فصل: تفسير الآيات (22- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (22- 28):

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}.
هنا تنتقل الأحداث نقلة بعيدة، حيث نرى موسى في {مدين} وهي على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام، وتقع على خليج العقبة في مقابل تبوك.. ذلك، بينما كنا معه منذ لحظة في مصر، وفي أحشاء عاصفة هو جاء، لم يكن أحد يقدّر له الخلاص منها.
وتلقاء مدين، هو اتجاهها، حيث كان وجهه مقبلا إليها.
وفي قوله: {قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ}.
ما يشير إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى مدين.. وهذا يعنى أن موسى لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة.. وكيف يكون هذا، وموسى- وإن لم يكن نبيا بعد، فإنه كان على دين آبائه، إبراهيم، وإسحق، ويعقوب؟
والجواب، أن موسى كان على ذكر دائم لربه.. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة.. فتارة يسبح ربه، وتارة يحمده، وتارة يستجير به، أو يستهديه.. أو يستغفره.. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه.
فموسى حين قتل المصري: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي}.
وسليمان حين رأى عظمة ملكه، وعرض له ملك النملة، قال:
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ}.
وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة، موحشة، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث. إنه في حيرة من أمره، بعد أن خرج من مصر، كما يخرج راكب سفينة غرقت، فألقت براكبيها في الماء، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش. إن موسى لم يكن يعرف أن وجهته مدين، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها.. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل، ويقيم خطوه على طريق الأمن، ويدفع به إلى شاطئ السلامة.
قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ}.
ماء مدين: هو العين التي يستقى منها أهل مدين.
الأمة: الجماعة من كل حيّ.. من الإنسان أو الحيوان.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} [38: الأنعام] وقد غلب استعمال هذا اللفظ على بنى الإنسان.
تذودان: أي تسوقان ماشيتهما، بعيدا عن الماء، حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وأصله من الذود، وهو الدفع، والذود ما يذاد من الحيوان أي يدفع.
والخطب: الشأن، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه.
يصدر الرعاء: أي يرجعون من وردهم.. والورد. ورود الماء، والصدر.
الرجوع بعد الورد.. والرعاء: جمع الراعي.
وهنا نجد موسى قد بلغ في مسيرته {مدين} التي كان وجهه إليها- بقصد أو بغير قصد- بعد أن خرج من مصر! وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها.. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء، وتستقى منه، وتسقى ماشيتها.. وهذا هو السر في حذف مفعول الفعل {يسقون} ليكون شاملا لكل ما يحتاج إلى سقى من إنسان أو حيوان.
وعلى الماء، لفت نظر موسى، منظر فتاتين، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء.. وقد عجب لهذا، وبدا له أن يسأل الفتاتين: {ما خَطْبُكُما}؟
ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟.
وليس الأمر على ما قدّر موسى، وإن الخطب لأهون من هذا، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه.. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيش فيها شعيب.. لقد وقفوا من هذا الرجل الصالح، الذي يحمل إليهم دعوة السماء، بتوحيد اللّه، وبالعدل في الكيل والميزان- وقفوا منه موقف الخصومة، والقطيعة.. فلم يكن لفتاتيه من يمدّ إليهما يدا.. وأبوهما شيخ كبير.. {قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ألم تقف قريش من النبي ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب موقفا كهذا؟ لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب، كما هو معروف في السيرة النبوية.
قوله تعالى: {فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
وكرجل ذى مروءة، لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين، وقد شهدتا منه قوة، وعفة.. فلم يعلق نظره بهما، ولم يتبعهما نفسه، بلى سقى لهما.
ثم تولى إلى الظل، حيث كان يجلس من قبل.. وهناك رفع وجهه إلى السماء، يحمد اللّه أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون، وإحسان.. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري!! قوله تعالى: {فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
هنا أمور جزئية، لم يذكرها القرآن، لدلالة الحال عليها، وأنها، لابد أن تحدث على صورة ما حسب تصور الذي يتلو آيات اللّه، أو يستمع إليها.. وهذا من شأنه أن يوقظ شعور المتتبع لأحداث القصة، حتى يملأ هذا الفراغ كما يتصوره.
