسير الآيات (86- 93):

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذه الآية تعقيب على تلك المشاهد، التي رأى فيها المشركون والذين يكذبون بآيات اللّه، ما رأوا من معالم الحق، وهم على طريقهم إلى الدار الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء.. وفي هذا التعقيب نخسة توقظهم من هذا الحلم المزعج، وإذا هم مع شركهم الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وإذا كانوا قد عموا عن كلمات اللّه التي تعرض عليهم آيات اللّه، تسطع هدى ونورا لمن أراد الهدى والنور.. فهذا الليل الذي جعله اللّه سكنا لهم، وهذا النهار الذي جعله اللّه ضياء يكشف ظلام الليل.. أليس في هذا شاهد يشهد بالحق، وينطق بوجود إله متفرد بالقيام على هذا الوجود؟ بلى.. إن في ذلك لآيات- لا آية واحدة- لقوم يؤمنون.. أي قد تهيأت نفوسهم للإيمان.. أما من فسدت فطرتهم، وعميت بصيرتهم، فلن تغنى عنهم الآيات شيئا. {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [101: يونس].
وفي تخير هذه الآية- آية الليل والنهار- من بين الآيات كلها، وقصر العرض عليها وحدها- لأنها تجمع الآيات المحسوسة والمعقولة، من جهة، ولأنها واقع مشترك بين الناس جميعا.. حيث يحتويهم جميعا.. الليل والنهار.
من جهة أخرى.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ}.
وفي هذه الآية يردّ المشركون مرة أخرى إلى الدار الآخرة، وإلى ما كانوا فيه من هول وفزع، مستصحبين معهم ما سمعوا لتوّهم من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً}.
فإذا كانوا قد نسوا، ما رأوا من مشاهد القيامة التي عرضت عليهم من قبل، فهذا مشهد من مشاهدها.. وهذه آية من آيات اللّه، الدالة على قدرته، ورحمته، وحكمته.
فليأخذوا طريقهم إلى الإيمان ولا يمسكوا بما هم عليه من شرك، ولا عذر لهم بعد هذا البلاغ المبين.
والصّور: هو القرن، الذي يؤخذ من الحيوان، ثم يخرق من أعلاء، وينفخ فيه.
والنفخ في الصور يوم القيامة، هو دعوة الحق سبحانه وتعالى للأموات، أن يبعثوا من قبورهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} هو استثناء لبعض خلق اللّه من الفزع الذي يستولى على أهل السموات والأرض، حين يدعو داعى الحق إلى البعث والنشور.. وهؤلاء المستثنون هم عباد اللّه الذين آمنوا به واستقاموا على طريقه المستقيم.. كما يقول سبحانه فيهم: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [103: الأنبياء] وكما يقول سبحانه في هذه الآيات: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.
وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} أي أذلاء، صاغرين.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ}.
هو استعراض لبعض مظاهر قدرة اللّه. وحكمته، وتدبيره في خلقه.
فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها هامدة جامدة لا حراك بها، هي في الواقع على غير هذا الظاهر الذي يبدو للعين منها.. إنها تتحرك حركة حرة منطلقة، في يسر وفي انتظام، كما يمر السحاب!.. فما تراه العين منها شيء، وما هو واقعها شيء آخر.
وإذن ففى الجبال حقيقة لا ترى بالعين، ولا تحسّ بالنظر والمشاهدة.
وتلك الحقيقة أنها متحركة، وأنها تمر مر السحاب!