فمثلا ما كان من حديث ابنتي شعيب إلى أبيهما عن هذا الغريب الذي سقى لهما، وعن حاله التي هو عليها، وعن القوة التي شهدتاها منه، وعن المكان الذي أوى إليه.. ثم ما كان من مداورة الرأى حول الصنيع الذي يصنعونه مع هذا الغريب.. وهل يبعثون إليه بطعام أو يدعونه إلى البيت، ليرى الأب حقيقة ما سمع؟
وعلى أيّ، فقد انتهى الرأى إلى استدعاء موسى، وأن يندب لهذا الأمر إحدى الفتاتين، لا كلتاهما.
{فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ} أي في خفر، وحياء، شأن الحصان العفيفة.. وحسبها أنها ربيبة بيت النبوة.
وانظر في قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ}.
يا للّه، ويا لروعة كلامه المعجز المبين.. لقد تجسد الحياء، فكان بساطا ممدودا على طريقها إلى موسى.. إنها لا تمشى على الأرض، ولكنها تمشى على حياء، تتعثر فيه قدماها، وتقصر به خطاها، ويضطرب له كيانها.
{قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا} إنها رسول أبيها، الذي عرف موسى من أمره أنه {شيخ كبير} ولو كان في استطاعته أن يسعى إلى موسى لما بعث بابنته إليه، ولجاء إليه بنفسه، يدعوه إلى النزول عنده.. وهو الغريب، الذي لا مأوى له في هذا البلد.
والمراد بالأجر هنا، ليس مجرد الأجر المادي، وإنما هو جزاء إحسان بإحسان، ولقاء معروف بمعروف.
{فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
لقد التقى الرجلان.. موسى وشعيب.. وكان بينهما حديث، أفضى به موسى إلى مضيفه، وعرف المضيف بهذا الحديث من يكون ضيفه، ومن اى بلاد جاء، وما سبب مجيئه.. فلما عرف شعيب ما وقع لموسى من أحداث، آواه إليه، وأمّنه، قائلا: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
فإنك هنا بحيث لا تنالك بد فرعون.
وهنا تظهر الأنثى التي تطلب الرجل الذي تطمع في أن يكون رجلها الذي تحلم به، وتنتظر الأيام تجئ به، ليطرق بابها! {قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
إنه- واللّه أعلم- ليغلب على الظن، أنها تلك التي بعث بها أبوها لتدعو هذا الغريب إليه.. وها هو ذا قد جاء.. وربما يرحل غدا أو بعد غد.. فلا تدع الفرصة تفلت من يدها، وقد رأت بعين الأنثى في موسى، الرجل الذي هو أهل لها.
{يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي أمسك به عندنا، ولا تدعه يفلت من يديك، وذلك بأن تصله بك بعمل.. فهو خير من يعمل لك، حيث عجزت عن العمل.. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
هكذا تكشف لأبيها عن معدن الرجل الذي يستأجره، وأنه في الرجال يتزين بأجمل صفتين: القوة، والأمانة.. وقد رأت قوته فيما كان منه من السقي لهما، كما رأت أمانته في غض بصره عنها، وقد جاءته وحدها تدعوه إلى أبيها.
ويستجيب شعيب لهذا الطلب في غير تردد، ويستشعر بمشاعر الأب ما بنفس ابنته نحو هذا الغريب.
{قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وهكذا يجئ شعيب إلى موسى صريحا واضحا، كما يجئ إلى ابنته أبا حانيا عاطفا، لا يري حرجا في أن يتخير لابنته الرجل الذي تتتمناه زوجا لها، ويردها حياؤها عن أن تعرض نفسها عليه.
وما كان أبرع شعيبا وأحكمه، وأعدله، فيما بينه وبين موسى من جهة، ثم فيما بينه وبين ابنته من جهة أخرى.