وهنا سؤال:
إذا كنا نحن في هذا العصر نرى بعين العلم أن الجبال تمر مر السحاب، وأنها متحركة بحركة الأرض، وأن الذي ينظر إليها من الجو، يرى أنها تسير كما يسير السحاب فعلا.. فكيف كان مفهوم العرب الذين خوطبوا بهذه الآية، وهم لم يكونوا قد عرفوا أن الأرض متحركة تدور حول نفسها مرة كل يوم؟ ألم يكن في إعلان هذه الحقيقة ما يدخل اللبس على قلوب المؤمنين، فوق ما يحرك ألسنة المشركين بالبهت والتكذيب! والجواب- واللّه أعلم- أن النظم القرآنى، قد جاء على صورة تدفع هذا الاحتمال من جانبيه جميعا! فأولا: يقرر القرآن صراحة أن الجبال ثابتة في مرأى العين.. وهذا لا يجادل فيه أحد، وهذا هو السرّ في قوله تعالى: {تَحْسَبُها جامِدَةً}.
وكما يقول سبحانه: {وَالْجِبالَ أَرْساها} [32: النازعات]، وكما يقول جل شأنه:
{وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [7: النبأ].
وثانيا: إن هذه الجبال الثابتة في مرأى العين، هي في حقيقتها متحركة، وهذه الحركة حقيقة لا تنكشف إلا بالعلم والبحث، لأنها قائمة وراء هذا الظاهر.
فمن كان في استطاعته أن يبحث ويدرس، فليفعل، وسيجد مصداق ذلك.
ومن لم يكن عنده هذا الاستعداد، فهو بين رجلين: مؤمن باللّه، وبآياته، مصدق بكل ما نزل على الرسول من ربه.. وهذا لا يمارى في هذه الحقيقة، ولا يشك فيها، وإنما هو مؤمن بها، مسلّم بما تحدث به القرآن عنها، ناظرا إلى اليوم الذي يقع له من العلم ما يكشف له عن وجه هذه الحقيقة. ومشرك، أو كافر باللّه، فهو مكذب بآيات اللّه كلها.. جليها وخفيها.. فلا يدخل عليه من هذه الآية إلا ما امتلأ به قلبه من جحود وإنكار.
وقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.
{صُنْعَ اللَّهِ} منصوب على الإغراء بفعل محذوف تقديره: انظر، أو تأمل، أو نحو هذا.
وفي هذا دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية الكريمة من أمر الجبال، وتحركها مع تحرك الأرض في دورتها اليومية.
فالذين يؤمنون باللّه، ويصدقون بكلماته، يستيقنون أن هنا حقيقة كامنة، تشير إليها الآية الكريمة، ولا تكشف عن وجهها، وأن على المؤمن أن يطلب هذه الحقيقة، وأن يشهد بعض جلال اللّه منها.
والمفسرون مجمعون على أن ذلك الذي تحدث عنه الآية في شأن الجبال، إنما يقع يوم القيامة، حين تتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وكما يقول اللّه تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} [20: النبأ].
على أن الذي حملنا على مخالفة هذا الإجماع، هو ما جاء في قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فإن ذلك إلفات إلى روعة الصنعة وإحكامها، وهذا لا يكون واقعا في نظر الإنسان يوم القيامة وهو يرى الجبال وقد تناثرت أشلاء!.
وإنما يرى ذلك، وهي قائمة ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متحركة تدور مع الأرض في دورانها، دون أن تسقط وتهوى! وفي هذا يتجلى إحكام الصنع وإتقانه.
وهنا سؤال أيضا وهو: إذا كان ذلك كذلك، فلم لم تنكشف هذه الحقيقة للمسلمين الأولين؟ ولم لم يطلبها الصحابة، ولم يكلفوا أنفسهم البحث عنها.
وهم أعرف الناس بكتاب اللّه، وأقربهم من مواقع الحق فيه؟
وتقول: إن صحابة رسول اللّه- رضوان اللّه عليهم- كان متعلّقتهم بآيات اللّه، هو الجانب الروحي منها، ولم يكن يعنيهم من هذا الوجود ظواهره، وإنما كان همهم حقيقته، ولبابه، وما انطوى عليه من علم، وحكمة، وتقدير.. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ، وإن بهر العيون، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول اللّه قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها، وشغلوا بها، من عالم الحق.