إنه لم يشأ أن يفرض على موسى واحدة بعينها من ابنتيه هاتين.. فلموسى أن يختار من يشاء منهما.. فلقد رآهما من قبل، كما رآهما في بيت أبيهما، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تفرض عليه واحدة بعينها، حتى ولو كان لموسى رغبة فيها، وكان لها رغبة فيه.. إن هذا الفرض من شأنه أن يزعج موسى، وأن يصدم إرادته، ويصادر رأيه.. ثم إن موسى سيعيش في بيت شعيب، فإذا لم يكن قد اختار هو بنفسه من تزوجها، كان في ذلك تنغيص له، واضطراب لحياته الزوجية، ومعادلة وموازنة دائما بين الأختين في كل وقت.
الأمر الذي يجعل هواه دائما مع من لم يكن له خيار فيها.. هكذا الإنسان! ثم إنه بهذا التدبير الحكيم، قد سوّى الأب في القسمة بين ابنتيه، في هذا الذي ساقه اللّه إليهما، في صورة رجل، هو نادرة في الرجال.. فالأب لا يؤثر بهذا الخير إحدى ابنتيه على الأخرى، ولو كانت الكبرى.. إنه لو فعل هذا لكان في نفس الأخرى أسى ومرارة.. وليس الشأن كذلك إذا كان الخيار لموسى، أو كان بالتراضي بين الأختين، حيث تبدو كل منهما، وكأنها تؤثر أختها عليها.
ومن جهة أخرى، فإنه واضح من قول شعيب: {إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين} أنه لم يفصح عمن يكون له الخيار فيهما.
أهو شعيب أم موسى.
وهذا أمر، إن قام على هذا الوجه، في هذا الموقف وفي مواجهة البنتين، فإنه قد ترك البتّ فيه لمجلس خاصّ بين الرجلين، فإذا انكشف الأمر بعد ذلك عمن وقع عليها الاختيار- لم يكن من اليسير لدى البنتين القطع بأن هذا الاختيار، كان من موسى، أو من شعيب، أو منهما معا.. وهكذا تتوزع الصدمة- إن كان هناك صدمة- التي ربما تصيب من لا يقع عليها الاختيار، بين هذه الاحتمالات، فتخفّ وتهون.
{قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ}.
وهكذا تتم الصفقة بين النبيين الكريمين، فيظفر شعيب بالقويّ الأمين الذي يبذل في خدمته كل ما عنده من قوة وأمانة، ويظفر موسى بابنة هذا النبيّ، التي كان حسن تدبيرها، ولمعة ذكائها، وصدق فراستها، خير سفارة تجمع بين الرجلين، وتفتح قلب كل منهما لصاحبه قبل أن يلتقيا.
والاتفاق، على أن يخدم موسى شعيبا ثمانى سنين في مقابل زواج ابنته.
فإن جعل موسى الثماني عشرا فذلك فضل منه، وإلا فهى ثمان لا أكثر.
ولا شك أن هذا تدبير حكيم من شعيب- عليه السلام-، إذ لم يشأ أن يضع موسى أمام حكم لازم لا خيار له فيه، بل جعل له أمرين، يختار أيهما شاء.. وفي هذا المجال الذي تتحرك فيه إرادة الإنسان شيء غير قليل من الرضا النفسي، حيث يجد المرء لإرادته مكانا في كيان، ويستشعر لها حضورا في هذا المقام، فيقبل على هذا الأمر أو ذاك، وهو شاعر بأنه حرّ في اختياره، غير واقع تحت قوة قاهرة ملزمة.
وهذا عين ما فعله شعيب، حين أراد أن يزوّج موسى إحدى ابنتيه.
إنه لم يفرض عليه واحدة بعينها، بل جعل الأمر بينهما، حتى يفسح المجال للنظر والاختيار، له، ولموسى، ولابنتيه.. أما موسى.. عليه السلام.
فلم يكن أقلّ براعة وحكمة من شعيب.. فقد أجاب هذه الإجابة الحكيمة، التي ترضى شعيبا، ولا تقيد موسى: {ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي هذا الذي قلته أنا موافق عليه، وهو عقد بينى وبينك.. وهذا فيما يختص بإحدى الابنتين التي سيقع الاختيار عليها.. أما الأجل، فهو محتمل للأجلين معا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ}.
فهو بالخيار، بين الثماني سنوات أو العشر.
والمراد بالعدوان في قوله: {فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ} الحرج.. أي لا حرج عليّ إذا أنا أخذت بالثماني سنوات، ولم آخذ بالعشر.. ومن ثمّ فلا يكون عليّ عدوان منك.
وطبيعى أن موسى، قد أخذ بما هو أولى بالمروءة، والكمال، فعمل بالأكثر دون الأقل.

.تفسير الآيات (29- 35):

{فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تبدأ مرحلة جديدة من مراحل المسيرة التي تتحرك فيها الأحداث إلى غايتها.. فها هو ذا موسى، قد وفى بالعهد الذي بينه وبين شعيب، وقضى الأجل.. ثم تحركت أشواقه إلى أهله، وقومه بمصر، فأخذ زوجه، وسار عائدا على الطريق الذي جاء منه.
وفي الطريق، آنس من جانب الطور، (و هو طور سيناء) نارا، في ظلمة الليل، ووحشة الصحراء، فأحسّ في هذه النّار ريح الأنس، فانطلق إليها، تاركا أهله في مكانهم، قائلا لهم: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
وقد جاءت هذه الآية في غير موضع على نظم يختلف مع هذا النظم، وقد عرضنا لذلك في دراسة خاصة، تحت عنوان: التكرار.. في القصص القرآنى وكشفنا عن بعض الأسرار الكامنة وراء هذا الاختلاف.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
هنا في هذه الآية يتحدّد المكان الذي نودى منه موسى، وإنه الشاطئ الأيمن من الوادي.. وأن ذلك النداء كان عند البقعة المباركة من الشجرة القائمة على هذا الشاطئ الأيمن ومن هذا يعرف أن وجهة موسى كانت مصر، وأنه في الطريق إليها من مدين، حيث كان الشاطئ الغربيّ من طور سيناء واقعا على يمينه.
وقد تحدّد هذا المكان تحديدا تاما بقوله تعالى في آية أخرى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [44: القصص].
قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}.
وقد وصفت الحيّة هنا بأنها {جانّ} كما وصفت في آيات أخر بأنها {حَيَّةٌ تَسْعى} (20: طه).. وبأنها {ثُعْبانٌ مُبِينٌ} [32: الشعراء].
ومن هذه الأوصاف جميعها، تلبس الحيّة صورة كاملة للحية، في ضخامتها وحيويتها، وخفّة حركتها.. فهى حيّة في ضخامة جسمها، وهي ثعبان عظيم، في الحياة التي تلبس هذا الكيان الضخم، وهى {جان} في سبحها على الأرض في خفة كأنها سهم منطلق! قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
الرّهب: الخوف.. والجناح: اليد، كلها، بالكفّ والساعد، والعضد.
والمراد بضم الجناح، إلصاقه بالجنب.. كما يفعل الخائف فيشد من عزمه، ويمسك نفسه.. والمراد بهذا أن يأخذ موسى هذا الوضع حين يخرج يده من جيبه في موقفه مع فرعون.. وفي هذا ما يدفع الخوف عن موسى، وهو يواجه فرعون في هذا الموقف الرهيب! قوله تعالى: {فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
ذان: مثنى ذا، أي هذان برهانان من ربك إلى فرعون وملائه، وهذا البرهانان هما: العصا، واليد.
وقد كان مع موسى غير هذين البرهانين، سبع آيات أخرى، هي الجراد والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والطوفان، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.