ومن جهة أخرى.. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها، وإذاعتها في المجتمع، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ، فالحديث به فتنة، تشغل الناس، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب.. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية، هي محاربة الشرك والإلحاد، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد، المتفرد بالخلق والأمر، رب العالمين.. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام، وحرب خفية عليها.
ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال اللّه سبحانه وتعالى، في صفحة هذا الوجود، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء.. فإن زهرة واحدة.. مثلا، في جمال ألوانها، وتناسق أصباغها، وتماثل أجزائها.. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى اللّه، وإلى الإيمان به، إيمانا وثيقا، مبرّا من كل شرك، وشك!.
ومن أجل هذا، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل- لم يلقهم محاجا أو مجادلا، بل صرف وجهه عنهم، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك أولا، فإذا فعلوا ذلك، كان كل شيء يقع لهم من علم- وإن قل- مبارك العطاء، طيب الثمر.. وفي هذا يقول اللّه تعالى ردّا على من سألوا هذا السؤال المتعنّت عن الأهلّة: ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود فتصغر؟: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [189: البقرة] ومن أجل هذا أيضا أمسك كثير من صحابة رسول اللّه، بما كشف لهم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- من أسرار هذا الوجود، في العالم الأرضى والسماوي، لأنها كانت فوق أن يحتملها غيرهم.. ولو أنها ذاعت في الناس يومئذ لكانت فتنة لهم.. وكذلك فعل كثير من أهل العلم، الذين حلّقت أرواحهم في سماوات عالمية، فرأوا بشفافية أرواحهم مالا يراه غيرهم، وفي هذا يقول قائلهم:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستباح رجال مسلمون دمى ** يرون أكثر ما يأتونه حسنا

قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فى هاتين الآيتين عرض لمحصول الدعوة الإسلامية في المجتمع الإنسانى.
فالناس مؤمنون، أو كافرون.. محسنون، أو مسيئون.
أما المؤمنون المحسنون، الذين يعملون الصالحات، فلهم جزاء ما عملوا، أضعافا مضاعفة، من رحمة اللّه ورضوانه.. وأما أهل الزيغ والضلال والفساد، فجزاؤهم جهنم، حيث يساقون إليها سوقا عنيفا، فيسقطون على وجوههم في النار.. وهذا جزاء ما كانوا يعملون.
وفي إفراد الضمير لأهل الإحسان وأهل السوء أولا، ثم عوده جمعا عليهما ثانيا- في هذا إشارة إلى أن لكل إنسان حسابه وجزاءه.. فهم- محسنون ومسيئون- محاسبون، فردا فردا.. ثم يلتقى أهل الإحسان بأهل الإحسان، ويلتقى أهل السوء بأهل السوء.
قوله تعالى: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
بهذه الآيات الثلاث تختم سورة النمل، فيلتقى ختامها مع بدئها.. حيث بدئت بعرض كتاب اللّه الكريم، وما فيه من هدى وبشرى للمؤمنين، ومن خزى ووعيد للمشركين الضالين.
ثم عرضت السورة بعد هذا معارض للدعوة إلى اللّه على لسان هذا الطائر الضئيل الضعيف الهدهد ليرى في هذا العرض ما في الإنسان من سفاهة وحمق، حين يضل طريقه إلى اللّه، فيعبد الشمس والقمر، ويأبى أن يعبد ربّ الشمس والقمر..! ثم تختم السورة بهذا الموقف الذي ينهى به النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما بينه وبين قومه.. إنه قد دعاهم إلى اللّه، وبلغهم رسالة ربه، وأسمعهم آياته، فليس لهم بعد هذا على اللّه حجة.. وإنه- وهو رسول اللّه- مدعوّ مثلهم، إلى ما يدعوهم إليه من عبادة اللّه، والولاء له.. {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} لا سلطان لى على أحد، حتى أحمله به حملا على الإيمان باللّه.