وخصّ البرهانان هنا- وهما العصا واليد- خصا بالذكر، لأنهما الآيتان اللتان يلقى بهما موسى فرعون وحاشيته أول الأمر، ويتحدّى بهما تكذيب فرعون له.. ولهذا كانت المعركة المتحدية بين موسى وفرعون في لقاء العصا بالسحرة الذين جمعهم فرعون لموسى.. أما الآيات الأخرى فقد كانت بلاء متحدّيا لفرعون وقومه جميعا.. ولعلّ هذا- واللّه أعلم- هو السرّ في اختلاف النظم هنا في قوله تعالى: {فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ} وما جاء في سورة النمل في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [12] فالملأ هم الحاشية، والقوم هم المجتمع كله.
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} إن شبح القتيل ما زال يطارد موسى، بعد هذا الزمن الطويل، وإن لقاءه فرعون سيحرك هذا الحدث الذي كاد ينسى.. ولهذا أظهر موسى ما بنفسه من خوف، وأن لقاءه فرعون، وعرض ما يعرض عليه من آيات- قد يقع عند فرعون أنه حيلة يريد أن يشغله بها عن فعلته التي فعلها، ولهذا طلب أن يكون معه أخوه هرون، الذي لا تهمة له عند فرعون، ليكون قوله بعيدا عن هذا الظن الذي يظنه فرعون في موسى.
وهنا سؤال:
هل كان موسى ألكن أو عييّا، على لسانه حبسة، حتى يطلب إلى اللّه أن يرسل معه هرون الذي هو أفصح منه لسانا؟
هذا ما يقول به المفسّرون، ويأتون على ذلك بأخبار تحدث بأن موسى قد أخذ بيده جمرة، وهو طفل في بيت فرعون.. ورفعها إلى فمه فمسّت لسانه، وتركت عليه هذه الحبسة! وهذا خبر لا يصدق.. إذ كيف يستطيع الطفل أن يمسك الجمرة بيده، ثم يصبر عليها حتى يحملها إلى فمه، ثم يلقى بها في فيه؟
ومن جهة أخرى، فإن اللسان، هو الأداة العاملة في رسالة الرسول.
فكيف تعطل هذه الأداة، أو تصاب بعطب؟ ذلك بعيد.. وماذا يبقى من الرسول بعد أن يؤخذ لسانه؟
والذي نراه، هو أن الخوف الذي كان يملأ كيان موسى من فرعون، هو الذي كان يمسك لسانه عن الانطلاق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي} [13: الشعراء] فضيق الصدر من الخوف والرهبة، هو الذي يحبس اللسان عن الانطلاق في الحديث- ولهذا جاء قوله تعالى إلى موسى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} أي اضمم إليك جناحك، تسكينا لك من الرهب، أي الخوف، الذي يجئ من الرهبة.
وقد يردّ على هذا، بما جاء في قوله تعالى على لسان فرعون في موسى:
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ} [52: الزخرف] فهذا الذي نطق به فرعون، يكشف عن عجز موسى عن البيان في منطقه.
وردّنا على هذا، هو ما أشرنا إليه، من أن الخوف الذي كان يعترى موسى في أول لقاء أنه مع هذا الجبار العنيد، الذي يسلط عليه سيف التهديد بالقتل، قصاصا للقتيل الذي قتله موسى- هذا الخوف، هو الذي كان يجعل موسى غير قادر على الانطلاق في الكلام.. أما ما قاله موسى: {وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً} فهو لما لم يكن لهرون ذنب يطالبه به فرعون، فهرون في هذا الموقف أقدر على الكلام من موسى، ولهذا قدم قوله: {قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} على قوله: {وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً}.
قوله تعالى: {قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ}.
{بِآياتِنا} متعلق بقوله تعالى: {الْغالِبُونَ}.
والمعنى: أنكما أنتما، ومن اتبعكما، الغالبون بآياتنا التي في أيديكما. وشد العضد، تقويته بضمّ قوة أخرى إليه، والعضد، أعلى الذراع من المرفق إلى الكتف، وهو مركز القوة في اليد، واليد هي مظهر القوة في الإنسان.