وفي قوله تعالى: {رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها} إشارة إلى أن هذه البلدة، وهي مكة- معلم من معالم الحق على هذه الأرض، وأنها أكرم وأعظم ما يشار إليه منسوبا إلى اللّه سبحانه مما على هذه الأرض.. إذ كان فيها أول بيت وضع للناس.. وإذ هي قبلة كل من يؤمن باللّه، لا قبلة لأهل الإيمان غيرها.. وقد أشار القرآن الكريم إشارة أخرى في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ} [3: قريش].
وقوله تعالى: {الَّذِي حَرَّمَها} الاسم الموصول يعود إلى ربّ البلدة، لا البلدة.
وفي قوله تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} إضافة لكل موجود في هذا الوجود إلى اللّه سبحانه وتعالى.. فكل شيء هو ملك للّه، لا شريك له فيما ملك.
وقد أضاف اللّه سبحانه، البلدة (مكة) إلى ربوبيته، وأضاف الوجود كله إلى ملكه، وفي هذا تشريف عظيم لهذه البلدة، ورفع لقدرها، وأنها مختصة منه سبحانه بمزيد من الفضل والإحسان، حيث تربى في نعم اللّه، وتستظل بظل ربوبيته.. وإذا كان كل شيء مربوبا للّه، فإن للّه سبحانه ما يشاء من اختصاص بالفضل والإحسان.. {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (105: البقرة) وقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إشارة إلى أن الدين الذي بدين به النبي ليس دينا خاصا به وحده، ولا مقصورا عليه وحده، وإنما هو دين كل من يؤمن باللّه.. فهو واحد من المسلمين، وإن كان سيد المسلمين وإمامهم.
وقوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} معطوف على قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي وأمرت أن أتلو القرآن، على الناس وأبلغهم إياه.
هذه هي رسالتى: {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
أي لا سلطان لى على أحد، وإنما أنا نذير لكم بين يدى عذاب شديد.. فمن استمع لهذا النذير، وأخذ لنفسه طريق النجاة من عذاب اللّه، فقد أدى حق نفسه عليه.. ومن أقام على طريق الضلال حتى يأخذه العذاب فلا يلومن أحدا..!
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
هو لسان الوجود كله، يسبح بحمد اللّه.. ينطق به الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- وينطق معه كل مخلوق.. فإن لم ينطق به المشركون والكافرون في هذه الدنيا، لما ران على قلوبهم من زيغ، وما غشى على أبصارهم من ضلال، فإنهم سيحمدون اللّه سبحانه، حين ينكشف لهم الغطاء بعد الموت، ويرون آيات اللّه، ويعلمون أنها الحق من ربهم.
فقوله تعالى: {سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها} هو جواب عن سؤال يرد على خواطر المشركين والكافرين في هذه الدنيا، حيث ينكرون اللّه، وينكرون ما يحمد عليه.. فيقولون: من نحمد؟ وعلام نحمد؟ فيلقاهم الجواب:
{سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها} أي إذا جهلتم اللّه الآن وأنكرتموه، وأنكرتم نعمه عليكم، فإنكم في الدار الآخرة، سترون آياته، وترون الحق الذي جهلتموه، ويومئذ تعرفون قدر اللّه، وجلاله، وعظمته، وما أفاض عليكم من نعم، فلا تملكون غير الحمد للّه رب العالمين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [75: الزمر] وفي قوله تعالى: {سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها} وعيد لهؤلاء الضالين، يوم ينكشف لهم وجه الحق ويرون ما كانوا فيه من ضلال وعمى.. ومن تلك الآيات التي سيرونها، ويعرفونها ويتلقون منها الحق الذي أنكروه- هذه الدابة التي تكلمهم عند موتهم.
وقوله تعالى: {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد بعد وعيد للمشركين والضّالّين، وأن ما عملوا من سوء هو مسجّل عليهم، في علم اللّه، وسيحاسبون عليه.. فليس ما يعملونه بغائب على اللّه، وليس اللّه سبحانه وتعالى بغافل عنهم.. بل سيأخذهم بما كسبوا.. ليجزى الذين أسلموا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.